6 - لفصل السادس: النقص الذي يسكنني

تقطير…

تقطير…

الدماء انحدرت من فم شين، كأنها نهر فقد السيطرة على مجراه. جسده مثخن بالجروح، كل ندبة فيه حكاية قديمة، لكنه ما زال واقفًا، سيفه آزاس يسنده كأنه العكاز الأخير لرجل على حافة الانهيار.

عينيه تلمعان بإصرارٍ يشبه الصخور الراسخة وسط عاصفة. رفع رأسه، وبصوتٍ خرج متقطعًا لكنه صلب:

— «آزاس… حان الوقت… علينا أن ننهي هذا الآن.»

شدّ قبضته على السيف، فانطلقت من حوله هالة ثقيلة، كسرت الأرض تحت قدميه، وامتد العالم فجأة وكأنه يبتلع المسافة.

الغولم المقابل زأر، والزمجرة كانت أشبه بانفجار. النقوش على جسده الذهبي توهجت، ومن حلقه انبعثت موجة صوت كسرت الهواء وأعاقت المسار.

لكن بضربة واحدة، قطع شين الحاجز كأنه لم يكن.

الغولم اندفع بقبضته الضخمة. الضغط الناتج جعل حتى شين يشعر أن صدره يضيق.

بووووم!

اصطدمت القبضة بالسيف. موجة من الطاقة انتزعت الأشجار من جذورها، وسحقت الأرض تحتهم، وكأن نيزك هبط في قلب الغابة.

… قبل عشرين دقيقة.

في الداخل، حيث العدم يتجسد كأرض متشظية وأرواح تائهة، كان آشوراز يترنح في جوهر روحه.

هواء ثقيل، فراغ بلا اتجاه، والهمس الذي اخترق أذنه لم يكن غريبًا عليه:

— «هل ظننت أنك ستصل إلى جوهرك دون أن تثبت أنك مستحق؟»

الضحكة التي تلت كانت كحد شفرة.

— «أتعرف هذا الشعور الذي يمزقك؟ هو ليس غريبًا. إنه ما حاولت كبته: الخذلان… الغضب… الانتقام… والكذب على نفسك. هذا ما يريد أن يتجسد عبرك.»

تدفقت الصور فجأة. جسد والده المسجى. صرخات القرية المحترقة. عيناه الطفلية المليئة بالاتهام. كل شيء يتسلسل أمامه كأنه يُعاد ببطء مؤلم.

— «أردتَ أن تحرر نفسك من أوهامك قبل شهر… لكنك خرجت ناقصًا. وفضّلتَ أن تدفن ذلك العمق. لأنك… أضعف من مواجهة حقيقتك.»

سقط آشوراز على ركبتيه. يداه ارتجفتا، أنفاسه كانت كمن يختنق. ومع ذلك… وسط الظلام، بدا وكأن شيئًا يتنفس.

الهواء صار أخف قليلًا. مثل قطرة ندى على زهرة عطشى.

رفع رأسه، ببطء، ثم وقف.

— «قمتَ ثانية…» قال الصوت، وكأنه يبتسم. «إذن… سأجعل الطريق واضحًا. لكن بثمن.»

ألقى الجوهر سيفًا من نورٍ باهتٍ أمام آشوراز، صوته يقطر برودًا:

— «امسكه… من يخسر هنا ينتهي أمره. وخارج هذه البوابة، معلمك يصارع غولم التراكست، كل ثانية تتأخر… تقرّبه من نهايته.»

مدّ آشوراز يده، قبض على السيف. لم يكن في ضحكته شيء من البهجة، بل مرارة ساخرة كسيفٍ مكسور.

— «أنت امتداد روحي… ينبغي أن تعرفني أكثر من أيّ أحد. هل تظن أن معلمي شين سيسقط بهذه السهولة؟»

رفع السيف أمامه، والدموع الخفية في عينيه تنعكس كالشرر.

— «ذاك الرجل واجه ألف جندي في ووروك، وقطعهم كما لو كانوا ظلًّا من دخان. لم يهتز، لم ينكسر. ليس لأنه لا يُهزم… بل لأنه لا يعترف بالهزيمة أصلاً.»

خطا إلى الأمام، ظله يرتجف على الأرض الممزقة.

— «إن أردتَ اختباري… فأظهر نفسك. لكن تذكّر: أنت صورتي، ولستَ قدري.»

الجوهر تجسد أمامه. في صورته هو.

آشوراز ضحك بمرارة:

— «كلّكم تحبون شكلي إذن… لكن، بحق السماء، كيف تطير؟»

الهالة الذهبية انفجرت من الجوهر. قوية، صافية، كالشمس.

أما آشوراز، فكانت هالته مظلمة، متكسرة، نيليّة كليل مضطرب.

اندفعا. السيوف تصادمت، الشرر تطاير، والمكان كله ارتجف.

لكن كل ضربة من الجوهر لم تكن للقتل. كانت كنافذة. نافذة إلى ذكرى.

أول خدش… أعاده إلى حضن أمه. ثاني ضربة… إلى يوم خذله أصدقاؤه. ثالثة… إلى صرخة طفولته حين دفن أباه.

تساقطت دموعه. لم يكن يقاتل خصمًا. كان يقاتل ذاته المدفونة.

