الفصل 118: الحُب (2)

اجتاح جسدَ فيكير رجفانٌ بارد، وسرت قشعريرة حادة في أوصاله.

تسمرت عيناه، وهمس متسائلًا، كمن صُدم بما سمع:

"…ما الذي سمعته للتو؟"

"الحب؟!؟!؟!؟!؟!؟!؟"

حتى في زمن الخراب والدمار، بدت تلك الكلمة أشبه بصرخة من عالم آخر. كلمة ما كان ليتوقعها أبدًا، لا هو، ولا أي مقاتل خبر ويلات الحروب، أو سيّد صنوف القتال والتخطيط… وقطعًا لم يكن يتوقع أن تخرج من فم هوغو.

ذلك الرجل، الذي لا يبدو أن لكلمة "حب" مكانًا في قاموسه، نطق بها بنفسه.

في تلك اللحظة، أحسّ فيكير أنّ كلّ الاستراتيجيات التي شيدها بعناية باتت مهددة بالسقوط منذ بدايتها.

ورغم ذلك، وبتعبيرات تنضح بضيق وكأنما يشكو من عبء الذكرى، واصل هوغو الحديث:

"نعم... إنها المرأة التي أحببتها طوال حياتي. قد يبدو هذا غريبًا، لكننا... وقعنا في الحب من النظرة الأولى."

كان حديثه أشبه بمنولوج داخلي، ومع ذلك، فكّر فيكير في نفسه:

"ما طلبتُ منك كل هذا."

لم يكن بحاجة إلى هذا السرد، وكان على وشك أن ينتقل إلى الموضوع التالي... لكن هوغو قاطعه:

"لكن! حُبنا ذاك وُضع مجددًا على المحك. لقد طاردنا مُتعقِّبون من عائلة باسكرفيل."

"..."

لم يكن فيكير مهتمًا بالسماع، لكنه آثر أن يصغي حتى النهاية.

واصل هوغو حديثه، وكل كلمة ينطق بها، كانت كأنها سيفٌ يُسنّ على حجر الذكرى.

قصة هوغو وركسانا... بدت أشبه برواية حبٍ قديمة، تعج بالكليشيهات... لكن المشاعر التي حملتها تجاوزت حدود الزمان والمكان.

هوغو لو باسكرفيل، العبقري الوسيم الذي برع في كل شيء، والوريث الثري لعائلة باسكرفيل.

وركسانا، فتاة فقيرة بسيطة، مرحة وصادقة.

رغم رفض الجميع، تمسك الاثنان بحبهما، متحدين العقبات، متجاوزين خلافات الأهل، ومتوجين قصتهما بنهاية سعيدة.

تشاجرا أحيانًا، وضحكا وبكيا على الشخصيات الثانوية التي سعت لسرقة حبّهما، وشكوا من قسوة القدر، حتى انتصر الحبّ في النهاية.

هزّ فيكير رأسه بصمت.

"...إذًا، ثمرة هذا الحب كانت بينيلوب؟"

بينيلوب لو باسكرفيل.

ما إن نُطِق الاسم، حتى اضطربت ملامح هوغو بشدة، وكأنما أصابته رجفة أقوى من تلك التي ألمّت به حين ذَكر اسمَ ركسانا.

صرخ قائلاً:

"ما نوع الإجابة التي تتوقعها؟!"

"..."

ظل فيكير محتفظًا بهدوئه، مما دفع هوغو للتنهيدة وكأنه يعترف بضعفه.

"نعم… صحيح. بينيلوب، طفلتي الأولى... لقد وُجدَت."

اهتز صوته حين نطق باسمها، وتلبّدت عيناه بتلك النظرة المنكسرة.

تابع قائلاً:

"ركسانا... كانت امرأة هشة. وما إن أنجبت بينيلوب، حتى أصابها مرض عضال... وربّيت تلك الطفلة بكل ما أوتيت من قلب."

