249 – تحوّلُ العالمِ الواهنِ الروحيُّ
مرّت عصور لا تحصى وحدثت ظواهر غريبة جعلت السحرة حائرين ومندهشين، ولكنّهم لم يشهدوا ولم يسمعوا عن شيء كهذا.
كانت السماء ساطعة بشدّة حتّى جعلت الليل نهارا بالعالم الواهن بأجمعه، وتزعزعت الأرض في جميع النواحي دون أن تترك مكانا لأيّ شخص للهروب.
فزع الناس في مختلف المدن وانكمشوا في أماكنهم بينما يحضنون أعزّاءهم كما لو أنّها نهاية العالم.
شاهدوا انشقاق الأرض وانقلاب الجبال، فبكى الأطفال، وارتعدت قلوب النساء والرجال، إذ ما سبق لهم أن رأوا مثل تلك الأهوال.
كانت استجابات سكّان العالم الواهن في تلك اللحظات موحّدة بدون استثناء، إذ غمرتهم الدهشة والرعب، كونهم يعلمون أنّ النور الذي يزيّن سماءهم ويضيء عالمهم ما هو إلّا نذير شؤم إذا صحّ التعبير بالتفكير في ما سيأتي بعده من أحداث.
كانت الملاجئ تعجّ بالناس وبالكاد استطاع الجميع الاحتماء، ففي الأشهر الأخيرة حامت فرق عديدة من السحرة حول العالم وقطعوا العالم طولا وعرضا ونشروا الخبر بوثائق مرسومة من طرف الأباطرة أنفسهم وحرصوا على أن يعلم كلّ شخص في العالم بالحدث العظيم القادم.
تكلّف زعماء القرى ونبلاء المدن بتسجيل كلّ كبير وصغير حتّى يُتأكَّد من حضور كلّ شخص في الملاجئ.
اتُّخِذت المدن الكبرى التي حكمها الجنرالات كملاجئ، لذا يمكن القول أنّها كانت آمنة أكثر من أيّ مكان آخر أصلا بحراستها الشديدة وغناها الوفير.
وفي منزل ما بعاصمة الشعلة القرمزيّة، اختبأ أحد الأطفال في حضن أمّه بينما يحدّق من تحت ذراعها إلى السماء عبر النافذة: "أمّاه! أمّاه! أمّاه!"
عانقته أمّه بشدّة وردّت: "نعم يا بنيّ، أمّك هنا، لا تقلق، سيكون كلّ شيء على ما يرام. ما هذه إلّا عاصفة وستمرّ؛ هل تعلم لمَ أنا متأكّدِة؟ ذلك لأنّ بطل عالمنا، جنرال شعلتنا القرمزيّة الأعلى، قد قال ذلك."
قبض الطفل ذراعيها بشدّة وقال مشكّكا: "حقّا؟ بطل الأبطال باسل قال ذلك؟"
ربّتت الأمّ على رأسه وأجابت بينما تعتلي وجهها ابتسامة خافتة: "هل سبق أن كذبت أمّك عليك يا بنيّ؟"
هزّ الطفل رأسه واستقام ثمّ أحكم قبضتيه وقال بوجه مشرق: "إذن لن أخاف بعد الآن يا أمّي."
سقط بعد ذلك على الأرض من شدّة اهتزازها، فصرخ من الخوف وعاد ليختبئ في حضنها، فضحكت الأمّ بشكل خفيف وقالت: "حسنا، حسنا، بنيّ 'حسن' ولد شجاع، مثل باسلنا حامي عالمنا."
انضّم إليهما الأب الذي شاهد بصمت تزيّنه ابتسامة تظهر مدى اعتزازه بأسرته، لكنّه سرعان ما غمره ذلك الهاجس الذي نتج عن خفقان قلبه من الرعب، فوجد أنّ الأمّ تشاركه نفس الشعور بعدما رأى نظرتها الحزينة التي أخفتها عن صغيرهما.
كان حال الناس لا يختلف كثيرا عن هاته العائلة الصغيرة؛ ففي مكان آخر، وقف طفل يبدو في السابعة من عمره بينما يرتعد بسبب الأرض الهزّازة وبسبب الخوف: "لا تقلقي يا والدتي، أنا، 'عماد'، أعدك أن أحميك مهما حدث، فأنا شخص سيعمل تحت خدمة بطل البحر القرمزيّ مباشرة عندما يكبر كما فعل والدي عسى أن ترقد روحه في سلام."
