اتسعت عينا خالد من الدهشة , و سأل نفسه كيف توجد تلك المدينة بجوار تلك الصحراء الجرداء ؟! .. حتى قاطع تفكيره صياح أحد الرجلين إليه مجدداً :

- إياك أن تذهب إلى زيكولا .. إياك .. و واصل جريه مع صاحبه .. فلم يعطه خالد اهتماماً .. و ظل ينظر إلى تلك المدينة من أعلى .. و سأل نفسه , أين هو من العالم ؟ .. و أين توجد أرض زيكولا تلك ؟ .. حتى ابتسم حين نظر بعيداً إلى أسفل فوجد طريقاً طويلاً ممهداً إلى تلك المدينة .. به كثير من التعرجات و مرتفعاً إلى أعلى حيث يمّر بالقرب من تلك الهضبة التى يقف عليها .. فلم يجد أمامه سوى أن يسرع باحثاً عنه .. يريد أن يذهب إلى المدينة فى أسرع وقت بعدما حل ّبه الجوع و العطش بعدها يحاول أن يعرف أين هو ..

***

بعدها سار فى الصحراء متجهاً إلى ذلك الطريق .. و ظنّ فى البداية أنه قريب منه فاكتشف غير ذلك تماماً .. فكلما تقدم لم يجد شيئاً فاعتقد أنه سرابٌ .. حتى تحقق من وجوده حين رأى عربة يجرّها حصان تسير على مقربة منه .. فأسرع فى اتجاهها فوجد أمامه ذلك الطريق الذى شاهده من أعلى .. و لكن سائق العربة لم يلحظ وجوده و ابتعد بها عنه فواصل تحركه فى نفس الاتجاه الذى سلكته العربة ..

***

مر الوقت و أصبحت الشمس عمودية .. و زادت حرارتها , و حلّ الإرهاق و التعب على خالد .. و بدأت آلام ارتطامه فى السرداب تحل عليه مرة أخرى .. و لكنه تابع سيّره رغم علمه بأن هذا الطريق طويل للغاية , و لابد له من نيْل قسطٍ من الراحة .. يريد أن يصل إلى هناك فى أسرع وقت .. يشعر أن هناك أملاً ما فى انتظاره .. حتى سمع صوتاً من خلفه .. و حين التفّ وجد عربة أخرى يجرها حصان فأشار إلى سائقها أن يقف , فأوقف السائق حصانه بالفعل .. فنظر إليه خالد فى تعب :

- أنا عايز أروح أرض زيكولا ..

فسأله السائق :

- و كم تدفع ؟

فوضع خالد يده فى جيبه .. و أخرج بعض النقود الورقية .. و أشار إلى السائق أن يأخذها .. فسأله السائق غاضباً :

- ورق ؟!

ثم ألقاها فى وجهه .. و تركه و غادر .. و خالد لم يفقه شيئاً مجدداً .. و حدّث نفسه بصوت مسموع :

- البلد دى كلها مجانين و لا أيه ؟!

و واصل تحركه , فجاءت عربة أخرى و حدث معها مثلما حدث مع العربة السابقة تماماً .. و تركه سائقها و غادر .. فابتسم خالد ابتسامة بها خيبة أمل كبيرة محدثاً نفسه ؛ " إنها زيكولا أرض المجانين " .. و سار مسافة أخرى , و ازداد تعبه .. حتى سمع من جديد صوت عربة فالتفت فوجدها عربة ضخمة يبدو عليها الثراء , و قد اختلفت عن العربات السابقة من حيث تصميمها و أناقتها .. فرأى أن يوّفر تعبه .. و لا يشير إليها و يكمل سيره , و مرّت بجواره فوجد شاباً فى مثل عمره متشبثاً بمؤخرتها دون أن يراه سائقها .. و حين وجد خالد أشار إليه بيده أن يسرع إلى العربة .. فأسرع خالد إلى مؤخرة العربة هو الآخر .. و تشبث بها .. و نظر إلى الشاب مبتسماً ؛ شكراً .. فهمس الشاب إليه , ووضع يده على فمه :

- اصمت .. كى لا يسمعنا أحد ..

***

سارت العربة فى طريقها إلى زيكولا يصيح سائقها إلى جيادها أن تسرع .. و خالد ما زال متشبثاً بمؤخرتها مع هذا الشاب .. ينظر إليه فى دهشة من ملابسه .. و شعر بدهشته هو الآخر منه أيضاً .. حتى اقتربت العربة من سور ضخم .. فأشار الشاب إلى خالد أن يقفز معه تاركين العربة .. فقفزا , و ما إن نظر خالد أمامه حتى وجد سوراً ضخماً يصل ارتفاعه إلى ما يقرب من خمسة طوابق , تزينه نقوشٌ غاية فى الجمال , به باب ضخم كان مفتوحاً على مصراعيه تمر منه العربات مجيئاً و ذهاباً .. فنظر خالد إلى الشاب قائلاً:

- أنا بشكرك جداً ..

