مرت سنة ونصف وكأنها خيال، تغيرت فيها الكثير من الأمور، ليس فقط أن رافي و نوبا قد صارا أكثر قوة وصنَعا العديد من التقنيات، وإنما أيضا حدثت بعض التغييرات الكبيرة على مستوى العالم، وكان السبب بالطبع هو مملكة الحمالين الخفية.

أول شيء حدث هو استمرار عملية نوعية كانت قد بدأت قبل خروج رافي من مزرعة الحمالين، حينها.. لاحظ كارب نوعا من الظواهر الغريبة تحدث داخل المملكة، وبعد إخبار رافي ومواصلة البحث والمراقبة، اكتشف الاثنان بأن هناك من يحاول استخدام البذور المباركة الخاصة بعنصر الفراغ للقيام بعملية مختلفة عن التخزين، وبعد المراقبة بالصوت والصورة.. اكتشف بأن شركة البرج المقمر هي المسؤولة عن هذا البحث، لذلك أمر كارب بتسهيل الأمور عليهم باستخدام مركز معالجة البيانات ثم توجيه تجاربهم نحو نتيجة معينة.

في البداية كانت مجرد عمليات تجريبية، ومع مرور الوقت وتسهيلات كارب.. حصلت الشركة على أول اتصال بين بذرتين مختلفتين، بسبب هذا النجاح.. بدأت الشركة تركز على عمليات الاتصال والتي كانت سهلة نوعا بسبب وجود آليات الاتصال منذ زمن بعيد والتي تعتمد أيضا على قوة العناصر، لكنها كانت لا تستطيع الاتصال عن بعد، واليوم.. صارت تعتمد على البذور التي تسقط من الحمالين وتتصل من أي مكان، ما جعل عملية التطوير في هذا المجال تتسع بسرعة كبيرة بسبب حاجة العالم إليها، وفي سنتين فقط.. تم استبدال أغلب أجهزة الاتصال في العالم لأن القديمة لم تعد عملية.

لم يحصلوا على اتصالات سمعية فقط وإنما أيضا على اتصالات بصرية، ثم طوّروا نوعا آخر من الاتصالات الشبكية وبدأت الشبكات الاجتماعية بالظهور، ما جعل الشركات والحكومات والمنظمات تروّج لنفسها على مدى واسع، وكيف لا يفعلون وقد حصلوا على آلية شبيهة بالأنترنت والتي تجعل نقل البيانات بينهم أشبه بأكل الكعك، لكن هذا لم يقف في هذه المرحلة فقط وإنما ظهر نوع ثالث من الاتصال، ومع أنه لم يكتمل بعد إلا أنه قد بدأ بالظهور فعلا، وهو عبارة عن إرسال الأغراض عبر تخزينها في خزانة خاصة تابعة للبذرة وليس للمستخدم ثم إرسال رمز معين إلى الطرف الآخر لاستلام الغرض المخزّن، وهذا سيقضي نهائيا على خدمات البريد التقليدية.

استبشر العالم بهذا النوع الجديد من التقدم، لكنهم لم يعلموا بأن كل هذه التسهيلات قد تمت عبر كارب وبموافقة رافي، وبهذا صار العالم بين يديه بشكل فعلي، لكن هذا الكم من الاتصالات ومعالجتها ليس شيئا يستطيع كارب القيام به وإن كان يعتمد على معالِجات البيانات العملاقة التي صار عددها أكثر من عشرة، فـ كارب ليس أكثر من ذكاءٍ اصطناعي، قد تزداد فاعليته بزيادة عدد الفراشات ومعالِجات البيانات لكنه لا يستطيع اتخاذ القرارات الحاسمة ولا دراسة الاتصالات الحساسة، لذلك قرر رافي إعادة نوبا مؤقتا إلى مملكة الحمالين لتجهيز فريق من أكثر الحمالين ذكاء وأكبرهم ولاء وأجدرهم بالثقة، وستكون مهمتهم التنصت على الاتصالات وتسجيل البيانات التي يحصلون عليها، ولحسن الحظ فقد كانت نوبا تملك فريقا مثل هذا وكان عمله السابق قد انتهى تقريبا، لذلك تم تحويله إلى هذه المهمة الجديدة.