كان صوته يهتزّ بشكل متناسق مع اهتزاز الأرض، لكنّ كلماته كانت شجاعة ومليئة بالفخر. نظرت إليه أمّه وابتسمت قبل أن تردّ: "نعم، أعلم ذلك يا عزيزي، فأنت ابن أبيك بعد كلّ شيء."
دمعت إحدى عينيْ الفتى لكنّه جمع شتات نفسه وقال: "ذلك صحيح، أنا عماد بن أشرف، عاهدت أبي أن أحميك يا والدتي، مهما كانت الظروف. لن أترك أيّ شيء يحدث لك ما حييت."
نظرت الأمّ بحنان إلى طفلها الذي يبذل ما في استطاعته ثمّ فتحت ذراعيها على مصراعيهما وقالت: "كلّ ما أريده منك هو ألّا تسبقني كما فعل أبوك وأن تبقى معي في هذه الدنيا. تعالَ يا عزيزي، أمّك تشعر بالوحدة، أيمكنك أن تمنحها عناقا؟"
ابتسم عماد ورمى نفسه في حضن والدته، فزال أحد السببين اللذين كانا يجعلانه يرتعد.
استعدّ السحرة في مواقعهم بالمدن الكبرى بينما قاد آخرون الناس وطمأنوهم وحرصوا على عدم اندلاع الفوضى. كان العالم الواهن حاليا موحّدا قلبا وجسدا.
ظلّت القلوب مرتعدة ولم يعلم أحد متى سينتهي هذا الأمر، فمرّ اليوم الأوّل على ذلك الحال ولم يصب الأذى أحدا.
وفي اليوم الثاني، انفجرت البراكين المجاورة وسمع الناس الوحوش السحريّة في المناطق السحريّة تصرخ وتزمجر بينما تبعث نيّات قتلها عبر العالم كلّه.
كانت هناك مدن جاورتها براكين أصبحت هدفا للمقذوفات البركانيّة والحمم الجاريّة والمتفجرات التي زحفت تحت الأراضي.
صرخ حرّاس تلك المدن وكانت ردود أفعالهم متشابهة، إذ استعدّوا تماما لمواجهة خطر الطبيعة الذي تشكلّ في صورة صخور بركانيّة تسقط من السماء كالنيازك.
*انفجار*
ولكن، قبل أن تبلغهم تلك النيازك، توقّفت فجأة في السماء، أو يجب القول اصطدمت بشيء ما لصحّة القول، فعبس السحرة وراقبوا بحذر ما يحدث.
"ما الذي يحدث بالضبط؟"
تساءل أحد جنرالات إمبراطوريّة الرياح العاتيّة بينما يشاهد تلك القبّة المضيئة التي ظهرت فجأة فوق مدينتهم وغطّتها بأكملها.
كان الحال نفسه مع باقي الجنرالات وأتباعهم في مختلف المدن التي تجابه نفس المشكلة. لم يستطيعوا أن يصدّقوا أنّه يوجد حاجز سحريّ-أثريّ حول مدنهم بهذا الشكل.
لم يسبق لأحد منهم أن رأى شيئا كهذا. كان الحاجز السحريّ-الأثريّ يمتدّ عبر الحائط المحيط بكلّ مدينة نحو المساء مكوّنا بذلك قبّة من الطاقة السحريّة التي تزيّنت برسومات بدت كدوائر عديدة بخطوط تقطعها بأنماط متنوّعة. شكّلت الدوائر في النهاية دائرة كبيرة باتّصال بعضها مع بعض.
بلع الجنرالات أرياقهم في شتّى الأنحاء ورفعوا أسلحتهم الأثريّة نحو الأعلى وصرخوا كما لو أنّهم يتشاركون نفس الأفكار بالرغم من المسافة بينهم: [يحيـــا بـــاسل!]
تبعهم بعدئذ كلّ الجنود: [يحيـــا بـــاسل!]
تردّدت تلك الجملة على مسامع الجميع فعلموا أخيرا ما كان يفعله باسل في تلك الشهور حينما كان يبني مصفوفاتٍ كما أعلن الإمبراطور كريمزون أكاغي.
