رافي.. الذي وصل إلى شمال القارة، وبالتحديد إلى دولة شاملين، لم يكن يهدف إلى شيء محدد سوى الحصول على المزيد من الخبرة، وحسب معرفته الجديدة بالعالم فقد عرف بأن السيطرة على العالم ليس أكثر من مجرد حلم، على الأقل في الوقت الحالي، لذلك سيكون عليه أن يزيد من حصانة الحمالين واكتشاف ما قد يضرّ بهم قبل إطلاقهم على مدى واسع، ومع أنهم يبدون حصينين في الوقت الحالي فذلك فقط لأنهم لا يشكلون أي تهديد، لكن.. إذا بدأ الحمالون في التجول وإزعاج الآخرين فسيقومون بالتأكيد بإيجاد أساليب خاصة لإيذائهم، هذا إن لم يكونوا يملكونها أصلا، وفقط من طريقة تعامل شركة البرج المقمر مع بذور الفراغ.. فهِم رافي مدى جدّية المسألة.

قبل دخول رافي إلى المدينة.. استذكر كل ما يعرفه عن هذه الدولة، بل استذكر أمور كثيرة حول هذا العالم ومختلف الدول والقارات، حيث وإن تم وصف العالم بالحديث إلا أنه مكان مقفر ومخيف، وكل مدينة تبعد عن الأخرى بآلاف الكيلومترات بسبب قلة المياه الصالحة للشرب، وأينما وجدت المياه تجد الصراعات قائمة، وللحصول على حصة عادلة من الموارد.. تشكلت العشائر والطوائف والمنظمات، مما يُذهِب هيبة مصطلح "العالم الحديث"، فالعالم لا يكون حديثا إلا بتشارك الجهود والمعلومات، لكن أغلب البشر يحبون الاستئثار بما لديهم ويصبون إلى ما ليس لديهم.

نعم.. هناك مؤسسات مثل شركة البرج المقمر والتي تنهج فلسفة نشر المعرفة، إلا أن تأثير مثل هذه المؤسسات ليس كبيرا، على الأقل.. قبل اختراع الاتصال الشبكي -بمساعدة رافي- والذي تمت تسميته بـ "شبكة المعلومات اللحظية" ويتم اختصاره بكلمة "شمل"، وسيأخذ الأمر وقتا طويلا لنشر ثقافة التبادل الحر للعلوم الجديدة، فالشبكة لحد الآن لم تخرج من سيطرة الحكومات التي تستطيع توفير ما يكفي من بذور الفراغ لبناء خوادم خاصة لنشر واستقبال بياناتهم، وهذه كانت فكرة رافي لتقليل الضغط على مركز بيانات مملكة الحمالين بعد اكتشاف أن الاتصالات الكثيرة قد كانت تقلل من جودة عمل كارب ومركز بياناته.

بسبب هذا الانعزال.. أصبح عاديا أن تجد لكل مدينة قوانينها الخاصة، فالحاكم لا يهتم عادة بما يحدث خارج العاصمة، وإنما يترك الأمر للعشائر ما دامت تحترم مبعوث الحاكم وتقدم له الضرائب في وقتها، لذلك ستجد بأن كل عشيرة لديها مساحات أرضية شاسعة وأعمال كثيرة ومتنوعة، وكل من يسكن فوق هذه الأرض سيعتبر تابعا للعشيرة ما دام ليس مباركا، وإن كان يمر فقط فيجب عليه احترام قوانين العشيرة ما دام في أرضها.

تختلف العشائر والطوائف والمنظمات في طريقة تسيير أمورها، العشائر تعتمد على القرابة بالدم بين أفراد العائلة، ويصعب الوصول إلى مراكز عالية فيها إلا أن تكون لديك فائدة كبيرة، أما الطوائف فتهتم بالفوائد فقط ويمكنك الارتقاء ما دمت تستحق، لكنها أيضا تشمل أعضاء معينين يملكون أسرار الطائفة ويصعب تخطيهم، أما المنظمات فهي مثل الشركات، اعمل أكثر تكسب أكثر، وإن كنت تستحق إدارة المنظمة فلا يوجد من سيمنعك من أن تصبح الرئيس.

