كان الباب الخشبى يبعد عن خالد عدة أقدام .. و مازال خالد مُلقى على ظهره من شدة الإعياء حتى انتفض مجدداً , و تحرك بجسده تجاه هذا الباب , يزحف كأنه إحدى الزواحف .. لا يقوى أن يقف على قدميه , و ينازع اختناقه كمن ينازع الغرق .. يتحرك بجسده , و يدفع بقدميه , و يستعين بذراعيه .. واضعاً مصباحه بين فكيّه ..

يقاوم أكثر و أكثر .. و يحدّث نفسه أنه الأمل , إنه سرداب فوريك .. حيث الهواء .. حيث الحياة , يهذى بكلمات يقوى بها نفسه .. و يقترب أكثر و أكثر من الباب .. و يدفع بقدمه فى قوة .. حتى توقف جسده مرة أخرى بعدما خرّت قواه , و لم يكن يتبقى سوى أقدام قليلة نحو الباب ..

تنظر عيناه إلى الباب .. و يحاول أن يمد ذراعه إليه لكنها لا تلمسه و كأنها استسلمت .. حتى صرخ صرخة قوية , و كأنه يجمع ما تبقى لديه من قوة , و قذف بجسده تجاه الباب كصخرة اندفعت نحو باب خشبى أذابه الزمن فانكسرت ألواحه .. و اندفع بداخله ليجد جسده يهوى على سلم خشبى مغمضاً عينيه يتدحرج كما تتدحرج الكرة حين تسقط على درجات سلم .. و لم يستطع السيطرة على جسده على الإطلاق .. يرتطم بين الحين و الآخر .. و يزداد سقوطه أكثر و أكثر .. ثم هدأ ارتطامه قليلاً حتى توقف .. و قد فتح عينيّه ليجد نفسه فى مكان مختلف على الإطلاق ..

***

فتح خالد عينيه .. فوجد نفسه مُلقى على إحدى درجات السلم العريضة .. و قد انتعش صدره بالهواء كأنه ارتوى ببئر ماء بعد ظمأ شديد .. و زاد سروره حين وجد نفسه يرى كل شئ دون الاستعانة بمصباحه و قد زال ظلام النفق .. حتى وقف على قدميه , و صرخ :

- أنا فى سرداب فوريك .. أنا فى سرداب فوريك ..

بعدها نظر إلى أسفل حيث لم ينته السلم بعد .. وأسرع إلى أسفل يخطو درجاته فى أمل .. لا تعوقه آلام ارتطامه حين سقط .. يريد أن يكتشف كل شئ فى وقت قليل قبل أن يختفى البدر .. و يتحدث إلى نفسه أن كل ما ذكره الكتاب حتى الآن قد وجده .. الهواء موجود بالفعل , و إضاءة البدر تنير له طريقه , و كأنها جُمعت لتزداد قوة إضاءتها داخل السرداب .. يالها من براعة هندسية .. و لكن ظل سؤاله إلى نفسه .. ماذا اكتشف صاحب الكتاب ؟! .. حتى انتهى السلم .. و وصل إلى نهايته , فوجد نفسه فى السرداب ..

***

وجد خالد نفسه أمام نفق كبير أكبر كثيراً من النفق الذى مر به سابقاً .. فارتفاعه يقترب من العشرة أمتار .. و اتساعه يبلغ مثل ارتفاعه .. حتى سار به , و ينظر إلى جدرانه الضخمة فى دهشة كأنه فى مزار سياحى .. و أخرج قلمه و أوراقه .. و أخذ يكتب بعض السطور عما يراه .. و يتقدم أكثر و أكثر , و يسأل نفسه ؛ كيف يوجد هذا السرداب الضخم أسفل بلده و لا يعلم عنه سوى صاحب الكتاب المجهول و بعض الأشخاص الذين لن يصدقهم أحد ؟!! .. إنه قد يكون أعظم اكتشاف بالعصر الحديث .. و قد يجعل من بلده مزاراً سياحياً .. يبدو أن الكاتب قصد باكتشافه , السرداب نفسه .. و يسير منبهراً و يتقدم .. و يضحك بهستيرية , لقد انتهى الألم .. لعله يجد أحد الكنوز الآن ..

...

يبحث فى كل جوانب السرداب .. لا يريد أن يترك شبراً واحداً يفوته .. حتى ارتطمت قدماه بشئ ما .. و ما إن نظر إليه حتى انتفض قلبه حين وجده هيكلاً عظمياً لأحد الأشخاص .. و قد كانت المرة الأولى التى يرى فيها مثل هذا الهيكل , لكنها لم تكن الأخيرة .. فكلما تقدم وجد أكثر و أكثر .. حتى بدأ الخوف يتسرب إلى قلبه .. و كأن تلك الهياكل تتحدث إليه بأنها مصير كل من دخل هذا السرداب .. و دار بخلده أن يكون أحدها لأبيه أو أمه .. و تمنى أن تكون الحقيقة غير ذلك ..

