سطعت آخر خيوط للشمس على وجهه المتعب وهو يحدق نحو الحديقة بالخارج.
كان ملامح وجه عميقة في تفكير ليقاطعه صوت الخادم العجوز الواقف على الطرف الآخر من المكتب
- سيد جايدن هل حدث شيء ما بمنزل البارونيت ؟ منذ عودتنا وأنت شارد الذهن حتى أنك لم ترغب في تناول شاي الظهيرة مع السيدة على غير عادتك "
لم ينفي جايدن تساؤلات سيلفاتور، لقد علم أن خادمه قلق بشأنه لذلك أجاب بعد برهة
- حدث شيء بالفعل ، قال أنه يريد تقديم شقيقته لي "
جعد الخادم جبينه في دهشة بسيطة
- الآنسة سيلفيا ؟ هل استخدمها كشرط لأجل الاتفاق ؟ "
نفى جايدن
- لا لم يقل ذلك ، لكني أخشى انه يحيك شيئا ما في الخفاء "
صمت الخادم طويلا قبل أن يجيب
- ربما يكون ذلك للأفضل ، يقال أن البارونيت كاول ورث السلالة الكاملة للسلف الأول " زينوث" وهو موهوب في سن صغيرة، لن يكون إقامة تحالف بين العائلتين بالشيء السيء "
قطب جايدن حاجبيه
- هل تظن ذلك ؟ في الحقيقة رغم كونه صديقي إلا أنني لا أستطيع قراءة نواياه ،
مثلا حادثة الإشاعات حول آيس .."
سأل سيلفاتور
- هل أدرك البارونيت أن السيد الصغير كلاود ليس هو نفسه الحقيقي ؟"
- لا أظن ذلك ، أخبرته أنه ٱختطف في الحادث الذي وقع بطريقنا لمملكة زينوث وعثرنا عليه في وكر مهربي البشر ،
كان من حسن حظنا أن اختفاء غابة ديوتا وقعت في مستعمرة " سيڨ" لذلك مهما حاول البحث فلن يجد ما أقوله مشبوها "
- اذن هل حقا ليس هو من نشر الاشاعات ؟"
أومأ جايدن نحو خادمه وقد صار تعبيره جادا
- أخشى وجود جاسوس بين رجالنا ! "
اعتذر "سيلفاتور" بسرعة قائلا
- آسف أيها السيد الشاب كنت أنا من اختار رجالنا وسيكون خطئي إن كان هناك خائن بينهم"
- لا بأس "سيلفاتور" لقد قمت بعمل رائع حتى الآن إنه ليس ذنبك ، إن كان هناك جاسوس فكل ما نحتاجه هو غربلة فريقنا مجددا"
قالها بابتسامة ليست ابتسامة وكأنه شيء عادي .
حدقت العينان الزرقاوان في الخارج بحيرة
- عالم النبلاء هو رقعة شطرنج كبيرة ، أن تخسر احدى القطع لأجل حماية الملك ! إنه قاس لكنه ضروري ! ،
على الملك أن يدرك فقط كيفية الاستفادة من موت الجندي والحرص على أن لا يقع في أفخاخ الخصم مجددا "
صمت متابعا
-" سيلفاتور" هل تعتقد أن ما قلته خاطئ ؟"
رفع الخادم قبضة يده نحو صدره قائلا
- هذا الفارس قد أقسم أن يكون حامي عائلة بريتيا ثم أخذك كسيد ، لذلك من واجبي تنفيذ عهدي حتى لو عنى ذلك كوني ورجالي قطع شطرنج"
ضحك الشاب بحزن متمتما
- نعم إنه كذلك بالفعل "
°°°°°°°°
خرج من باب غرفة الدراسة منهكا وكأن روحه تغادر جسده بعد أن انهى واجباته التي تركتها له كلارا اخيرا.
رفع يده يرتب شعره الفضي الفوضوي مبعدا خصلاته التي غطت عيناه الزرقاوين.
- علي قصه قريبا ! "
تمتم بتذمر وكأنه أضاف شيئا متعبا آخر لمعاناته بالفعل.
- من الرائع أن هذا هو آخر درس مع كلارا من الجيد عودة سيلفاتور .
لم يكن مشتاقا للخادم العجوز بقدر ما هو الآن .
توجه نحو غرفته وقفز على سريره في سعادة يمسخ مخاطه.
كان قد مر يومان على عودتهم من الغابة وقد شفي تقريبا جراء جرعات الشفاء كلارا.
مما يعلمه ينتمي سيد الجرعات و المصفوفات بالإضافة لصانع الدروع لفئة متحكمي الأثير كذلك .
