كان خالد يظن أنه يتحدث إلى نفسه وحيداً .. و لم يكن يعلم أن هناك من يسمع حديثه إلى نفسه بصوت عالٍ خارج الحجرة .. حيث وقف جده مجاوراً لباب الحجرة يستمع إلى ما حدّث به نفسه .. و رغم هذا لم تبدُ على وجهه أى دهشة , و كأن ما سمعه من حديثه عن نزوله السرداب أمر لم يمثل له أى اختلاف , بل بدا كأنه أمر توقع حدوثه .. و ظل واقفاً حتى صمت خالد , و أُغلقت أنوار حجرته , و ساد الهدوء المكان لم يقطعه إلا هذا الصوت المميز الذى يعلمه جيداً حين ينام حفيده ..

***

بعدها غادر متكئاً على عصاه إلى حجرته حيث جلس صامتاً على أريكته لدقائق ثم حرك عصاه ليجذب بها صندوقاً خشبياً صغيراً بدا عتيقاً و فتحه , و أخرج منه ( ألبوم ) قديماً للصور غُطى بالكثير من الأتربة .. و بعدما أزاح عنه الأتربة بدأ يقلّب فى صفحاته صفحة تلو الأخرى , و يشاهد ما به من صور .. حتى توقف كثيراً عند إحداها ..

***

فى اليوم التالى استيقظ كل من خالد و جده مبكراً كما تعودا دائماً .. فخالد لديه عمله المبكر , و جده لا ينام بعد صلاة الفجر , و يظل يقرأ فى كتاب الله حتى ينهض خالد فيتناولا إفطارهما سوياً .. و الذى تعده لهما فتاة تسكن بجوارهما قد اعتادت على هذا منذ سنوات .. حتى جلس خالد و كان ينظر إلى جده بين الحين و الآخر و كأنه يريد أن يخبره بشئ .. حتى قطع صمته , و سأل جده :

- عبدو ( كما كان يحب أن يناديه ) .. أنت تقدر تعيش لوحدك ؟

فنظر إليه جده .. و أظهر أنه لا يفقه سؤاله :

- أنت عايز تسافر و لا أيه ؟!

صمت خالد .. ثم نظر إليه مجدداً :

- لو سافرت لفترة قليلة .. تقدر تعيش لوحدك ؟ ثم أكمل .. و كأنه يوضح كلامه :

- أنا عارف إن كلامى صدمة ليك .. بس أنا قررت إنى أسيب البلد لفترة .. و أقسم لك إنى هرجع فى أسرع وقت .. و مش هتحس بغيابى .. ثم حاول أن يبرر حديثه :

- أنا هسافر أى مكان ألاقى فيه نفسى .. أحس فيه بوجودى .. أنت عارف ابن ابنك خريج كلية التجارة بيشتغل أيه ؟

- اه .. شغال فى مخزن أدوية ..

- ابن ابنك شغال شيال فى مخزن أدوية .. شيال .. هات الكرتونة دى حطها هنا .. خد الكرتونة دى وديها هناك ..

ثم همّ بالوقوف ليغادر .. و قال لجده :

- هسافر فترة مش طويلة .. ثم التفت خارجاً , حتى أوقفته كلمات جده :

- أنت ليه بتكدب يا خالد ؟! .. أنت ليه مش عاوز تعرفنى إنك عاوز تنزل السرداب ؟!

كانت تلك الكلمات كالصاعقة التى وُجهت إلى خالد بعدما اختلق رغبته فى السفر لفترة كى لا يعلم جده بذلك , و يظن أنه أُصيب بالجنون .. و لم يعلم كيف عرف جده بنيته .. فنظر إليه مرتبكاً :

- سرداب ؟! .. أنت عرفت منين ؟!! .. أقصد سرداب أيه .. و كلام فاضى أيه ..

فأكمل جده :

- عرفت من زمان .. من زمان جداً .. ثم أمره بالجلوس مجدداً .. و سأله فى جدية :

- أنت عاوز تنزل السرداب ليه ؟

صمت خالد .. ثم تحدّث محاولاً أن يجعل الحديث مزحة :

- أنت ليه مصمم على حكاية السرداب دى .. أنا بقولك أنا هسافر ..

