هواء الصباح ينساب برقة عبر النوافذ المفتوحة،

يحمل معه رائحة الورود المتفتحة في حدائق قصر فاليسكا

وكأن النسيم ذاته يراقب الصمت الثقيل الذي خيم على الصالة الفاخرة

. جلست أرورورا بجانب الأمير دينيس ستراثمور، رجل يحمل في ملامحه

سكونًا مخيفًا، كأن نظراته الحادة قادرة على اختراق أعماق أي شخص يجلس أمامه.

لكنها لم تكن تراقبه، بل كانت عيناها متشبثتين بابنه،

كايل ستراثمور. لم يكن ذلك التحديق بدافع الإعجاب أو الفضول،

بل كان أشبه بمحاولة استرجاع نص مسرحي قديم، كما لو أنها تحاول تذكر شيء لا ينتمي إليها.

تنقلت نظراتها بين الوجوه ببطء، توقفت عند والديها—الدوق عثمان دي فاليسكا والدوقة إلينورا—كأنها تحاول

أن تجد بين ملامحهما إجابة لم تعرف حتى السؤال عنها.

ثم تنهدت بصوت خافت، تجرأت أخيرًا على كسر ذلك الصمت:

“آخر شيء أتذكره هو أنني… أنني…”

ترددت. شعرت أن الكلمات تخونها، كأنها على

حافة شيء غامض، شيء كان قريبًا حد الاختناق لكنه

يفرّ كلما حاولت الإمساك به. “هاه… كأن أحدهم أخذ روحي.”

تجمد الهواء حولها. الجميع كان يحدق بها الآن.

“لا أتذكر التفاصيل، فقط أغشي علي. لا أعلم أين كنت، ماذا كنت أفعل… لا شيء.”

خفضت بصرها، نظرت إلى راحتي يديها،

وكأنها تتأكد من أنها حقيقية، من أن هذه الأصابع تنتمي إليها. “ثم… فتحت عيني داخل غرفة لم أرها من قبل.”

ساد الصمت للحظة، ثم تنحنح اللورد دينيس ستراثمور،

، قبل أن ينحني نحوها برفق ويربت على رأسها بحنان غير متوقع:

“إن كنتِ فقدتِ ذاكرتك، فسنصنع لكِ ذكريات جديدة.”

ابتسمت أرورورا، لكنها لم تصدق كلماته، لا لحظة واحدة.

كل شيء داخلها كان يصرخ بأنها علقت داخل مأزق مستحيل، جسد يرفض أن يمنحها حتى أدنى فكرة عن ماضيه.

لكن لا وقت للغرق في هذه الأفكار الآن.

جاءت إحدى الخادمات وهمست في أذن الدوقة إلينورا، فأدارت

الأخيرة رأسها نحوها بحاجب مرفوع قبل أن تبتسم بتكلف:

“الآنسة مونيكا ديالي هنا، جاءت لرؤية أرورورا.”

اهتزت أرورورا داخليًا. اسم غريب آخر. هل من المفترض

أن تعرف هذه الفتاة؟ هل كانت صديقة مقربة، أم مجرد شخص آخر سيلاحظ أنها ليست “أرورورا” الحقيقية؟

لكن الدوقة لم تمنحها وقتًا للتفكير. “عزيزتي، اذهبي إليها. لا شك أنها قلقة عليكِ.”

نهضت أرورورا على الفور، كأنها وجدت أخيرًا منفذًا للهرب من هذا المشهد المربك.

وفي اللحظة ذاتها، أغلق كايل ستراثمور ساعته الفاخرة

بنقرة هادئة وقال بنبرة غير مبالية: “حسنًا، أنا أيضًا لدي موعد مهم. سأغادر الآن.”

نظر إلى والده، الأمير دينيس، الذي اكتفى بابتسامة مقتضبة، قائلاً:

“اذهب يا بني، سألحق بك لاحقًا.” ثم التفت نحو الدوق عثمان، وعيناه تلمعان بتحدٍّ طفولي.

“لكن أولًا، عليّ إنهاء مباراتنا في الطاولة. لن أعود لمنزلي قبل أن أهزمك، عثمان.”

قهقه الدوق قائلاً: “فز إن استطعت. هذه المرة لن أجعلك تنتصر بسهولة.”

