210 - حوار مع موقّر بالأعماق

210 – حوار مع موقّر بالأعماق

كانت لمياء مشوّشة الذهن للأيّام الثلاثة القادمة ولم تنم مطلقا من شدّة تفكيرها المستّمر، فكلام باسل ظلّ يجول بعقلها جاعلا إيّاها تحاول تخمين معرفة كيف علم عن تلك الأشياء، وكانت تفكّر في اقتراحه لمدّة طويلة قبل أن تقرّر أخيرا مناقشة الأمر الكبار الثلاث الآخرين.

لقد كان سرّهم ذاك عظيما ولم يعلم عنه أحد في التاريخ سوى أقليّة مختارة بعناية كبرى، لكنّ هذا الفتى ظهر وتحدّث عن أشياء ليس له وسيلة ليعلم بها عنها، وذلك سيسبّب رعبا ورفضا شديدا من الكبار الآخرين فيحاولون بعد ذلك استخراج المعلومات منه بأيّة طريقة؛ لقد كان قانونهم هو إزالة أيّ طرف ثالث غيرهم يعلم عن ذلك الشيء؛ ولهذا تردّدت لمياء كثيرا قبل أن تذهب إليهم في اليوم الثالث.

انعقد الاجتماع بعجلة بعد رسالة لمياء، فأتى الزعماء الثلاثة وجلسوا على الطاولة في غرفة لم يعلم أحد عن مكانها. كانت تلك الغرفة مظلمة وما أضاء جزءا منها كانت عصا لمياء التي تحمل الحجر المضيء، وبسببه ظهرت بعض النقوش باختلاف أنماطها، وبعض أشكال الوحوش السحريّة وأخرى غير معلومة حتّى لهم، وكلّها كانت راكعة خاضعة لشيء ما لم يظهر نظرا لكونه بقي في الجزء المظلم.

كانت الطاولة مضاءة وكذلك الزعماء الثلاثة، فكان أوّسطهم نحيف البنية طويل الوجه، وأسمر قليلا لكنّه بدا ناضرا بإضاءة لمياء، وكانت عيناه كتينك اللتين لدى الصقر، فبدا وجهه بسبب ذلك حادّ التعابير طبيعيّا.

تكلّم هذا الشخص أوّلا بصوت أخنٍّ لكنّه كان حادّا في نفس الوقت: "أيْ لمياء، ما جلبنا؟ لقد قوطِع تدبّري وقيل لي أنّه أمر عاجل، من الأفضل أن يكون كذلك." كانت لهجته حادّة كذلك لكنّه لم يتجاوز حدوده.

أومأ الشخص الذي بجانبه على اليمين برأسه العريض مثله مثل جسده الكبير، وبدا حضوره ثقيلا ويجعل التنفس صعبا على الناس، فأكمل كلام سابقه: "لابدّ وأن يكون كذلك يا خليفة حاكم الجوّ، وإلّا لما كان خروجي من تدبّري في أعماق نهر دم التنين ذا فائدة؛ أنت تعلمين جيّدا أنّني أجعل لكلّ خطوة منّي فائدة."

ابتسم الشخص الثالث والذي كان معتدل الجسد لكنّه كان طويلا، وأطول من أبهم بحوالي شبر، وكلّ عضلة فيه بدت مصقولة بالرغم من أنّها لم تكن ضخمة، فكانت القوّة التي تكمن بجسمه ذاك بارزة. قال تابعا الشخص الثاني: "هيّا، هيّا، دعنا لا نكن قاسيين على خليفة حاكم الأرض يا خليفة حاكم المياه؛ لقد أثبتت أنّها حقّا تستحقّ مكانتها هذه في العديد من المناسبات، وأكثر من ذلك لقد وافقنا بأنفسنا على هذا الأمر، فلا يجب أن ننسى ذلك."

انحنت لمياء قليلا ثمّ قالت: "تُشكَر على حسن نيّتك يا خليفة حاكم الريّاح!" رفعت بعدئذ رأسها وقالت: "لكن لا داعٍ للقلق، أنا متأكّدة من أنّ كلامي اليوم سيجعلكم تنسون أمر التدرّب والتدبّر لمدّة."