أعاد جده سؤاله :- خالد .. أنت عاوز تنزل السرداب ليه ؟

فلم يجد مفراً و أخرج زفيرا طويلاً , و أجاب :

- عايز أنزل عشان أثبت لمنى و أبوها إنى بطل .. إنى مختلف عن غيرى ..

فسأله جده :- بس ؟

فأجابه فى تعجب :

- أيوة بس .. و أكمل :

- و مين عارف , يمكن ألاقى الكنز اللى أنتوا كنتوا نزلتوا قبل كدة عشانه ..

فكرر جده سؤاله :- بس ؟

خالد :- أيوة

فقال جده فى جدية :- أنت مش عايز تنزل عشان كدة ..

فنظر إليه خالد متعجباً من الجدية التى لم يرها على وجهه من قبل .. حتى أكمل جده :

- افرض إن منى اتجوزت حد تانى , هتنزل السرداب و لا لا ؟

فصمت خالد .. و أكمل جده :

- عمرى ما هصدق إنك عايز تنزل عشان منى .. أنت عايز تنزل لسبب تانى تماماً .. سبب نزولى و نزول غيرى .. السبب اللى بيجرى فى دمنا .. دمى , و دمك , و دم أبوك .. السبب هو حبنا للمجهول .. حبنا للتمرّد .. حبنا لاكتشاف حاجة جديدة .. حبنا للاختلاف ..

و أردف :

- لما كنت صغيّر كنت بحكيلك عن السرداب و أنت بتعيط .. و يمكن كنت بتبص لها إنها مجرد حكاية عشان اسكتك بيها , لكن صدقنى كنت عارف إن هيجى يوم و تكبر و أحكيلك من تانى عن السرداب .. مجرد حكاية صغيرة عنه و هتنتفض من جواك .. و تابع :

- ما أنت ياما رفضك أبو منى .. و كنت عارف سبب رفضه .. اشمعنى المرة دى اللى حبيت تكون بطل .. لحد ما جه اليوم ده امبارح , و حصل جواك نفس اللى حصل لأبوك يوم ما حكيت له عن السرداب .. بس الفرق إنى عرفت إنك عايز تنزله , أما هو راح فجأة ..

فقاطعه خالد :

- أبويا نزل السرداب ؟!

فأجابه :- مش أبوك لوحده .. أبوك و أخد أمك معاه .. كانوا فاكرين أنهم هيروحوا رحلة صغيرة و يرجعوا .. عشان كدة سابوك و أنت ابن سنتين .. و قالوا راجعين بعد أيام .. لكن الأيام بقت شهور , و الشهور بقت سنين , و السنين فاتت و مرجعوش .. و البلد كلها عرفت إنهم ماتوا فى حادثة .. و الكل شكر ربنا إنك مكنتش معاهم و نجيت من الحادثة دى .. لكن الحقيقة أنهم نزلوا السرداب

ثم تنهد و أكمل :- عمرى ما أنّبتهم على كدة .. بقول لنفسى ما انت كمان نزلت السرداب و كنت فخور بنفسك .. بس الفرق إن ربنا نجاك .

ثم نظر إلى خالد :- عشان كدة عمرى ما هزعل إنك كمان تنزل السرداب .. حتى لو كنت عارف إن قرارك ده ممكن يبعدك عنى .. بس لازم تكون متأكد إنك نازل من جواك أنت .. مش نازل لسبب وهمى حاطه لنفسك هو منى .. و همّ بالوقوف .. و مشى بضع خطوات معطياً خالد ظهره :

- ساعة ماتقرر قولّى .. لأن لسة كلام كتير عن سرداب فوريك , حد غيرى هيقوله لك ..