ضحك الاثنان، بينما أعطت الدوقة إلينورا أوامرها للخدم لإحضار رقعة اللعب.

كايل لم يكن مهتمًا بكل هذا. نهض بهدوء، خطاه الواسعة لم تحدث ضجة

، وعيناه الباردتان لم تعكسا أي مشاعر وهو يغادر. أرورورا سارت خلفه،

لكن طريقهما كان مختلفًا—هو متجه إلى سيارته الفاخرة، وهي إلى الدفيئة حيث تنتظرها “صديقتها”.

ورغم ذلك، فقد كانت خطواتهما متناغمة، تسير جنبًا إلى جنب، والصمت بينهما كان ثقيلًا، لا بسبب قلة المواضيع، بل لأن أرورورا لم تكن تعرف أصلًا أين هي في هذه القصة… هل هي في بدايتها؟ أم في نهايتها؟

حين اقتربا من نقطة الافتراق، توقفت أرورورا أخيرًا،

ورفعت وجهها بابتسامة باهتة. “رافقتك السلامة، سيد ستراثمور.”

أدار كايل رأسه إليها، عاقدًا حاجبيه قليلاً، كأنه تفاجأ بحديثها الرسمي.

لكنه ابتسم ابتسامة بالكاد لاحظها أحد، وأومأ برأسه: “شكرًا لكِ.”

استدار وأكمل سيره، لكن قبل أن يصعد إلى السيارة،

التفت مجددًا للحظة قصيرة، ناظرًا إلى تلك الفتاة التي تسير بعيدًا.

كان المشهد أشبه بلوحة مرسومة بعناية—الضوء الذهبي يتسلل

عبر الأشجار، ينعكس على خصلاتها البلاتينية المتطايرة كخيوط

من حرير ناعم، وثوبها الأصفر الباهت ينساب حولها بهدوء، كما لو كان جزءًا من النور ذاته.

راقبها بصمت، شعر بشيء غامض يراوده.

هل هي بشرية… أم دمية زجاجية تسير تحت أشعة الشمس؟

لم يعرف الإجابة، ولم يكن يريد أن يعرف.

هز رأسه بخفة، وصعد إلى السيارة، محركًا إياها بسرعة وكأن تلك الفكرة يجب أن تُمحى من ذهنه قبل أن تتجذر أكثر.

سارت أرورورا بخطوات مترددة داخل الدفيئة،

تحاول أن تستوعب هذا العالم الجديد الذي وجدت نفسها فيه.

عبق اللافندر اختلط برائحة الورد والياسمين، وكأن المكان كله

أنشودة هادئة للطبيعة. كان الضوء يتسلل عبر الزجاج،

ملقيًا بظلال متراقصة على الرخام الأبيض، حيث تسلقت النباتات

الخضراء عليه بطريقة جعلته يبدو كمدخل إلى عالم خيالي.

لكن أكثر ما لفت نظرها لم يكن

جمال الطبيعة، بل الفتاة التي وقفت هناك، بثوب

أزرق فضفاض يعكس هدوءًا أرستقراطيًا. مونيكا ديالي—شعرها الأحمر

الملفوف بإحكام، وعيناها الزرقاوان اللتان تحملان مزيجًا

من القوة والبرود، وكأنها لا تحتاج إلى أي كلمات لإثبات وجودها.

لكن هذا الانطباع سرعان ما تحطم، عندما رأت أرورورا.

صرخت مونيكا بحماس وكأنها رأت شبحًا عاد للحياة، ثم ركضت نحوها بلا أي تحفظات وألقت بنفسها في أحضانها، تعانقها بشدة حتى كادت تكتم أنفاسها.

“لقد اشتقت لكِ، يا فتاة! قالوا لي إنك لم تنجي من ذلك المرض، و—”

كانت على وشك البكاء، وأرورورا، التي لم

تكن مستعدة تمامًا لهذا الكم من العاطفة، وضعت يديها على كتفي مونيكا، تربت عليها بخفة وهي تقول بتوتر:

“لا تبكي يا مونيكا، أنا بخير. ألا ترين؟ أقف أمامك سالمة.”

