(منظور الراوي)


يقال.. أن الذين عاشوا في ظروف مريحة يمتلكون قيما و طريقة تفكير مختلفة تماما عن الذين عاشوا في ظروف صعبة.

و تلك المقولة قد تاكدت اليوم امامه..

فشهاب كان دوما ابن العائلة الثرية المدلل الذي لا يتعب نفسه بشيء، لم يتعب نفسه بالتفكير يوما بحال الذين في الاراضي الصفراء و الحمراء كانت اجابته لضميره دوما واحدة.

ما شأني بهم؟

قال انه دخل القطاع الطبي ليصبح طبيب عظيم و ينقذ البشرية، لكن اليوم اكتشف بانه لا يستحق لقب طبيب ابداً.

لقد ظن بان اسوا ما قد يتعرض له الانسان حو حادث مروري لكنه اليوم اكتشف ان مجال تفكيره كان ضيقاً بحق.

فها هو الان يقف امام الحقيقة المجردة وجها لوجه اطفال بأطراف مفقودة نساء بوجوه مشوهة رجال باعين مقتلعة رجل كبير فقد نصفه الايمن تماماً ينزف الدماء بشكل مريع و يردد ايات قرآنية لتهدئة المه.

هل كان يشبه المكان بملحمة دانتي؟ لكم كان عقله صغيراً و لكم كان تصور دانتي ذاك ضعيفا.

فما يقف امامه شهاب الان.. اسوء من الجحيم نفسه

على الاقل حين ترى اهل الجحيم تعرف بان خطاياهم من قادتهم الى هناك.. و لكن ماذا عن هؤلاء الابرياء؟

كان يلقب بملاك الرحمة لانه طبيب... يا السخرية اي طبيب هذا الذي يترك هؤلاء البشر للموت، بحجة انه لا شان لي بهم؟!

في تلك اللحظة فقط عرف مدى سذاجته، في تلك اللحظة مقت الحرب حقاً بعد ان كان لا يلقي لها بالا ولا يهتم طالما انه بخير، لكم مقتل الحرب حينها تلك العقيم التي لا تجلب سوى الالم الخوف و الحسرة و. لا تترك سوى الموت و رائحة الدماء الثقيلة .

في تلك اللحظة انسابت دموعه تباعاً بصمت، تسائل عن والدته عن معاذ، كيف عاش كل منهما بهذه البيئة.

لكم شعر بحقارة نفسه و وضاعتها..

- أول مرة لك صحيح؟. سالته ذات الخصلات الملتهبة بهدوء بعد ان لاحظت تجمده عكس والدته و معاذ اللذان اخذا بالعمل على تضميد بعض الجراح و الحروق على اجساد بعض الأطفال.

- كيف يمكن ان يعيش احدهم في هكذا مكان؟ كيف لا يساعدهم احد؟. كانت اسئلته تلك موجهة لنفسه و رغم ان اجابتها المرة كانت قول ضميره "لان امثالك قالوا أن هذا ليس من شأننا" ظل شهاب يردد بصوت خافت

- هذا غير معقول.

- هذا هو الواقع. اخبرته ببرود و تسائل لما تستمر في فتح حوار معه.. ان كانت تحاول مثلا تخفيف وطئ الصدمه عنه فانها لا تساعد بل تزيد الطين بلة

- أستمع.. بدل ان تقف و تطيل التحديق بتعابير الصحوة تلك التي على وجهك ساعد في انقاذ الناجين علينا ان ننقلهم الى منطقة امنة بسرعة. اخبرته و ارتاح جزء صغير منه لانها عادت لعادتها الباردة.

"ذلك افضل القزمة التي تحاول ان تكون لطيفة تقتلني" فكر شهاب مع نفسه

تقدم شهاب ليقترب من الفتاة المحجبة التي لم يتعرف عليها بعد و التي كانت تقوم بعلاج جرح ينزف على راس طفلة ما في حين جلس طفل اخر بقربها بملامح جليدية يمسك بيدها و يردد لها انه لا يؤلم..

تكهن شهاب بانه شقيقها الاكبر.. او ربما صديقها فلا يوجد اي شبه بينهما.

تعجب من قدرة تحمل ذلك الطفل فساقه اليمنى ممزقة تماماً و لا بد من بدرها و لكن رغم ذلك كان لا يبدي اي علامة تدل على الالم، كل ذلك لكي يشجع شقيقته!.

- ساعتني بساقه. اخبر شهاب الفتاة المحجبة التي اومئت له ثم عادت لإكمال عملها بخياطة جرح الصغيرة

- انت طبيبة؟. سال شهاب بينما يخرج الأدوات الطبية، مهارة الفتاة في الخياطة اثارة اعجابه.

- لا اخذت بعض الدورات، انت طبيب في القطاع الفا صحيح؟.

- نعم أسمي شهاب.

- أعلم كنت تصرخ به امام وجه القائدة.

- ذلك لانها مستفزة... على كل ماذا عنك؟.