***

بعدها غادر خالد , و لم يتجه إلى عمله كما كان يذهب كل يوم , بل توجه لمقابلة منى بعدما هاتفته , و طلبت مقابلته بأحد الأماكن داخل جامعة المنصورة .. حيث كانا يلتقيان دائماً .. و فى طريقه لم يشغل باله سوى حديث جده إليه .. و هل يرغب فى نزول السرداب حباً لمنى أم حباً للمغامرة .. ثم تذكر حديث جده عن والديه اللذَيْن لا يعلم عن هيئتهما شيئاً .. فقد وجد نفسه دائما مع جده , و لم يرَ صورة واحدة لأبيه أو أمه .. لم يساعده على تخيلهما إلا كلمات بعض أقاربه .. أنه طويل مثل أبيه , فقد كان تقريباً فى مثل طول أبيه الذى يبلغ أكثر من مائة و ثمانين من السنتيمترات .. كما كانوا يقولون له , و كتفيه العريضين و البينة القوية .. هذه أشياء يقولون أنه شابه أباه فيها .. أما أقارب أمه فطالما أخبروه أن شعره الأسود الداكن و ابتسامته الدائمة يظلان شبهاً دائما بينه و بين أمه ..

***

بعدها عاد بتفكيره إلى ذلك الرجل الذى أخبره جده أن لديه كلام كثير عن السرداب .. و هذا الاسم الذى سمعه لأول مرة .. سرداب (فوريك) .. و ظل تفكيره منشغلاً , حتى وصل إلى المكان الذى كان يقصده لملاقاة منى .. فوجدها فى انتظاره بحجابها المميز و ألوانه المتعددة , و عباءتها السمراء التى طالما داعبها و أخبرها أنه يتشاءم حين تقابله بتلك العباءة .. فنظر إليها بابتسامة فلم تبتسم كعادتها , و قالت:

- أنا متأسفة إن بابا عمل معاك كدة للمرة التامنة ..

فضحك :

- لا .. أنا خلاص اتعودت .. أنا بقيت مفضوح فى البلد أساساً .. الناس بتقول عليا إنى ضربتالرقم القياسى فى رفض جوازك بيا .. و إنى المفروض أدخل موسوعة جينيس .. قال تلك الكلماتكى يخرجها من حالة الحزن التى وجدها بها .. و لكن دون فائدة فأكملت :

- أنا كنت مفكّرة زيك إن بابا عاوز حد مختلف .. بس للأسف بابا اتغير فجأة ..

اندهش خالد :- يعنى أيه اتغير ؟!!

أجابته:- فيه دكتور اتقدم لبابا عشان يتجوزنى .. و طبعا أنا كنت متأكدة إن بابا هيرفض .. بس فوجئت إنه وافق ..

فصاح بها :

- أيه .. وافق ؟!!

- اه .. وافق و مصّر إنى اتجوزه ... و تساقطت بعض دموعها بينما شرد خالد

:- و أنا ؟

- حاولت اتكلم معاه بخصوص حبى ليك .. فضربنى على وشى .. و قال إنه عارف مصلحتى أكتر منى .. و إن مستقبلى مضمون مع الدكتور .. و إنى هتعب معاك ..

***

كانت منى تتحدث , و اختلط حديثها بدموعها .. و خالد ينصت لها لا يصدق ما تسمعه أذناه .. ماذا يريد هذا الأب المجنون ؟. كان يخبره بأنه يريد لإبنته شخصاً فريد من نوعه .. و لكن يبدو أنه كان يريد أى شخص إلا خالد حسنى .. أنا .. هل يضيع حب تلك السنوات بين عشية و ضحاها ؟! .. إنه لم يحب فى حياته مثلما أحبها .. و لماذا لم تعترض هى على قرار أبيها ؟! .. هل استسلمت خوفاً من عنوستها ؟ .. كلها أسئلة دارت فى ذهنه بينما كانت تتحدث , حتى طلبت منه الرحيل كى لا تتأخر عودتها إلى منزلها .. و كأنها تهرب من لقائه .. فابتسم ساخراً مشيراً لها بيده أن ترحل دون أن ينطق .. و كانت المرة الأولى التى يتركها ترحل بمفردها .. و جلس بمكانه ينظر إليها و هى تغادر , و كأنها المرة الأخيرة التى يراها بها , و يخنقه هذا الضيق الذى يشعر به .. تلك هى المرة الأولى التى يشعر معها بالهزيمة .. إحساس لم يجتحه من قبل .. لم ينتبه فى أى مرة تقدم إليها لخطبتها و رُفض بها .. كان يعلم أن هناك ما يدعى الأمل حتى لو تقدم إليها مائة مرة حتى يقبل أبوها ..

