248 - العاصفة
حدّقت أنمار إلى الفتاة التي تجمّدت قبل قليل من كثرة النظرات التي سقطت عليها ولكنّها تتصرّف الآن بهذه الجرأة. لم تكن تتصنّع الشجاعة أو كانت غبيّة، بل كانت صريحة لدرجة كبيرة وفعلا لا تهاب الضغط الذي تُحدثه أنمار.
لقد كانت هذه فتاة تجاوزت ما لم يستطِع العديد من الرجال والنساء تجاوزه بأضعاف. لقد اختبرت آلاما قاتلة وتغلّبت على عذاب لا يقدر أيّ ساحر سوى الاستثنائيّين على التغلّب عليه؛ فكيف لها أن تخشى أيّ أحد؟ لقد تجمّدت من النظرات المحيطة فعلا، ولكن ذلك فقط لأنّها كانت وحيدة وغير معتادة على أن تكون محور الانتباه.
كانت نظرات أنمار تخترق صفاء كما لو أنّها تختبرها لترى كم ستصمد، فكانت إرادة صفاء أقوى بكثير ممّا قد يتخيّل المرء. في العادة، لو تعرّض المرء لتلك النظرات من أنمار، سيكون مصيره مثل مصير اللبؤة الذهبيّة، نورثرولر زهاء.
في ذلك الوقت، لم تستطِع اللبؤة الذهبيّة الصمود أمام إرادة الجنيّة الذهبيّة، فلمْ تملك الأحقيّة للوقوف بجانب باسل حتّى بما بالك بالدخول إلى عالمه.
كانت أنمار تفعل كلّ هذا فقط من أجل باسل؛ فهي كانت تختبر الشخص إن كان جديرا بحبّ الرجل الذي تحبّ، ثمّ ترى ما إذا كان أهلا للوقوف بجانبه. لم يكن هناك مجال لترك شخصٍ يدّعي حبّ باسل أن يمكث بجانبه وهو ليس مستحِقّا لذلك.
ولكن صفاء، الفتاة الصغيرة أمامها، أثبتت كفاءتها وتجاوزت اختبارها حتّى الآن. ومنذئذ فصاعدا، تغيّرت تصرّفاتها تجاه الفتاة الصغيرة، لا، بل تجاه المرأة صفاء. اعترفت أنمار بصفاء كمنافسة لها، كأوّل منافسة لها في الحبّ بشكل أدّق.
لم تسأل عن السبب الذي جعل صفاء تقع في حبّ باسل، فالفتاة التي لا تغرم به في نظرها عمياء وصمّاء، هذا بدون ذكر كلّ ما فعله من أجل صفاء. وأكثر من ذلك، السبب الذي جعلها لا تسأل هو العزيمة التي تمثّلت في عينيْ صفاء لمّا صرّحت بحّبها.
ابتسمت أنمار وقالت: "سأقرّ بحبّك، ولكنّني لن أسمح لك أو لأيّ فتاة في العوالم أن تكون زوجته. أنا، أنمار، زوجة باسل الوحيدة، وتلك المكانة لن أشاركها مع أحد آخر."
بادلتها صفاء الابتسامة وردّت بهدوء: "مع كل الاحترام يا أيّتها الأميرة أنمار، ولكن ليس بيدك حيلة عندما يتعلّق الأمر بزواجه من امرأة أخرى من عدمه. على مرّ العصور، كانت الزيجات السياسيّة ضروريّة، وتحتّم على قادة البلدان عقد القران مع مختلف النساء لتكوين رابطة دم."
نظرت أنمار إلى صفاء باندهاش، فلوهلة الآن، ذكرّتها بمنطقها هذا وأسلوبها في التحدّث بباسل، فعبست واستنكرت الأمر.
أكملت صفاء بنفس الوتيرة: "...حتّى لو لم أظهرْ هنا اليوم وأخبرْك بحبّي له، فشخص مثله، وأنت تعلمين، سيلقى الإعجاب أينما حلّ، وعروض الزواج ستُقدَّم له من كلّ جهة. وحتّى لو رفض مرارا من أجلك، سيحلّ يوم يحتاج فيه إلى قوّة بعض الأشخاص الذين لن يرضوا إلاّ بصلة من الدم معه كشرط لاكتمال التحالف بين الطرفين."