صعدت القشعريرة مع أجساد الناس الذين شهدوا ما حدث قبل قليل، وارتفع ضغط دمهم من شدّة الحماس، وصرخوا: [يحيـــا بـــاسل!]
كانت تلك الجملة كتعويذة سحريّة تغذّي أرواحهم؛ ففكرة دعم باسل لهم هكذا جعلت قلوبهم المرتعدة تضخّ الدم إلى شرايينهم بسرعة أكبر ولكن هذه المرّة بسبب سعادتهم، فلم يسعهم سوى أن يهتفوا باسمه، باسمه فقط بدون أيّ لقب.
استطاعت تلك الحواجز حمايتهم من المتفجّرات التي زحفت تحت الأرض، فذلك الحاجز كان يحمي الملجأ بينما يغطّيها ككرة نصفها على سطح الأرض والنصف الآخر تحت الأرض.
لم تتوقّف البراكين حتّى بعد مرور يوم كامل واستمرّت في الهيجان، ولكنّ المصفوفات لم تتأثّر بذلك ولم تضعف مهما مرّ من الوقت، كما لو أنّ مصدر طاقتها غير محدود.
وبحلول اليوم الثالث، هاجت البحار وارتفعت الأمواج وانطلقت لتغزو اليابسة من كلّ الجهات. لم يكن هناك ساحل إلّا وسُحِق سحقا.
اختفت الأراضي شيئا فشيئا وغزت المياه العالم، فعاد الرعب ليسكن قلوب الناس مرّة أخرى.
"هل يمكن أنّ هذه نهاية العالم في الواقع؟"
كان العديد من الأشخاص الذين فكّروا بذلك بعدما مرّوا باليومين الماضيين وما زالوا يختبرون حاليا ما لم يختبره أحد قطّ في تاريخ عالمهم.
كانت هناك فيضانات بأمواج بحر هائلة سحقت العديد من المدن المهجورة وحولّتها إلى أنقاض في غضون ثوان، ولكن حتّى بعدما ازدادت شدّة تلك الأمواج مع الوقت إلّا أنّها لم تستطِع اختراق مصفوفات باسل التي أحاطت الملاجئ.
مرّت الأمواج عبر تلك المدن بعدما محقت المناطق المحيطة بها تماما، فتغيّرت تضاريس العديد من المناطق، إذ صارت بعضُ الجبال سهولا، ووديانٌ أنهارًا، وغاباتٌ أراضٍ مجرّدةً.
حلّ اليوم الرابع فتساقطت الصواعق كالمطر الغزير من السماء وأحرقت بعضا من الغابات التي نجت من الأضرار السابقة، وخلّفت وراءها صدوعا على الأرض في جميع أنحاء العالم. كانت تلك الصدوع في الواقع كوديان سحيقة عند النظر إليها عن كثب، ممّا أوحى إلى قوّة تلك الصاعقات.
وبدءا من اليوم الخامس حتّى نهاية اليوم السابع، تزلزل العالم وهاجت البراكين وفاضت المحيطات وتساقطت الصاعقات بدون توقّف فجعل ذلك الناس تتيقّن من أنّ هذه نهاية عالمهم حقّا. لم يسع بعضهم تحمّل الرعب الذي يحيط بهم خارج الملاجئ التي حمتهم من كلّ تلك المصائب وفقدوا الوعي.
بلع جنرالٌ ريقه في أحد الملاجئ وحدّق إلى الحاجز الذي يحيط بالمدينة وقال: "فقط ما الذي كان ليحدث لو لم يشيّد بطل البحر القرمزيّ هذه الملاجئ؟ هل كان لينجو سحرة القسم الأوّل من مستويات الربط حتّى؟ كان هذا ليسبّب إبادة جماعيّة لكلّ شخص تحت المستوى الثامن على الأقلّ، وأعني بالإبادة أي بدون مقاومة، لأنّه حتّى لو قاوم ذلك سحرةُ المستوى الثامن فما فوق فلا أظنّ أنّهم سينجون أيضا."
كان حال باقي الجنرالات في مختلف المدن مثله تماما، إذ شهدوا قوّة ورعب التحوّل الروحيّ لعالمهم.