في كل مدينة تقريبا.. ستجد مكتب مبعوث الحاكم يحتل منتصفها ولديه العديد من المقاتلين الذين يملكون أسلحة قوية حسب قوة العشائر المحيطة به، ومهمة هذا المكتب هو حماية هيكل المدينة وإصلاح الطرقات لتسهيل سير العربات، وغالبا ما يكون الطيران ممنوعا داخل المدينة، ونفس الشيء للقتل والقتال، وعموما.. تعتبر المدن أكثر أمانا من المناطق في الخارج حيث يتواجد قطاع الطرق ومختلف الجماعات المخالفة للقانون، وقد التقى رافي و نوبا بالعديد منهم في طريقهم نحو الشمال، تم تجاوز بعضهم ببراعة بينما تم تحويل بعضهم إلى تجارب كأهداف للقتال باستخدام تقنيات الفراغ التي اخترعاها، وبالطبع لم يترك رافي أي شهود خلفه رغم تردد نوبا في البداية عندما تعلق الأمر بالقتل، ولم تعلم بأن رافي نفسه كان مترددا في البداية، لكن.. كيف سيكون ملكا إذا لم يكن حاسما في مثل هذه الأمور؟

من النظرة الأولى لأي مدينة.. ستعلم عن وضعها الاجتماعي والسياسي، حيث يتم ترتيب المدن حسب ترتيب عشائرها، وهذا الترتيب مشابه لترتيب التدريب على العناصر، حيث تكون المدن من المستوى واحد هي الأسوأ، وفي الغالب تكون مثل قرية بسيطة فيها مباني لا يتعدى طولها طابقين، أما المدن من المستوى العاشر فعددها محدود جدا في القارات الثلاث، وتكون مبانيها عبارة عن ناطحات سحاب وفيها جميع أنواع الفرص التي يبحث عنها الناس، لكن هذا النوع من المدن غالبا ما يكون مغلقا ولا يسمح للجميع بالدخول إليه، وحتى العبيد الذين يعيشون فيها ستكون أوضاعهم أفضل من مباركي باقي المدن، وذلك لأن حكام هذا النوع من المدن هم الذين يسيطرون على العالم، إن لم تكن سيطرة سياسة فهي سيطرة اقتصادية.

في المدن فوق المستوى الثالث.. ستجد بالتأكيد عددا من القنصليات لتمثيل مختلف الدول، ويزداد عدد موظفي هذه القنصليات حسب مستوى المدينة وعدد سكانها، إلا في المدن من المستوى العاشر حيث لا توجد قنصليات وإنما توجد مشاريع تابعة لمختلف الدول، وهذا يجعلها وكأنها مناطق ذات سيادة مشتركة، ولنفس السبب لا تجد مدنا من المستوى العاشر في جميع الدول، لأن تسيير هذا النوع من المدن سيحتاج إلى قدرات خارقة للسيطرة على الأمن الداخلي من الاختراق، وفقط الدول القوية والغنية هي التي تستطيع إنشاء مدينة مثلها ودعوة الدول إلى الاستثمار فيها.

بشكل عام.. يعيش هذا العالم في رفاهية نوعا ما، مركبات وحوّامات وقاطرات، سفن وبواخر ومناطيد، معارض ومسارح وسينما، قمّارات وحانات ودور دعارة، مستشفيات ومدارس وشركات مختلفة التخصصات، والكثير من أنواع وسائل الترفيه الأخرى، لكن كل هذا يعتمد بشكل أساسي على الطاقة الخام القابلة للاستهلاك، وهذا النوع من الطاقة يتم استخلاصه من طاقة العناصر ثم تخزينه في حاويات الطاقة، وتختلف الحاويات أيضا بنفس الترتيب من المستوى واحد إلى عشرة، وتختلف أشكالها حسب الشركة المصنعة لها، لكنها في الغالب تكون مثل سلحفاة كروية مصفحة، وهذا الشكل يعني بأنها محمية من الانفجار، وعلى أي حال.. قد تختلف أشكالها وألوانها لكنها جميعا تحتوي على شاشة صغيرة لإظهار مستواها وكمية الطاقة التي تحتوي عليها.

