كان هشام قد قطع شوطًا طويلًا في رحلته مع الجن، ومنذ دخوله إلى عالمهم المظلم، لم يعد يستطيع التمييز بين الحقيقة والوهم. ولكن كل خطوة كان يخطوها كانت تقوده إلى مكان أعمق في عالم لا يعرفه. بعدما غادر الجسر الذي يربط بين عوالم الجن والشياطين، استقر به الحال في مكان غريب، حيث أصبح الهواء ثقيلًا، والعتمة تغطي كل شيء. كان يشعر وكأن هناك شيئًا يراقب تحركاته في الظل، وهنالك وجود غامض يترصد في كل زاوية.

وفي تلك اللحظة، ظهر أمامه أحد الجنيين الذين قابلهم في قبيلة الجني المسلم. لكن هذه المرة كان الشخص مختلفًا، فقد كانت عيناه تومضان بريقًا غريبًا، وصوته كان يرن في أذنه كأنما يعبر من عوالم بعيدة. "الوقت قد حان، هشام. ما ستراه الآن ليس سحراً عادياً. إنها الحقيقة التي يخبئها التاريخ."

كان الجني يحمل في يديه كتابًا غريبًا، متسخًا، مغلفًا بغلاف جلدي يبدو كأنه قد مر عليه آلاف السنين. كانت أوراقه مغلفة بطلاء أسود، وعليها رموز غير مفهومة. نظر هشام إلى الكتاب بشيء من القلق؛ لأن ما كان يقوله الجني لم يكن مجرد تهديد بل دعوة لدخول عالم لا يمكن التراجع عنه.

"هذه هي مخطوطة فوينيتش." قال الجني بصوت خافت. "تعتبر هذه المخطوطة من أغرب الكتب في تاريخ البشرية، ولا أحد من البشر قد استطاع فك رموزها حتى الآن. ولكن نحن، الجن، نعرف حقيقتها."

أخذ الجني الكتاب من يده وفتحه ببطء، وكأن كل صفحة كانت تهمس بأسرار قديمة. "هذه المخطوطة ليست مجرد خرافات أو خزعبلات كما يظن البعض. هي مكتوبة بلغة قديمة، لغة لا يعرفها البشر، ونحن نملك مفاتيحها. تعلمها الكثير من الجن في العصور القديمة، وكانت تدرس في محافلهم السرية. كل كلمة فيها، كل رمز، يحمل قوة لا يمكن تصوّرها."

نظر هشام إلى الكتاب بتركيز، وعيناه تلتقطان كل التفاصيل الدقيقة. كانت هناك صور غريبة، ونباتات لم يرَ مثلها من قبل، وكائنات تشبه التنانين والشياطين، وأجرام سماوية تتحرك في اتجاهات غير منطقية. كل شيء كان يبدو وكأنه مشهد من كابوس لا يمكن الهروب منه.

قال الجني، وكأن الكلمات تتدفق من فمه بحذر: "هذه المخطوطة تحتوي على تعويذات قديمة وسحر أسود، سحر يمكنه أن يمسّ أرواح الشياطين نفسها. لكن الأهم من ذلك، أنها تحتوي على سر يتعلق بتوازن القوى بين عالمنا وعالمكم، عالم البشر."

هشام، الذي كان قد بدأ يتعلم بعض أسرار السحر الأسود من قبيلة الجني المسلم، شعر بأن هذه المخطوطة هي بوابته إلى فهم أعمق لسر القوى التي تحكم هذا العالم. كان يعلم أنه إذا فهم ما في هذه المخطوطة، فقد يستطيع إيجاد الطريقة لوقف الصراع الأبدي بين الجن والشياطين. لكن كانت هناك مخاطرة عظيمة في ذلك. كان يعلم أن السحر الأسود قد يفتح أبوابًا لا يمكن غلقها، وأنه قد يحرر قوى لا يستطيع أحد مواجهتها.

"كيف يمكنك أن تساعدني في فهم هذه الرموز؟" سأل هشام بصوت متردد.

أجاب الجني بجدية: "نحن نملك مفتاح الفهم، ولكن يجب عليك أن تقرأ بين السطور. كل رمز في هذه المخطوطة يفتح بابًا إلى عالم آخر. وقد تتعرض لحضور غير مرئي، كائنات لا تستطيع أن تتصورها. وإذا قمت بفتح هذه الأبواب، ستدفع ثمنًا باهظًا."