ظلّت أنمار تحدّق فقط إلى صفاء؛ لقد أقرّت بها للتوّ كمنافسة في الحبّ، ولكنّها لم تتوقّع أن تكون بهذا الذكاء الباهر وتملك القدرة على التلاعب بالكلمات هكذا.
ابتسمت مرّة أخرى عندما فكّرت أنّه على الأقلّ منافستها في الحبّ حقّا وفعلا تستحقّ أن تكون منافستها كما أسلف واقتنعت بذلك.
لقد قالت صفاء أشياء في الصميم إذْ كانت أنمار تفكّر فيها لوقت طويل. أحسّت أنمار كما لو أنّ هذه الفتاة ستقدر على فعل كلّ ما تقول بما أنّها كشفت نواياها وأفكارها هكذا.
حدّقت إلى صفاء لبعض الوقت قبل أن تردّ: "يبدو أنّه لديك موهبة في التلاعب بالكلمات وكشف نوايا الناس عبر حدسٍ فذٍّ."
ابتسمت صفاء ونظرت إلى عينيْ أنمار مباشرة ثمّ قالت: "كما تخترقين الشخص بنظراتك وإرادتك، فأنت أيضا تسمحين له بفهم أعماقك من خلال ذلك."
التهبت عينا صفاء الحمراوين بضوء البدر الذي تجلّى بعدما غادرته السحب، وبدا شعرها فضّيّا بعدما سقط عليه النور، فانفردت كجنيّة سامية، ولكن ذلك الضوء شمل أنمار أيضا التي كانت قريبة للغاية منها؛ فتوهّجت زخرفة فستانها وبدت تلك الشعلات الناريّة حقيقيّة، إذْ توهّجت وأضْفَت على شعرها الذهبيّ بهاءً فبدت كعنقاء ملتهبة.
بلع بعض الأشخاص أرياقهم من المشهد الذي بدا كتحفة فنّيّة لا واقعا، واندهشوا من التوتّر الذي نتج من المحادثة التي دارت بين أنمار وصفاء وقوّة إرادتيهما إذْ جعلتا الجوّ مشحونا وكادت الشرارات تتجسّد في الأرجاء.
"فقط من هي تلك الفتاة؟"
تعجّب الحاضرون كونهم شهدوا أو سمعوا على الأقلّ عمّا حدث للبؤة الذهبيّة التي ظلّت كعبرة لمن يعتبر.
حدّق إلى صفاء قادةُ التشكيل والتاجر ناصر وبعض الأشخاص الذين يعلمون عن أمرها، وبلعوا أرياقهم كونهم يعلمون كم يمكن أن تكون أنمار مرعبة عندما يتعلّق الأمر بباسل، ولكنّهم تفاجؤوا أيضا من قدرة صفاء على مواكبتها.
عمّ المكان الهمسات التي تحاول اكتشاف ما يدور بين الاثنتين، ولكن أنمار أنهت الأمر: "فلنستمتعْ الليلة كما كان مخطّطا يا صفاء وننسَ الأمر حاليا."
انحنت صفاء قليلا كقبول محترم لاقتراح أنمار، وتغيّر الجوّ حولها بعدئذ فأصبحت تلك الفتاة الصغيرة التي لا تعلم ماذا تفعل بأصابعها مرّة أخرى، وتبعت أنمار التي تحرّكت تجاه قادة التشكيل.
كانت شيرايوكي بجانب أنمار قبل أن تصل صفاء إليهما، فنظرت شيرايوكي إلى أنمار باستغراب وقالت: "ألست تبالغين كثيرا يا أنمار؟ إنّها ما تزال طفلة بعد كلّ شيء. لا أظنّ أنّ الأمر يتطلّب منك فعل كلّ هذا."
أغمضت أنمار عينيها بدل أن تنظر إلى شيرايوكي وتذكّرت تينك العينين الحمراوين المشتعلتين بعزيمة لا تتزعزع.
كان تعبيرها جدّيّا للغاية حاليا، وقالت بعدما فتحت عينيها: "طفلة؟ قد يكون هذا صحيحا، ولكنّ ذلك حبُّ امرأة لا يُستهان به أو يُتَجاهل. ألم تري كيف أثبت نفسها ها هناك؟ هل حقّا يمكنك القول عنها 'مجرّد طفلة' بعد كلّ ما رأيتِه؟ لقد اعترفتُ بها كمنافسة لي، وهذا يجب أن يكون كافيا لك حتّى تفهمي الوضع."