يتذكر تحمله لنظرات الناس إليه , و سخريتهم منه حين كان يخبرهم بأنه سيتزوجها ذات يوم , و ستبقى قصة حب يخلدها التاريخ .. كان يظن نفسه أحمقاً حين طلب منها ذات مرة أن يتزوجها دون معرفة أبيها فرفضت , و دام خصامهما لمدة طويلة حتى اعتذر منها مجددا ً.. و لكنه أكثر حماقة الآن .. إنها ستوافق على ذلك الطبيب كما وافق أبوها .. ربما أرادت أن تقابلنى تلك المرة كى ترضى ضميرها فقط لا غير .. هكذا حدّث نفسه .. حب سنوات يذوب كقطعة جليد فى ثوانى قليلة ..

حتى قطع شروده صوت رنين هاتفه .. و حين قام بالرد وجد صاحب العمل الذى يعمل لديه يوبخه لتغيبه , فلم يتمالك أعصابه , و أخبره أنه لن يعمل لديه مجدداً .. و أغلق الخط على الفور ..

***

بعدها عاد إلى بلدته .. يمشى فى شوارعها مطأطأ الرأس .. يشعر بطعم الهزيمة فى حلقه .. لا يريد أن يتحدث إلى أحد .. حتى وصل إلى بيته , و دخل غرفته ثم نظر إلى حوائطها المغطاة بتلك الأوراق التى كان يعلّقها دائما .. أوراق طلبه للزواج من منى ورفضه فى الثمانى مرات , ووقف أمام كل ورقة على حدة ينظر إليها و هو يسخر من نفسه .. و يضحك بصوت عالٍ كأنه أصابه الجنون ثم قام بتمزيقها جميعاً , و جلس على أرضية الغرفة واضعاً رأسه بين يديه .. سابحاً فى ذكرياته مجدداً , حتى انتفض ذاهباً إلى حجرة جده .. فوجده قد أنهى صلاته .. فسأله :

- أنت قلت لى إن فيه حد عنده كلام كتير عن السرداب ..

فرد جده فى هدوء :- أنت خلاص قررت ؟

- أيوة .. أنا عايز أنزل السرداب ..

- عشان منى ؟!

تمالك خالد نفسه :- منى خلاص راحت من إيدى .. و خلاص سبت شغلى .. و لازم أنزل ..

ثم أكمل :

- لازم ألاقى حاجة واحدة فى حياتى أقدر أحكيها لولادى من بعدى .. عايز أحس مرة واحدة إنى بطل قدام نفسى .. إحساسى بفشلى بيقتلنى ..

فسأله جده :

- مش خايف إنك مترجعش زى أبوك و أمك ؟

فأجابه :- صدقنى .. الحاجة الوحيدة اللى كنت خايف عليها .. إنى أسيبك لوحدك , لكن طالما أنت بتشجعنى , مفيش مكان لأى خوف فى قلبى ..

فابتسم جده :- و العفاريت .. و الأشباح و إنه مسكون ؟

- معتقدش إنى هلاقى عفريت أصعب من بنى آدم .. أنا خلاص قررت إنى هنزل .. و كان عندك حق لما قلت لى إن منى مش هى السبب .. بالعكس بعد ما منى راحت من إيدى بلحظات , زاد حبى للنزول أكتر من الأول .. يمكن ألاقى فى السرداب الذكرى اللى تخلينى أقدر أنسى إهانة ست سنوات لنفسى .. ثم سأل جده :

- مين الراجل ده .. و فين ألاقيه .. فابتسم جده :

- اطمن .. هو سمع كل كلامنا .. و يمكن اتأكد إنك عاوز تنزل السرداب فعلا ..

