هدأ جسد تورين بالكامل عند نطقه للكلمات الأخيرة، وعيناه أصبحتا ساكنتين، والعروق السوداء التي غطّت جسده بدأت تتلاشى ببطء. لكن، حتى مع ذلك… الجنون في نظرته كان واضحًا بشدة.
القوة.
لقد ابتلعته بالكامل.
لكن هذا لم يكن شيئًا لم يتوقعه إيميت، فهو الآخر كان قد التهمته نفس القوة.
وبينما كان يحدق في تورين، تحركت شفتاه ببطء.
“متى تعتقد أن الجحيم يبدأ…؟”
خطا إيميت خطوة إلى الأمام، واهتزت عينا تورين.
لوّح بيده.
بانغ!
انهارت عدة أعمدة، لكن…
إيميت ظل واقفًا.
“أنا مجرد سراب لما كنت عليه في السابق. لقد أصبحت شخصًا آخر بالفعل. ومهما حاولت، لن تتمكن من أن تؤذيني بشيء.”
تردد صوته البارد في الفراغ، بينما خطا خطوة أخرى إلى الأمام.
بقي تورين في مكانه.
لم يستطع أن يتحرك. لم يسمح لنفسه أن يتحرك.
التراجع خطوة واحدة سيعني أنه يخاف الرجل الواقف أمامه.
وهو لا يخاف أحدًا.
لا يوجد أحد يمكنه أن يزرع الخوف في قلبه.
“أنت لم تُجبني بعد.”
تردّد صوت إيميت البارد مجددًا عبر القاعة.
“متى… تعتقد أن الجحيم يبدأ؟”
كان مجرد سؤال بسيط، لكن عند سماعه، لم يعرف تورين كيف يجيب.
الجحيم…
هو لم يكن يؤمن بالجحيم أصلًا.
ومع ذلك، أجاب.
“إن كان هناك جحيم، فأنا أعيش فيه بالفعل.”
“…همم.”
ابتسم إيميت، وعيناه تنظران إلى تورين باستعلاء. بدا وكأن الإجابة أسعدته وهو يقترب منه أكثر فأكثر.
“ما المضحك في الأمر؟”
“أجد الأمر مضحكًا فقط… أنك تظن أن ما مررت به هو الجحيم. ألا تعتقد أن حياتك كانت أفضل بكثير من حياة نويل؟ إن كان للجحيم وجود، فأنا متأكد أنه هو من عاشه.”
“عليه أن يكون ممتنًا لذلك.”
هزّ تورين رأسه.
“…أفضل أن أدخل الجحيم على أن أتحمل عبء إنقاذ من يقبعون فيه.”
“أحقًا؟”
توقف إيميت.
وقف أمام تورين مباشرة.
تلاقت أعينهما.
توترت الأجواء في الغرفة.
ثم–
“الجحيم يبدأ في اللحظة التي يمنحك فيها العالم القدرة على رؤية كل ما كان بإمكانك فعله، وما كان يجب عليك فعله، وما كنت ستفعله… لكنك لم تستطع، أو لم تجد الوقت، أو اضطررت للانتظار طويلاً لتحقيقه.”
انخفضت درجة الحرارة، وأصبحت نظرات إيميت خاوية وهو يحدق في تورين.
“…ذلك هو الجحيم الذي عشته.”
وصلت كلماته الناعمة إلى تورين بهدوء، بينما رفع يده..
أن ترى كل الاحتمالات اللامتناهية. كل الطرق الممكنة التي يمكن أن أموت فيها. أن يموت نويل. أن ينتهي العالم. أن أرى معاناة من أحبهم محفورة في مستقبل لا أستطيع تحديده… أو لا أعرف كيف أُغيّره… هذا هو الجحيم الحقيقي.”
أراد تورين أن يبعد اليد عنه، لكنه كان يعلم أنه من المستحيل فعل ذلك.
إيميت لم يكن موجودًا فعليًا.
لكن شعور وجوده كان حقيقيًا.
وسرعان ما…
ضغطت يده على جبينه.
وتردّد صوت إيميت الهادئ مرة أخرى.
“هل تريد أن تعيش ما عشته أنا؟”
لآخر مرة.
“…كن ضيفي. لكن إياك أن تفقد نفسك فيه.”
وبعد ذلك، عمّ الظلام رؤية تورين
كانت الأيام التي تلت وفاة الإمبراطور مليئة بالفوضى.
بدأ الأمر باضطرابات عامة، تبعتها تعبئة مفاجئة من عدة عائلات نبيلة، شكلت تحالفات وقدّمت دعمها لورثة معينين محتملين.
تمت هذه التحركات بسرّية تامة، لكن التغيير كان ملحوظًا.
تنافس العديد من الورثة البارزين على العرش، وكل منهم حاول بقوة كسب دعم أكثر العائلات النبيلة نفوذًا. كانت إيف واحدة من الورثة، لكنها كانت هادئة على نحو غريب.
