لم يكن هشام يعلم أن ما كان يواجهه كان أكثر من مجرد شيطان، بل كان لقاء مع نوع من الجن الذين تجاوزوا حدود الفهم البشري. في رحلته المظلمة هذه، بدأ يدرك أن الجن ليسوا مجرد كائنات شريرة تعيش في الظلال، بل إنهم شعوب معقدة تحمل تاريخًا عميقًا في عالم موازٍ.
كان في البداية يظن أن الجن والشياطين مجرد مخلوقات حكايات قديمة. لكن مع مرور الوقت، اكتشف أن هذه المخلوقات ليسوا بعيدين عن عالم البشر كما يظن البعض. بل إنهم يعيشون في مكان غير مرئي، لكنهم يستطيعون التأثير بشكل قوي على الناس إذا تم منحهم الفرصة. الجن والشياطين لهم القدرة على التنقل بين العوالم باستخدام الثغرات التي يتركها البشر. هذه الثغرات تتشكل غالبًا في لحظات الضعف أو المعاناة، حيث يكون الإنسان أكثر عرضة للتأثيرات الشيطانية.
كانت هذه الحقيقة قديمة، لكنها لم تكن دائمًا مفهومة. فحتى في الإسلام، يُعتقد أن الجن قادرون على السكن في أجسام البشر، أو التأثير في عقولهم. هذا الأمر لا يمكن تصوره بالكامل في إطار الواقع الذي نعيش فيه. هؤلاء الجن لا يتحركون كما يفعل البشر؛ لديهم القدرة على إخفاء أنفسهم داخل الطبيعة نفسها. لا عجب إذن أن بعض الحالات المزعجة أو الأمراض النفسية التي يعاني منها الناس يمكن أن تكون نتيجة لتأثير الجن. لكن هذه الحقيقة تُبقى غامضة، غير مرئية، للعديد من البشر الذين يظنون أن العالم محصور فقط فيما يرونه.
لكن هشام كان يدرك شيئًا أكثر غموضًا. بينما كان يراقب الشيطان الأسود ينسحب إلى الزوايا المظلمة من الغرفة، كان يشعر بشيء ثقيل يعصف بالعقل. ما رأه لم يكن مجرد شيطان عادي، بل كان من نوع قديم للغاية. نوع من الجن الذين تمردوا في زمن بعيد، ورفضوا أن يخضعوا لأوامر القوى التي تحكم هذا الكون. هؤلاء الجن لا يقتصرون على إيذاء البشر فحسب، بل يسعون أيضًا لإحداث الفوضى في العوالم الموازية، حيث تتداخل بينهما حواف الزمن والمكان. وكانت وظيفتهم، في الغالب، إشاعة الفساد وخلق الفوضى في الكون.
هذه الكائنات الشريرة لا تقتصر فقط على الجن التقليديين، الذين كما هو معروف، يتغذون على الخوف والحزن. ولكنها تُعتبر كائنات قديمة للغاية، بحيث أنها كانت موجودة منذ بداية الزمن، قبل أن يظهر البشر على سطح الأرض. في العوالم الموازية التي يسكنون فيها، تتقاطع طرقهم مع العالم البشري في لحظات حرجة، وعندما تقترب هذه الكائنات من البشر، فإنها تجلب معها تأثيرات سلبية تنبع من السحر الأسود. هذا النوع من السحر ليس مجرد طقوس يتبعها البشر، بل هو قوة حقيقية تتعامل مع قوانين الطبيعة والكون، بطريقة مروعة. السحر الأسود، كما يُعتقد، يعتمد على استخدام الجن والشياطين، لتحقيق أهداف فاسدة أو شريرة، ويؤدي إلى نتائج غير قابلة للتراجع.