عبس الثلاثة معا فوضع خليفة حاكم الريّاح يديه تحت ذقنه وقال: "أوه، مثير للاهتمام، ماذا لديك؟"

***

بالعودة بالزمن قليلا إلى اللحظة التي غادر فيها باسل غرفة خليفة حاكم الأرض، كانت الشمس ساطعة في الخارج كعادتها بعد العصر، جاعلة العالم أحمر اللون، فصار شعر باسل، المتطاير بذلك الهواء العليل منعش الروح، يبدو برتقاليّا نوعا ما بلمعان باهر.

وفي هذه الأثناء كان باسل يلعب مع أطفال الأرض الذين التقى بهم عند مجيئه، لكنّ لعبه ذاك كان غريبا نوعا ما؛ بدا كما لو أنّهم يلعبون الغمّيضة، إلّا أنّ الأطفال جعلوا من الأرض نفسها مخبأ لهم.

كان باسل يتحرّك ببطء دون أن يزعج نفسه بالتسرّع، ويقف عند مكان محدّد ويغرس ذراعه فجأة في باطن الأرض ثمّ يخرجها حاملا بها أحد الأطفال، وتارة اخرى كان يغطس عميقا تحت الأرض فيعود إلى سطحها حاملا معه عددا من الأطفال مرّة واحدة، كما لو كان يصيد بعض المناجذ.

تجمّع كلّ الأطفال حول باسل بأعين متألّقة وقالوا بحماس شديد: "أوه، إنّ الأخ الأكبر باسل ماهر للغاية، في العادة حتّى الراشدون هنا لا يستطيعون إلقاء القبض علينا بهذه السرعة. إنّك ماهر."

كانوا يمدحونه كثيرا متعجّبين في نفس الوقت من أمره. نطق أحدهم بعينين جرّيئتين مليئتين بروح التحدّي: "الآن دورك أيّها الاخ الأكبر باسل، لن أرضى بالخسارة هكذا." كان هذا هو أخ لمياء الأصغر في الواقع.

ابتسم باسل ثُمّ ربّت على رأس الطفل وقال: "هذه هي الروح يا آدم. حسن، سأغوص هنا وحاولوا إيجادي كما فعلت. لا يهم متى تبدؤون ملاحقتي ما أن أنزل تحت الأرض."

أومأ الأطفال واستعدّوا جيّدا، وفي اللحظة التالية كان باسل قد اختفى بالفعل تحت الأرض، فسارع بعض الأطفال في ملاحقته مباشرة إلّا أنّهم لم يجدوا أثرا له قطّ، كما لو تبخّر تماما.

كان الأطفال متعجّبين أكثر من هذا الأمر، فبذلوا جهدا أكبر ليجدوا باسل لكنّهم لم ينجحوا مهما طال الأمر، فإذا بواحد منهم أسرع وأخبر أحد الراشدين: "إنّه مذهل حقّا، لقد مرّت أكثر من ثلاث ساعات لكنّنا ما زلنا لم نجده طريقة لتتبّعه حتّى."

استغرب الراشدون من هذا الأمر وتفاجؤوا؛ لقد كان ذلك أجنبيّ، وحتّى لو كان ضدّ أطفال فقط، لقد كانوا أطفال الأرض ولم يكن من السهل هزيمتهم تحت الأرض، فما بالك بالاختفاء من بصيرتهم وقدراتهم تحت الأرض كلّيّا. لقد كان ذلك غريبا، وجعل الراشدين مهتمّين أيضا، فدخل العديد منهم في اللعبة.

كان أوبنهايمر فرانكنشتاين يقف بعيدا يرى ما يحدث، ثمّ تكلّف الابتسام وقال ساخرا: "وأنا الذي كنت أظنّه يلعب فقط، من كان يعلم أنّه جعل من اللعبة عذرا فقط حتّى يختفي تحت الأرض. حقّا..."

كان العالم المجنون هو الشخص الوحيد الذي فهم المغزى من تحرّكات باسل، والذي كان في هذه الأثناء في مكان مضيء بالرغم من أنّه يُفتَرض أن يكون في ظلام دامس تحت الأرض. كانت تلك الإضاءة نابعة من شيء بدا كثعبان كبير ضخم للغاية، ولكن عند تدقيق النظر فيه تكون ماهيته واضحة أخيرا.

