211 – القبائل ضدّ باسل
في هذه الأثناء، كان كبار القبائل مجتمعين داخل ذلك المكان المظلم، وبعدما أخبرت لمياء الثلاثة الآخرين بما حدّثها به باسل، انتفضوا مرّة واحدة وعبسوا حاملين نظرات ساخطة، فقال خليفة حاكم الريّاح الذي كان هادئا طوال الوقت حتّى سمع ما سمع: "يا خليفة حاكم الأرض، سأتجاوز فكرة السماح لمثل هذا السمّ بدخول وكرنا والمكوث فيه لكلّ هذه المدّة، وأنتقل مباشرة إلى الاتفاق هنا والآن على استئصاله وإبادته للأبد."
ضرب خليفة حاكم المياه بيده على الطاولة فكسرها قبل أن يصرّح: "حالا! أنت تعلمين أن تأخّرنا كلّ هذه المدّة معصية لتعليمات أجدادنا وأسلافنا، وخرق لقانوننا الأسمى. يجب علينا حماية الشجرة العظيمة من كلّ تهديد حتّى يأتيَ الوقت الذي يظهر فيه الوريث الشرعيّ. عندئذ سنسمو ونسود."
أكمل خليفة حاكم الجوّ أخيرا: "لقد مرّت سنينا لا تعدّ ولا تحصى من الانتظار، وبسبب هذا الفتى الذي أعطى للعالم الواهن أشياء عظيمة جعلت منه يتطوّر بشكل مذهل، زادت فرصة ظهور وريثنا الشرعيّ بشكل كبير، لكن وا أسفاه. أيْ لمياء، قد يكون هذا السم ينجينا من سمّ آخر، لكنّه في النهاية يبقى سمّ آخر يستحسن إزالته أيضا."
كانت ردود أفعال هؤلاء الثلاثة منطقيّة كلّيّا في الواقع ولم تخرج عن توقّعات لمياء، لأنّه مهما حصل لا يجب على سرّهم ذاك أن يُكشَف وإلّا ستحلّ عليهم لعنة ودمار يُذهب كلّ ما بناه أسلافهم. توجّب عليهم إزالة أيّ خطر كهذا بأسرع وقت.
أحكمت لمياء قبضتها على عصاها واستجمعت أنفاسها فشدّت عزيمتها قبل أن تنطق أخيرا: "لقد أتيت اليوم لأخبركم أن تقبلوا شروطه، وفي المقابل أعدكم أنّنا سنتحصّل على ما وعدنا به."
صرخ خليفة حاكم المياه فجأة: "أجُننتِ يا هذه أم غزا ذلك السم عقلك؟ تجرّئي مرّة ثانية على الطلب منّا خرق قانوننا الأسمى ولن تري منّي شيئا سوى الغيظ والكره؛ فإنّي لأحتقر وحشا نائما أنْ أراه مُغرًى بأحلام أحد آخر."
أومأ خليفة حاكم الجوّ رأسه وقال: "لا كلام بعد هذا، فلنذهب الآن لتولّي هذه المصيبة."
زاد خليفة حاكم الريّاح على ذلك بوجه صارم: "قد تكونين رأس قبائلنا حاليا، لكنّك لا تعلوين قانوننا الأسمى. لا قلق، بعدما نحلّ هذه المعضلة ستظلّين الرأس، لكن بعدما نتأكّد من أن السم قد استُؤصل من عقلك تماما؛ فالجسد السليم في العقل السليم."
استعدّ الثلاثة للخروج، فوقفت لمياء في طريقهم وصرّحت: "أنا وحش نائم ولا أهزّ ذيلي لأحد آخر، لديّ فخري بذلك فلا داعٍ للتشكيك في ذلك."
حملق إليها خليفة حاكم المياه: "إذن..."
