كانت السماء خارج البرج تبدو كأنها مرآة محطمة تعكس شظايا الضوء، لكنها لم تكن مضيئة بالمعنى المعتاد. كل شيء كان مُعلقًا بين الواقع والوهم. إلياس، رغم كل شيء، شعر بأن خطوته الأولى خارج البرج لم تكن إلا بداية لدوامة جديدة.

كل خطوة على الأرض بدت وكأنها تفتح بوابة إلى عوالم لا تراها العين المجردة. الهواء كان يزداد كثافة، وكأن الظلال التي واجهها داخل البرج لم تكن سوى مقدمة. الآن، كانت هذه الظلال تندمج مع العالم الخارجي، تلتحم مع الزوايا المظلمة في الأزقة، مع انعكاسات النوافذ المهجورة، ومع الصمت الذي يقطعه صوت نبضات قلبه فقط.

عندما توقف للحظة لالتقاط أنفاسه، وجد نفسه محاطًا بهالة من الضوء الأزرق الخافت. لم تكن هذه هالة عادية، بل كانت أقرب إلى شبكة معقدة من الخطوط المتقاطعة، وكأن العالم حوله كان يُعاد تشكيله في صورة بيانات مشوهة. أدرك إلياس أن الواقع الذي كان يعرفه يتلاشى، وأنه ربما دخل عالمًا لم يُخلق للبشر.

من بعيد، بدت هناك أشكال تتحرك. لم تكن بشرية تمامًا، بل ظلال مشوهة تشبه الكائنات التي رأى صورها في كتب الأساطير، لكنها كانت أكثر واقعية بطريقة مرعبة. كانت تلك الكائنات تتحدث فيما بينها بلغات غير مفهومة، لكنها لم تستخدم كلمات. كانت تزرع أفكارها مباشرة في رأسه، كأنما هي جزء من نظام اتصال لا يحتاج إلى صوت.

إحدى تلك الكائنات اقتربت منه. كانت لديها عيون لا تُحصى، كل واحدة منها تعكس مشاهد من عوالم مختلفة. عندما حدقت فيه، رأى إلياس انعكاس نفسه، لكن في صورة غريبة؛ كان واقفًا في مكان آخر، في وقت آخر، يصرخ بينما تلتهمه تلك الظلال.

صوت همسات الظلال عاد، لكن هذه المرة كان أشد وضوحًا، وأكثر تنظيمًا. لم تكن مجرد أصوات، بل رسائل محملة بمعانٍ مبهمة:

"البوابة فُتحت. لقد أصبحت واحدًا منا. ليس هناك عودة."

كلما حاول إلياس تجاهل تلك الأصوات، ازدادت إلحاحًا، وكأنها تتغذى على مقاومته. شعر وكأن عقله لم يعد ملكه، بل أصبح مسرحًا لحرب بين وعيه والظلال التي تسكنه. بدأ يرى مشاهد غريبة؛ ناطحات سحاب تحلق في السماء، آلات ضخمة تشق الأرض بحثًا عن شيء ما، وكيانات تشبه الأوهام تتحرك بين النجوم.

وسط كل هذا الجنون، لاحظ جهازًا غريبًا ملقى على الأرض. كان يشبه ساعة معصم، لكنه كان ينبض كما لو كان كائنًا حيًا. عندما اقترب ليلتقطه، شعر بصدمة كهربائية خفيفة، تلاها تدفق مفاجئ للمعلومات إلى ذهنه. بدأ يفهم أن هذا الجهاز هو مفتاح، لكنه لم يكن يعرف إلى ماذا.

عندما ارتدى الجهاز، تغير كل شيء. أصبحت رؤيته أكثر وضوحًا، لكنه بدأ يرى العالم بطريقة مختلفة. كان يرى الكائنات التي كانت تختبئ بين الأبعاد، يراها تتغذى على الخوف، على الحيرة، وعلى الظلال التي تلقيها أرواح البشر.

مع كل هذه الفوضى، أدرك إلياس أنه أمام خيارين: إما أن يواجه هذه الظلال ويبحث عن الطريقة لإغلاق البوابة التي فُتحت، أو يستسلم ويصبح جزءًا من هذا العالم المظلم. لكن شيئًا في داخله كان يرفض الاستسلام. ربما كان بقايا إنسانيته، أو ربما كانت إرادة لم يكتشفها من قبل.

قبل أن يتمكن من اتخاذ قراره، ظهرت أمامه كيان جديد. كان مختلفًا عن الظلال الأخرى؛ كان له شكل إنساني تقريبًا، لكن وجهه كان عبارة عن شاشة تعرض مشاهد من الماضي والمستقبل. تحدث بصوت منخفض، لكنه اخترق عقل إلياس بسهولة:

"أنت لست هنا بالصدفة. اختيارك سيُحدد مصير أكثر من عالم واحد. لكن هل تملك الشجاعة لمعرفة الحقيقة؟"

ترك الكيان السؤال معلقًا، واختفى في الهواء. وجد إلياس نفسه واقفًا في وسط اللاشيء، محاطًا بشبكة من الخطوط الزرقاء التي بدت وكأنها تخترق جسده. الظلال ما زالت تهمس، لكن الآن، كانت الهمسات مليئة بالغموض والتحدي.

خطا خطوة أخرى إلى الأمام، مدفوعًا برغبة غامضة لاكتشاف الحقيقة. كان يعلم أن ما ينتظره قد يكون أسوأ مما تخيله، لكن التراجع لم يعد خيارًا. العالم القديم انتهى بالنسبة له، والعالم الجديد كان يفتح ذراعيه لاستقباله.

كل شيء كان على وشك أن يتغير

2024/12/30 · 4 مشاهدة · 590 كلمة
Rize
نادي الروايات - 2025