وفي تلك اللحظة، شعر هشام بشيء غريب في الجو. كان هناك طيف خفيف، يتنقل بين الظلال. كان يعلم أن هناك من يراقبهم. الشياطين، التي لا تظهر إلا في اللحظات الحرجة، كانت على وشك أن تظهر. كان الجني يراقب من حوله، وعيناه تتنقلان بين الأماكن المظلمة.

"نحن لا نملك رفاهية الوقت." قال الجني بشكل حاد. "الشياطين تحاول الوصول إلى هذه المخطوطة، وهي تعلم أنك هنا الآن. يجب أن تقرأ بعناية، ولكن لا تفتح كل الأبواب في وقت واحد. لأن هناك بعض الأسرار التي لا يمكن للبشر تحملها."

هشام أخذ الكتاب بيديه، وعيناه تتنقلان بين الرموز الغريبة. كان يشعر بشيء ما يتنفس من وراء الكتاب، كأن هناك قوة خفية تتربص به، تنتظر أن يرتكب الخطأ الأول.

وفي تلك اللحظة، بدأ الكتاب ينبض كما لو كان يحتوي على قلب حي. كانت الصفحات تتحرك من تلقاء نفسها، وكأن الكتاب يرفض أن يكون في يد شخص غير مستعد لتحمل ثقله.

"إياك أن تفتح الصفحات التي تحمل الرموز السوداء." حذر الجني. "هي بوابة إلى عالم آخر، مكان لا يجرؤ أحد على دخولها. وإذا فشلت، لن يكون لديك أي فرصة للنجاة."

ومع كل كلمة كان يقولها الجني، كان هشام يشعر بثقل الكتاب يزداد. كانت الصحراء حولهم قد بدأت تتحول، الرمال تتناثر بشكل غير طبيعي، والأشجار الظليلة في الأفق تتحرك ببطء، كما لو كانت تتنفس. كانت تلك بداية لأحداث لا يمكن إيقافها.

وبينما كان هشام يتأمل الكتاب، بدأ يلاحظ شيئًا غريبًا. كان هناك شيء في الصورة، شيء اختبأ في الظلال. كان ذلك الكائن يراقبهم، وكان في تلك اللحظة يدرك هشام أن مخطوطة فوينيتش لم تكن مجرد كتاب، بل كانت تذكرة إلى الجحيم.

ينما كان هشام يحدق في الكتاب بتركيز، كان هناك شعور غريب يزداد داخله. كان الكتاب يهمس بأصوات غير مسموعة، لكن فكر هشام كان يلتقطها بوضوح، كما لو كان عقله قد بدأ يفتح أبوابًا جديدة. كانت الكلمات تتحول إلى صور في عقله، صور أشبه بأشباح تجسد حقائق قديمة. وعندما بدأ يقرأ أحد الفصول، شعر وكأن يديه ترتجفان بشكل غير إرادي.

"هل هذا..." همس هشام لنفسه، "هل هذا سحر قديم بالفعل؟"

كان الجني الذي كان يراقب عن كثب يصر على أن هشام يجب أن يكون حذرًا. "عليك أن تتذكر، يا هشام، أن ما تقرأه الآن ليس مجرد أساطير. هذا سحر قديم جدًا، سحر تتعامل معه الشياطين. أنت على وشك الدخول في عالم لا يمكن العودة منه."

ثم، بشكل مفاجئ، بدأ الكتاب يتوهج بلون أسود قاتم، وكأن هناك طاقة غريبة تتسلل من بين الصفحات. تراجع هشام إلى الوراء، لكنه كان عاجزًا عن أن يترك الكتاب، وكأن قوة غير مرئية كانت تجذبه إليه.

"هذا ليس مجرد سحر، إنه طقس." قال الجني بنبرة حادة. "الطريق الذي تبدأه الآن، هو الطريق الذي سيسحبك إلى الظلمات. إذا قرأت ما لا ينبغي قراءته، ستفتح بوابة لا يمكن إغلاقها."

ومع كل كلمة كان يقرأها، كان هشام يشعر بأن الجو من حوله يزداد توترًا. الهواء أصبح كثيفًا، والرمال حولهم بدأت تتحرك وكأنها كائن حي. كان بإمكانه أن يشعر بوجود آخر، كائنات غير مرئية كانت تراقبهم عن كثب. كانت تلك الكائنات تعرف ما يحاول فعله، وكانت على استعداد لاختبار قدرته على التحمل.