كان الفريق معروفا بـ "خبراء البيانات" وعملهم حساس وخفي عن باقي الحمالين، وكان ولاؤهم الوحيد موجها نحو القائدة نوبا و الملك رافي، في أوقات الفراغ كانوا ينسخون الملفات الحكومية للدول المختلفة ويدخلونها بمساعدة الفراشات إلى معالج البيانات، ومع أن الأسرار التي كانوا يحصلون عليها خطيرة للغاية إلا أن الأوامر كانت تحثهم على الاهتمام أولا بنوع معين من البيانات، وهو وثائق الهوية التي تحمل صور ومعلومات سكان القارات الثلاث، وبهذا ستتمكن مملكة الحمالين من الحصول على بيانات أغلب الأجناس المختلفة، وهذا سيساعدهم على إيجاد الثغرات لاستغلالها مستقبلا.

كانت الأوامر تجبر خبراء البيانات على كتم ما رأوه من أسرار حتى بين بعضهم البعض، وذلك لأنهم سيخرجون يوما ما إلى العالم الحقيقي وسيكون من الأفضل لهم ألا يعرفوا الكثير، ولأنهم يعرفون بأن ارتباطهم بالمملكة يستحيل قطعه فقد كانوا طائعين جدا، أو على الأقل في الوقت الحالي.

بعد العمل المتواصل.. انتهوا من أغلب ما كانوا يفعلونه، ورغم أن لديهم مهمة أخرى وهي مراقبة مراقبي مرايا التجسس والتي يزداد عددها يوما بعد يوم بسبب إنتاج أدوات التخزين، إلا أن الفريق كان كبيرا وكان لديه وقت فارغ، لذلك أوكلت إليه نوبا مهمة مراقبة الاتصالات، وفي نفس الوقت القيام بتجنيد الحمالين الآخرين للعمل تحت نظام الاستحقاق، خاصة الحمالين الجدد والذين كانوا يظهرون يوميا، وبهذا تم اختراق العالم بسبب هفوة الأجناس وثقتهم العمياء في عنصر الفراغ الذي ظل ساكنا لعدة قرون.

اليوم.. وبعد سنتين من العزلة التدريبية التي مر بها رافي و نوبا أثناء انتقالهما من مخبأ لآخر.. وصل اليوم الحاسم لبدء سعي ملك الحمالين لِقلب العالم رأسا على عقب، حيث تدرب الاثنان على الكثير من التقنيات التي تضمن نجاتهما في هذا العالم القاسي، وقف الاثنان على قمة جبل مرتفع ينظران إلى مدينة مترامية الأطراف، أمسك أحدهما يد الآخر وكأنهما لا يريدان الفراق، تنهدت نوبا ثم قالت

"ستكون بخير، صحيح؟"

قهقه رافي ثم أومأ برأسه ساخرا

"بالتأكيد، كوني آمنة أيضا"

نظرت إليه ثم ابتسمت قبل أن تنجرف مع الهواء وتختفي، كانت هذه تقنية بسيطة أطلق عليها رافي اسم "انجراف النسيم"، وتم تطويرها بعد رؤية بعض الأبحاث الفاشلة لـ شركة البرج المقمر، حيث باستطاعة مستخدمي هذه التقنية التحرك أثناء الاختفاء بين الفراغ والواقع، بنفس طريقة الحمالين العاديين لكن بشكل أعمق قليلا، مما يتيح لهم حتى اختراق الجدران، وهذا لن ينفع إلا مع الحمالين المرتبطين بالفراشات وأيضا أولئك الذين كانت أجسادهم منقوعة في الضباب لعدة سنين، وكلما زادت المدة.. زادت المهارة، لذلك كانت نوبا أكثر مهارة من رافي الذي اخترع التقنية.

في العادة.. لا يقبل الفراغ الضبابي تخزين الكائنات الحية التي لديها وعيها الخاص، وهذه كانت إحدى العقبات لإنشاء نظام انتقال آني أثناء بناء هذا المشروع في الحقبة الصفراء، حيث نجحوا في نقل الأغراض لكن نقل الأحياء لم يفلح، واليوم.. استطاعت نوبا الانتقال عبر الفراغ، لكنه ليس انتقالا آنيا وإنما هو مجرد انجراف يعتمد على قوة الوعي وليس على القوة الجسدية.

نظر رافي نحوها قبل أن ينجرف مثلها وكأنه شبح، مستغلا سيطرته على وعي مملكة الحمالين لمجاراة سرعة نوبا، كانت هذه لحظة وداع مؤقت حيث سيعملان على أمرين منفصلين، لم يعودا الآن في دولة الجبل المنعزل شرق قارة هارياس وإنما في دولة أكبر شمال نفس القارة، وصلا إلى هنا أثناء سفرهما خلال السنتين المنصرمتين، كان سفرهما بطيئا جدا بسبب العديد من الوقفات التدريبية، وبعد وصولهما كانا قد خططا لما سيفعلانه جيدا.