***

بعدها شعر أن الإضاءة تقل شيئاً فشيئاً من خلفه .. فنظر إلى ساعة يده فوجدها قاربت الخامسة فجراً .. و علم أن البدر قد بدأ فى زواله .. و لا يعلم ماذا سيحدث بعد ذلك .. ما ذكره الكتاب أن السرداب يظل مضاءً وقت وجود البدر .. و لم يذكر شيئاً آخر , حتى مر قليلٌ من الوقت .. و تلاشت معه إضاءة السرداب تدريجياً .. فلم يعط اهتماماً لذلك .. و تقدم أكثر و أكثر .. حتى وجد صورةً نُقشت على أحد جدارى السرداب لشخصٍ تبدو على ملامحه الثراء .. , فتحدث إليه مبتسماً :

- أكيد أنت فوريك .. أحب أعرفك بنفسى .. أنا خالد حسنى , مكتشف سردابك العظيم .. و اللى بسببك هيعيش أحلى أيام حياته ..

ثم أخرج هاتفه ليلتقط له صورة .. و ما إن التقطها حتى شعر بهزة عنيفة تحت قدميّه كادت تسقطه , فالتفت جانباً ليجد جدران السرداب تنهار بعيداً فى طريقها إليه و يقترب منه الانهيار بشدة , فعاد بظهره للخلف بضع خطوات .. بعدها لم يجد أمامه سوى أن يلتف بجسده و يجرى للأمام ..

***

يجرى خالد سريعاً و انهيار الجدران يسرع خلفه كأنه فريسة يلاحقها أسد مفترس .. لا يصدق عينيّه .. يشعر بأنه فى حلم ما , و يسرع .. و تسمع أذناه صوت ارتطام صخور الجدران الضخمة .. لو أصابته صخرة واحدة لقتلته .. حتى سقطت حقيبة كتفه و ما بها فلم يعبأ بذلك .. وواصل عدوه .. تساعده قدماه الطويلتان و خطواته الواسعة .. و يجرى إلى حيث لا يعرف .. يجرى إلى المجهول .. و يصرخ بداخل نفسه .. كيف يعود إلى بلده مجدداً ؟! .. إنه الهلاك .. إن السرداب ينهار .. ماذا حدث بالأعلى ؟! حتى وجد نفسه أمام طريقين انقسم إليهما السرداب .. فاندفع إلى أحدهما , دون رغبته حين انهار الطريق الآخر قبل أن يصل إليه .. و كأن الانهيار يتحكم فى مساره .. ثم فوجئ بنفسه يجرى إلى مرتفع يتجه للأعلى .. و يلاحقه الانهيار أسرع و أسرع يريد أن يبتلعه ..

يحاول أن يقاوم صعوبة الصعود .. و يتقدم و يخطو بقدميّه سريعاً .. حتى وجد نوراً شديداً على مرمى بصره كأنه نور النهار الذى يعرفه جيداً فأسرع إليه و مازال الظلام و الانهيار يلاحقاه حتى اقترب من الفتحة و قفز منها لتنهار من أسفله , و تغلق و كأن الأرض قذفته خارجها ..

***

وجد خالد نفسه مُلقى على الأرض .. و رأسه منغمسة فى رمالٍ .. فرفع رأسه , و أزال الرمال عن وجهه و عن عينيه .. و نظر إلى السماء و ضحك .. و شكر الله بعدما ظن أنه عاد مرة أخرى إلى أعلى .. و أنه قد نجا من انهيار هذا السرداب الملعون .. حتى نظر إلى السماء مجدداً .. و لاحظ زرقتها و صفاءها إلى درجة لم يرها من قبل , و نظر حوله فوجد رمالاً بكل مكان و على مرمى بصره .. فنهض و دار بجسده ليرى ما حوله .. فلم يجد سوى صحراء واسعة تظلها سماء صافية فضرب رأسه بيده , و همس إلى نفسه :

- فوق يا خالد .. أنت بتحلم و لا أيه .. أنت فين ؟! .. و أيه اللى جاب الصحرا دى هنا ..

ثم نظر حوله مجدداً , و سأل نفسه غير مصدقاً ما يراه ؛ أين هو ؟.. و سار بضع خطوات فى كل اتجاه لكن دون جدوى .. إنها صحراء لا يوجد بها أحد فجلس مكانه فى دهشة .. و نظر إلى فتحة السرداب التى خرج منها فوجدها و كأنها لم تكن .. فضحك ساخراً .. و تحدّث خائب الأمل :

- واضح إن السرداب كان معمول عشان نعمّر الصحرا .. و الكنز و فوريك ده كان مقلب .. و يا ترى أنا فى الصحرا الشرقية .. و لاّ الغربية .. و لاّ فى سينا ؟!!.. و لا أكون عبرت الحدود .. و رحت ليبيا .. أو السعودية .. ثم صرخ و كأن الجنون أصابه :

- أنا فين ؟!!! ..