عندما التقى هشام بهذا الشيطان الأسود، كان يدرك أنه لم يكن مجرد مخلوق سيئ. كان هذا المخلوق يحمل طاقة كونية من نوع مختلف. هذا النوع من الجن يملك القدرة على التأثير على العقول، وعلى التحكم في الأجساد بطرق لا يمكن للبشر أن يفهموها بالكامل. ومن خلال السحر الأسود، يمكن لهؤلاء الجن أن ينسحبوا من العوالم الموازية ليعيشوا بين البشر، ويؤثروا فيهم حتى يُدخلوا عليهم الفساد والفوضى.
لم يكن هشام في مواجهة مع كائن عادي، بل كان يواجه كيانا أزليًا، كان يعرف كيف يتسلل إلى أعمق أعماق الروح البشرية، ويستغل كل نقاط ضعفها. كان هشام يعلم أن في هذه اللحظات، كان يدخل في عالم غير مرئي، يحيط به قوى لا يمكن تحجيمها. وفي تلك اللحظة التي شعر فيها بكل هذا الظلام يحاصره، كان يعلم أن الخوف لم يكن فقط رد فعل طبيعي. كان هذا الخوف هو الغذاء الذي يتغذى عليه هذا الكائن المظلم، وهذا الشر الذي يحيط به.
ومع ذلك، كان هشام على دراية أن الجن والشياطين لا يتحركون بلا هدف. فقد تحدث العلماء والمفسرون في الإسلام عن كيفية تأثير الجن على البشر، وكيف أن بعضهم يتسللون إلى أفكارهم وأرواحهم لتحقيق أهداف شريرة. هذه الكائنات الشريرة غالبًا ما تسعى للإضرار بالبشر، بل أحيانًا للسيطرة عليهم. كانت هذه هي الحقيقة المظلمة التي يواجهها هشام الآن. كانت هذه الكائنات لا تأبه بالعواقب، ولا تملك من الأخلاق شيئًا. هدفها الوحيد هو إحداث الخراب، وإبقاء البشر في حالة من الانشغال الدائم بالخوف واليأس.
لكن هشام كان يعلم في أعماقه أن هذه المخلوقات، على الرغم من قوتها الظاهرة، لا تملك من السلطة الحقيقية شيئًا إذا كان الإنسان يمتلك الإيمان والتوكل على الله. كانت القوة الحقيقية تكمن في حماية النفس، وفي التمسك بالقيم التي تضمن للإنسان العيش بسلام في مواجهة الظلام الذي يحيط به.
بينما استمر هشام في مواجهة هذا الشيطان الأسود، بدأ يدرك أن المعركة الحقيقية ليست في القوة الجسدية، بل في قدرة العقل على مقاومة الشر الذي تحاول الشياطين فرضه.
بينما كان هشام يردد آية الكرسي في سرّه، شعر بأن هناك شيئًا ما يتحرك في أرجاء الغرفة، وكأن الظلال بدأت تتقلص قليلاً، ولكن الخوف الذي كان يعصر قلبه لم يختفِ بعد. كانت تلك اللحظات هي الاختبار الحقيقي، اللحظة التي يمكن أن تحسم الأمر. هل يستطيع أن ينجو من هذا المخلوق المظلم؟ وهل سيظل قويًا بما يكفي لمقاومة التأثيرات التي بدأت تنغمس في عقله؟ كانت الأفكار تتدفق في رأسه بسرعة، كأنها كانت محاصرة بين جدران غير مرئية، تعيد نفس الأسئلة المخيفة إلى ذهنه.
في تلك اللحظة، اختفت الظلال فجأة، وظهرت صورة مشوهة في وسط الغرفة، صورة لشخصية سوداء، ذات ملامح غير واضحة، وتبعث على الرعب. كان هشام يعرف في قرارة نفسه أن هذه الكائنات لا تظهر هكذا فقط لتخيفه، بل كان هناك هدف أعمق، شيء يتجاوز الخوف ذاته. كان يعلم أن هذا الكائن الأسود ليس مجرد مخلوق شياطيني؛ بل هو من الجن الذي اختار السكن في أماكن نائية، يراقب ويخطط.
