236 – هدوء ما قبل العاصفة (3)
"يبدو أنّكِ ازددتِ جمالا منذ آخر مرّة رأيتكِ فيها يا أنمار."
ضحكت أنمار وأجابت: "ليس بقدرك يا شيرايوكي."
كانتا تجلسان حاليا في غرفة بسيطة المنظر، إذ لم تكن خاصّة أو زاهية. اتّخذتا مقعدين كلّ واحد أمام الآخر ودردشتا.
"إذن هذا هو المكان الذي نموت فيه يا أنمار، حبّذا لو استطعت العيش بهناء هكذا أيضا."
كانت هذه هي غرفة أنمار العادية في بيت أمّها سميرة البسيط.
"ليس بالضبط. هي مجرّد نسخة من غرفتي السابقة."
كانت نظرات الحزن بادية على وجه أنمار، ولكن ذلك ليس بسبب غرفتها في الواقع، بل بسبب تذكّرها للحادثة التي تدمّرت فيها هذه الغرفة، الحادثة التي مات فيها معلّمها.
لاحظت شيرايوكي تعبيرها الذي ظهر للحظة فقط، فقالت: "الجدران يمكن هدمها وإصلاحها مئات المرّات، ولكن ما يهمّ هم أولئك الأشخاص الذين نتشارك معهم ذكرياتنا بين تلك الحوائط. أمّا عمّن فقدناهم، فلا يمكنني سوى طلب الرحمة لهم والأمل في الالتقاء بهم من جديد، وتخليد ذكراهم في حياتنا."
ابتسمت أنمار بسبب كلمات شيرايوكي المراعية، وقالت: "معك حقّ."
"بالمناسبة، ما أخبار علاقتك بخطيبك؟ هل هناك أيّ تقدّم؟"
"لم أره لشهور الآن."
"شهور؟ إذن لا بدّ وأنّك تحادثينه عبر خاتم التخاطر على الأقلّ."
"لا."
وقفت الأميرة شيرايوكي من مقعدها متفاجئة: "ماذا؟ لم تريه أو تحدثتِ معه لشهور؟ ما بال متبلّد الإحساس هذا، أن يترك زوجته المستقبليّة لوحدها هكذا ولا يحاول الاتّصال بها حتّى؟"
نظرت أنمار إلى الأرض بنظرات خائبة الأمل نوعا ما، وقالت: "ليس هناك خيار، فهو مشغول كثيرا قبل كلّ شيء."
"قبل كلّ شيء، قلتِ؟ وهل هناك ما هو قبلك يا أنمار؟ إنّك تتساهلين معه كثيرا. هل يعتقد أنّه إذا قال لك "أحبّك" مرّة واحدة فسيكون لها تأثير سحريّ يدوم لبقيّة حياتكما ويتردّد صداها في أذنك طوال الوقت؟"
يبدو أنّ أنمار قد أخبرتها عمّا حدث في السلاسل الجبليّة الحلزونيّة.
تفاجأت أنمار كما لو أنّ الأميرة شيرايوكي قد ضربت على الوتر الحسّاس، فلاحظت الأميرة شيرايوكي تفاجؤها ذاك: "مهلا، لا تقولي لي أنّك حقّا قنوعة فقط بتلك المرّة الوحيدة؟"
نظرت أنمار إلى الأسفل مرّة أخرى: "لا أعلم عن ذلك، ولكن قولها أصلا كان في قمّة الإنجاز، صراحةً؛ فباسل شغوف تجاه ما يحبّ لكنّه قليلا ما يعبر عن ذلك بكلمات."
وضعت شيرايوكي يدها على جبهتها وتنهّدت: "يبدو أنّه ليس بالمشكل الوحيد في هذه العلاقة."
نهضت من مكانها واتّجهت إلى أنمار ثمّ وضعت سبّابة يمناها على جبهة أنمار وضغطت عليها: "اسمعي يا أنمار، إذا بقيت الأمور على هذا الحال، فلن تتقدّما خطوة واحدة. إذا كان أحمقا كفاية حتّى لا يقولها، ما عليك إلّا أنّ تحفّزيه على قولها."
