238 - النيّة في قلب قارّة الأصل والنهاية

238 – النيّة في قلب قارّة الأصل والنهاية

لو كانت قارّة الأصل والنهاية تحكمها الوحوش السحريّة، ففي عمق مركزها تكاد لا تجد وحشا سحريّا إطلاقا.

كانت الأجواء ومناخ هذه المنطقة متقلّبين على مرّ الأيّام، إذ شملت كلّ خواصّ المناطق الأربع الأخرى، ففي يوم تجد الجبال متجمّدة، ولكن بعد أيّام تجدها أرضا خصبة بدأ العشب ينمو فيها.

اختلفت مسارات الأنهار فـجرت المياه في اتّجاهات مختلفة حسب تغيّر المناخ، وتكونت بحيرات وتحوّلت إلى مستنقعات أو وديان، وصحِرت الأرض وخضِرت كلوحة فنّيّة يُعدّل عليها باستمرار.

كانت المناظر خلّابة في بعض المرّات، ومظلمة كئيبة في مرّات أخرى.

قد أتى إدريس الحكيم إلى هنا سابقا مهتمّا في هذه المنطقة، لكنّ ما أثار اهتمامه حقّا لم تكن الأجواء الخرافيّة، فشيء كذلك رأى ما يكفي منه في بقيّة العوالم المختلفة التي زارها، وما فتنه في الواقع كان المجال المحاط بحاجز غريب جعل حتّى الوحوش السحريّة تبتعد قدر المستطاع عنه، وفقط تلك التي في المستويات العليا ملكت الشجاعة الكافية للدخول.

كان الأمر كما لو أنّ هذا النطاق سمح للوحوش المؤهّلة فقط بالولوج إليه، إذ كان غنيّا بالطاقة السحريّة النقيّة بكثافة، وأمكن ملاحظة ذلك من عدم موت هذه الأرض وحيويّتها بالرغم من تلك التغيّرات المستمرّة عليها، أو يمكن القول أنّ تلك الطاقّة السحريّة الكثيفة هي التي تسبّب هذا النوع من المناخ المتقلّب الهائج.

شكّ باسل سابقا أنّ الوحش الذي قاد وحوش المستوى الرابع عشر قد أتى من هنا، وليس هذا فقط، بل أنّه حدث معه شيء ما لا علاقة بالعالم الثانوي في العمق.

أخفى باسل حضوره كلّيّا باستخدام التحكّم الحكيم السليم، فأصبح مندمجا بالطبيعة، وشعرت الوحوش السحريّة القريبة منه أنّه مجرّد شجرة أو شيء مثل ذلك.

كان الأمر صعبا ضدّ وحوش المستوى الرابع التي وجب عليه التصرّف بحذر وحيطة بجانبها والابتعاد عنها قدر المستطاع؛ فهو لم يكن يريد قتال حشود من الوحوش السحريّة الآن، بل أراد بلوغ هدفه بأحسن حال.

وبسبب أنّه يريد التخفّي اختار ألّا يطير حتّى لا يُكشف سحره، فحتّى بالتحكّم الحكيم السليم لا يمكنه إخفاء حضوره تماما لو استخدم السحر.

كانت خضرة المنطقة الشرقيّة لا تنتهي، فاستمتع بالغابات غير المحدودة والأنهار والجبال والتربة نفسها، إذ كان كلّ جزء من المكان سحريّا، فبعض الورود هنا تطوّرت حتّى صارت تملك حبوبها خواصّ شفائيّة مذهلة أو مقوّيّة للجسد وبحر الروح وحجر الأصل.

مرّت أيّام قطع فيها مئات آلاف الأميال حتّى وصل أخيرا إلى باب وجهته –الحاجز المحيط بالنطاق. كان غموض هذا الحاجز مدهشا، فهو عمل عملا مشابها لحاجز الحماية السماويّة لكن بطريقة مختلفة، إذ سمح لوحوش سحريّة في المستوى الثامن فما فوق بالولوج، ونفس الأمر مع السحرة، إذ وجب على الساحر أن يبلغ قسم مستويات الربط الثاني.

وفي نفس الوقت، جعل طاقة النطاق محصورة ولا تتسرّب للخارج أبدا، بينما يمتصّ الطاقة من القارّة كلّها من أجل تزويد النطاق بطاقة أكبر.