كانت بينيلوب فتاة مشرقة، مرحة، ذات عقل قوي كأبيها، وقلب عطوف كوركسانا.

نشأت بين أحضان عائلة باسكرفيل، والجميع أحبها... حتى جاء ذلك اليوم.

خرجت في نزهة قصيرة، وهناك وقعت في قبضة قبيلة "روكوكو"، قبيلة همجية اشتهرت باصطياد البشر.

ولا أحد يعلم كيف علم أولئك المتوحشون بطريق سيرها...

اختطفت القبيلة بينيلوب، واختفت في أعماق جبل الظلام.

ومنذ ذلك اليوم... اختلّ عقل هوغو.

ذلك السيّاف الحديدي ذو القلب الفولاذي والدم المعدني، تخلّى عن كل شيء: السلطة، المال، النفوذ... وانتقل بعائلته إلى أقاصي الحدود.

سعى لتوسيع أرض الإمبراطورية بالقضاء على الوحوش والقبائل الهمجية التي تسكن الجبل الأسود.

كرّس نفسه للقتال، بجنون المحب الذي فقد جزءًا من روحه.

وبينما كانت سيوفه تحصد رؤوس الأعداء، أدرك أنه لا يستطيع وحده أن ينتصر.

فعقد زيجات سياسية متكررة، ليرزق بأبناء يرثون قوّته ويواصلون حربه.

ورحّب الإمبراطور بذلك، بل أغدق عليه الدعم.

جُنّد له الجنود، أُعفي من الضرائب، وسُخّرت له الموارد.

وخلال العقود التي تلت، ولدت عائلة باسكرفيل من جديد، عائلة فولاذية لا تُقهر، يخشاها الجميع في العاصمة.

"عائلة باسكرفيل الحديدية"... هكذا أصبحوا يُعرفون.

هزّ فيكير رأسه مرة أخرى، وتذكّر كلمات باري مور حين قال:

"سبب قبول اللورد للتحالف مع عائلة مورغ... أنه رأى في تلك الفتاة المخطوفة من عشيرة مورغ ظلّ ابنته بينيلوب."

وربما... كان يأمل أن يجدها من جديد.

قال باري مور ذات مرة:

"اللورد هوغو تغيّر بعد تلك الحادثة. لو أن بينيلوب بقيت على قيد الحياة... لربما لم يكن ما هو عليه الآن."

لم يكن فيكير يعرف هوغو قبل تلك الكارثة. فهو لم يكن قد وُلد بعد. لكنه خبر شخصيته في حياتين مختلفتين.

كان دائمًا ما يراه سيدًا صارمًا، لا يعرف الرحمة، لا هدف له سوى مجد الإمبراطورية، ورفعة اسم العائلة.

ولكن رؤيته الآن... شخصًا يتحطم أمام ذكريات حب قديم... جعلت قلب فيكير يتقلّب بشعور غريب.

"…هكذا إذًا كانت القصة."

ارتجف صوت هوغو، وبدت حمرة دامعة عند طرفي عينيه.

وكاد فيكير أن تدمع عيناه لهذا المشهد الذي لم يتوقعه.

لكنّه لم يسمح لنفسه بالضياع في دوامة الشفقة.

هذا الرجل، الذي لطالما أرسل أبناءه إلى ساحة الحرب، قلبه لم يعد كما كان، فقد تغيّر، تحوّل إلى آلة من قسوة...

حتى لو كانت حفيدته، فإنها تنحدر من دمٍ اختلط بدماء الهمج.

وبكثير من الحذر، وبصوت مرتجف، قال فيكير:

"أشكرك على إجابتك."

"..."

جفّف هوغو دموعه سريعًا، ورفع عينيه الحمراء الدامية ناظرًا إلى فيكير.

