في قلب الفردوس، حيث كان الناس يجتمعون يومًا ما للسفر عبر النقوش المقدسة لتيناريا القديمة، بدأَت منصّة حجرية ضخمة تهتزّ بطاقةٍ غامرة.
لأشهرٍ طويلة، ظلّت ساكنة — صامتة، منسية.
لكنّها الآن كانت تنبض بضوءٍ ذهبيّ متلألئ.
الرموز القديمة المنحوتة على سطحها أضاءت فجأة، تنشر ظلالًا معقدة على ساحة الحجر الواسعة.
وحين خفت الضوء، كان خمسون فارسًا قد ظهروا حيث لم يكن أحد.
أجسادهم مكسوّة بهالات قوّتهم — كلّهم أصبحوا من المتّقدين، متحوّلين بالكامل.
تألّق درعهم المصنوع من خام إلدرن الأسطوري، يجعلهم عمالقةً بين البشر.
امتطوا خيولًا ضخمة وُلدت للحرب، صدورها كالصخور وعيونها تلمع بغضبٍ واعٍ.
ومن رؤوس تلك الوحوش خرجت قرون نصلية من الذهب المسحور، حادّة كفاها لتشطر الفولاذ، تلمع كأشعة الشمس المكسورة.
لكنّ رهبة المشهد تلاشت فور أن وقعت أنظارهم على الأرض أمامهم.
كان الرماد يتساقط مثل ثلجٍ أسود.
الدخان يتلوّى صاعدًا من حيٍّ كان يومًا يعجّ بالحياة — الآن لم يبقَ منه سوى الأنقاض.
النار ترقص فوق العوارض المنهارة والبلاط المحطّم.
العظام تلوح مكان الأجساد، هشّة وشاحبة.
لم يتحرك أحد.
الضحكات التي كانت تعمّ الشوارع حلّ محلّها صمتٌ أثقل من قرع طبول الحرب.
على بعد أمتار من الفرسان الخمسين، وقف شخصٌ واحدٌ فقط — شامخٌ فوق وحشٍ أسطوريّ.
جلس آشر على ظهر سيريوس، الذئب الأبيض المهيب.
كان فراؤه كثيفًا تعصف به الرياح، وعضلاته مشدودة بكبح الغضب.
عيناه الحمراوان تحدّقان إلى السماء حيث يعلوها سفينٌ طائرٌ هائل — ماردٌ من المعدن والنار.
ومن كلّ جانب، أمطرَ الخراب.
أشعة نارية تخترق السماء كقضاءٍ إلهي، تحول الحجر والفولاذ إلى بخار.
أجزاء من السور الأول والثاني اختفت — تبخّرت.
حيث كانت التحصينات القديمة، لم يبقَ سوى فوهاتٍ مدخّنة.
ترددت الصرخات عبر الدخان — نساء، أطفال، شعبه.
كانت عينا آشر تلتهبان… لكن ليس من الرماد.
قال بصوتٍ من حديدٍ ويأس:
> "إلى قصر اللورد… الآن!"
أجاب سيريوس بعواءٍ جعل الأرض ترتجف، ثم انطلق — يختفي فوق الرماد كطيف انتقام.
والفرسان الخمسون تبعوه في صفٍّ واحد، حوافرهم تدقّ الأرض بإيقاعٍ كنبض الموتى.
ثم بدأ الثلج يتساقط.
لم يكن ثلج الشتاء الهادئ، بل عاصفة بيضاء كثيفة وغير طبيعية.
الشهر الثالث من السنة كان ينبغي أن يكون ربيعًا، لكنّ السماء كانت تبكي دموعًا بيضاء.
تعلّقت رقائق الثلج بالحجارة المحترقة والدروع الملطّخة بالدماء.
انحنى آشر منخفضًا، عباءته ترفرف خلفه.
الهواء في رئتيه صار باردًا، ثم أبرد، حتى صار التنفس كابتلاع شظايا الجليد.
قلبه خفق — لا خوفًا، بل ألمًا أعمق.
لقد كان لوردًا، حاميًا…
لكن في هذه اللحظة، بينما مدينته تحترق وشعبه يصرخ، كان عاجزًا.
لأنّه لا يستطيع أن يعود.
ولا أن يتوقّف.
ليس قبل أن يصل إليها.
إلى سافيرا.
امرأته… روحه.
ذلك القرار — أن يواصل المسير ويثق بالآخرين ليدافعوا عن الفردوس بينما يتّجه إلى قلب عالمه — كاد يحطّمه.
لكنّه استمرّ في الركوب.
وخلفه دوّى زئير خمسين من فرسان الحرب.
---
وأخيرًا، ظهرت ظلال قصر اللورد من بين الثلوج المتساقطة.