حتّى إدريس الحكيم لم يملك فكرة عن كيفيّة عمله، لكن كان لباسل فكرة عن ذلك بسبب النيّة التي استطاع أن يستخلص منها معلومات قيّمة أكثر ممّا يتصوّر العقل، لكنّه لم يعلم كلّ شيء، فلم تكن لديه الفكرة العامّة عن سرّ هذا الحاجز.

مرّ عبر الحاجز فأحسّ كما لو أنّه أصبح في قبضة عدوٍّ فجأة، وبالطبع لم يكن ذلك بسبب أعين الوحوش السحريّة المفزعة التي تختبئ في الظلام بعيدا، بل بسبب شيء آخر جعله يشعر بالثقل وضيق النفس.

"لا يمكنني الشعور بالراحة أبدا تحت سلطة هذه النيّة، لكن سأعلّمها درسا لن تنساه لجعلي أشعر بالانزعاج."

اختلفت تضاريس المنطقة أمامه من سهول ممتدّة على المرأى، وأنهارُ حممٍ تتدفّق بجانب جبال جليديّة، ورمال تحاول غزو مناطق خضراء.

كان هدفه الآن هو تجاوز كلّ هذه المناطق والوصول إلى المكان الذي زاره مع أنمار ومعلّمه قبل أكثر من سنة ونصف. كان ذلك الموقع مختفيا عن الأنظار كما لو كان محميّا بسحر وهمٍ مبهمٍ.

حتّى لو قدم بعض السحرة إلى هنا ما كانوا ليجدوه، أو بالأحرى، سيجدون أنفسهم ينتقلون من منطقة لأخرى ويدورون في حلقة لا نهائيّة بسبب ذلك الوهم الذي انتشر عبر هذا النطاق بأكمله مع الحفاظ على الصورة الطبيعيّة للمنطقة.

كان باسل قادرا على بلوغ ذلك المكان بفضل معلّمه، وللدّقة بفضل الحكمة السياديّة التي ملكت البصيرة الحكيمة السحيقة، لذا لم يكن الذهاب لنفس المكان مرّة أخرى بمشكلة له بما أنّ يملك ما ملكه إدريس الحكيم آنذاك.

كلّ خطوة منه بدت هادفة وتتبّع مسارا معيّنا، كما لو أنّ الطريق واحد فقط ولا يمكن سير غيره، وإلّا جاب الشخص القارّة كلّها دون إيجاد الموقع المقصود. مرّ عبر مستنقعات مسمومة وحمم حارقة وصقيع قاتل، لكنّ جسده كان يملك مناعة ضدّ كلّ ذلك، بالإضافة إلى أنّه استخدم عنصر التعزيز لإحاطة نفسه بدرع سحريّ عند الحاجة.

تحرّك بوتيرة معتدلة، ولم يتغيّر إيقاعه أبدا، كنهر صافٍ يجري على أرض خالية من الشوائب.

مرّ وقت طويل، واستبدلت السماء المشعّة شمسها بالسماء المظلمة المنارة بقمرها ونجومها، مرارا وتكرارا حتّى وجد نفسه أمام جبال متجمّدة كانت تزهو بالخضرة عندما أتى مع معلّمه سابقا، وغابات أوراقها ذابلة كانت سابقا فاكهتها تسيل اللعاب، وأنهار جافّة أصبحت مجرّد وديان مظلمة.

لم يكن هناك حسّ لأيّ وحش سحريّ بالجوار كالعادة، ووُجِدت تلك التماثيل فقط لا غير، تقف هناك بمختلف أشكالها دون حركة.

كانت التماثيل لمحاربين في يد كلّ واحد منهم سلاح من نوع ما، وعند التدقيق النظر فيها، يجد المرء أنّها لا تأخذ أشكالا بشريّة فحسب؛ كانت هناك تماثيل بأوجه وأجساد بشريّة لكنّها ملكت آذانا طويلة، وتماثيل أخرى كان لها قرون على رؤوسها، وأخرى كانت أوجهها تختلف عن أوجه البشر إذ كانت عريضة بأنوف ضخمة وأعين صغيرة كأعين الدببة. كانت هناك أشكال أخرى عديدة، حتّى أنّ بعضها لم يكن له شكل البشر حتّى.

"المحاربون الأشدّاء الذين نسيهم التاريخ؛ الشجعان الذين أُجبِروا على أن يكونوا عبيدا للأبد؛ أبطال العوالم المنسيون؛ الصناديد العبيد. وا حسرتاه! آه، وا أسفاه!"