"ومع ذلك..." أكملت لمياء: "أنا ألتمس موافقتكم والمباركة من وحشنا النائم أن يكون هناك استثناء لمرّة واحدة فقط. أنا متأكّدة أنّ هذه الفرصة لا تُعوّض إطلاقا ولن نجد مثلها مهما حدث. فبامتلاكنا كيفيّة إيقاظ وحوشنا النائمة ستكون فرصة ظهور الوريث الشرعيّ أكبر بكثير، وعلى الأغلب لن يحدث ذلك في وقت بعيد."
وضع خليفة حاكم الريّاح يده على كتفها فصرّح: "كفانا يا خليفة حاكم الأرض، أنت تخزين نفسك لا غير."
تنهّد خليفة حاكم الجوّ وقال: "لننطلق، عمليّة الاستئصال بدأت."
خرج الأربعة من الغرفة الغامضة، وفي قاعة كانت بنفس الظلمة، توجّهوا جميعا نحو الباب الذي كان الجزء المضيء خلفه، وفي نفس الوقت ظهر شخص أمامهم بنفس طول قامة خليفة حاكم الريّاح تقريبا، ولمّا رأته لمياء المحبَطة فتحت عينيها على مصراعيهما وهلعت: "أبهم...!"
اقترب أبهم من الأربعة وانحنى قبل ينقل التقرير الذي يفترض أن يبلغه:" يا أيّها الزعماء الشرفاء، أتيت لأخبركم أنّ سيّدي باسل ينتظركم بحاجز الشجرة العظيمة الخارجيّ."
أصبحت تعبيرات الأربعة قبيحة فاقترب خليفة حاكم المياه من أبهم وحمله من عنقه بيده الضخمة تلك، فشدّ عليه حتّى جعل تنفّسه ضيّقا وآلمه كثيرا كونه كاد يكسر رقبته، فقال في تلك الوضعيّة: "أتمزح معي يا هذا؟ لا حدود لوقاحة هذا الشقيّ."
"انتظر من فضلك..." تدخّلت لمياء: "لا بدّ وأنّ له سببا وجيها لذلك، لم لا نستمع لأبهم أوّلا..."
صرخ خليفة حاكم المياه: "يكفي. لا تخبريني بمثل هذه الأمور الآن، فأنا لا آبه. ستتبعيننا الآن لتنفيذ حكمنا، أم تبقين في الخلف؟ هذا ما يهمّ." قالها فرمى أبهم بعد ذلك إلى الجانب كقطعة قمامة.
هرعت لمياء إلى أبهم فمدّت يدها نحوه محاولة مساعدته على الوقوف، لكنّها تراجعت عن ذلك في النهاية واستقامت متمتمة له: "متأسّفة يا أبهم!"
كان الثلاثة الآخرين قد تحرّكوا مسبقا، فلحقتهم لمياء بسرعة. لقد قرّرت ولم يعد هناك مجال للتراجع.
***
كان باسل في ذلك الوقت يجلس متربّعا أمام بحيرة شاسعة تخلّلتها غصون هائلة الحجم، ولمّا فتح عينيه ورفع رأسه ليلمح الشجرة العظيمة أمامه وجد علوّها شاهقا وقمّتها لا ترى. كان جذعها عريضا كعرض بلدة صغيرة، وبالرغم من أنّها بدت عتيقة للغاية إلّا أنّ حيويّتها الوفيرة جعلت الحياة حولها غنيّة، فكانت تلك البحيرة تشعّ زرقة وتتلألأ، كما زخرت كلّ الأرض المحيطة بها على مدى عشرات أميال بخضرة مزيّنة بألوان زاهية تمثّلت في شكل أزهار وورود سحريّة.
لقد كانت الشجرة العظيمة والمنطقة المحيطة بها كنزا مثلها مثل بحيرة العالم المباركة المحاصرة بلا شكّ، حتّى أنّها شابهتها نوعا ما كونها محاطة بالجبال من جميع الجهات، وكلّ ما كان وراء تلك الجبال كان مناطق محظورة بأميال عدّة قبل أن يصل المرء إلى المناطق السكنيّة.