***

نظر خالد إلى جده مندهشاً و كأنه لا يفهم شئ حين دخل عليهما رجل عجوز يقترب فى سنه من جده .. و على الفور تحدّث جده , و أشار إلى العجوز :

- أعرّفك بمجنون السرداب .. أكيد تعرفه ..

نظر إليه خالد :

- أيوة طبعا .. الحاج مصطفى أصلان !!

فأكمل جده :

- مصطفى كان أول واحد فكر إنه ينزل السرداب من خمسين سنة .. و كنا مسمينه مجنون السرداب .. و كان دايماً يقول إن عنده معلومات محدش يعرفها عن السرداب غيره , و مستنى اليوم اللى يقرر فيه حد ينزله .. بعد ما أبوك و أمك مرجعوش .. ثم تركهما كى يكملا حديثهما بمفردهما ..

***

نظر خالد إلى هذا العجوز .. و تعجب مما قاله جده , فإنه يعرفه منذ سنوات عديدة .. و لم يعلم أنه مجنون السرداب الذى طالما سمع جده يتحدث عنه و هو صغير .. حتى قطع صمته العجوز :

- جدك حكى لى أد أيه أنت عاوز تنزل سرداب فوريك .. و أنا اتأكدت دلوقت ..

- أيوة .. بس أنا أول مرة أسمع إن السرداب اسمه سرداب فوريك ..

تابع العجوز حديثه :

- هو ده الاسم الحقيقى للسرداب .. و لو بحثت عن الإسم ده فى أى مكان استحالة تلاقى أى معلومة عنه ..

ثم تنهد و أكمل :

- الناس بتفكرنا أنا و جدك فى عداد المجانين لو اتكلمنا عن السرداب.. و مش مصدقين إننا من خمسين سنة نزلناه فعلا .. بس دى عندهم حق فيها ..

فسأله خالد :

- عندهم حق .. يعنى أيه ؟

فأجابه العجوز :- أيوة .. عندهم حق , يمكن دى معلومة أنا الوحيد اللى أعرفها .. إن من خمسين سنة لما نزلنا إحنا الأربعة .. منزلناش سرداب فوريك .. و يمكن عشان كدة طلبت من جدك إنه يسيبنا لوحدنا .. لإنى مش عايز أحطم نقطة فخره بنفسه ..

- أمّال النفق اللى نزلتوه ده كان أيه ؟

- النفق ده مجرد طريق لسرداب فوريك .. و الدليل على كلامى إن النفق على عمق مش كبير .. و له مسافة معينة , و الدليل الأكبر إن لمبات الجاز انطفت بعد دقايق من نزولنا ..

- اه .. العفاريت ..

فضحك الرجل :

- لا , تقصد التهوية .. النفق غير السرداب .. الأكسجين فى النفق قليل .. و تقريبا ممكن ميكونش موجود لو باب النزول اتقفل .. و وقتها لما لمبات الجاز انطفت أنا قلت عفريت .. و الكل خاف و جرى .. بس بعد كدة اكتشفت إنه كان خيال حد فينا .. و من جوايا كانت سعادتى ملهاش وصف .. لإنى حسيت إنى حطيت رجلى على أول طريق السرداب .. و فضلت حاطط أمل لنفسى إنى هوصل للسرداب فى يوم .. بس السنين فاتت , و المرض حاصرنى , و فضلت مستنى اليوم اللى ينزل فيه حد غيرى السرداب .. و يحقق حلمى .. ثم أخرج كتاب قديم من معه .. و أكمل :

- الكتاب ده من نسخة واحدة .. اللى كتبه شخص نزل السرداب قبل كدة .. لقيته بالصدفة فى كتب والدى لما كنت شاب .. لكن للأسف عامل الزمن كان أثّر عليه قبل ما ألاقيه .. فكان السليم منه تقريبا عشر ورقات بتتكلم عن سرداب فوريك .. ثم أعطى الكتاب لخالد .. و أشار إليه ان يقرأ سطور الكتاب بصوت عالٍ ..