سَحَره هذا وتساءل عما إذا كان من الأفضل أن يختار مهنة غير قتالية ايضا.
- حسنا ليس هناك فائدة من التخيلات ، انه الوقت أخيرا وسأختار بعد ذلك "
نهض من مكانه مبتسما يحدق في نفسه بالمرآة بعيدا .
لقد استقرت هالته أخيرا ويستطيع خوض اختبار الإيقاض في اي وقت .
-سأستفيد من حقيقة أن آيس أكبر مني بعامين وأخوض الاختبار مقدما .
كان عمره الآن ثامني سنوات وبضعة أشهر ولا يزال بعيدا عن بلوغه العاشرة في حين أن آيس قد بلغ العاشرة منذ فترة طويلة،
لكن لأنه صُنف كشخص بمرض كإضطراب الأثير فقد مُنع من اجراء الاختبار لأنه أشبه بالانتحار .
خرج من الغرفة بعد أن سمع خادمة تناديه لتناول العشاء .
كان الخادمة معروفة باسم " تيسا" وكانت مع كلارا وسيلفاتور الخدم الوحيدين بهذا المنزل ، لكن عكس الآخرين لم تكن تعلم بأنه ليس آيس الحقيقي.
لقد بكت كثيرا عندما شاهدته يعود سالما بعد كل هذا الوقت الطويل.
- تيسا ! أين ٱمي لم أرها اليوم ؟"
ابتسمت الخادمة ذات الشعر البني الطويل المجعد الملفوف بعناية لتجيب متحمسة
- قالت السيدة أن عليها أن تذهب للمدينة القريبة لشراء ما تحتاجه من أجل حفل عودة السيد " دايان"
- مِن الآن ؟"
اومأت الفتاة بعناية
- لقد مر وقت طويل منذ أن كانت السيدة بهذا النشاط ، لا تعلم كم سُعدت برؤيتها هكذا ، عادة كانت كئيبة جدا بعد وقوع الحادث من الجيد أنها بخير الآن "
لفتت الكلمة انتباه ثيودور ليسأل بشكل غير مباشر
- تيسا قبل سنة ونصف كيف كان حالة ٱمي والبقية بعد ما جرى ؟"
- اوووه أيها السيد الشاب أنت لا تعرف كم كان الوضع مريعا بعد وقوعك من ذاك الارتفاع ،
ظل السيد الأصغر "دايان" في صدمة لمدة عام تقريبا ورفض منذ ذلك الحين أن يناديه أحد باسمه الثاني ، حتى أنه حطم جميع مرايا المنزل لأن رؤية نفسه ذكرته بك ،
السيد جايدن أغلق على نفسه بالمكتب ولم يتحدث مع أحد حتى انهارت السيدة وٱجبر على البقاء معها لأجل مواساتها ،
دعنى لا نتحدث عن السيدة اكثر كلما تذكرت وضعها آلمني قلبي .."
- وقعت من ارتفاع عال ؟ "شهق ثيودور يسأل بصدمة.
- ٱوووم " أمسكت الخادمة فمها بيديها لتسرع في الاعتذار متأسفة
- آسفة أيها السيد الصغير كان علي عدم تذكيرك !! اخبرني السيد جايدن بعدم فتح هذا الوضوع معك أبدا "
اعتذرت مجددا بارتباك لتسرع في الهرب نحو المطبخ
شعر ثيودور بالارتباك فلما قد يخفي جايدن حقيقة موت آيس عنه.
عبس في تساؤل
- هل وقع من جبل أو وحش ما ؟ لكن إذا كان كذلك فلماذا لم يجدوا جثته ؟ "
لقد فهم من كلام تيسا أنها قد شهدت الحادثة فكيف لن تعرف لو عثروا على جثة الصبي ،
كما أن ملف آيس في مستندات الحكومة دُوِّن عليه أنه مفقود وليس ميتا ، لكن من تصرفات جايدن والبقية فهم متأكدون من موته ! لماذا ؟!"
دارت في ذهنه عدة تساؤلات حتى وصل مقعده على طاولة العشاء
كان جايدن جالسا في مكانه برأس الطاولة بالفعل في حين أن مقعد "هيلين" كان فارغا ولا شك انها لم تعد بعد مع كلارا .
- ٱسعدت مساءا "
حيا جايدن بأدب ليومأ له الأخير كرد .
جلس ثيودور رافعا سكينه وشوكته يقطع اللحم ببطئ .