حاوية طاقة واحدة من المستوى واحد تكفي لتشغيل مركبة عادية لعدة سنوات، وسعرها يصل إلى مائة ألف عملة، أما باقي مستويات حاويات الطاقة فلا يتم تقييمها بالعملات لأنها تعتبر عملة بحد ذاتها، وغالبا ما تتم العمليات التجارية المهمة باستخدام هذه الحاويات، وكل مستوى يزيد بألف وحدة عن المستوى الذي يسبقه، حيث حاوية من المستوى اثنان تعادل ألف حاوية من المستوى واحد، وهكذا كلما ارتفع المستوى ترتفع القيمة.

يتم شراء حاويات الطاقة إما فارغة أو مملوءة من شركات مخصصة، والفارغة يتم ملؤها عبر المباركين من مختلف المستويات، لذلك تقوم العشائر القوية بإنتاج عدد كبير من المباركين لملء هذه الحاويات بجعلها قريبة منهم يوميا، بينما تمتلك بعض الجهات القوية طرقا أخرى لملء حاويات الطاقة، وفي جميع الأحوال.. من يستطيع إنتاج عدد أكثر من حاويات الطاقة فهو الأكثر غنى، وبالطبع فهذه القاعدة لا تنطبق على رافي الذي يملك خزائن العالم، لكنه ليس غبيا للعبث مع هؤلاء الوحوش بدون تفكير، لذلك سيقتطف القليل فقط، نعم.. هذا ما يخبر به نفسه كل صباح، أما إن كان سيفعل ذلك أم لا.. فهذا يعتمد على الموقف.

رافي.. الذي وضع عينه على مدينة من المستوى العاشر منذ وقت طويل.. كان الآن واقفا أمام مدينة من المستوى الرابع، فهو ليس غبيا للعبث مع الأقوياء من أول خطوة، كما أن دخول المدن الكبيرة يتطلب نوعا من التدرج، ومع أن رافي لم يهتم بهذه القيود إلا أنه قرر استهداف مدينة من المستوى الرابع كحجرة أساس نحو هدفه، وهذا قد خيّب آمال العديد من الحمالين الذين كانوا يراقبونه عبر الشاشة العملاقة، لكنه لم يهتم لأن حكم العالم لا يعتمد عليه بالضرورة، بالتحديد.. لا يعتمد عليه "هو" كشخص واحد وإنما على أفكاره ومملكته، هذه كانت قناعات رافي في الوقت الحالي، ومع ذلك ترك الشاشة تعمل حتى يرى الحمالون طريقته في القيام بالأمور ويتعلموا منه.

رافي.. الذي بلغ الثلاثين قبل أيام قليلة، كان يبدو مثل صبي مشاكس تحت العشرين من عمره، يحمل عود أسنان في زاوية فمه اليسرى ويضع على عينيه نظارة شبابية غريبة الشكل، تقدم بخطوات متهورة نحو بوابة المدينة المحاطة بجدار معدني عملاق، يلبس قميصا أبيض مطوياً إلى ذراعيه وسروالا قصيرا باللون الأسود يُظهِر كاحليه بوضوح، مع حذاء قماشي أحمر اللون بجوارب سوداء قصيرة، ومع أن ملابسه كانت يبدو مكمّشة إلا أن أي شخص دقيق الملاحظة سيكتشف بأنها كانت من أغلى أنواع الثياب في السوق.

وصل أخيرا إلى بوابة المدينة التي كانت فوقها لائحة تحمل اسم "مدينة ريفاكس" وبالقرب منه رقم 4 محاط بدائرة ذهبية، والذي يعني بأنها مدينة من المستوى الرابع، كانت البوابة كانت مفتوحة على مصراعيها، يدخل ويخرج منها كل أنواع الناس، نظر العديد منهم نحو رافي باشمئزاز لأنه يبدو مثل ابن غير مسؤول لعائلة غنية، كل من رآه يتوسط الطريق بهذه المشية يكاد يقسم بأنه شاب متهور يبحث عن المشاكل، وأنه ربما لم يدفع فلسا واحدا في شراء هذه التشكيلة الغالية من الملابس، حسنا، هم على الأقل محقون في هذه الجزئية الأخيرة.

2021/01/14 · 351 مشاهدة · 1326 كلمة
zombiking
نادي الروايات - 2024