كان موقع هذه الشجرة يتمركز وكر القبائل في الواقع، أو بالأحرى، لقد كانت هذه الشجرة العظيمة هي نفسها الوكر الحقيقيّ الذي سُمِّي عليه هذا المكان. قيل أنّ وحشا أسطوريّا قد جعلها وكرا له لسنين عديدة حتّى ورثت الكثير من خواصّه وقوّته العظيمة، لكن لا أحد شهد ذلك في الواقع، واقتصر الأمر فقط على بعض قدرات أظهرتها طوال الوقت كتخدير من يقترب منها بسكينتها، وابتعاد قمّتها أكثر فأكثر عن كلّ من يحاول الاقتراب منها، إضافة إلى المظاهر الخياليّة التي تجعل المتسلّق يخال نفسه في عالم آخر.
كانت هناك قدرة أخرى أيضا، والتي جعلتها تحمي نفسها بدرع سحريّ لا يعلم أحد عن ماهيته، لكنّه كان يشبه نوعا ما حاجز الحماية السماويّة الخاصّ بالمناطق المحظورة، لكنّه كان مختلفا في نفس الوقت بكون عدم سماحه للأشخاص أقلّ من المستوى السابع بدخوله، وأبعد الوحوش السحريّة تماما، وفوق ذلك ميّز الوحوش النائمة عن الأجانب فلم يسمح لأحد بالمرور إلّا وكان وحشا نائما في الواقع.
وبالرغم من هذا كلّه، إلّا أنّه كان محرّما على الأجانب الاقتراب منه او محاولة عبوره، فقلّة مختارة فقط من أعضاء القبائل من يسمح لهم بمحاولة عبوره والانتفاع ممّا يقع بعده.
كان فعل باسل هذا وقحا تجاه القبائل وتحدٍّ لأسسهم وقوانينهم، وبالطبع لم يكن هناك ردّ فعل طبيعيّ منهم سوى أن يغضبوا منه لدرجة كبيرة.
كان أوبنهايمر فرانكنشتاين يحوم حول ذلك الحاجز، لكنّه عجز عن عبوره مهما حاول، فانزعج بسبب ذلك كثيرا كونه يرى أمامه تلك الأرض المثيرة للاهتمام، وتلك الشجرة العظيمة التي تحمل أسرارا عالمية حتّى. لقد كان مغتاظا في هذه اللحظات وقال بعبوس لباسل: "أنت، أفهم أنّه لابدّ من وجود مثل تلك الطاقة التي تسري في عروقك، ولكن ألا توجد طريقة أخرى للدخول؟"
ظلّ باسل محدّقا إلى الشجرة العظيمة باهتمام، وأجاب: "بلى هناك، لكنّك لا تقدر عليها في مستواك هذا."
وفي الواقع، كان باسل سيحاول تجريب تلك الطريقة لو لم يخرج بنتيجة مع الموقّر باالأعماق، فلابدّ له من الحصول على ذلك الشيء من الأساطير حتّى يستطيع الاستعداد جيّدا لتحوّل العالم الواهن إلى عالم روحيّ. ارتاح نوعا ما كونه لن يتجرّأ على مقاتلة القبائل بشكل مباشر من أجل حماية عالمه أجمع.
عبس العالم المجنون بينما يحاول اكتشاف طريقة حصول باسل على مثل الميزة، لكنّه لم يعلم فاضطرّ إلى السؤال: "أخبرني كيف حصلت على هذه الميزة؟" كان يريد الحصول عليها أيضا.
ابتسم باسل متكلّفا ورفع يديه فأجاب: "أوه، هل تخبرني أنّ السيّد نابغة لا يعرف هذا الشيء حتّى؟ لا بأس، إن أردتني أن أنيرك لهذه الدرجة فلا خيار آخر."