لكن ذلك لم يكن مهمًا كثيرًا.
فعلى الأقل حتى جنازة الإمبراطور والأمير، كان لا بد من تعليق الصراع على العرش مؤقتًا.
معركة الخلافة لم تبدأ بعد، لكن رائحة البارود كانت تملأ الأجواء.
“أراهن أن الإمبراطوريات الأخرى تستمتع بالمشهد.”
نظرت إلى التقرير في يدي، ثم قفزت من عربتي وثم تمددت قليلًا. وبالنظر إلى القصر أمامي، ورؤية العديد من العربات المتوقفة، أدركت ما الذي يحدث، وتنهدت داخليًا .
لكنني لم أظهر انزعاجي، وسرت بهدوء نحو القصر.
“توقف عندك.”
لكن بالطبع، الدخول إلى منزلي لم يكن ليكون أمرًا سهلاً.
أوقفني عدة أشخاص قبل أن أتمكن من الدخول.
وأمام عدد من الفرسان المدرعين بدروع فضية، وقف رجل يرتدي ملابس فاخرة، وكان أبرز ما يميّزه شاربه الكثيف ذو الأطراف المجعّدة.
توقفت حينها.
“أنت…؟”
“أنا مبعوث من الأمير يوليوس رومولوس ميغرايل. جئت لأقدّم لك دعوة رسمية—”
“لست مهتمًا.”
كلانك! كلانك–!
وُجّهت نحوي عدة سيوف وأسلحة.
توقفت ونظرت إليهم، فرأيت انعكاس صورتي على لمعان الأسلحة المصقولة.
“أنظر هنا.”
قال المبعوث بنبرة ازداد فيها التكبر، وعيناه ضاقتا.
“…لا أظنك تدرك تمامًا موقعك الحالي. فأنت مجرد فيكونت، بينما الأمير من سلالة ميغرايل النبيلة. وإذا استدعاك، فعليك—”
“كما قلت، لست مهتمًا.”
كم مرة يجب أن أقول لهذا الأحمق حتى يفهم؟
أنا حتى لا أعرف من يكون هذا الأمير.
وبما أنني لا أعرفه، فمن المرجّح أنه طفل غير شرعي.
“لو كنت سأتحالف مع أحد، فستكون الأميرة، وليس طفلًا لقيطًا. والآن، إن سمحت لي.”
“أنت—!”
أغمضت عيناي ثم فتحتهما مجددًا.
وفي تلك اللحظة، تغيّرت ملامح الجميع من حولي.
“هاه؟”
“…من أنت؟”
“ما الذي يحدث؟”
ابتسمت لهم.
“مرحبًا، أنا خادم من هذه العائلة. أحاول الدخول، فهل تسمحون لي من فضلكم…”
دفعت نفسي للعبور.
ولم يعترض أحد. كانوا جميعًا يبدون مشوشين ومذهولين.
ابتسمت بصمت لنفسي.
“هذه المهارة الجديدة مفيدة حقًا.”
عين الوجود…
كما هو متوقّع من عظم من التصنيف البدئي. المهارة التي حصلت عليها كانت ممتازة.
“هاه.”
دخلت إلى القصر وأطلقت زفرة كبيرة. الجو في الداخل كان باردًا بعض الشيء، لكن المكان لا يزال فارغًا نسبيًا. وبينما كنت أتأمل المكان، شعرت بوخزة خفيفة في صدري.
“أتُرى، هل نويل بخير؟”
ما زلت لم أسمع أي خبر منه.
ومع ذلك، كنت أعلم أن احتمالية عودته ضئيلة جدًا.
وكل ما كنت أتمناه… هو أن يكون بأمان.
عضضت على شفتي وأنا أتلفّت من حولي، قبل أن أبدأ بالسير نحو مكتبه.
“لست متأكدًا تمامًا مما يفترض بي أن أفعله الآن، لكن إن فتشت مكتب نويل، فلا بد أنني سأجد شيئًا ما.”
وهكذا فعلت.
صعدت الدرج الطويل إلى الطابق الثاني وتوجهت نحو مكتبه. توقفت أمام الباب الخشبي الكبير في نهاية الممر، ورفعت يدي لأطرق، لكنني توقفت فجأة.
آه، صحيح.
لم يعد هنا بعد الآن.
تنهدت قبل أن أمد يدي إلى المقبض وأفتح الباب.
كلانك!
كان المكتب كما هو تمامًا.
نظيف، وكل شيء في مكانه.
تجولت بناظري في المكان حتى توقفت نظرتي عند مكتبه. وهناك رأيت رسالة موضوعة بعناية تحت أحد الكتب على الطاولة، ولم أتمالك نفسي من الابتسام حين رأيتها.
كما هو متوقّع… لقد تركت شيئًا خلفك في النهاية.
كان سيكون الأمر أسهل بكثير لو أنه أخبرني قبل أن يرحل، لكن نويل كان دائمًا هكذا.
كنت معتادًا على تصرفاته.