-لقد تحسنت آدابك "
مدحه جايدن بصدق وهو يرى التغيير الكبير به بعد يومين.
كادت دموع ثيودور تنزل ،فكيف لا يجبر نفسه على اتباع الآداب بعد أن هددته كلارا صباحا بأنها ستعيد تدريسه المنهاج من البداية بنفسها لو لم تجد تقدما بعد عودتها.
كان في البداية يحاول أخذ وتيرة بطيئة للتعود على ما يتم تدريسه كأي طفل طبيعي لم يتلقا تعليما من قبل، لكنها جاءت لتقلب موازينه كاملة في يومان .
-كان هذا بفضل تعاليم " سيلفاتور" !
كبت جايدن ضحكه وهو يشاهد الطفل يحاول مدح خادمه كرشوة من أجل أن يعيده لتدريسه بدل كلارا
- "سيلفاتور " سمعت هذا ، أضن أنها أول مرة تتلقى مدحا لٱسلوبك بعد كل هذه السنوات !
ابتسم الخادم خلفه موافقا بصمت .
كان مسؤولا عن تعليم الجيل الأصغر لمنزل بريتيا وكان يعلم أن جميع أفراد العائلة كرهوا دروسه وكانوا دائمي الهرب منها حتى جايدن عندما كان أصغر سنا !
غير الشاب الموضوع وهو ينظر نحو ثيودور بفضول
- سمعت من " تيسا" أنك ضعت بالغابة قبل يومين مع أحد سكان البلدة الجدد ، لم أعتقد أنك ستتنمر على أحدهم في يومه الثاني هنا ! "
احمر وجه ثيودور في احراج بسبب المشكلة التي سببها له كذب ميلو.
- في الواقع لقد كان كل هذا بسبب الخريطة الزائفة التي اعطاني اياها " بلوصن"
شد قبضة يده حتى ابيضت وهو يتذكر صديقه المقرب . لم يشاهده في القرية قبل يومين عندما عاد ولم تسمح له كلارا بالخروج لذلك لم يستطع استجوابه !
- خريطة ؟ من "بلوصن" ؟
اومأ ثيودور وقرر إخبار جايدن عن قصر التنين مع تغييره بعض الحقائق ، كان قد أخذ كرة " إيشن" بعيدا لذلك لا يجب ان تتحرك الدمى تحت الأرض ،
بالإضافة أنه على الأغلب قد يخبر ميلو جده بالفعل عما حدث ، لقد شك في أنه سيستطيع الحفاظ على فمه الثرثار قريبا.
اسقط سكينه وشوكته على المائدة ونظر نحو جايدن بجدية ليستقيم نظر الأخير بعد أن شعر بذلك .
- في الحقيقة هناك ما ٱريد اخبارك عنه بشأن ضياعنا ، أيضا ٱريد طلب شيء ما منك "
رفع جايدن حاجبه في استغراب لكنه لم يسأل اكثر بل تابع عشاءه بصمت.
°°°°°°°
حل ظلام الليل اخيرا ليبتلع القصر وسكانه ، كانت هيلين تستريح في غرفتها وقد نامت بسرعة لأنها منهكة في حين أن اضواء غرفة واحدة فقط كانت مشتعلة وكانت هذه غرفة دراسة جايدن .
شعر ثيودور بالديجافو وهو يحدق في الشاب الذي يجلس على الكرسي خلف المكتب ينظر نحوه منتظرا منه الكلام ،
لم يفهم كيف لشاب في الخامسة او السادسة عشر أن يُظهر هيبة سيد منزل نبيل في عمر كهذا ، لم تحتوي الملامح التي تنظر نحوه على أي اتصال بتهور فترة المراهقة .
بعد صمت طويل عندما انتهى من رواية مغامرته هو وميلو في القصر تحت الأرض تكلم الشاب أخيرا .
- هل يمكنني رؤية الخريطة ؟ "
اومأ ثيودور و سحبها من جيبه مقدما اياها له .
أمسك بها جايدن ينظر نحوها باهتمام قبل أن يسأل
- قلت أن " بلوصن" قدمها لك قائلا انها تخص والده ؟
- نعم .."
ضرب الشاب المكتب بيده يكسر صمت الليل الهادئ ليجفل ثيودور على وقع صوته الغاضب
- كيف يجرؤ قروي على خداع فرد من عائلة بريتيا !"
كادت أصابعه الاخرى التي تمسك الورقة أن تمزق من خلالها .
توقف متراجعا عن سلوكه الصاخب بعد أن سمع تذكير خادمه الواقف خلفه
- السيد الشاب اهدأ ...لقد أخفت السيد الأصغر .."