"لا..." صرخ العالم المجنون فجأة: "لا حاجة لذلك."
كان باسل يعلم كيف يتعامل مع شخص كالعالم المجنون. فلو رفض إجابته ببساطة لم يكن العالم المجنون ليستسلم بسهولة، فيكون مزعجا اكثر فقط، وبدل ذلك استفزّه وشكّك في عبقريّته، فجعله بذلك يقبل تحدّيّا رغما عنه بكشف ذلك الأمر بنفسه، فوفّر باسل عن نفسه العناء؛ لم يكن هناك طريقة ليشرح بها باسل مثل هذا الأمر لشخص آخر؛ لقد كان شيئا لا يجب على أيّ أحد أن يعلمه.
جلس باسل يتأمّل في عظمة الشجرة لوقت، وفجأة أتاه اتّصال جعله يعبس غير راضٍ بما سمع، فأجاب: (بوركت يا أبهم، يمكنك الاطمئنان فقط.)
ولم تمرّ مدّة طويلة حتّى سمع ضوضاء عالية الصوت آتية من خلف الجبال، فوقف وحدّق إلى الاتّجاه التي كانت آتية منه، إلّا انّ الضوضاء بدت تأتي من جميع الجهات كلّما اقتربت أكثر، وعندما توقّفت أخيرا فُهِم سبب ذلك.
نظر العالم المجنون إلى الجبال حوله فكانت مليئة بأعداد هائلة من الوحوش النائمة، فبلغ عددهم حوالي المائة ألف، وكلّهم كانوا سحرة فوق المستوى السادس على الأقلّ. كان ذلك منظرا مهولا ومهما كانت النفس شجاعة سترضخ للموقف وتجبن.
حملق كلّ واحد من تلك الوحوش النائمة إلى باسل بعيون مملوءة بالغيظ والاشمئزاز كما لو كانوا يرون عدوّهم الطبيعيّ، كما لو كان باسل هو الجزّار الذي ذبح أفراد عائلاتهم ومزّق بيوتهم واغتصب أراضيهم وحقوقهم. لقد كانت نظراتهم تلك مليئة بالعزيمة الكافية لقتل أيّ احد يعترض طريقهم في استئصال هذا السم الذي يغزوهم.
تنهّد باسل في هذه الأثناء ورفع يديه ثمّ قال: "يا لمياء، ظننتك جدرى من ذلك، لكن أظنّني طلبت ما يفوق قدراتك. لا قلق، أنا ماهر في الإقناع." ابتسم عندئذ وحدّق إلى خلفاء حكّام الطبيعة كما لو كان يقصدهم بجملته الأخيرة.
اسودّ وجه خليفة حاكم المياه واستشاط غضبا قبل أن يشير إلى باسل صارخا: [أنت وباء يحاول غزو وكرنا، أنت علّة تحاول الاستيلاء على كنزنا، أنت عدوّ لوحشنا النائم. لن نسمح لك بالبقاء على قيد الحياة أبدا، وطبقا لقانوننا الأسمى نقسم ألّا تحيا يوما آخر!]
[وااااه]
تابعت الحشود ذلك بصياح عظيم رعَد المكان.
هزّ باسل رأسه غير راضٍ ثمّ قال بعبوس: "أتظنّونكم تكسبون حسن وحشكم النائم بفعلكم هذا؟ لقد كنتُ أحفظ ماء وجوهكم بعدم قضاء غرضي دون إخباركم، لكنّكم واجهتم حسن نيّتي بسوء، فـبِئس فخركم هذا الذي يحرمكم من مبادلة حسن النيّة. تعالوا، سأدقّ رؤوسكم الخرِفة اليوم فتدركون عندئذ مدى قساوتها، وكم هي في حاجة ماسّة إلى بعض من الليونة."
من تأليف Yukio HTM
أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.
إلى اللّقاء في الفصل القادم.