ان هشام يشعر أن النور الذي رأى ومضاته في الفصل السابق لم يكن حدثًا عابرًا، بل كان بداية لمرحلة جديدة من المواجهة. تلك اللحظات التي استطاع فيها أن يثبت وجوده أمام الملك الأحمر أشعلت شيئًا داخله، كأنها فتحت نافذة صغيرة نحو عالم أوسع وأكثر غموضًا مما كان يتصور.
الجدران التي كانت تنبض بالظلام بدت وكأنها تتلاشى تدريجيًا، لتكشف عن مساحة بيضاء ناصعة أضاءت كل ما حولها. لم يكن هشام متأكدًا إذا ما كان هذا النور حقيقيًا أم وهمًا، لكنه شعر بسلام داخلي مختلف تمامًا عن كل ما مر به. وفجأة، وسط هذا النور، ظهر كائن لم يكن يشبه أي مخلوق رآه من قبل.
كان طويل القامة، جسده مشع كأنه مصنوع من الضوء نفسه. لم يكن له وجه بالمعنى التقليدي، لكن عينيه اللامعتين كانتا تخترقان الروح مباشرة. لم يكن له ظل، بل كان يضيء كل شيء من حوله، حتى قلب هشام، الذي شعر بشيء غريب يختلط بالخوف والرهبة.
تحدث الكائن بصوت ناعم لكنه ذو صدى قوي، قائلاً: "أنت الآن في حضرة جن الضوء. لا تخف، فنحن لسنا كأولئك الذين واجهتهم. نحن أبناء النور، نعيش في عوالم موازية لعالمكم، نحافظ على التوازن بين الظلام والنور. لكن ما تواجهه أنت يتجاوز حدودنا، لقد اخترت طريقًا مليئًا بالصعاب."
هشام، مترددًا لكن بعزيمة واضحة، أجاب: "من أنتم؟ ولماذا تظهرون لي الآن؟ كنت أظن أن كل الجن محايدون أو عدائيون، فما الذي يجعلكم مختلفين؟"
ابتسم الكائن، أو على الأقل بدا وكأنه يبتسم من خلال نوره المتوهج: "نحن الجهة المقابلة للملك الأحمر وجنوده. لقد ظننت أن الجن جميعهم مظلمون بسبب ما رأيته، ولكن هذا بعيد عن الحقيقة. هناك من بيننا من يسعى للنور والحق، كما هناك من يسعى للظلام والفوضى. لكننا نادرًا ما نتدخل في عوالمكم إلا إذا كان هناك خطر يهدد التوازن بين العالمين."
بدأ هشام يفهم أن هذه الكائنات كانت عدوة للملك الأحمر، وأنها ظهرت الآن بسبب تهديد مباشر يلوح في الأفق. لكنه لم يستطع أن يزيل الشكوك التي ملأت عقله. فحتى الآن، لم يكن متأكدًا ما إذا كان يجب أن يثق بهذا الكائن أم لا.
تقدم الكائن خطوة نحو هشام وقال بصوت أكثر حدة: "الملك الأحمر لم يكشف لك عن كل نواياه. ما رأيته منه ليس سوى البداية. هو يسعى لتحويل البشر إلى أدوات لفوضاه، لجعل عوالمنا وعالمكم في حالة دائمة من الصراع. ولتحقيق ذلك، يحتاج إلى تحطيم الأواصر التي تربط البشر بالإيمان."
هنا، استدعى هشام كل ما تعلمه عن الجن من الإسلام. تذكر الآيات التي تحدثت عنهم، عن كونهم مخلوقات خفية تعيش في عوالم غير مرئية للبشر، عن وجود الصالح منهم والطالح، وعن حقيقة أن الشياطين هم من الجن الذين انحرفوا عن الطريق المستقيم.
سأل هشام، محاولًا فهم الوضع بشكل أعمق: "إذا كنتم تريدون الحفاظ على التوازن، فلماذا لم تمنعوه من البداية؟ لماذا انتظرتم حتى هذه اللحظة للتدخل؟"
رد الكائن بنبرة مليئة بالأسى: "لدينا قوانيننا، كما أنتم لديكم قوانينكم. لا يمكننا التدخل إلا عندما يصبح التهديد مشتركًا بين العالمين. والآن، مع وجودك هنا، ومع اكتسابك للمعرفة التي لا يجب أن يمتلكها البشر، أصبح التهديد أكبر من أن نتجاهله."
بينما كان هشام يحاول استيعاب هذه المعلومات، لاحظ أن النور الذي يحيط به بدأ يتغير. ظهرت أنماط معقدة من الضوء في الهواء، كأنها رموز قديمة أو مخطوطات سحرية تتحرك. فجأة، وجد نفسه في مكان جديد، مساحة مفتوحة على بحر شاسع من النور.
وسط هذا البحر، رأى هشام مشهدًا غير متوقع: معركة ملحمية بين جن الضوء ومخلوقات مظلمة، ربما كانت جنود الملك الأحمر. كانت المعركة بلا صوت، لكنها مليئة بالطاقة. كان النور يتصادم مع الظلام، ويخلق شرارات من الطاقة التي بدا وكأنها تهز أبعاد الواقع نفسه.
"هذه ليست مجرد معركة عادية،" قال الكائن لهشام، "إنها رمز للصراع الداخلي فيك، بين خوفك وإيمانك. عليك أن تختار جانبًا، لكن تذكر، الاختيار ليس بسهولة ما يبدو."