أعرب باسل عن حسرته بينما يحدّق إلى التماثيل الحجريّة التي بلغ عددها المائة وكلّ واحد منها وصل علوّه إلى المائة متر. كانت التماثيل منقسمة لجزأين ، فوقف خمسون إزاء الخمسين الآخرين، وبدت أعينهم شاخصة كما لو أنّهم في حضرة سلطان عليهم سلطته.

"لربّما علمتُ القليل عنكم أيّها الصناديد، لكنّني على الأقلّ واثق أنّكم بكلّ تأكيد قاتلتم وفعلتم ما عجز عنه الكثير حتّى صار حالكم هكذا. لقد عانيتم لمدّة طويلة جدّا، ولكن سأحرص كلّ الحرص على ألّا تُلقّبوا بالصناديد العبيد من بعدي. فلأخلّدنّ ذكراكم كأبطال العوالم بعدما ألوح إلى الأسفل من القمّة وأظهِر ما طُمِس لعصور."

تنهّد باسل واقترب من المائة تمثال، فوقف عند الخطّ الذي يفصله عن الطريق الذي تصنعه التماثيل بشخوصها هناك.

كان هذا الخطّ حدّا فاصلا لا يمكن لأحد عبوره، كما لو أنّه لا يمكن لمخلوق المرور منه سوى شخص محدّد.

ظهرت الحكمة السياديّة متشكّلة في الكرات الكونيّة فوق باسل، استعدادا لبدء فكّ المصفوفة التي تمثّلت في تلك التماثيل نفسها.

ما أنّ بدأ باسل يدرس التماثيل وغموضها وطريقة ارتباطها، حتّى صدر صوت من حيث لا يدري، بنبرة متعالية ومتكبّرة: "لقد أخبرتك أّنّه حتّى بحكمتك السياديّة في مرحلتها الثالثة لا يمكنك ولوج هذا العالم يا أيّها الحكيم المبتدئ، عد أدراجك وإلّا سلختك."

لم يتفاجأ باسل كما لو كان يتوقّع صدور الصوت، فردّ بروية: "هل فقدت بصيرتك بسبب خمولك لعصور هنا يا أبله؟"

لم يُلقِ باسل للنيّة اعتبارا كما لو أنّه يعلم بالضبط مع من يتكلّم.

"ماذا؟!" تفاجأ النيّة حقّا: "انتظر، انتظر، أين ذلك العجوز الذي امتلك الحكمة السياديّة في هذا العصر؟ كيف لك يا أيّها الشقيّ أن تملكها؟"

يبدو أنّ دهشته أنسته طريقة كلام باسل معه سابقا.

أجاب باسل على مهل: "الفضل يعزو للسارق الخسّيس يا أبله، لربّما لا تعلم عمّا أتكلّم أصلا لأنّك لا تملك أيّ ذكرى سوى مهمّتك الوحيدة."

"ما الذي تقصده يا شقيّ؟ وكيف لغرّ مثلك لم يفقه شيئا في ذلك الوقت أن يتحدّث إليّ بهاته الطريقة أصلا؟ احنِ رأسك واعتذر في الحال وإلّا جرّدتك من روحك وامتصصتها."

ابتسم باسل ساخرا: "لا تهتم بالتفاصيل الصغيرة يا أبله. ركّز على المهمّ، سمعتني يا أبله؟"

"يا أيّها الشقيّ، لن أعيد كلامي مرّة أخرى، راقب فمك وإلّا كان سببا في إراقة دمك!"

كان واضحا أنّ نبرة الصوت تشير للغضب، لكن باسل لم يرتدع واستمرّ في رشّ الملح على الجرح: "هوهوهو، حاول إن استطعت يا أبله."

"أيّها اللعين، هل حقّا لا تخشى أن تُسلخ؟"

أغمض باسل عينيه وردّ بنفس الوتيرة السابقة: "هوهوهو، حياة الرجل مغامرة وسكونه موت، ولكن حتّى هذه الجملة لا تنطبق على وضعنا الحالي، فأنت لا يمكنك قتلي حتّى لو أردت."

"ها؟ ما الذي تهذي به يا شقيّ؟ في هذا المكان، يمكنني فعل ما أشاء وحتّى السلاطين سيخشونني."

هزّ باسل رأسه يمينا وشمالا وتنهّد: "حتّى أبله مثلك يجب أن يعلم عن مهمّته الوحيدة، أو تخبرني أنّك نسيت سبب وجودك هنا عندما رقدت كلّ هذه العصور؟ هل أنت حقّا أبله لهذه الدرجة يا أبله؟"

"أنت... أنت... أنت... تجرؤ؟ يا ابن العاهرة، يا أيّها السافل الساقط، النغل الوغد، هل تريدني أن أغتصبك أيّها الحشرة؟ لقد نلت كفايتي، سأغتصبك!"