***

أخذ خالد الكتاب ليقرأ وريقاته .. بينما جلس العجوز ليستمع إليه , و يحتسى كوب الشاى الذى برد بالفعل .. و بدأ خالد فى قراءة سطوره المكتوبة بخط اليد .. و التى تحدّثت عن فوريك أحد الأثرياء الذين تواجدوا فى العصر المملوكى .. و كان يمتلك تلك المنطقة التى توجد بها بلده , البهو فريك - التى كانت تسمى وقتها .. بهو فوريك - .. و ما يحيطها من بلدان , و قد أمر أن يتم حفر ذلك السرداب على عمق كبير كى يكون ملاذاً له و لأهل مدينته إن تعرضت بلاده لأى غزو .. و استغرق حفره و تشييده أكثر من خمسة عشر عاماً .. و خُزنت به ثروات كثيرة من ذلك الزمن ..

ثم تحدّث من قام بكتابته عن رحلته للسرداب .. و عن ذلك النفق الذى لا توجد به تهوية .. و لابد من تجاوزه فى أسرع وقت إلى السلم الحقيقى للسرداب .. و الذى يمتد لأكثر من ثلاثين متراً تحت الأرض .. و منذ تلك اللحظة فلن توجد أدنى مشكلة بالتهوية .. فقد صُمم هذا السرداب بكل براعة .. لا يُعرف كيف تمت تهويته بتلك الطريقة .. أما تعجب خالد فقد زاد حين قرأ أن السرداب لايكون مظلما ليلاً يوم يكتمل البدر فى السماء رغم وجوده تحت الأرض .. إنهم مهندسوا الماضى .. يا لها من براعة .. حتى انتهت العشر ورقات حين كتب صاحبه :

- كنت أظن أن الكنز الحقيقى هى الثروات التى خُزنت به .. و لكننى اكتشفت ما هو أثمن من ذلك كثيراً , و أعظم من كنوز فوريك .. إننى اكتشفت ...

حتى انتهت العشر ورقات دون أن تكتمل الجملة ..

***

نظر خالد إلى العجوز فى لهفة :

- اكتشف أيه ؟

فأخبره العجوز أنه لا يعلم .. و أنه وجد الكتاب على تلك الحالة .. و ظل سؤال ماذا اكتشف صاحب هذا الكتاب يشغله طوال خمسين عاماً .. ثم نظر إلى خالد :

- لو كنت عاوز تكتشف اللى اكتشفه .. لازم تكون فى السرداب الليلة دى ..

خالد :- الليلة دى ؟!!

العجوز :- أيوة .. الليلة دى القمر بدر .. و ده التوقيت اللى بيكون فيه السرداب منوّر حسب كلام الكتاب ..

فصمت خالد قليلاً .. ثم نظر إليه :

- و أنا مستعد أنزل .. مستعد لفرصة حياتى ..

***

كانت الساعة تقترب من السادسة حين تركه العجوز و غادر .. و ترك معه هذا الكتاب الذى تصفحه لأكثر من مرة .. و مع كل مرة تزداد رغبته فى نزول السرداب .. يدفعه ذلك الفضول إلى معرفة ما اكتشفه كاتبه ..يشعر أنه يمتلك سراً من أسرار الزمان .. و يسأل نفسه .. هل اكتشف كنوزاً لا حصر لها ؟ .. هل توجد أثار بالأسفل , و أكون أنا مكتشف القرن الحادى و العشرين ؟ .. و ظل هائماً فى أحلام اليقظة ..

***

اقتربت الشمس من المغيب فصعد أعلى بيته .. و نظر إلى بلدته .. ينظر إلى أراضيها الزراعية .. و إلى الأشجار العالية , و الطيور التى تزينها .. ينظر إلى البيوت المجاورة و كأنه يراها لآخر مرة .. يستنشق نسيم بلده العطر , و يتحدث إليها .. ربما يكون آخر نهار لى هنا .. اتمنى ألا يكون .. ثم عاد إلى حجرته ليتم استعداده لرحلته ..