وعندما أكمل هشام قراءة أحد الرموز، سمع صوتًا مروعًا يأتي من العدم. كان الصوت خافتًا أولًا، ثم أصبح صراخًا رهيبًا، كأنما يخرج من أعماق جهنم نفسها. كان الصوت يقطع الهواء، ويسحب هشام إلى ظلام لا يمكن تصوره. شعر وكأن عينيه تغلق، وأنه لا يستطيع التنفس. لكنه تمسك بالكتاب أكثر، وكأن هناك شيئًا في داخله كان يخبره أنه لا يجب أن يتراجع.

"هل فهمت الآن؟" قال الجني بصوت بارد، وعيناه تتسعان كما لو أنه كان يتوقع هذه اللحظة. "كل كلمة في هذه المخطوطة تؤدي إلى مكان آخر، إلى عالم آخر. نحن نعيش في عالمين، ولكن هذه الكلمات تمزج بينهما. كلمات مختومة بعهد قديم، وعهد آخر مظلم."

ثم بدأ هشام يشعر بشيء أكبر يراقبهم، شيء أعمق وأقدم. كانت الظلال تتحرك حولهم، وكان بإمكانه أن يرى لمحات عن الكائنات التي تعيش في هذا المكان المظلم. كان هناك شيء ثقيل في الهواء، وكأن كل شيء حوله يعج بالأرواح المحبوسة.

لكن لم يكن الصوت الوحيد هو الذي يقشعر الأبدان. فجأة، بدأت الأرض تحت أقدامهم تهتز، وكأن شيءً ضخمًا كان يتحرك تحتها. شعر هشام بشيء رهيب يزحف تحت الأرض، وشاهد الرمال تتناثر من حولهم كما لو أن الكائنات الأرضية كانت تتحرك. كان يشعر بكل شيء يتسارع نحو حافة الهاوية، وكان يعلم أنه لا يوجد مفر.

"إنهم هنا." همس الجني بصوت منخفض، لكن هشام كان يستطيع سماع الألم والخوف في نبرته. "الشياطين لا يتركون هذا المكان بسهولة. وعندما يقتربون، لا أحد يستطيع الهروب."

وفجأة، أضاءت السماء بصاعقة زرقاء، وانفجرت موجات من الضوء حولهم. في تلك اللحظة، شعر هشام بشيء غير مرئي يمر عبر جسده، طاقة رهيبة كانت تحرق كل شيء تلمسه. وكانت تلك هي اللحظة التي تذكر فيها هشام تلك التحذيرات التي كان قد سمعها من الجن في قبيلة الجني المسلم. "السحر الأسود ليس شيئًا يمكنك التحكم فيه. إنه كالوقود الذي يشتعل بالنار، وكلما حاولت إطفاءه، ازداد اشتعالًا."

لكن لم يكن الوقت قد حان للتراجع. كان هشام يعلم أن الخيار الوحيد الآن هو المضي قدمًا، إلى النهاية، إلى العمق الذي لا يمكن الخروج منه إلا إذا فاز. كانت المخطوطة تشع بطاقة غريبة، وكأنها تطلب منه أن يفتح أبوابًا جديدة، ليجد ما هو أعمق وأخطر مما تصوره.

وفي تلك اللحظة، سمع هشام همسات أخرى، همسات كأنها تأتي من أعماق المخطوطة نفسها. كانت الكلمات تتداخل مع بعضها، وتشكل لغزًا أكبر، لغزًا كان يشير إلى مكان مظلم في عالم آخر، مكان لا يستطيع أحد الهروب منه. كان الوجود الذي يحدق فيه هشام الآن أكبر من مجرد كتاب؛ كان الباب الذي يقود إلى عالم مليء بالجن والشياطين، عالم قد تم فتحه عن غير قصد. كانت العواقب ستكون فادحة، لكن لم يكن هناك عودة.

"أنت الآن في المكان الذي لا يمكن فيه إيقاف الأمور." قال الجني بصوت هادئ، لكنه كان يبدو مدركًا تمامًا لما يحدث. "السحر الأسود بدأ ينتشر، وأنت الآن في قلب المعركة."

وفي تلك اللحظة، بدأت الصحراء تتحول إلى شيء آخر. الرمال تذوب إلى ضباب، والأشجار تتناثر وكأنها تتناثر في الفراغ. كان هشام يقف في مكان لا يعرفه، وقد شعر أن كل شيء ينهار من حوله. والآن، في هذا العالم، كل شيء كان يعتمد على قرار واحد .

2024/12/21 · 9 مشاهدة · 1448 كلمة
Fosterbad
نادي الروايات - 2025