ظل هشام واقفًا على شاطئ بحر النور، يشعر بأن المعركة الدائرة أمامه ليست مجرد مواجهة بين كائنات خفية، بل انعكاس لصراع أكبر بين الخير والشر، بين الأمل واليأس. كانت الشرارات التي تنطلق من تصادم النور والظلام ترسم في السماء أشكالًا غريبة، بعضها بدا وكأنه رموز قديمة، وبعضها الآخر كان يشبه وجوهًا مخيفة تختفي بسرعة.
وبينما كان هشام يتأمل المشهد، اقترب منه الكائن النوراني مرة أخرى، لكن هذه المرة بصوت أكثر حدة: "لا تنسَ، يا هشام، أن ما تراه هنا هو جزء من الحقيقة فقط. الظلام الذي يسعى الملك الأحمر إلى نشره ليس مجرد ظلام خارجي، بل ظلام يزحف داخل القلوب. إذا أردت أن تكون جزءًا من النور، عليك أن تحارب داخلك أولاً."
بينما كان يتحدث، بدأت الأرض تحت قدمي هشام تهتز برفق. ظهرت رموز مشعة على الأرض، كأنها مكتوبة بلغة لا يعرفها، لكنها بدت مألوفة بطريقة ما. أشار الكائن إليها قائلاً: "هذه الرموز هي أسرار التوازن. كل خطوة تخطوها الآن هي اختبار لإيمانك وصبرك. تذكر أن النور والظلام لا يمكن فصلهما، فهما جزء من المعادلة ذاتها."
ثم بعدها ردد صوت شعري في الفضاء، كأنه ينبعث من أعماق بحر النور نفسه:
"بين الظلام والنور خط مشترك، ليس الشر مطلقًا، ولا الخير مكتملًا. في بحر الأسرار تختبئ الحقيقة، حيث يبدأ الجن وينتهي الإنسان."
انتاب هشام شعور غريب بأن الكلمات ليست مجرد شعر، بل رسالة مشفرة. حاول أن يركز على الكلمات، لكنه شعر بثقل هائل على عقله. بدا وكأن الصوت يملأ كل شيء حوله، حتى قلبه.
بينما كان يحاول فك شيفرة الرسالة، ظهر فجأة كائن آخر من الظلام. كان شكله مختلفًا تمامًا عن الكائن النوراني. جسده مغطى بدخان أسود كثيف، وعيناه تشعان بوهج أحمر. تقدم نحو هشام بخطوات بطيئة، كأنه يريد أن يبث الرعب في قلبه.
"هشام... أتعلم ما هو الشيء الأحمق في اختيارات البشر؟" قال بصوت أجش كأن الصخور تتكسر داخله. "أنكم دائمًا تعتقدون أن النور هو الإجابة. لكن ماذا لو قلت لك إن النور نفسه يمكن أن يكون خادعًا؟"
تراجع هشام خطوة إلى الوراء، لكنه رد بثبات: "أنا لا أسعى خلف النور كغاية. أنا فقط أبحث عن الحقيقة، وأعلم أنكم جميعًا تحاولون إخفاءها."
ضحك الجني الأسود بسخرية قائلاً: "الحقيقة؟ الحقيقة، يا هشام، ليست ما تعتقد. الحقيقة هي أننا موجودون قبلكم، وسنبقى بعدكم. نحن نعيش في ظل معتقداتكم، ونشكل عالمكم أكثر مما تتخيل."
ثم بدأ الجني الأسود يرسم دائرة في الهواء بيده، وظهرت داخلها مشاهد غريبة: بشر يسجدون أمام أصنام، وأشخاص يكتبون بدمائهم على جدران حجرية، وأخرى تحرق كتبًا مقدسة.
"هذا ما يفعله الملك الأحمر،" قال الجني الأسود. "إنه لا يريد فقط السيطرة. إنه يريد أن يمحو كل أثر للنور، وأن يملأ قلوب البشر بالخوف والظلام. وأنت يا هشام، ستصبح جزءًا من خطته، سواء أحببت ذلك أم لا."
شعر هشام بغضب داخلي يتصاعد، لكنه حاول أن يسيطر على نفسه. تذكر كلمات الكائن النوراني: "المعركة الحقيقية تبدأ داخلك." أدرك أن الغضب والخوف هما الأدوات التي يستخدمها الظلام للسيطرة عليه.
رفع رأسه بثبات وقال: "ربما تملكون القوة، وربما تستطيعون التأثير، لكنكم لا تستطيعون التحكم في إرادتي. أنا هنا لسبب ما، ولن أترك الخوف يسيطر عليّ."
عاد الكائن النوراني للظهور بجانب هشام، لكنه بدا أكثر جدية هذه المرة. "لقد أثبت أنك قادر على مواجهة الظلام، لكن رحلتك لم تنتهِ بعد. عليك أن تفهم أن المواجهة القادمة ليست فقط مع الملك الأحمر، بل مع أعماق نفسك."
رد هشام: "إذا كانت هذه مجرد بداية، فماذا ينتظرني؟"
أجاب الكائن: "ينتظرك العالم الحقيقي للجن. عالم من الأسرار التي لم يسمع بها بشر من قبل. ستحتاج إلى قوة أكثر مما تظن. استعد، يا هشام. القادم أصعب مما تتخيل."
كان هشام يشعر بثقل المسؤولية، لكنه كان يعلم أن هذه الرحلة ليست مجرد اختبار لقوته، بل لقدرته على الصمود أمام كل ما هو مجهول.