بدأ السب والشتم يصدر فجأة من النيّة دون قيود.

حافظ باسل على ابتسامته الساخرة: "على الأقلّ استخدم كلمة غصب بدل اغتصاب، ستشكّك الناس في ميولك يا أبله."

"من يهتمّ بالاختيار المناسب للكلمات الآن يا أيّها المقيت؟"

صفّق باسل بينما يضحك: "صورتك الحقيقيّة أفضل بكثير من تلك النبرة المتكبّرة المتصنّعة التي تجعلك تبدو كمغفّل متعالٍ، فهكذا على الأقلّ تبدو كسفيه أبله فقط."

"إن لم أغتصبك اليوم يا أيّها العاهر، فالعار سيلحقني لبقيّة أيّامي."

تنهّد باسل كما لو أنّه يتحسّر لحال ابنه: "ألا يمكنك قول جملة واحدة دون شتيمة يا أبله؟"

"لا تقلق، عندما أسحق رأسك لن تسمعني، إلّا إذا كنت تسمع من مؤخّرتك الرذيلة، فافافا، فهذا ما بدا لي نظرا لكونك لا تستمع لكلام الآخرين جيّدا، فافافافا!"

هز باسل رأسه بخيبة أمل: "يبدو أنّك لم تتلقَّ تربية حسنة يا أبله، لكنّني لا ألوم وليّ أمرك، فهائج مثلك لا يرضخ بسهولة."

"لا أرضخ بسهولة؟ كيف يمكن ذلك؟ فـذو الطغيان يغتصب حتّى الأبطال الشجعان وما سبق له أن استكان، فلا تجرؤنّ يا لقيط على إهانته وخصوصا في هذا المكان، وإلّا قطع سجقّك وجعلك تبلعه فتكون بذلك في خبر كان."

مزجت النيّة هذه المرّة نبرتها المتعالية مع أسلوبها القذر في الكلام، وبدت واثقة.

صفّق باسل بينما يضحك: "أهنّئك، يبدو أنّك الأوّل في اللائحة الذي يجعلني غير قادر على الردّ؛ فلم أعلم أنّه يمكن للأسلوب المتعالي في الكلام أن يمتزج هكذا مع الكلمات القذرة بشكل مثاليّ، حقّا، مثاليّ."

"أووه، يبدو أنّك اكتشفت روعة ذو الطغيان أخيرا. يمكنك الآن الانحناء والاعتذار بشكل مناسب، عندئذ سأفكّر في العفو عن تهوّرك سابقا لو راق لي تذلّلـك. هيّا، أسرع وإلّا ثقبتك."

ضحك باسل مرّة أخرى ثمّ قال: "يبدو أنّ رحلتي لن تكون مملّة على الأقلّ بسببك."

"ما زلت أنتظر خضوعك يا شقيّ."

وقف باسل وقال بجدّيّة بعدما اختفت نظرات الاستمتاع من وجهه على حين غرّة: "حسنا، وقت الضحك انتهى. ما رأيك أن نبدأ جدّيّا؟ أنا هنا لتجاوز الاختبار، فأنا من العالم الواهن ولديّ الحقّ في ذلك. بالأحرى، لا تقاطعني فقط."

لم يصدر الصوت من النيّة لمدّة طويلة، كما لو أنّها تفكّر في ما ينوي باسل فعله، إذ بدا واثقا بشكل غريب.

لم تكن هذه المرّة الأولى التي تقابل فيها هذا الشقيّ، فقد أتى مع ذلك العجوز، وتحت رعايته، حاول بكلّ جهد دراسة هذه المصفوفة حتّى يلج إلى العالم الذي يقبع خلف غموضها، لكنّه لم يستطِع النجاح في فهم شيء وغادر خائب الأمل.

"حسنا، لنرَ ما لديك، لكن كن واثقا، أنّك إذا فشلت ستلقى مصرعك، وتعلم أنّني لن أتركك وشأنك لتموت بسهولة وبساطة."

تنهّد باسل ولوح يده: "حسنا، حسنا، دعنا ننتهي من هذا بسرعة."

"سنرى إلى متى ستظلّ محافظا على تصرّفك هذا يا صعلوك. فافافافا، وأخيرا يمكنني اغتصابك."

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/10/27 · 702 مشاهدة · 1797 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024