في الإسلام، يُعتقد أن الشياطين، ومنها الجن الأسود، قادرون على التأثير في ذهن الإنسان حتى يصلوا به إلى مراحل من الضلال الكامل، حيث يصبح الشخص فريسة سهلة لهم. بعض الجن الأسود لديهم القدرة على التأثير في حواس الإنسان، بحيث يراهم في شكل آخر، ويشعر بوجودهم في لحظات معينة، مما يجعل الخوف يتفاقم ويصبح الوعي مشوشًا. لكن هذه الآثار ليست عشوائية. الشياطين لا تصطف بشكل عشوائي مع الجن، بل يتعاونون مع بعضهم البعض لتحقيق أهدافهم الشريرة. كانوا يعلمون كيف يغذون السلبية في قلب الإنسان، وكيف يدفعونه إلى أعمق مستنقعات اليأس.
لكن هشام كان في تلك اللحظة يدرك شيئًا أكثر. كان يعلم أن لهذا الشيطان الأسود غاية لا تتعلق بمواجهة الشخص فقط، بل هي لعبة أكبر من ذلك. كان الهدف هو جعله يعيد النظر في كل شيء في حياته، في إيمانه، في مبادئه. كان يريد أن يجعله يشعر بأن لا شيء من هذا العالم يستحق العناء، ولا شيء يستحق الكفاح. كان هذا هو السحر الأسود الذي كان يتحكم به، وهذه هي قوته المدمرة. تلك اللحظات التي يكون فيها الشخص غير قادر على التمييز بين الواقع والوهم، بين الحقيقة والخيال. كانت لحظات الضعف تلك هي ما يحتاجه هذا الكائن الأسود للاستحواذ عليه بشكل كامل.
لكن هشام، على الرغم من شعوره بالفزع، لم ينهار. بل زادت قوته الداخلية بفضل الإيمان الذي رسّخه في قلبه. بدأ يشعر بأن الكلمات التي كان يرددها تمنحه القوة لمواصلة المقاومة. كان يعلم أن الشيطان الأسود لا يستطيع البقاء طويلاً في المكان الذي يسيطر عليه الإيمان الحقيقي.
كانت هناك قوة في الكلمة، في الدعاء، وفي التوكل على الله. كانت تلك الحقيقة التي لم يتمكن هذا الشيطان من التغلب عليها، مهما كانت قوته الظاهرة. كان الجن الأسود يتحرك في الظل، يحاول جذب هشام إلى تلك الفجوات من اليأس، ولكنه، بفضل قوته الداخلية، كان يرفض الانزلاق إلى تلك الحفرة المظلمة التي حاول أن يقوده إليها.
بينما كانت الظلال تحاول أن تحيط به من جديد، شعر هشام بشيء غريب في جسده، كأن طاقة جديدة بدأت تدفّق في داخله. كانت فكرة الإيمان وحدها، ذلك الرابط الذي يصل الإنسان بالله، هو ما يجعله يستطيع مقاومة أي مخلوق شيطاني، مهما كانت قوته أو شكله. قال لنفسه بصوت منخفض لكنه ثابت: "لن أسمح لك، لن تكون قادرًا على تحطيمي".
وفجأة، تسارعت الأحداث بشكل غير متوقع، وكأن هشام فجأة أفاق من حالة سكون كانت قد سيطرت عليه. استعاد وعيه بالكامل. كانت الظلال التي كانت تحاصره قد تراجعت، لكن الشيطان الأسود لا يزال موجودًا في الأفق، متربصًا به، يترقب اللحظة التي ينقض فيها عليه. كان هشام يعلم الآن أنه المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد، وأن ما كان يواجهه هو تحدٍ حقيقي للإيمان، والإرادة البشرية. لكنه كان مستعدًا للمضي قدمًا، حتى وإن كانت هذه المعركة ستكون الأكثر صعوبة في حياته.