***

مرت ساعات على جلوسه .. يجلس و لا يعلم أين يذهب .. و خلع قميصه , و وضعه فوق رأسه كى يقيه حرارة الشمس .. و اندهش حين نظر إلى ساعة يده فوجد عقاربها توقفت عن الحركة .. و لم يفكر بهذا الأمر كثيراً حيث فوجئ برجليّن يجريان بعيداً عنه .. فنهض و أسرع إليهما .. و بدأ الأمل يدّق قلبه حتى اقترب منهما فلاحظ زيّهما الغريب و شدة إعياءهما , و كأنهما مريضان بمرض مزمن شديد فأوقفهما .. و سألهما :

:- لو سمحتوا , أنا محتاج مساعدتكم ..

فتركاه .. و واصلا جريّهما , فأسرع خلفهما ليوقفهما مجدداً :

- أنتو بتجروا ليه ؟! .. فنظر إليه أحدهما :

- ألا ترى ما نحن به ؟!

تعجب خالد من لهجتهما الغريبة .. و ابتسم ساخراً مقلداً له :

- أجل أرى يا سيدى .. ثم سأله :

- احنا فى السعودية , صح ؟!

نظر إليه الرجل متعجباً :

- ماذا تعنى السعودية ؟!!

ابتسم خالد .. و زفر زفيراً طويلا .. و تحدّث إلى نفسه :

- دول فى الضياع ..

فسأله الرجل الآخر لاهثاً :

- ءأنت غريب ؟

فأجابه خالد على الفور :

- أيوة أنا غريب .. ثم أكمل :

- إحنا فين ؟ .. و أنتوا مين ؟..

أجابه أحدهما :

- إننا فقراء .. و قد هربنا إلى الصحراء .. ألا يوجد معك طعام ؟!

أجابه :- لا للأسف .. كان معايا بس ضاع مع الشنطة .. ثم وضع يده فى جيبه , و أخرج ورقة من فئة العشرة جنيهات .. و أكمل :

- أنا معايا فلوس ممكن تشتروا أكل لو قلتوا لى إحنا فين .. و ازاى أرجع بلدى ..

فخطف أحدهما ما أخرجه خالد من نقود و وضعها بفمه و أكلها .. فاندهش خالد , و سأله متعجباً :

- أنت جعان للدرجة دى ؟ ..

فأجابه الآخر :

- يبدو لى أنك كريم , و لهذا تأكدت أنك غريب عن هنا .. أشعر بأنك غنى للغاية ..

...

ضحك خالد .. و نظر إلى نفسه , و ملابسه البالية التى غطاها تراب النفق و السرداب , و حالته التى يُرثى لها .. و سأل نفسه .. أى غنى يتحدث عنه هذا الأبله ؟ .. عشرة جنيهات رآها شعر بأننى غنى ؟ .. ثم تجاوب معهما و كأنهما مجنونان .. و سألهما مجدداً , و قد ضاق صدره :

- دلوقتى أنا عايز أعرف أنتو هتعيشوا ازاى فى الصحرا دى ؟! , و هربانين من أيه ؟ .. , و سؤالى الأهم .. إحنا فين أساساً ؟ ..

أجابه الذى أكل النقود بعدما حاول أن يفهم ما يقصده :

- إننا فقراء , و ستكون الصحراء أفضل لنا كثيراً من أرض زيكولا ..

فسأله خالد مندهشاً :

- أرض زيكولا ؟!!

فسأله الآخر :

- ألا تعرف أرض زيكولا ؟!

أجابه خالد :- لا .. فين زيكولا دى ؟ .. أنا مش شايف إلا صحرا فى كل مكان ..

فأكمل الرجل :

- من يوجد فى هذا الزمان و لا يعرف أرض زيكولا ؟! ثم أكمل محدّثاً صديقه :

- إنهم الأغنياء , يسخرون منا هكذا دائماً .. ثم أشار إلى خالد أن يتحرك عدة أمتار فى اتجاه يده :

- إنها هناك بالأسفل .. أيها الغنى ..

ثم تركاه وواصلا جريّهما فى الصحراء .. و تحرك خالد إلى ما أشار إليه الرجل , وواصل تحركه حتى وجد نفسه على حافة هضبة عالية فنظر إلى أسفل فوجد مدينة كبيرة ذات منظر بديع من أعلى .. بها مبانٍ شتى و تتخللها مساحات خضراء كأنها أراضٍ زراعية , و مسطحات من الماء .

2019/11/19 · 566 مشاهدة · 1840 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024