كان هناك بعض الجنود الذين راودتهم بعض الأسئلة حول ما سيحصل تاليا: "يا أيّها الجنرال آو، هل كان يعلم الجنرال الأعلى يا ترى ما سيحدث عند التحوّل الروحيّ؟ أعني هذه الكوارث الطبيعيّة."
كان المخاطَب هو رئيس عائلة آو، آو لان من إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة، والذي حدّق إلى تابعه ثمّ نظر إلى الحاجز الذي يحيط بالمدينة مرّة أخرى: "هل تظنّ أنّه لو كان يعلم سيخفيه عنّا؟"
أحسّ الجنديّ بالهلع بما أنّ الجنرال قد أبدى تعبيرا سيّئا وتكلّم بنبرة صوت مهدِّدة، فسارع الجنديّ بالاعتذار: "اعتذاراتي يا سيّدي، لقد كان هذا التابع جاهلا."
ظلّ الجنرال آو ينظر إلى الحاجز باهتمام شديد ودهشة كبيرة، قبل أن يحدّق إلى تابعه ويجيب: "حتّى الجنرال الأعلى لا يعلم؛ فعلى ما يبدو، تحوّل العوالم الروحيّ يختلف من عالم إلى آخر والظواهر المصاحبة لذلك ليست ثابتة، ولكنّنا نعلم على الأقلّ أنّ مثل هذه الكوارث الطبيعيّة كانت أكيدة بالرغم من أنّنا لم نعلم عن الترتيب الذي ستحدث عليه أو الشكل الذي ستتّخذه."
تصنّت التابع رفقة زملائه بصمت ونظروا إلى الحاجز أيضا بتعجّب.
انتهت ليلة اليوم السابع وحلّ فجر اليوم الثامن، فرأوا الهواء يتموّج ويصدر اهتزازات غريبة أينما حطّت أنظارهم، فلاحظوا بعض التشوّهات الغريبة في الفضاء كالضبابيّة التي تراها العين تحيط بالنيران.
كانت تلك الضبابيّة في الهواء تحدث في العديد من الأماكن، وبدت مخيفة كونها جعلت الناس يحسّون بالهواء ثقيلا، إذ صارت في الواقع جاذبيّة العالم أقوى مع مرور الوقت كما لو أنّها تحاول سحق كلّ شيء.
لم يعلم أحد عمّا كان يحدث للوحوش السحريّة نظرا لكونهم محتجزين في الملاجئ، وكون المناطق المحظورة كلّها معزولة عن العالم تماما بسبب التغيّر المفاجئ في حواجز الحماية السماويّة.
كانت هناك حواجز حماية سماويّة تتغيّر تدريجيّا مع مرور الوقت إذ كانت طاقتها السحريّة تصير أنقى أكثر فأكثر بينما تبعث طاقاتها إلى أعماق المناطق المحظورة لتتخلّل التربة والأشجار والأحجار.
كلّ شيء في تلك المناطق المحظورة صار يتوهّج بطاقة تبدو أقوى وأنقى بكثير من الطاقة السحريّة، تلك كانت طاقة روح العالم الواهن.
فلو كانت الطاقة السحريّة هي طاقة الحياة التي تتمثّل في الجسد والدم والعقل، فالطاقة الروحيّة هي الطاقة التي تنبع من الروح نفسها.
مثلما يصير الساحرُ ساحرًا روحيًّا والوحوشُ السحريّةُ وحوشًا روحيّةً، كذلك العوالم السحريّة تغدو عوالمَ روحيّةً؛ كانت هذه إحدى قوانين الوجود.
والآن عندما بلغ العالم الواهن هذه المرحلة، لم يكن هناك عودة. وطيلة الأسبوع القادم، استمرّت تلك الظواهر بالحدوث دون توقّف حتّى حان الوقت الذي تفكّكت فيه المصفوفات التي صنعها باسل واحدة تلو الأخرى.
***
من تأليف Yukio HTM
السلام عليكم،
ها هي ذي الرواية تعود من جديد لإكمال هذا الأرك الأخير من المجلّد الأوّل.
أعتذر عن جعلكم تنتظرون كلّ هذه المدّة، وكالعادة...
أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائيّة أو نحويّة.
إلى اللّقاء في الفصل القادم.