زفر جايدن الهواء يبعد الغضب عن عينيه
- آسف ! كان خطئي ان أنفعل هكذا ..!"
أومأ ثيودور في فهم وهو يبتلع سرا ، كادت الهالة الآن أن تقتله ! تساءل في اي رتبة يجب أن يكون جايدن حقا !
-انها بالتأكيد ليست رتبة الشمس الأولى ! "
رغم انه لم يلتقي إلا بقليل من الأشخاص الاقوياء للآن لكنه علم أن جايدن يجب ان يكون موهوبا جدا ليصل لقوة كهذه بهذا العمر .
لقد سبق وأخبره أنهم وجدوا القصر مصادفة بعد أن اتبعوا الخريطة وأن ميلو قد كان محظوظا لرميه حجرا في مخلب التنين مما فتح لهم الممر السري الحقيقي للقصر،
وقد دخلوا من هناك ووصلو البركة لرؤية التابوت الحجري وغادروا بعدها من نفس الممر ،
كان سبب تبللهم بالكامل كما قال "ميلو" لأنهم وقعوا في نهر بعدما ضاعوا في طريق العودة.
ظل يراجع الحبكة التي نسجها في ذهنه خوفا من أن يفوت أي هفوة من شأنها كشف كذبه .
صر جايدن على أسنانه محاولا كبت نفسه من الانفجار مجددا قائلا
- لاشك أن من أعطاك الخريطة يعلم عن القصر جيدا ! قلت أن الباب الكبير فخ صحيح ؟
كان هناك بالفعل حادثة اختفاء غامضة للقرويين قبل ستة أشهر ورجح الجميع أنهم لقو حتفهم بالجبل .
من كان يظن أن هناك قصة كهذه وراء هذا"
شخر ساخرا في آخر كلامه
- لاشك انهم ارسلوك هناك كتضحية جديدة لمعرفة ما وراء الباب ، كانوا يتأكدون إذا ما انتهت الفخاخ ويمكنهم العبور "
فتحت عيون ثيودور على مصرعيها وارتجف وهو يفكر بأن صديقه كان يخطط حقا للرمي به نحو فخ كهذا .
سأل مهتزا بصوته
- لكن لماذا ؟ لما قد يفعل بلوصن هذا ؟ "
لم تساعده سنواته 24 في احلامه بالقصر لكسب أي خبرات حقيقية بل المعلومات فقط، لذلك لم يستطع فهم سبب خيانة صديقه.
- همف ! على الأغلب أن الخريطة لا تعود إليه بل لأخيه !
كان الناجي الوحيد من اختفاء القرويين لأول مرة ، وكان من يقود الطريق دائما للبحث عن المفقودين وفي كثير من الأحيان يعودون بفقد شخص او شخصين !!
ادى هذا الى توقف البحث وحضر الذهاب للغابة لشهر كامل "
-اخوه ؟ الذي قلت ان له سمعة سيئة ؟ "
اومأ جايدن
-كان الفتى بالفعل سيئ الطباع لكن هذه الحادثة اكسبته شهرة واسعة بالبلدة لتصل الى ٱذناي "
- ولكن لما توقف اذن ؟ "
- ببساطة كان وقت عودت الطلاب للأكاديمية ، بدأ الفصل الدراسي قبل خمسة أشهر لذلك ٱجبر على الرحيل وإلا ستفوته موارد المدرسة، لن يبقى ليخاطر بهذا مقابل كنز غير معروف ! "
- وبلوصن ؟ " سأل بأمل أخير أن صديقه لا يعرف عن القصر وأراد مساعدته فقط .
نفى جايدن برأسه
- لا اعرف ، لكن أشك في أي نوايا حسنة قد يظمرها ، لا تنسى أن أخاه ينظر ل"دايان" كمنافس وكان يكرهه جدا ! لولا ان البارونيت "كاول" أوصى به للأكاديمية بنفسه وقرر أخذه تابعا لكنت تخلصت منه !"
جفل مجددا وهو يشاهد تلك النظرة القاسية على جايدن ، بدا أنه سيقوم بالقضاء على أي تهديد إن لمس عائلته.
- كلاود آيس دي بريتيا ! "
- نعم "! اهتز وهو يسمعه اسمه المفترض من الشاب .
- من الآن فصاعدا لن يعود لك أي علاقة مع بلوصن ، ولا حتى الاقتراب منه ! "
- لكن انا ..! "
- هذا أمر من سيد المنزل ! "
أومأ بلا حول ولا قوة مستسلما لنظرات الأخير المهددة