راياته الفخمة سابقًا كانت محروقة ممزّقة.
البوابة قد أُسقطت فوق الخندق العريض، لكن لا حرّاس هناك.
الصمت كان يلتصق بالجدران — صمتٌ خاطئ، ثقيل.
حثّ آشر سيريوس على التقدّم، فعبروا الجسر كالعاصفة.
وما إن دخل ساحة القصر حتى اتّسعت عيناه.
صفّ من مئة جنّية يقفن في دروعٍ متلألئة، تشعّ بضوءٍ باردٍ غريب.
خلفهن، كانت جثث فرسانٍ رماديين مرميّة في الزاوية، ملتوية كالأدوات المكسورة.
عباءاتهم الفضية ملطخة بالدماء.
ثمّ انفتحت أبواب القصر الضخمة بصوتٍ مزلزل وسقطت من مفاصلها، ومن بين الغبار خرج شخصان.
أحدهما رجلٌ ضخم الشعر أبيض، يرتدي درعًا محفورًا بالرّون القديمة.
والآخر جنّيّ أشقر ذو هيبة إمبراطورية، جناحاه مطويّان كملكٍ سماويّ.
وفي ذراعيه، مستلقية بلا وعي، كانت سافيرا.
رأسها متدلٍّ على كتفه، فستانها ممزّق، وقدماها حافيتان.
"شينغ!"
سحب آشر وفرسانه سيوفهم دفعةً واحدة، رنين الحديد يدوّي كنغمة افتتاح لجوقة الحرب.
الهواء امتلأ بهالة القتل، ضغطها جعل حتى الجنيات يتراجعْن.
لكنّ عين جيرالد اليمنى أضاءت بلونٍ ذهبيّ حارق.
وبدون إنذار، لوّح بسيفه العريض في قوسٍ أفقيّ.
فانطلقت موجة برقٍ من النصل، تصرخ عبر الساحة كعاصفةٍ منطلقة، تضرب آشر وفرسانه بقوةٍ مدمّرة.
بوووم!
الضربة دفنتهم في الجدران الحجرية المحيطة بالساحة.
تشقق الحجر وتصدّع كزجاجٍ متكسر.
بعض الفرسان سقطوا على ركبهم، فاقدي الوعي — لكن لم يمت أحد.
ولم ينزف أحد.
تجهّمت ملامح جيرالد.
> "تلك الضربة كانت من عالمي الداخلي…
ومع ذلك دروعهم صمدت.
وقلوبهم ما زالت تنبض."
تمتم ببطء:
> "إنهم ليسوا بشرًا… بل شيء آخر."
رفع سيفه مجددًا — ثم توقّف.
نبضة قلبٍ دوّت في الساحة كناقوس حرب.
استدار.
ومن بين الحطام خرج رجل.
شعره أبيض كالثلج، بشرته مغطاة بطبقة جليد، خصلاته تتدلّى حتى كتفيه وتؤطر وجهًا منحوتًا كأنه من الآلهة.
اختنق نفس جيرالد — لا خوفًا، بل ذهولًا.
لأول مرة، يرى رجلًا أجمل من ألكساندر.
قال جيرالد ببطء وهو يلتقط ندفة ثلج في كفه ويحولها إلى غبار:
> "تحمل ملامح كريوس الشهيرة…
لابد أنك هو — آخر نسل البشر الأوائل، وعاء كريوس، من استدعى هذا الثلج الملعون."
لم يُجب آشر.
مسح الدم عن شفتيه، حدّق فيه، ثم رفع صوته الخشن المملوء بالحزن والغضب:
> "أعِدها إليّ."
رفع ألكساندر حاجبه ثم ضحك — ضحكة قاسية ترنّ في السماء بينما ارتفع بجناحيه، يتألّق فوق الغيوم.
> "اقتلوه،" قال بازدراء. "اقتُلوا الرجل الذي تجرّأ على تدنيس إمبراطوريتنا."
شدّ جيرالد قبضته على سيفه، عضلاته تتصلّب —
ثم تجمّد.
لأنّ ما وقف أمامه لم يكن بعدُ رجلًا.
جسد آشر تموّج وتحوّل، عيناه اشتعلتا بوهجٍ أبيضٍ بدائي، أطرافه تضخّمت، وكسى الفراء جلده، وامتدّت المخالب من أصابعه.
وقف شامخًا — عاصفة من الغضب الحي.
لقد تحوّل إلى فولديبير في هيئة الحرب.
تراجع جيرالد خطوة، صوته يخرج هامسًا:
> "…أشعر بعلامة جدي العظيم."
واتسعت عيناه:
> "لامِك…"
---