ابتسم باسل ثمّ قال: "يا له من أمر مثير. لو كان للمعلّم نفس المعلومات التي أملكها لكان قد وقف في هذا المكان بالفعل."

كان الثعبان الضخم في الحقيقة عبارة عن جذر سميك، وبدا لونه أخضر بسبب الطاقة الزرقاء التي مرّت عبره. كان الجذر نفسه كشريان تمرّ عبره دماء تجعل صاحب الشريان ينبض بالحياة.

وضع باسل يده على الجذر فغُمِر مباشرة بهالة هادئة إلّا أنّها كانت كالبحر الهادئ، فحتى لو لم تجعله يتقلّب فقد جعلته يغرق في سكينتها التي مثّلت سنينا لا تُحصى من الاستقرار في هذه الأرض. لقد كان ذلك مجرّد جزء بسيط من سكينة تلك الشجرة العظيمة.

تمتم باسل لنفسه عندئذ: "لقد جعل هذه الشجرة وكرا له حتّى أصبحت هكذا، هل يا ترى كان ذلك تنّينا أسطوريّا حقيقيّا؟ على كلّ، يجب أن أكسب ذلك الشيء مهما حصل حتّى أنجح في الباقي."

كان باسل يغرق شيئا فشيئا في ذلك البحر العميق، لكنّه كان هادئا تماما كما كان حال ذلك البحر؛ كما لو كان يعلم أنّ القاعدة لتجاوز هذا الاختبار هو ضبط النفس والعقل، وتهدئة الروح كي يتسنّى له السباحة كما يشاء في ذلك البحر؛ لقد كان يحسّ أنّ مساره الروحيّ يُختَبَر ما إذا كان مؤهّلا أم لا.

كانت الشجرة العملاقة تبعث شعورا بالخمول وكلّ من وقف أمامها وهُنَت قواه ولم يستطِع مجاراة تلك الرغبة في الدخول في سبات عميق، فيحسّ بروحه تُستَنزف بدءا من طاقته السحريّة، وكانت هناك خواصّ أخرى لدى الشجرة العظيمة غير هذه التي كانت أبسطها في الواقع.

مرّت مدّة طويلة وكان باسل لم يظهر بعد، فاستغرب الناس وزاد عدد الباحثين عنه، ولم يستطيعوا تحمّل فكرة هزيمتهم ضدّ أجنبيّ؛ فقد كان ذلك مخزيا لهم وضارّا لشرفهم أجمعين.

وصلت الأخبار لمسامع لمياء في ذلك الوقت، لكنّها كانت مشغولة كثيرا أثناء ذلك بالتفكير في الأمور التي شغل باسل بالها بها، ولم تشأ أن تضيع وقتها في المشاركة في تلك اللعبة.

مرّ وقت طويل حتّى فتح باسل عينيه فجأة وحدّق إلى نور يبدو كنقطة في مكان ما بالظلام المطموس في ذلك البحر، ثم ابتسم وتكلّم: "شكرا لاستجابتك دعوتي، لقد كنت أشكّ في حدوث هذا في الواقع، لكنّه حدث حقّا!"

"هوه!" رنّ الصوت مباشرة في ذهن باسل، فأحس كما لو أنّ النور يرسل أفكاره إليه عبر البحر، معطيا شعورا غامرا بالهيبة لباسل. لقد كان ذلك يوحي إلى مدى عظمة صاحب الصوت.

"يا فتى، يمكنني تخمين سبب مجيئك إلى هنا نظرا إلى ما تحمله من شؤم في أعماق روحك، فلذلك استجبت لك أصلا، لذا سأجيبك مباشرة، لن تحصل عليها منّي أبدا."

حافظ باسل على هدوئه، مبتسما، وشبك قبضته تجاه نقطة النور قبل أن يصرّح: "لا، اعذرني يا أيّها الموقّر، لكنّك مخطئ في هذا الأمر تماما بطريقتين؛ أمّا عن أولاهما، فأنت ستوافق تأكيدا على طلبي بأخذها، أمّا عن ثانيتهما، فهي أنّني سآخذها ولو كنتُ مخطئا في أولاهما."

عمّ السكون للحظات مرّت طويلة، فتكلّم الصوت من جديد بهدوء بالرغم من طريقة باسل المستفزّة في الكلام: "يا فتى، تبدو واثقا أكثر ممّا يجب، ولكن نظرا إلى كونك هنا، يجب أن تكون على علم على الأقلّ أنّني لن أقدّم مساعدة لأيّ من الأربعة عشر."