"لماذا سألت هذا؟! إن كنتَ فقط تريد إرضاء فضولك السخيف—"

لكنه لم يكمل، إذ قاطعه فيكير بإشارة من يده، ثم سأله دون مواربة:

"ماذا لو أخبرتك أن ابنة الزوجة الأولى... أي نسل بينيلوب لو باسكرفيل، ما زال موجودًا؟"

"ماذا قلت؟"

قطّب هوغو جبينه، ولمعت في عينيه نظرة استغرابٍ مشوبة بالتهكّم.

لكن فيكير... لم يكن يومًا من أولئك الذين يتفوّهون بكلام فارغ.

وفجأة...

تك!

مدّ فيكير يده إلى جيبه، وأخرج شيئًا وضعه على مكتب هوغو.

وما إن وقع بصر هوغو عليه، حتى اتّسعت عيناه حتى كادتا تنفجران.

"...ما هذا؟!"

كان قلادة، قطعة أثرية استخرجها فيكير من قرية "روكوكو" التي دمّرتها "الحمرة المميتة".

في داخلها، صور لهوغو وركسانا في شبابهما... وصورة بينيلوب في طفولتها.

"أنا... أنا من صنع هذه القلادة! بنفسي... في ورشة العمل... وأعطيتها لركسانا كهدية... ثم علّقتها في رقبة بينيلوب بنفسي..."

كانت يد هوغو ترتجف بشدة، حتى كادت تسقط القلادة من بين أصابعه.

كلنك!

سقطت القلادة تحت الطاولة... لكن فيكير أمسك بها في اللحظة الأخيرة.

صرخ هوغو بجنون:

"أعدها إليّ! أعدها لي فورًا!"

"اهدأ يا أبي."

كان بالكاد يدرك ما حوله. نسي نفسه، نسي هيبته، وبالكاد فهم كلمات فيكير.

أعاده فيكير إلى الواقع، وأعاد إليه القلادة.

"...آه..."

كانت الصور في الداخل قد بهتت، واللوح المعدني للغطاء بدا وكأنه تآكل بفعل الزمن والملامسة.

ابنته الكبرى، بينيلوب... أين هي الآن؟ هل ما زالت على قيد الحياة؟ وإن ماتت، فأين قبرها؟ ما الذي عاشته في لحظاتها الأخيرة؟ هل كانت وحيدة؟ خائفة؟ هل لعنته لأنه لم يأتِ لإنقاذها؟ هل فقدت الأمل وظنّت أنه نسيها؟

كل هذه الأسئلة لطالما أرّقته، وأحرقته في داخله.

ولطالما هرب من مشاعر الأبوة، وعامل أبناءه بجفاء، لأن الحزن كان أشدّ وطأة من الحب.

وحين كان يرى أبناءه الذين يحملون ملامحه، كان يجلد نفسه بلا رحمة.

...لكن...

حين رأى تلك القلادة، التي تشبثت بها بينيلوب حتى اللحظة الأخيرة، شعر بشيء يتفتت داخله.

وكأن جليدًا تراكم لعقود... بدأ يذوب أخيرًا.

انهمرت دمعة.

سقطت على الأرض الحجرية الباردة... دون صوت، لكنها زلزلت قلبه.

ثم نطق فيكير بكلمات جعلت عيني هوغو تتقدان من جديد:

"أبي... لقد أنجبت ابنتك فتاة."

"...؟"

كان صوت فيكير جافًا، رتيبًا، مما جعل هوغو لا يستوعب فحوى الحديث.

"...؟؟"

ظلت ملامحه مشوشة، كأنه لم يفهم المعنى الحقيقي بعد.

"...؟؟؟"

وهكذا، كرر فيكير كلماته، مؤكدًا:

"أعني... أنّ لديك حفيدة."

…وبعد لحظات من الصمت،

"!"

اتّسعت عينا هوغو حتى بلغتا أقصى اتساعٍ لهما.

2025/07/06 · 10 مشاهدة · 1103 كلمة
ZeroMove
نادي الروايات - 2025