في الخارج، شين كان يتهاوى.

الغولم انحنى، وجمع طاقته في جوهرته. شُعاع ضخم تشكل، قطره ثلاثة أمتار. انطلق فجأة كبرق.

الانفجار محا الأرض. الغبار ملأ المكان.

حين انقشع، كان شين على ركبتيه، الدم يلون صدره.

— «جزء من ثانية فقط… وكنت في عداد الموتى.»

رفع رأسه نحو الغولم، ابتسامة واهنة على شفتيه:

— «آزاس… هذه آخر مرة. لديك مهمة أخرى غير القتال. اليوم… سنغلق هذا الطريق معًا.»

رموز الإساشن تدفقت من جسده، لفت ساعديه، اندمجت مع سيفه.

ضوء السيف صار كخط يشق السماء.

اندفع نحو الغولم. اصطدم بالسيف عند صدره. الشرارة كادت تمزق الهواء نفسه.

الغولم تمايل، لكنه قاوم، رفع قبضته ليمزق رأس شين.

وفي اللحظة الأخيرة، صرخ شين:

— «بآزاس… وحده!»

قطع جوهر الغولم. الجسد العملاق اهتز، انهار، وصدى السقوط دوّى كجبلٍ يتفتت.

شين غمد سيفه، ابتسامة مريرة مرت على شفتيه:

— «الآن… كل شيء يعتمد عليك يا آشوراز.»

ارتفع صوت الجوهر، لا ككلمات عابرة بل كجرسٍ هزّ الفضاء في قلب آشوراز:

— «شعلة الأمل تستعر في أعماقك… لكنها تأبى أن تُبعث. إرادتك مغروسة كالبرعم في صخرة، لم يحن وقت انفتاحها بعد. دربك رُسم من قبل أن تفتح عينيك، وما عليك سوى أن تترك القدر يجرّك إليه.»

اهتزّت أنفاس آشوراز، وارتجف صدره. تحول الغيظ في عينيه إلى بريقٍ أصفر يلمع بين السواد. قبض على سيفه كما لو كان يمسك عنق مصيره ذاته، ثم زمجر:

— «لا طريق يُرسم لي! لن أُقاد مثل دمية عمياء. أنا من يرسم الدرب، وأنا من يخطّ المصير بيديّ… لا أحد يملك أن ينطق باسمي سواي!»

اندفع جسده، الهالة من حوله تنفجر كعاصفةٍ مُصفرّة، تضرب الهواء وتصنع شرخًا في الصمت. اصطدم بالسيف الذي يحمله الجوهر، فاهتز الفضاء كله، وفي ومضة، انكسر نصل الجوهر إلى شررٍ من نور.

لكن حين توقف، يده تنزف وخطٌ أحمر شق جلده، وسيفه هو الآخر تصدّع وانكسر. رفع رأسه ليرى خصمه…

الجوهر كان هناك، واقفًا كما لو لم يُمسّ، بملامحه التي تطابق وجه آشوراز، هالة أقوى من قبل تلفّه.

اتسعت عينا آشوراز، صوته يختنق بالدهشة:

— «مستحيل… لقد مزّقتك قبل لحظة. رأيت نصلي يخترق جسدك… كيف ما زلت واقفًا؟»

ابتسم الجوهر ابتسامة لا فرح فيها ولا حزن، بل يقين، وكلماته هبطت عليه كوصيّة:

— «لا أحد يستطيع أن يهزم صورته. أنت تحارب ما فيك… وما فيك لا يُمحى.»

لكن… الشرارة ظهرت. هالتك لمحةً صارت ذهبية. وهذا… يكفي الآن.»

ابتسم الجوهر:

— «اليوم نهضت. غدًا قد تسقط. تذكر… شعلة الأمل بداخلك، لكنها لا تستيقظ إلا إذا اتحد القلب والعقل والروح. النقص ما زال فيك.»

الأرض اهتزت. البوابة تتقلص.

— «اذهب. معلمك يحتاجك. أسرع… أيها الفتى الناقص.»

ركض آشوراز، وقفز في اللحظة الأخيرة.

استفاق وسط المعبد. النار تأكل الغابة.

بحث بجنون، حتى وجد شين مستندًا إلى شجرة، نصف وعيه مفقود.

— «معلم! تمسّك بي!»

فتح شين عينيه، ابتسامة ضعيفة ارتسمت:

— «نجحت إذن… فعلتها.»

— «جراحك… كثيرة… ستنزف حتى الموت!»

شين أغمض عينيه ثانية:

— «أردت فقط… أن أستريح.»

ركع آشوراز، قدّم ظهره:

— «اصعد. سأحملك. لن أدعك تموت هنا.»

ضحكة خافتة خرجت من حنجرة شين:

— «أحيانًا أمقتك… لكنك لا تسمح لي أن أرحل.»

ابتسم آشوراز، د

موعه تحرق وجنتيه:

— «لا أريد أن أفقدك. ليس هكذا.»

وحمله.

خطوة بعد أخرى، نحو المعبد. نحو بداية جديدة.

… لأن شعلة الأمل، ولو مهتزة، ولدت بداخله.

(يتبع)

2025/10/01 · 103 مشاهدة · 1030 كلمة
K.Z.Seven
نادي الروايات - 2025