***

مر الوقت , و دخل الليل , و زُينت السماء بالبدر .. و ها هو ينتظر حتى يسكن الهدوء البلدة .. و هو يعلم أنه لن ينتظر كثيراً .. فعادةً يدب الهدوء بلدته بحلول العاشرة مساءً على الأكثر .. لا يتأخر بها سوى صديقه دكتور ماجد منير , و الذى يغلق صيدليته فى وقت قد يتجاوز الثانية عشر .. إنه لا يريد أن يراه أحد و هو متجه إلى ذلك البيت المهجور فى أطراف البلدة .. حتى دقت الساعة الواحدة صباحاً .. و استعد للرحيل , و نظر إلى جده مبتسماً مودعاً له :

- إن شاء الله هرجع ..

فابتسم جده :

- أكيد هترجع إن شاء الله .. ثم طلب منه أن ينتظر لحظة .. و أخرج الصندوق الخشبى .. ثم فتحه و أخرج منه (ألبوم) الصور القديم .. فسأله خالد :

- أيه ده ؟!!

فقام جده بتقليب بعض صفحاته ووقف على تلك الصورة التى توقف أمامها من قبل , و تحدّث إليه :

- عارف مين دول ؟

فنظر إليها خالد و مازالت الدهشة تتملكه .. فأكمل جده :

- دى صورة أبوك و أمك .. كانت آخر صورة لهم قبل ما يسيبونى .. ثم دمعت عيناه فدمعت عينا خالد هو الآخر .. و ظل متأملاً بها :

- أول مرة أشوف صورتهم ..

فأكمل جده :- كنت مستنى اليوم ده .. و فضلت معذب نفسى عشان اليوم ده .. ثم أعطاه الصورة , و مسح بيده دموعه , و احتضنه .. فهمس خالد فى أذنه :

- هرجع لك يا عبده .. هرجع .. ثم غادر ..

***

كان الهدوء يسود البلدة .. و لم يكن يسير بشوارعها أحد سوى خالد و الذى كان يحمل حقيبة كتفه , و ما بها من طعام يكفيه لعدة أيام , و مصباح للإنارة , و الكتاب الذى أعطاه له العجوز , و بعض الأوراق و الأقلام , اعتقاد منه أن هناك ما قد يحتاج لتدوينه .. و قد وجد عدم حاجته لـ (كاميرا ) تصوير فوجود هاتفه الخليوى يغنيه عنها ..

كان يسير مسرعاً إلى أطراف البلدة حيث ذلك البيت المهجور .. و ما إن اقترب منه و من سوره العالى حتى عزم على تجاوز ذلك السور ..

***

أما جده فكان يجلس وحيداً يقرأ فى كتاب الله , و يدعو ربه أن يعود به سالماً .. حتى سمع طرقات على باب بيته .. و قد ظن أن خالد عاد من جديد .. و ما إن قام ليفتح الباب حتى وجد منى فى وجهه .. و قد اندهش حين وجدها أمامه فى ذلك الوقت المتأخر من الليل .. حتى سألته :

- فين خالد .. ؟!! و مش بيرد على تليفونه ليه ؟!

رد جده :- ليه ؟!

أجابت منى فى فرحة :

- خلاص يا جدو .. قدرت أقنع بابا إننا نتجوز أنا وخالد .. و مش قادرة استنى للصبح عشان أقوله .. خايفة يكون لسة زعلان من الصبح ..

فابتسم العجوز ثم صمت ..

***

تجاوز خالد سور البيت المهجور .. و أنار مصباحه حين وصل إلى مكان الصخرة الذى وصفه له جده بالتفصيل .. و التى كان يصعب أن يصل إليها دون وصف جده له .. ثم حاول إزاحتها فلم يستطع فى البداية رغم قوته البدنية .. فحاول مرة أخرى دون أن يستطيع .. فصاح بنفسه أنه لن يستسلم .. و عاد للمحاولة مرة ثم مرة ثم مرة .. و قد انساب العرق من جبينه , و لكن دون جدوى ..

