منضور ميري:
.
.
كان كولتون يعبث بشعري بقوة، وصرخاتي تعلو بين ضحكاته المتعالية:
ــ "آه! أفلت شعري، أيها البغيض!"
في خضم هذا الصخب واللهو، وقع بصري على طفل يقف على عتبة الباب.
بدا وكأنه تائه وسط عالم لا ينتمي إليه. بشرته البيضاء الشاحبة وعيناه اللتان تشعّان بلون فاتح وغريب زادتا من غرابته، وكأنهما تحملان سراً دفيناً..
لمحت رفاقي وقد انقطعت ضحكاتهم فجأة، وتركزت أنظارهم نحوه.
تذكرت كلمات السيدة إليزابيث حينما أخبرتنا عن طفل وُجد فاقداً للوعي بالقرب من هنا. لا شك أن هذا الطفل هو ذاته.
ملامحه الضائعة ونظراته التي حملت حزناً عميقاً ذكرتني بشيء من ألمي القديم. خلف ذلك الوجه الحزين حتماً مأساة مشابهة لقصتي.
تقدمت نحوه بخطوات هادئة ومددت يدي، قائلة بابتسامة دافئة:
ــ "مرحبا! أنا ميري. أنت جديد هنا، أليس كذلك؟"
أجاب بصوت متردد وبطيء:
..
ــ "أنا... ليون."..
كان من الطبيعي أن يبدو متوترا، فمن الصعب أن يشعر بالارتياح وسط غرباء ومكان لم يألفه.
ابتسمت مجددا، محاولة بث الطمأنينة في قلبه:
ــ "ليون! سررت بلقائك."
سرعان ما انضم باقي رفاقي للتعريف بأنفسهم، وكان التعبير المضحك الذي ارتسم على وجهه كافياً لتخفيف حدة الموقف.
راقبت كولتون وهو يمسك بيد ليون، مقترحا أن يلعبا معاً.
ــ "أه، ذلك الأحمق!" تمتمت لنفسي بابتسامة متحفظة.
شاركتهم اللعب، لكن بعد لحظات رأيت ليون يبتعد قليلا متجهاً نحو أوين. لم أستغرب، إذ بدا تصرفاً طبيعياً من شخص يحاول التكيف.
مع استمرار ضحكاتنا وصخبنا، رأيت ليون يستأذن لدخول المبنى. اعتقدت أنه ربما نسي شيئاً، وكانت تلك فرصتي لطرح السؤال الذي أثار فضولي.
تبعته بخطوات مسرعة، لكنني رأيته يتوجه نحو غرفة المديرة.
ربما، تاه في المكان!
لحقت به، لكنني توقفت حين لاحظته يقف بالقرب من الباب بتعبير فضولي. كان يختلس السمع، وكأن شيئاً ما جذب انتباهه.
سمعت أصواتاً تتسرب من الغرفة:
ــ "عليك الاسراع في أداء مهمتك والتعامل مع الأطفال!"
ــ "لكن تعلم أن تخليصهم من تلك الأفكار ليس بالأمر السهل!"
صوت رجل غاضب، يتجادل مع المديرة.
تجمدت في مكاني، أفكر في الكلمات التي سمعتها:
"تخليص الأفكار؟"
ما الذي يجري هنا بحق خالق السماء؟!
رأيته ليون يهرع نحوي بخطوات متسارعة، ووجهه يعكس دهشة وارتباكاً عميقاً.
كانت عيناه تنضح بتساؤلات عدة، وكأنما يبحث عن تفسير لما رآه أو سمعه.
ــ "من هناك؟"
كان الصوت الأجش الغاضب للرجل يصدح من خلف الباب. شعرت بقشعريرة تسري في جسدي.
لقد كُشفنا!
أمسك ليون بيدي بسرعة، وكأنما كان يدرك الخطر المحدق بنا، وجرني وراءه دون تردد.
ركضنا عبر الممرات الضيقة حتى وجدنا أنفسنا داخل غرفة صغيرة مظلمة، المخزن.
كانت أنفاسي تتسارع، وضربات قلبي تتعالى مع صوت خطوات الرجل التي بدا أنها يبحث عنا. لكن لحسن الحظ، كان ليون سريع البديهة.
لو تأخرنا لحظة واحدة لوقعنا في قبضتهم.
داخل ذلك المكان الضيق، ساد صمت ثقيل، لكنه لم يدم طويلا التفتَ إلي ليون بعينين متقدتين بالفضول، وهمس بصوت حمل مزيجا من الحذر والدهشة:
..
ــ "هل هناك أمر غريب يدور حول الميتم؟"
...
كانت نبرته تحمل أكثر من مجرد سؤال، كأنما يطلب إجابة تكشف غموضا بات يحيط به منذ وطأت قدماه هذا المكان.
...