حدّقت شيرايوكي إلى أنمار قبل أن تلتفت إلى صفاء التي كانت تقترب منهما؛ كانت تحاول الرؤية عبر الفتاة الصغيرة، لكن ما وصفتها به أنمار لم يكن ظاهرا أو باطنا بها في وضعها الحاليّ. لم يسع شيرايوكي سوى أن تلعب دور الجاهل ونسيان ما حدث للتوّ بعدما فشلت في فهم صفاء.
مرّت الليلة كما كان مخطّطا لها، مثلها مثل باقي الليالي اللاتي سبقنها ولحقنها، إذ حاول ذَوُو الشأن الكبير توطيد علاقاتِ بعضهم ببعض وبالعائلات الإمبراطوريّة وسادة الأكاديميّة.
كان الحال كذلك في باقي الملاجئ التي شُيّْدت على يد باسل في الأشهر الماضية. آنذاك، كانت هناك أخبار عن تنقّله عبر العالم يفعل أمورا غريبة كالغوص تحت الأرض لمدد طويلة والنقش على حيطان المدن بنقوش أكثر غرابة، حتّى تأكّدت الشائعات أخيرا من فم الكبير أكاغي وأصبح معلوما أنّ باسل كان يبني مصفوفات معقّدة حتّى يلجأ لها الناس في العالم أجمعه عند التحوّل الروحيّ.
كان باسل ليواجه وقتا أطول في العادة، ولكنّه استطاع النجاح في الانتهاء بشكل أسرع عبر مساعدة العالم المجنون الذي كان يملك معرفة مماثلة بشأن الخيمياء وموهبة أفضل من باسل في هذا المجال. يمكن القول أنّه يستطيع أن يطوّر ما اكتسبه من إدريس الحكيم لمستويات عليا واكتشاف أمور أخرى بشكل أسرع وأمهر من باسل.
لم يعلم أحد عن الطريقة التي استطاع باسل أن يوفّر بها الطاقة اللازمة لتلك المصفوفات، ولكن استسلموا عن محاولة فهم ذلك نظرا لكونهم لم يفقهوا شيئا عن تلك النقوش حتّى.
وفي إحدى الليالي، اجتمع الأباطرة وسادة الأكاديميّة فقط في القاعة المركزيّة، وتحدّثوا عن درجة استعداداهم لما هو قادم.
تحدّث الجنرال رعد: "لقد عادت الفرقة التي ذهبت إلى البحر العميق قبل أكثر من شهرين، لذا يمكننا الاطمئنان أنّه لن يكون هناك أيّ وحش بالمستوى الرابع عشر يقود حشدا من أقرانه نحونا من الأرخبيل."
تنهّد الكبير أكاغي وارتاح باله بالرغم من أنّه يعلم عن هاته المعلومة، وذلك لأنّ أحد جنراليْ الفرقة الأكبرين كان كريمزون منصف.
كان باسل قد أخبرهم أن يتركوا الأرخبيل له لكنّه غادر في عجلة من أمره من أجل إنقاذ الجنرال منصف والآخرين في قارّة الأصل والنهاية، فظلّ الأرخبيل بوحوشه ذات المستوى الرابع عشر وتحتّم على آخرين التوجّه إليه كما كان مخطّطا في البداية.
وبسبب هذا، تطوّع كريمزون منصف وفروستويف غيث كالجنرالين الأكبرين لهذه الحملة؛ أراد هذان الاثنان أن يردّا المعروف ولو قليلا لباسل، وأرادا أيضا أن يحسّنا من نفسيهما بعدما واجها قوّة غامرة أظهرت لهما ضعفهما.
وتباعا لهما، لحقهما معظم الجنود من أبطال الأجيال؛ كانت رغبتهم موحّدة مثل رغبة جنراليهما الأكبرين؛ لقد أرادوا كلّهم أن يشكروا باسل بهذه الطريقة ويتدرّبوا حتّى يكونوا مستعدّين تماما للتحوّل الروحيّ.
ابتسم الجنرال غلاديوس وقال: "سمعت أنّهم يحبّون أن يُلَقّبوا بأبطال الأجيال."