حتى وجد لوحاً قديماً من الخشب ففكر أن يكون وسيلة لإزاحة الصخرة .. و بدأ يحاول من جديد , و يصرخ مجدداً لن استسلم .. و يدفع بقوة , و يضغط أسنانه ببعضها .. و يدفع اللوح الخشبى .. و يصيح , و يدفع .. حتى تحركت الصخرة بعض الشئ تبعها سقوطه على الأرض ..

ما إن تحركت الصخرة تلك الحركة الضئيلة .. حتى سهل تحريكها بعد ذلك .. و دفعها رويداً رويداً .. بعيداً عن باب حديدى كان يرقد أسفلها .. حتى سقط على ركبتيه .. و ازدادت ضربات قلبه , و تسارعت أنفاسه .. و قال مبتسماً لنفسه :

- أجمد يا بطل .. إحنا لسة فى البداية ..

***

بعدها نظر إلى الباب الحديدى الذى احتل مربعاً من الأرضية .. و سمى الله .. و قام بفتحه , فلم يكن موصداً بأى نوع من الأقفال سوى الصخرة .. و ما إن فتحه حتى أحدث صريراً دلّ على غلقه لمدة طويلة .. ثم وجّه ضوء مصباحه بداخله فوجد سلماً عمودياً إلى الأسفل .. فتحدث إلى نفسه مشجعاً لها :

- بسم الله نبدأ طريقنا للسرداب ..

***

بعدها بلحظات بدأ نزول ذلك السلم .. و ما إن نزل حتى أُغلق الباب مجدداً .. و كأنه حُبس .. فعلم أن اللوح الخشبى الذى كان يدعم فتح الباب قد كُسر .. فلم يهتم بذلك .. ما شغل باله هو تجاوز النفق فى أسرع وقت .. و تابع نزوله دون أن ينظر لأسفل .. يخطو درجة وراء الأخرى .. حتى وجد نفسه داخل نفق مظلم .. لا يوجد به ضوء سوى ضوء مصباحه .. فتحرك بضع خطوات يتحسس طريقه .. يمسك المصباح بيده اليمنى , و يزيح شباك العنكبوت الكثيفة بيده اليسرى .. حتى سار لعدة أمتار فبدأ يشعر بسرعة ضربات قلبه .. يحاول أن يرى نهاية ذلك النفق .. و لكن دون جدوى بعدما حالت شباك العنكبوت دون ذلك ..

***

تقدم خالد فى الظلام أكثر و أكثر .. يبحث عن سلم السرداب الذى أخبره به العجوز .. و أسرع فى تحركه بعدما شعر بضيق صدره الذى ازداد حين قلّ الهواء بصورة شديدة .. و بدأ يضع يده على رقبته من الاختناق .. و يتحرك , و لا يجد ذلك الطريق إلى السرداب .. يجرى كالمجنون و قد خرّت قواه .. يتحسس حوائط النفق بيده .. يبحث عن أى فجوة بها .. و لكن دون جدوى .. يسأل نفسه لاهثاً ؛ أين أنت أيها الطريق ؟ .. يعلم أنه لن يستطيع حتى العودة إلى سلم النفق .. سيموت مختنقاً قبل أن يعود .. يسرع فى طريقه إلى الأمام .. يبحث فى كل مكان .. على الجانبين و أعلى و أسفل .. و لكنه لم يجد شيئاً .. حتى سقط على الأرض .. و سقط بجانبه مصباحه , و صرخ بصوت واهن :

- لا يوجد سرداب .. لا يوجد ..

ثم صمت .. و أمال رأسه جانباً .. وكاد يغمض عينيّه مستسلماً .. قبل أن ينظر بعيداً إلى بقعةٍ أضاءها مصباحه الملقى بجواره .. فابتسم ابتسامة شابها إعياء شديد , و تحدّث :

- سرداب فوريك .. ثم أغمض عينيه للحظات حتى فتحها مرة أخرى .. و نظر مجدداً إلى ألواح خشبية متراصة ظهرت فى بقعة الضوء , و كأنها بابٌ صغيرٌ يوجد بأحد جانبى النفق ..

2019/11/19 · 660 مشاهدة · 4211 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024