وعند التفكير بالأمر… ربما ورث هذه العادة مني.
هززت رأسي، ثم أخذت الرسالة وفتحتها.
قرأت الجملة الأولى.
وفورًا، اختفت الابتسامة من على وجهي.
[إلى الأخ الذي نسي كيف يسقط -]
(FMS: “سقوط” لا تعني السقوط الجسدي، بل هي تعبير مجازي عن عدم ، الانكسار النفسي، أو الاستسلام للمشاكل والأحزان)
اضطررت إلى التوقف للحظة.
“ما هذا؟”
لسببٍ ما، لم أرد أن أتابع القراءة.
لكن رغم اعتراض عقلي، عيني لم تستجب. بدأت تتبع الكلمات التالية:
[منذ وفاة والدينا]
[أعلم أنك لم تُمنح الفرصة لتسقط]
[لا، أنت من لم يسمح لنفسه بالسقوط]
[أُجبرت على النضوج بسرعة]
[تحمّلت اللوم، حتى عندما لم يكن خطأك]
[كنت دائمًا من يعرف الطريق]
[حتى عندما كنت أنت نفسك تائهًا]
ارتجفت يداي.
“…ما هذا الهراء؟ لماذا يكتب هذا؟”
نظرت خلف الرسالة، لكن لم يكن هناك شيء مكتوب.
عضضت على شفتي.
لم أكن أرغب حقًا في قراءة المزيد.
ومع ذلك…
[أعلم أنك تغيرت]
كان الأمر كأن صوت نويل يهمس في أذني.
[لم تعد الأخ الذي كنت أعرفه]
كان الصوت ناعمًا.
[لكنك لا تزال أخي]
دافئ.
[كانوا يصفونك بالقوي—]
…ومريح.
[لكنني أرى الحقيقة]
[لم تحاول أن تكون بطلاً]
[كنت فقط تحاول أن تُبقينا أحياء]
[ولا أحد يعرف الثمن الذي دفعته مقابل ذلك]
[لم تبكِ أبدًا]
[لم تشتكِ أبدًا]
[كنت تحميني، مهما كان الثمن]
“هـ-ها.”
شعرت أن أنفاسي تنقطع.
لماذا يفعل هذا؟ ولماذا الآن؟
[في مكانٍ ما على طول الطريق، أصبح صمتك هو قوتك]
[لكني أراك]
[أنا دائمًا أراك]
[أرى الإرهاق خلف صمودك]
[أنت تعطي وتعطي، دون أن تطلب شيئًا في المقابل]
[تتواجد دائمًا—]
[حتى حين يكون قلبك يتحطم]
[وتلزم الصمت—]
[ليس لأنك لا تشعر]
[بل لأنك تشعر بالكثير]
كانت الكلمات تبدو وكأنها تتكسر في هذه اللحظة.
كنت أراها. كنت أشعر بها.
معاناة نويل أثناء كتابته لهذه الرسالة.
لماذا؟
لماذا كان يكتب شيئًا كهذا؟
لا، كنت أعلم السبب.
هذه الرسالة…
كانت رسالة وداع.
غطيت فمي بيدي.
صحيح، صحيح… ليس وكأنني لم أتوقع هذا.
بدأ صدري يؤلمني.
لكنني واصلت القراءة. حتى مع ألم قلبي، وحتى مع تبلل بصري.
[فاسمعني جيدًا—]
[أعلم كل شيء عن الذي فعلته في بُعد المرآة]
[عن كيف أنك لم تستجب لطلبي]
[لكن هل تعلم ما هو المضحك؟]
[أنا لم أغضب حقًا]
[حتى الأقوياء… يستحقون اللّين]
[ليس عليك دائمًا أن تكون المرساة]
[يُسمح لك… أن تُحتضن أيضًا]
[لا يمكنني أن أكون هناك من أجلك]
[على الأقل ليس الآن، لكن قد يأتي يوم نجتمع فيه من جديد]
[ليس كمورتوم و اوركال ]
[ولا كألدريك وجوليان]
[بل حقًا، كإيميت ونويل]
[كأخ أكبر وأخ أصغر]
[كـ…]
[عائلة]
انتهت الرسالة عند ذلك.
وقفت بصمت على هذا النحو.
بطريقة ما… كان الأمر ساخرًا.
من قبل، كنت أريد أن تنتهي الرسالة بسرعة.
كنت أريدها أن تكون قصيرة.
ومع ذلك، وأنا أحدّق فيها بين يدي، لم أتمالك نفسي من قراءتها مرارًا وتكرارًا.
كانت قصيرة.
هذه الرسالة…
كانت قصيرة جدًا.
غطيت فمي وجلست، وشعرت بشيء يغمر عينيّ.
نظرت نحو النافذة.
نحو المنظر الذي اعتاد نويل التحديق فيه.
أخذت نفسًا عميقًا وطويلاً.
“نسيتُ كيف أسقط، أليس كذلك؟”
هززت رأسي.
…ليتها كانت حقيقة