رد الشاب :- لا تشكرنى يا أخى .. إننى مثلك , كادت تقتلنى حرارة الشمس ..

فسأله خالد :- أنت من زيكولا ؟

أجابه :- نعم .. و أنت تبدو غريباً ..

فابتسم خالد :- أيوة .. أنا من البهو فريك .. بلد جنب المنصورة ..

فارتسمت الدهشة على وجه الشاب :- ماذا ؟!!

فأسرع خالد و كأنه يصحح حديثه :

- أقصد مصر .. أنا من مصر ..

فلم تختفِ دهشة الشاب و سأله :

- ماذا تقصد بمصر ؟! .. هل هى فى الشمال ؟

فأجابه مندهشاً :

- أنت مش عارف مصر أم الدنيا ؟

رد الشاب :- نعم أخى .. لا أعرفها ..

فصمت خالد مفكرا ثم أجابه و كأنه يريح نفسه من غرابة هؤلاء الناس الذين يقابلهم :

- أيوة مصر فى الشمال .. ثم سأله :

- احنا فين ؟..

رد الشاب :- ألا ترى يا أخى .. إننا فى زيكولا .. أرض الذكاء ..

فلم يتمالك خالد نفسه من الضحك :

- أرض الذكاء ؟! .. لا فعلا الذكاء واضح على كل اللى قابلتهم ثم سأله :

- يعنى تبع دولة أيه ؟ .. قارة أيه ؟

رد الشاب متعجلاً :- لا أفهم قصدك .. إنها زيكولا و فقط .. و الآن لابد أن أتركك .. إننى أضعت اليوم وقتاً من العمل .. و لابد لى أن أقوم بتعويضه ..

ثم مدّ يده مودعاً خالد , فمدّ يده هو الآخر :

- اسمى خالد ..

رد الشاب :

- و أنا يامن .. حظا سعيداً فى أرض زيكولا .. ثم تركه و غادر ..

***

كان خالد مازال واقفاً أمام باب المدينة الضخم .. حتى تقدّم إليه , و ما إن مرّ خلاله حتى شعر برعشة قوية تسرى بجسده , و ألم شديد برأسه كاد يقتله .. حتى سقط على ركبتيه ممسكاً رأسه بيده من الألم الذى لم يشعر بمثله فى حياته .. و استمر ألمه لدقائق حتى بدأ يتلاشى شيئاً فشيئاً و كأنه لم يحدث ثم تابع مسيره إلى داخل المدينة ..

...

سار خالد بالمدينة و كأنه يسير بمدينة الأحلام .. ينظر إلى وجوه الناس و تعبيراتهم المختلفة .. منهم من ترتسم البسمة على وجهه , و منهم من انطبع الحزن على جبينه .. و إلى زيّهم الذى انقسم إلى أقسام عدة .. فمنهم من يرتدى جلباباً و على رأسه عمامة , و قد كانوا كبار السن .. أما الشباب و الصغار فكانوا يرتدون سراويل واسعة من أعلى و ضيقة من أسفل .. و كأنها زى الصيادين الذى اعتاد أن يراه و لكنها أكثر أناقة .. و من أعلى يرتدون قمصان واسعة منقوشة صنعت ببراعة من الجلد أو القماش .. أما النساء فقد وجدهن يرتدين فساتين فضفاضة ذات ألوان براقة .. و جميعهن لا يضعن شيئاً فوق رؤوسهن .. و لاحظ جمال الكثير من النساء فى تلك المدينة .. و خشى أن ينظر إلى إحداهن .. و هو لا يعلم كيف ستكون ردة الفعل فى تلك المدينة .. و يعجبه ذلك التنوع فى الزى .. و تلك الأناقة التى بدت على كل فتى و فتاة بالمدينة .. و يسير بشوارعها منبهراً بتلك المبانى المتلاصقة .. التى بدت عليها المهارة المعمارية .. و كانت تمتلك ارتفاعاً واحداً لا يتجاوز الثلاثة طوابق .. و بُنيت جميعها من الطوب المحروق و الأخشاب ..