لكن عقلها كان يقول شيئًا آخر: “بالكاد أفهم من أكون، كيف يمكنني طمأنتها؟”

حدقت مونيكا في وجهها، وكأنها تحاول التأكد من أنها ليست هلوسة

. ثم جلست على الكرسي الرخامي بجانبها، وبدأت تمسح دموعها بحركة درامية أشبه بالمآسي اليونانية.

“لكن… كيف؟ كيف تعافيتِ؟ الجميع قالوا إنك لن تنجي، كان مرضك غامضًا ولا شفاء منه!”

ترددت أرورورا للحظة. كيف لها أن تشرح أنها

ليست صاحبة الجسد الحقيقية؟ كيف لها أن تقول إنها لا تذكر شيئًا من حياتها السابقة هنا؟

لذا اختارت الطريقة المباشرة.

“مونيكا، هناك شيئان يجب أن تعرفيهما.”

رفعت سبابتها لتؤكد كلامها، محاولة التصرف

وكأنها تسيطر على الموقف، رغم أن عقلها كان يعج بالفوضى.

“أولًا، لقد فقدت ذاكرتي تمامًا. لا أتذكر شيئًا عن حياتي قبل استيقاظي في هذا الجسد.”

توسعت عينا مونيكا بصدمة، لكنها لم تقاطعها، فأكملت:

“ثانيًا…” نظرت إلى يدها للحظة، ثم أمسكت بيد مونيكا بنظرة جادة

، “أحتاج مساعدتك. أريد أن أعرف… من كنت؟ كيف كانت شخصيتي؟”

ساد الصمت لثوانٍ، قبل أن تهمس مونيكا بصدمة واضحة:

“ريري… هل هذا حقيقي؟ لقد فقدتِ ذاكرتك بالكامل؟”

أومأت أرورورا ببطء.

عندها، أخذت مونيكا نفسًا عميقًا، وكأنها تستجمع

شجاعتها لتعيد إحياء الماضي، ثم قالت بابتسامة حزينة:

“كنتِ مفعمة بالحياة، تحبين قراءة الكتب الخيالية،

وتؤمنين بالأساطير أكثر مما تؤمنين بالواقع. كنا نمضي الليالي

ونحن نبتكر قصصًا عن عوالم أخرى، ونمثل أننا ساحرات يلقين تعاويذ لاستدعاء الأرواح من العصور القديمة.”

في تلك اللحظة، شحب وجه أرورورا بالكامل، شعرت

ببرودة تتسلل إلى أطرافها، وكأنها كانت على وشك فقدان وعيها من جديد.

حدقت في مونيكا، ثم رفعت حاجبها وقالت بصدمة:

“انتظري لحظة… هل تقولين إننا… كنا نحاول استدعاء الأرواح؟!”

أومأت مونيكا بحماس طفولي.

“نعم! كنا نؤمن أننا نستطيع استدعاء شخص

من عالم آخر! كنا نضيء الشموع، ونردد التعاويذ التي

وجدناها في كتب قديمة. أتعلمين؟ كنا نضحك دائمًا ونقول: تخيلي لو نجحنا يومًا ما!”

عندها، نهضت أرورورا فجأة، وضربت الطاولة الرخامية بكلتا يديها، صارخة:

“مـــــــــــــــــاذا؟! أكنّا نحن الاثنتان مجنونتين إلى هذا الحد؟!”

ضحكت مونيكا وهي تومئ برأسها، غير مدركة العاصفة التي كانت تدور داخل عقل أرورورا.

“أوه، كنا أكثر من مجنونتين، كنا عبقريتين في صنع الفوضى!”

لكن أرورورا لم تكن تفكر في مدى جنونهن، بل في شيء أكثر رعبًا.

“لقد نجحت طقوسنا… لقد استدعينا روحي من عالمي إلى هذا الجسد. لكن السؤال الحقيقي هو… أين ذهبت روح صاحبة هذا الجسد؟”

في تلك اللحظة، بدا أن النسيم الذي كان يملأ الدفيئة قد توقف تمامًا، وكأن الهواء نفسه حبس أنفاسه.

وفي مكانٍ بعيد داخل القصر، ترددت ضحكة خافتة، ضحكة لم يسمعها أحد، لكنها كانت هناك، مختبئة بين الظلال، تراقب بصمت…

2025/03/27 · 16 مشاهدة · 1214 كلمة
Tulip
نادي الروايات - 2025