"أحفّزه؟"
سحبت شيرايوكي اصبعها من جبهة أنمار وعادت لتجلس في مقعدها: "قلتِ أنّه لم يتّصل بك في الشهور الماضية، وماذا عنك؟ هل حاولت فعل ذلك؟"
"ذلك... لقد اعتقدت أنّه مشغول لذا لم أرِد إزعاجه، ولكن حتّى أنا لست بذلك الصبر، لذا أردت التحدث معه قليلا على الأقلّ، لكنّني عندما جرّبت الأمر قبل حوالي شهر لم أستطع الاتّصال به."
نهضت شيرايوكي من مكانها مرّة أخرى بينما تحمل نظرات غاضبة: "آه، هذا يجعلني أفقد عقلي. وهل حاولت مرّة أخرى؟"
حرّكت أنمار رأسها يمينا وشمالا، فانزعجت شيرايوكي أكثر.
"اسمعيني جيّدا، إنّه الآن يُعدّ أسطورة في عالمنا، وأيّ فتاة ستسعد بالاقتراب منه، باستثنائي بالطبع، لذا إن بقيت على هذا الحال، لن تعلمي حتّى تجدي إحداهنّ أو عديد منهنّ بجانبه. قد يكون أسطورة، لكنّه ما زال شابّا مفعما بالحيويّة."
ابتسمت أنمار بامتعاض: "هذا... أظنّ أنّك تبالغين بتفكيرك. لا أظنّ أنّ باسل يمكنه أن يفعل شيئا كهذا..."
"ساذجة!" رفعت شيرايوكي رأسها: "لقد أخبرتني عمّا حدث بطفولتكما، وحسب ما فهمت، فهو ضعيف خصوصا تجاه الفتيات الليّنات، وليس هناك فتاة لن تلين أمام بطل البحر القرمزيّ في عالمنا، فماذا إذا غلبته غرائزه وحدث وكانت هناك فتاة من نوعه المفضّل أمامه؟ لم يرَكِ لشهور أو تحدّث معك حتّى، هل تظنّين أنّه سيتمالك نفسه إذا تعرّض للإغراء؟"
ابتسمت شيرايوكي في الخفاء، وانتظرت ردّة فعل أنمار بينما تفكّر: "إذا لم أضغط عليها هكذا، لن تتحسّن الأمور مهما طال الزمن."
ولكن على عكس توقّعها، بدت أنمار سارحة في خيالها بعينين فارغتين: "هه... هاه... هاهاه... هاهاهاها..."
تعجّبت شيرايوكي ممّا يحدث أمامها. لقد كانت أنمار لتوّها تبدو فتاة ليّنة لكنّها فجأة بدأت تبعث هالة مشؤومة وتضحك بشكل غريب: "أنـ-أنمار؟"
"هاهاهاها!" ضحكت أنمار بشكل جنونيّ على حين غرّة وجعلت القشعريرة تصعد مع ظهر شيرايوكي: "يخونني؟"
رفعت رأسها إلى السماء بعينيها اللتين تحملان نيّة قتل: "افتراضا، هذا مستحيل ولكن لنفترض أنّه تجرّأ وأقدم على فعل شيء كهذا، سأجعله أوّلا يشاهد القطّة السارقة تتعذّب عندما أريها ما هو الجحيم في هذه الدنيا، و..."
اتّسعت عيناها فجأة.
(أنمار...)
كان ذلك صوت باسل عبر خاتم التخاطر.
كانت شيرايوكي تحدّق إلى صمت أنمار المفاجئ الذي حدث بعد التغيّر الدراميّ في شخصيّتها، ولم تستطع التقاط أنفاسها حتّى. شعرت أنّها ربّما اخطأت الحكم في قرارها أن تحفّز أنمار بتلك الطريقة.
(باسل...)
(كيف حالك؟ لقد مرّت مدّة لا بأس بها.)
(مدّة لا بأس بها؟ لقد مرّت شهور ولم أسمع منك خبرا، حتّى أنّني حاولت الاتّصال بك قبل حوالي شهر لكنّي لم أنجح. وتأتي الآن وتقول لي، 'أه، كيف حالك، لقد مرّت مدّة لا بأس بها'، تبّا لذلك، هل تمزح معي الآن؟)
لم يرد باسل في الحال، وكان من الواضح أنّه كان متعجّبا من مزاجها السيّئ، إذ ظنّ أنّها ستسعد باتّصاله.