***

أكمل خالد مسيره حتى وجد مكاناً يقدم طعاماً فسمع أصوات بطنه تناديه , و تذكره بالجوع .. فاقترب من ذلك المكان .. و جلس به .. و طلب طعاماً .. ثم جاءه رجل بطعام من الخبز و اللحم .. و قال له :

- شكرا لتشريفك لنا أيها الغنى ..

فابتسم خالد :

- تانى غنى !!...

ثم أكل و امتلأت بطنه .. و انتظر أن يأتى الرجل ليأخذ نقوده فلم يأتِ .. فأكل و مشى .. و عادت إليه قوته مجدداً .. و أكمل سيره فى المدينة حتى وجد مكاناً آخر لصناعة الملابس و بيعها .. فنظر خالد إلى نفسه .. و وجد أن يشترى لنفسه زيّاً .. كى لا يكون زيّه مختلفاً عن باقى أهل المدينة .. حتى يعرف أين هو .. و دخل ذلك المكان فسأله من به :

- لست من زيكولا ؟

فاومأ خالد موافقا كلامه فأعطاه الرجل زياً مناسباً .. بنطالاً واسعاً .. و قميصا منقوشاً من القطن .. و لم يأخذ منه نقود .. و قال له مثلما قال صاحب المطعم :

- شكرا لتشريفك لنا أيها الغنى ..

فابتسم و تذكر كلام من قابلهما بالصحراء .. و أنه غريب لأنه كريم .. و قال لنفسه إنهما مجنونان بالفعل .. فما وجده من أهل المدينة حتى الآن كرم مبالغ فيه ..

***

يسير بالمدينة بزيّه الجديد .. و يقلب عينيه هنا وهناك .. و قد لاحظ شيئا لم يفهمه .. و هو أن كل مكان للبيع و الشراء يجد مكتوباً عليه أرقام و وحدات .. عشرة وحدات أو خمس .. أى وحدات تلك لا يفهم .. حتى أكمل مسيره و حل الليل .. ففوجئ بأن تلك المدينة رغم ما يبدو عليها من ثراء إلا أنها لم يصلها الكهرباء بعد .. ثم اندهش حين أُضيئت المدينة بالنيران .. و انتشر الضياء فى كل مكان .. و لا تختلف إضاءتها عن المصابيح التى يعرفها .. تلك هى الأخرى براعة هندسية ..

بعدها جلس على جانب أحد الشوارع .. و كاد يغلبه النعاس .. فوجد أهل المدينة يستعدون و كأنهم يحتفلون بشئ ما .. الجميع يلعبون و يمرحون .. و الأطفال يرقصون .. و سأل نفسه هل هناك عيد ما ؟.. يبدو كذلك .. و فرح بذلك فجميع أهل المدينة خارج منازلهم .. و سيؤنس ذلك وحدته دون مسكن .. حتى اقترب منه فتى فسأله لماذا يحتفل الناس هكذا .. فأجابه الفتى فرحاً :

- إن الاحتفال لم يبدأ بعد ..

فضحك خالد مداعباً الفتى:- أمّال هيبدأ امتى ؟

تعجب الفتى :

- لماذا لهجتك غريبة ؟

رد خالد :- أنا من الشمال .. إننى غريب ..

رد الفتى :- تقصد كنت غريباً .. أما الآن أنت من أهل زيكولا ..

فابتسم خالد و وضع يده على رأس الفتى :

- عارف إن زيكولا أرض الكرم ..

فأكمل الفتى :- اليوم الكل يستعد للاحتفال .. أما الاحتفال الحقيقى سيكون غداً .. إنه أعظم احتفال بالكون .. و الكثيرون من البلاد البعيدة يأتون للهضبة المجاورة .. و يقفون بها لمشاهدة احتفالاتنا ..

فتعجب خالد و سأله عن سبب الاحتفال , فظهر التعجب على وجه الفتى :

- إننى كنت أظنك غنياً .. أرجوك لا تدعنى أشك فى قدراتى بمعرفة الأغنياء .. ثم أكمل :

- إن احتفالاتنا ستبدأ غداً احتفالاً بيوم زيكولا .. اليوم الذى يجعل من زيكولا أشهر مدينة بالتاريخ .. اليوم الذى يسعد به كل أهل زيكولا ..

ثم صمت قليلاً .. و أكمل :

- ماعدا شخص واحد بالطبع ..

فسأله خالد :

- مين الشخص ده ؟

فضحك الفتى :

- يبدو أنك لا تعرف كثيراً عن زيكولا .. ثم تنهد .. و نظر إليه :

- سيدى , إن يوم زيكولا يُذبح فيه أفقر شخص يوجد بالمدينة ..

2019/11/19 · 826 مشاهدة · 1753 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024