قبل الوصول.. أعطى رافي الأمر لإطلاق سراح ألف حمال في مناطق مختلفة من القارات الثلاث، استطاع كل الحمالين الهروب خفية من المزارع التي كانوا محبوسين فيها، ولحسن الحظ فقد تم اختيارهم من مزارع مختلفة، ومع ذلك كان بعض الموهوبين جدا مجموعين في نفس المزارع، لذلك تحتم إخراجهم ولو على حساب افتقادِهم واكتشافهم من طرف الحكومات، وبالطبع فقد تدربوا على استعادة أجسادهم قبل الخروج، وتعلموا أيضا تقنية انجراف النسيم لتسهيل هروبهم، وللاحتياط فقد تم ترشيح عدة آلاف آخرين لتحريرهم مؤقتا وتعليمهم نفس التقنية قبل عودتهم إلى مملكة الحمالين، وبهذا سيكون خروجهم أسهل ولن يأخذ الكثير من الوقت في المستقبل، أما الآن فسيبقون في مزارعهم لإنتاج البذور المباركة.

وطبعا.. حدثت بعض الأحداث بين هؤلاء الذين تم تحريرهم حيث حاول بعضهم استغلال ذلك للهروب من قبضة مملكة الحمالين وتبليغ رؤسائهم السابقين، ولحسن الحظ فقد جهز رافي مفاجأة معينة لمثل هؤلاء، حيث قام كارب بحقن عبوات ناسفة في أحشائهم ثم "بوف" بصوت مكتوم، ليختفوا بعد ذلك في الفراغ دون ترك أي دليل، لأن موتهم يجعلهم بدون وعي، لذلك يسهل تخزينهم في خزانة خاصة للجثث، وعندما رأى الحمالون ما حدث لهؤلاء المتذاكين.. قرروا بأنهم لن يخونوا الملك أو المملكة وبدأت دموع الولاء تجري على خدودهم، خاصة أن بعض الخونة الذين تم التخلص منهم لم يكونوا قد فعلوا أي شيء بعد، بل فقط فكروا في الخيانة، لكن الفراشات التي ارتبطوا بها قد كشفت عن أفكارهم وقامت بتصنيفهم على أنهم خطر يجب التخلص منه بسرعة، ومع أن الكثير من الحمالين قد بدؤوا يفكرون بأن هذه مجرد حركة خبيثة قام بها الملك لإخافتهم إلا أن الرسالة قد وصلت وصاروا أكثر ولاء رغما عنهم.

حصل هؤلاء الألف الذين خرجوا على ذلك المحلول الذي يغيّر أشكالهم، من تلك اللحظة.. صاروا أشخاصا مختلفين تماما عما كانوا عليه، ولحسن الحظ فقد تم اختيارهم جيدا بحيث لم تكن لديهم نزعات نفسية ولا ارتباطات عائلية، لذلك كان سهلا عليهم تغيير الدول وخدمة مملكتهم الجديدة، ومع ذلك.. كانت أولى مهامهم بسيطة للغاية، اذهب إلى المكان الفلاني واتبع الخريطة وستجد هناك حمالا عالقا، قم بإنقاذه ثم بِعه إلى أقرب مزرعة، وهذه المهمة كانت امتدادا لعملية فرز الحمالين وتحديد وضعياتهم.

رافي و نوبا وهؤلاء الألف حمال.. حصلوا أيضا على وثائق هوية قانونية مزيفة، وكان الأمر سهلا جدا بعد حصولهم على الأختام داخل الخزانات التي تعتبرها أغلب الدول كأكثر الخزائن أمانا، قام أغلب الحمالين بتغيير أسمائهم إلا أن البعض قد احتفظوا بأسمائهم الأولى بينما غيروا أسماءهم الثانية فقط، ومن بين هؤلاء كان رافي و نوبا.

رافي الذي كان اسمه الكامل "رافي أوانيا" نسبة إلى عشيرته.. صار الآن يحمل اسم "رافي ريكس"، وهذا الاسم استفزازي جدا لأن ريكس تعني الملك لغة هذا العالم، أو على الأقل في اللغة العامة التي يعترف بها أغلب الأجناس، أما نوبا التي كان اسمها ملكيا ومشهورا فقد حصلت على اسم "نوبا نيتش"، والتي تعني نوبا اللطيفة، وبهذا يبدأ سعي الملك واللطيفة.

2021/01/13 · 316 مشاهدة · 1404 كلمة
zombiking
نادي الروايات - 2024