(ماذا الآن؟ أليس هناك شيء لتقوله؟ تغيب كلّ هذه المدّة وليس لديك حتّى كلمات مناسبة؟)
في هذه الأثناء، كان باسل يجلس في خيمته، وقد كان وقت الظهيرة عنده. أراد أن يتكلّم مع أنمار قبل الاتّجاه صوب قلب القارّة، لكن وجدها في مزاج عكر للغاية.
(في الحقيقة، لقد أردت الاطمئنان عليكِ، لذا...)
(الاطمئنان عليّ؟ وأين كنت طوال هذه المدّة الماضية، أو بالأحرى، أين كنت في الشهر الماضي عندما لم أستطع الاتّصال بك؟)
وجد باسل نفسه في موقف لا يُحسَد عليه، فأحسّ أنّ كلّ ما سيقوله سيُستخدم ضدّه.
(لقد كنت في عالم ثانويّ لذا أظنّ أنّه السبب.)
(ها؟ دخلت إلى عالم ثانويّ؟ هل ربّما الذي زرناه من قبل؟ كيف لك أن تُقدم على شيء كهذا دون أن تتّصل بي أوّلا؟)
(لا، إنّه عالم ثانوي آخر، ولم أجد الفرصة للاتّصال بك.)
(لم تجد الفرصة، لم تجد الوقت، مشغول. كلّ هذه الأشياء لا تهمّني.)
كانت أنمار تصرخ، لكن باسل حافظ على هدوئه وسأل: (ما الذي يهمّك إذن؟ ما الذي تريدين سماعه منّي؟)
(لا تسألني عن هذا يا أيّها الأحمق!)
(كلّ ما أقوله تردّينه في وجهي على طريقتك، فكيف لي أن أعلم ما أقول؟)
(تلك مشكلتكَ، ليست مشكلتي.)
(لا تكوني غير عقلانيّة.)
(أنت الأحمق غير العقلاني هنا.)
(هل حقّا تريدين الاستمرار في هذا؟)
صمتت أنمار ولم تردّ، فتنهّد باسل وقال: (حسنا، إن هدأت فلنعِد الكرّة. كيف حالك؟)
(لست بخير!)
(لماذا؟)
(اكتشف ذلك بنفسك!)
ارتفع حاجب باسل لكنّه لم يسمح لنفسه بالانزعاج فعاد الحاجب لوضعه الطبيعيّ: (هل حقّا تريدين أن تفعلي هذا؟ ألا تعلمين لمَ اتّصلت بك؟ لم أتّصل بك لنتجادل هكذا.)
(لا أعلم، أخبرني أنت.)
وضع باسل كفّه على رأسه وقال: (بالطبع لأنّني اشتقت لك.)
لم يسمع ردّا منها، وأمل ألّا تُستخدم حتّى هذه الجملة ضدّه.
كانت أنمار محمرّة الوجه غير قادرة على الكلام، لكنّها تذكّرت محادثتها مع شيرايوكي وخصوصا كونها قنوعة.
(يبدو أنّكَ على الأقلّ ما زلت تحمل بعض المشاعر لي.)
(ما الذي تحاولين قوله؟)
(لا شيء مميّز، فقط فكّرت أنّ شابّا مثلك قد يجعل بعض الحسناوات يسخّنّ فراشه عندما يشعر بالوحدة، لذا لم أظنّ أنّك ستتذكّرني.)
فهم باسل ما يحدث أخيرا، وعلم عن المشكل؛ يبدو أنّها وضعت بضعة سيناريوهات في عقلها وغارت بسبب أشخاص لا يوجدون إلّا في مخيّلتها.
(حسناوات؟ للأسف، أظنّني كسبت مناعة قويّة ضدّ مثل تلك الأشياء بفضلك. فان لم تكن أنتِ لا يمكن لغرائزي التفوّق عليّ)
صمتت أنمار ولم تجبه مرّة أخرى، وبالطبع كانت تحمّر خجلا دون أن يعلم.
سألت بصوت ليّن: (حقّا؟)
(تعلمين أنّني لا أكذب عليك أو أخادعك.)
(وماذا إذا ظهرت إحداهنّ في المستقبل يمكنها إغراءك؟)
(ماذا يسعني أقول؟ لقد تلقّيت دروسا في كيفيّة التعامل مع النساء، لذا لا تخافي، لن أفعل شيئا كذلك من وراء ظهركِ.)