علّق الإمبراطور هاكوتشو: "ولكن يبدو أنّهم تراجعوا بسرعة عن رغبتهم تلك؛ قالوا أنّ ذلك لقبا تمنّوه عندما اعتقدوا أنّهم ميّتون لا محالة، ولا يستحقّونه وهم أحياء يرزقون، في الوقت الحالي."
ضحك أزهر زهير وقال: "إنّ فخرهم لا يسمح لهم بذلك. يريدون أن يكونوا أهلا للقب، لذا لنناديهم به عندما يرون أنفسهم جدراء بذلك."
أكملوا حديثهم عن الملاجئ والجنرالات والقوّات المكلّفين بها.
وفي هذه الأثناء، كانت أنمار وسميرة ولطيفة وجدّة باسل وشيرايوكي وصفاء في أحد المنازل بالجبل المركزيّ يتحدّثن فيما بينهنّ كعادتهن. كانت جدّة باسل والفتيات يجلسن حول طاولة في غرفة المعيشة بينما تعدّ لطيفة وسميرة العشاء في المطبخ قبالتهنّ.
قالت جدّة باسل بحسرة على وجهها: "لقد مرّت مدّة طويلة منذ آخر مرّة رأيناه فيها، متى سيعود إلينا؟"
حدّق الجميع إلى أنمار كما لو أنّها تملك الإجابة، لكنّها نظرت إلى الأسفل بوجه حزين وردّت: "حتّى أنا لا أعلم في الواقع، قد يأخذ منه الأمر أشهرا حسب ما قال، ولكن قد يكون أقلّ من ذلك."
كُنّ يعلمن أنّ أنمار لا تملك وسيلة للتواصل مع باسل حاليا، لذا لم يسألنها بشأن هذا الأمر أكثر حتّى لا يزدن من حزنها.
نظرت لطيفة إلى صفاء وقالت: "لم أتوقّع أنّه في يوم ما قد تنضمّ جميلتان مثل شيرايوكي وصفاء لتجمّعنا هذا." نظرَتْ بعد ذلك إلى جدّة باسل وأضافت بسرعة: "بالطبع أقصدك كذلك، إلّا أنّه فقط قد مرّت مدّة طويلة جدّا منذ أن صرت مقيمةً معنا."
ضحكت جدّة باسل وقالت: "لا داعٍ للهرع يا عزيزتي، أعلم ما تقصدين."
اقتربت أثناء ذلك سميرة من أنمار وهمست لها: "إذن، ما الذي تنوين فعله عندما يأتي باسل وتلتصق به صفاء؟"
عبست أنمار بينما تحدّق إلى الأسفل وردّت على أمّها بانزعاج: "لا تغيظيني يا أمّي وأنت تعلمين أنّني لا أريد التكلّم في الموضوع."
ضحكت سميرة وأرادت أن تضيف شيئا، ولكنّها فقدت توازنها وسقطت على الأرض فجأة، فاستغربت أنمار والأخريات ونظرن إلى الأرضيّة التي وجدنها تهتزّ بينما تزداد شدّة ذلك مع الوقت.
"ما هذا؟" خافت لطيفة: "لقد ظننتُ أنّ هذه المنطقة لا تتعرّض للزلازل."
أصبح تعبير أنمار جدّيّا وقالت: "ذلك صحيح. الأرض المسالمة المباركة لا تتعرّض أبدا للزلازل، ولكن هذا ليس بأيّ زلزال عادي."
أسرعت نحو الخارج فوجدت قادة التشكيل أمام منزلها، إذ كانوا قادمين عندها على ما بدا، بالإضافة للتاجر ناصر الذي أتى في الأخير.
بلع تورتش ريقه وحدّق إلى أنمار بعينين شاخصتين: "سيّدتي أنمار، هل يمكن أنّ هذا...؟"
*انفجار*
لم ينتهِ تورتش من كلامه حتّى سطعت السماء على مدى أعينهم، ولمّا علموا عن سبب ذلك وجدوا أنّ جميع المناطق المحظورة التي تحيط بالأرض المسالمة المباركة تسطع بنور يرتفع نحو الأعلى.
دقّقوا النظر أكثر فاستطاعوا أن يلاحظوا أنّ المناطق المحظورة بذاتها لا تشعّ، وإنّما حواجز الحماية السماويّة هي التي تتوهّج بضوء يعمي الأعين.
***
من تأليف Yukio HTM
أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائيّة أو نحويّة.
إلى اللّقاء في الفصل القادم.