مرت أيامٌ طويلة منذ أن ترك إلياس البرج الحجري، لكن شعورًا غريبًا استمر في ملاحقته. كان هذا الشعور شيئًا أشبه بالثقل الذي لا يمكن التخلص منه، شيء يتربص في الظلال ويتراءى له في كل زاوية، همسات بالكاد تُسمع ولكنها عميقة وملحة، تتردد في عقله وتغرقه في دوامة من الشكوك والقلق. كان إلياس يعلم أن تلك الهمسات كانت أكثر من مجرد خيالات. كانت تأتي في اللحظات التي يظن فيها أنه نجا من هذا الكابوس، عندما يكون في أعمق لحظات استرخائه أو نومه. وكانت تتركه مستيقظًا، مرهقًا، وعقله مشوشًا، كما لو كانت تلاحقه بخطوات لا يمكن سماعها.

في إحدى الليالي، بينما كان إلياس يستلقي على سريره، محاولًا مقاومة جاذبية النوم التي تجذبه إلى عالم آخر، بدأ الظلام حوله يضيق أكثر. كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل، والهدوء يسود المكان، إلا أن شيئًا غير طبيعي كان يلوح في الأفق. في البداية، كان مجرد شعور غامض. لكن مع مرور الوقت، بدأت الظلال في الزوايا تنبض بالحياة. بدأ يرى خيوطًا غير مرئية، تتحرك في أركان الغرفة كأشباح ضبابية، تتحرك ببطء كما لو أنها تراقب تحركاته. وكان شعورًا عميقًا يملأ صدره، شعورٌ ثقيلٌ لا يمكن التخلص منه، كما لو أن شيئًا ما يضغط عليه، يعيقه عن التنفس.

حاول أن يطرد هذه الأفكار من عقله، متوهمًا أنها مجرد أوهام ناتجة عن عقل متعب. لكنه سرعان ما أدرك أن ما يحدث ليس من وحي الخيال. كان هناك شيء حقيقي يتحرك حوله. أطياف مظلمة تتشكل وتتحول تدريجيًا إلى صور شبه بشرية، وجوه باهتة وأعين فارغة تراقبه عن كثب. كانت تحدق به بشكل مباشر، وكأنها تحمل رسائل غامضة له، رسائل لم يكن في استطاعته أن يفهمها. لا مفر من الحقيقة: كان في مرمى تلك الظلال.

أيام مرت، وإلياس لم يعد قادرًا على تجاهل تلك الهمسات التي كانت تملأ عقله. كانت رسائل غريبة، تتردد في أذنه بلغة غير مفهومة، وتخترق أفكاره بقوة، وكأنها تأتي من مكان بعيد. ومع مرور الأيام، ازدادت تلك الهمسات قوة، كانت أكثر وضوحًا، وأكثر إلحاحًا. لا يمكنه تجاهلها أو الهروب منها. كان يشعر بأنها تحمل شيئًا خطيرًا، شيئًا كان عليه أن يعرفه، ولكن عقله كان يرفض تفسيره.

في إحدى الليالي، عندما كان يحدق في الظلام، محاولًا فهم تلك الرسائل التي تملأ ذهنه، جاءته همسة واضحة، تختلف عن كل ما سمعه من قبل. همسة جعلت قلبه يقفز في صدره. "البرج لم يغلق بعد. إنك في خطر، والجميع في خطر." كانت الكلمات ثقيلة، كالحديد، تومض في ذهنه. لم يكن إلياس متأكدًا مما تعنيه تلك الكلمات. هل كانت تحذيرًا؟ أم تهديدًا؟ كان عقله يرفض استيعاب هذه الفكرة، ولكنه شعر بالرعب يتسلل إلى أعماقه، كما لو أن شيئًا مظلمًا قد استيقظ داخل هذا المكان الملعون، وبدأ يزحف نحوه ببطء.

في البداية، حاول إلياس تجاهل الرسائل والعودة إلى حياته الطبيعية. ولكن مع مرور الوقت، لم يستطع إيقاف الشعور الذي كان يلاحقه. كان الصوت في عقله يزداد وضوحًا، وكان لا يستطيع الهروب منه. كانت الهمسات تتسارع، وتثير في قلبه القلق والخوف. في النهاية، قرر العودة إلى البرج، محاولًا إيجاد إجابة لما كان يحدث له.

انطلق إلياس في صباح يوم غائم، وخطا إلى البرج مرة أخرى. حينما وصل، شعر بشيء غريب. كان البرج يبدو وكأنه يرفض وجوده، وكأن المكان نفسه يقاوم عودته. عندما عبر الباب، كان كل شيء يبدو ساكنًا بشكل غير طبيعي. كانت الغرفة التي اكتشف فيها الجهاز المعدني في المرة الأولى، تبدو وكأنها تجمدت في الزمن. لم يكن هناك أي حركة. كان كل شيء في حالة صمت مرعب، وكأن البرج نفسه يحبس أنفاسه.

عندما وصل إلى مركز الغرفة، وجد الجهاز المعدني. كان يضيء بنبضات ضوء ضعيفة، وكأنها تنبض بالحياة. مد يده بتردد نحو الجهاز، وعينيه لا تفارقان الظلال التي تحيط به. فجأة، شعر بشيء غريب. كانت البرودة تتسرب إلى جسده، وكأن الهواء نفسه قد تحول إلى جليد. تجمد في مكانه، كما لو أن شيئًا ما كان يتسلل داخله، يعيقه عن الحركة. كانت الأطياف تحيط به، تتحرك بصمت، وكأنها تراقب كل خطوة يخطوها.

ثم، همست إحداها بصوت يملؤه الأسى، كما لو أنها حزينة لما فعلته: "لقد أيقظتنا... وعلينا الآن أن نراقبك." كانت تلك الكلمات كالسوط على عقله. كانت تحمل تهديدًا غير مرئي، وكأنها تشعر بأنه قد اخترق حدودًا لا يجب أن يعبرها.

أصبح كل شيء أكثر ضبابية، كل خطوة كانت تكشف له المزيد من الغموض، وكان اليأس يتسرب إلى قلبه. أدرك إلياس أنه لم يكن يتعامل مع ظلال عادية، بل مع كائنات من عالم آخر، عالم مليء بالأسرار المظلمة. كانت الهمسات تزداد ضجيجًا، وتملأ رأسه بأصوات غير مرئية، تذكره بأن هناك شيئًا مظلمًا في انتظاره، شيء لن يسمح له بالعودة إلى حياته السابقة أبدًا.

عندما غادر البرج في نهاية المطاف، شعر وكأن الظلال كانت تلاحقه، تراقبه، وتنتظر اللحظة المناسبة لتظهر له وجهها الحقيقي. كان يقف على عتبة شيء ما أكبر من أن يفهمه. شيء لا يمكنه الهروب منه. قد تكون الظلال تلاحقه إلى الأبد، أو قد تكون قد استحوذت عليه بالفعل. كلما حاول نسيانها، زادت همساتها في عقله، كما لو أن البرج لم يغلق بعد، وأنه قد فتح أبوابًا لأشياء لا يجب أن تخرج.

ولكن مهما حاول الهروب، كانت تلك الظلال حاضرة، تهمس له بالسر.

2024/12/07 · 6 مشاهدة · 792 كلمة
Rize
نادي الروايات - 2025