- زينب هادي. اخبرته و هي ما تزال منشغلة بجرح الصغيرة و اومأ لها بابتسامة بسيطة بينما يرتدي قفازاته.

- ما اسمك يا صغير؟. دنى شهاب من الطفل ذو الخصلات الفحمية ليرفع الاخير عينيه من على شقيقته و يجيب بنبرة قوية

- جهاد. كانت تلك النبرة و تلك النيران المشتعلة في عيني الطفل الذي امامه مذهلة بالنسبة لشهاب فما هذا الطفل الذي لم تكسر الحرب و ويلاتها روحه بعد

نظرة الحزم تلك في عينيه كانت كفيلة بتسارع نبضات قلب شهاب فجأة

- سررت بمعرفتك انا شهاب، هل لك ان تخبرني ألا تؤلمك؟. سال شهاب الطفل و هو يعاين ساقه بينما حرك الصغير راسه نافيا بشكل قاطع.

- لا لا يؤلم ابداً.

- ياله من جسد قوي ذلك الذي تملكه. اخبره شهاب و هو يفكر في الطريقة المثلى لبتر ساق الصغير بالتاكيد لا اطراف صناعية هنا.

- ليست القوة في الجسد.. بل في روحي.. ساقاتل الاعداء و اجل السلام لهذه الأرض.. اريد ان اغير حال هذه البلاد، لذلك لن اتالم مطلقا.

- همم تريد جلب السلام بالقتال؟. كان جزء من شهاب يسخر من حلم ذلك الصغير، فكيف له ان يفكر حتى في تغيير العالم و هو على وشك فقدان ساقه، هو فقط لم يرى العالم بعد لذلك يحلم بمثل تلك الأحلام الطفولية

- و هل ساجلبه مثلا بالجلوس و انتظار الموت؟ هل تظن أن جميع من يخوض الحروب في هذا العالم يريد القتال للمتعة؟. اجاب الصغير بكل شجاعة و بجدية مطلقة اصابت شهاب بالذهول و الجمت لسانه ليجبر على الصمت بعدها و الاكتفاء بالهمهمة بينما يمارس عمله و من زاوية عينيه لمح ابتسامة تلك المحجبة التي جاورته، زينب.

- لديه روح نادرة. اخبرته بهدوء و لم ينتبه الصغيران لمحاورتهما الجانبية لما يمران به من الام فظيعة

- انه لا يعرف شيئاً. اخبرها شهاب مصرا على رايه الذي لا يعرف له اساساً او منطقا.

- اخبرني هل تملك حلما؟. سالته فجأة مشتته كل افكاره حلم؟

كلمة لم يعرف معناها سوى من كتب اللغة، لم يكن كاقرانه يوما.. شهاب كان دوماً يكتفي بما لديه و يبحث عن الافضل لمستقبله هو و عائلته خصوصاً بعد اختفاء والده الذي جعله يحمل كل شيء على عاتقه منذ الصغر..

لم تكن لديه مادة مفضلة في المدرسة و لم تكن لديه لعبة او رياضة مفضلة لم يحب يوما التجمعات او الشهرة و لم يعجب يوما بأحدهم و لم يرد يوما اصدقا..

لم يخبر احدهم يوما باي سر من اسراره او بما يفكر لقد كان يكتفي بكتابة ما لديه على ورقة ما و من ثم احراقها تماماً بل و نثر رمادها.. لا لشيء سوى انه لا يثق بأحد، لا شيء كان مميزاً في حياتة لم يحب اي لون معين و لا وجبة معينة و لم يطلب يوما شيء ما من والديه... كان هادئاً للغاية لدرجة كانت تخيف والديه احيانا كان يدعوه والده بالشيطان.

هنا في تلك اللحظة التي لفظ فيها والده مرمى شيطان ذهب شهاب بعدها للبحث عن معنى تلك الكلمة في القاموس كما العادة عندها ادرك اختلافه عن البقية، عندما قرا و بحث عن الشيطان وجد انه مخلوق خالف البقية، مخالفته تلك نبعت من شره مخالفته تلك نشرت الشرور..

عندها ادرك ان الإنسان بطبعه عدو لما يجهل عدو ما يختلف عنه، لذلك قرر ان يساير البقية و ان يماثلهم ان يفعل كما يفعلون لكي لا ينادوه بالشيطان، لكي لا ياتي يوم تناديه والدته بالشيطان، لكي يمسح والده على راسه عند عودته و يخبره بانه كان مخطئ و انه ليس شيطان.

لكن والده لم يعد بعد تلك الليلة... و هكذا ظلت كلمات والده الاخيرة اليه هي " شيطان ".

{لقد قلد البقية لدرجة ان اصبح يماثلهم....
فهل سيعيد اظهار اختلافه مجدداً؟ }


إنتهى



2017/07/17 · 357 مشاهدة · 1147 كلمة
Jska12
نادي الروايات - 2024