(إذن هل ستفعله أمامي؟)
(هل حقّا تنصتين إليّ يا فتاة؟)
(إذن لماذا لا تخبرني بمشاعركَ؟)
(أظنّني أخبرتكِ بالفعل.)
(ذلك ليس المقصود، لقد أخبرتني منذ مدّة طويلة ولمرّة واحدة فقط.)
(ذلك لأنّها كلمة ثمينة للغاية، وإن أكثرت منها فستفقد قيمتها مع الوقت.)
(أ لست تقدّر قيمتها أكثر من اللازم؟ تبدو هكذا كبخيل ما.)
(بخيل؟ أنا فقط لا أحبّ إلقاء الكلمات عبثا وإلّا أصبحت كلّها متشابهة في قيمتها.)
(أ لست خجولا لا غير؟)
(قد أكون عنيدا لكنّني لست بخجول وأنت تعلمين ذلك.)
صمت الاثنان لفترة لا بأس بها، فسألت أنمار بصوت ليّن: (إذن، ألا يمكنك أن تلقي بعنادك ذاك من أجلي؟)
خفق قلب باسل لمّا سمع طلبها ذاك واحمرّت وجنتاه، فشعر بصدره يضيق ولم يستطع إيقاف تلك الابتسامة الغريبة التي تشكّلت على وجهه، إذ كانت حافتا فمه تهتزّان من الفرح.
(لقد أفسدتِ عليّ خطّتي؛ كنتُ أنوي مفاجأتك لكنّ تبّا لذلك.)
لم تقل أنمار شيئا وانتظرت بصمت، وفي المقابل أحسّ باسل بالتوتّر لكنّه هدّأ من روعه واستجمع أنفاسه ثمّ قال الكلمة السحريّة.
(أحبّك يا أنمار.)
سقطت على الأرض بعدما فشلت ركبتيها من السعادة، ونزلت دموع ببطء بينما تردّ على باسل: (وأنا أعشقك يا باسل.)
كانت الابتسامة على وجهها تجعل تلك الدموع تبدو جميلة، وحتّى شيرايوكي تأثّرت بالمنظر الذي كان أمامها.
(إذن أنا أيضا أعشقك.)
ضحكت أنمار بينما تمسح دموعها: (أ لم تقل أنّها كلمات لها قيمة ولا تحبّ تكرارها كثيرا حتّى لا تفقد قيمتها؟)
(أو لستِ الشخص الذي أخبرني أن ألقي بعنادي من أجلك؟ وأيضا، هذه أوّل مرّة أقول لك فيها أعشقك.)
ضحك الاثنان مع بعضهما ونظرت شيرايوكي إلى حالة أنمار فأومأت رأسها ونهضت لتغادر الغرفة، بما أنّه يبدو أنّ المحادثة بين ذينك الاثنين ستطول أكثر.
لاحظتها أنمار تغادر فجعلت باسل ينتظر قليلا، وذهبت لتعانق شيرايوكي بينما تقول: "شكرا لك يوكي."
ربّتت شيرايوكي على ظهر أنمار بينما يتردّد على مسمعها اسم "يوكي". لقد كانت هذه هي المرّة الأولى التي يختصر فيها شخص ما اسمها لذا شعرت بدفء غريب نوعا ما.
"هذا ما تفعله الصديقات من أجل الصديقات."
قالت أنمار مبتسمةً: "حقّا؟ لا أعلم بالضبط، فأنتِ أوّل صديقة حقيقيّة أملكها."
ضحكت شيرايوكي وقالت: "وأنا كذلك."
"شكرا لك لأنّك غضبتِ من أجلي."
تأثّرت شيرايوكي بكلمات أنمار فدفعتها للخلف واستدارت، خجلاً: "هيّا، أكملي كلامك مع متبلّد المشاعر ذاك. سأتركك الآن."
خرجت من الغرفة بينما تتذكّر تعابير أنمار المختلفة، وابتسمت بفرح، لكنّها تذكّرت ذلك التعبير الذي جعل جسدها يقشعرّ، فتمتمت: "لربّما أشعر بالتعاطف معه."
من تأليف Yukio HTM
أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.
إلى اللّقاء في الفصل القادم.