كانت ابتسامة باسل ملازمةً وجهه، فصرّح مرّة أخرى: "أنت مخطئ ثانية يا أيّها الموقّر؛ قد أكون من الأربعة عشر، لكنّك يجب أن تساعدني بسبب ذلك في الواقع لا الوقوف في طريقي."

"ها؟" استغرب الصوت من هذا التصريح فجأة وقال: "لا تقل شيئا غبّيا يعكّر مزاجي الجيّد يا فتى، كيف لي أنا أن أدنوَ إلى مستوى مساعدة أحد الورثة الملاعين؟"

"هوهوهو!" ضحك باسل وقال: "ملاعين إذا؟ معك حقّ، إنّني ملعون، لكنّني لا أُرضَخ لمثل هذه الأشياء إطلاقا، فلا تظنّني كباقي الورثة؛ لم ولن أهرب من هذه اللعنة مثل بعضهم، ولن أخسر ضدّها أبدا. أنا فقط أريد إخبارك أنّ فرصة ظهورك في الوجود مرّة أخرى ورجوعك إلى سابق عهدك سيكونان أسرع وأضمن بشكل خاصّ لو تعاونت معي."

لم يجب الصوت مباشرة وعمّ الصمت لوقت طويل، حتّى ظنّ باسل أنّ محادثته معه قد انتهت هناك، إلّا أنّ الصوت ردّ أخيرا: "مثير للاهتمام، أخبرني لم تعتقد كلّ ذلك، وعندئذ سأقرّر."

***

مرّت ثلاثة أيّام فظهر باسل أخيرا أمام الجميع فجأة، وفي ذلك الوقت، كان قد استسلم كلّ شخص بالفعل عن البحث عنه وبقوا ينتظرون عودته فقط.

اقترب أوبنهايمر فرانكنشتاين من باسل وأخذ يحوم حوله بينما يضع يده على ذقنه ويومئ رأسه بين الفينة والأخرى، كما لو كان يفهم شيئا ما. عبس أخيرا بعدما لاحظ شيئا وقال: "هذا... أنت... لِمَ أشعر بجريان طاقة تشبه طاقة تلك الشجرة بعروقك؟"

ابتسم باسل فقط ردّا عليه ثمّ التفت إلى جهة الناس الذين ينظرون إليه بتعجّب، فأشار إلى أبهم من بينهم وقال بعدما أتى مستجيبا له: "يا أبهم، أخبر لمياء أنّني سأكون في انتظارها عند حاجز الشجرة العظيمة الخارجيّ."

صنع أبهم وجها قلقا وتردّد: "ولكن يا سيّدي..."

لوّح باسل يده وقال: "لا تقلق، أنا لا أنوي خلق صراع بيني وبين القبائل بفعل شيء غير لائق، لكن لا تقلق، اقترابي أنا من الحاجز لن يُعدّ وقاحة بعدما أبرهن ذلك."

تنهّد أبهم كونه لم يعلم ما يتحدّث عنه باسل، فاستدار وهمّ مغادرا ليترك رسالة لـلمياء التي كانت في اجتماع في الوقت الحالي؛ لقد توجّب عليه إيصال الرسالة بشكل مباشر حتّى يلطّف الأجواء ولا يخرج الأمر عن السيطرة.

حدّق أوبنهايمر فرانكنشتاين بعد ذلك إلى باسل ثمّ قال: "لديّ فكرة نوعا ما عن سبب ذلك، لذا لا تحتاج إلى إجابة سؤالي، همف!"

ابتسم باسل مرّة أخرى من ردّة فعل العالم المجنون، وتمشّى بعد ذلك متبّعا مسارا غير مرئيّ لأحد. كان ذلك المسار خفيّا في الأرض وبدا كشجرة لكثرة تفرّعه بعدّة انعطافات، لكنّ واحدا منها فقط كان الطريق الصحيح، لذا كان مستحيلا قطع ذلك المسار بشكل سليم إلّا عن طريق بصيرة حكيم، وترخيص خاصّ.

***

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/02/25 · 1,050 مشاهدة · 1754 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024