انقطع خيط تفكيره عندما توقفت خطواته امام باب خشبي ذو لون ترابي سميك ، حتى مع تجديده كل فترة ، لا يزال هذا القصر يبعث بجو قديم وكأن كل زاوية فيه تصرخ بعمره الطويل
دق باب غرفة الدراسة ليدفعه مفتوحا لما سمع صوتا مهذبا يتحدث معه من الطرف الآخر
-ٱدخل "
دخل يحيي الرجل الذي استقبله بابتسامة بسيطة
-صباح الخير سيد ليوبارد "
انبثقت ابتسامة دافئة من الرجل ذو الشعر الاخضر الطويل المربوط بشريطة وهو يرد التحية
-صباح الخير ايها السيد الشاب اجد انك بخير اليوم "
كانت كلمات الرجل مهذبة ومهذبة وكأن كل جزء منه يصرخ "انا شخص نبيل "، كانت كل حركاته تبدو مدروسة بدقة لكن في الوقت نفسه طبيعية وسلسلة، وكأن هذه الآداب مغروسة في عظامه ،حتى شكل نظّارته كان واضحا انه اختير بعناية ليناسب شكل وجهه .
-شكرا لسؤالك سيد ليوبارد، لقد تحسنت صحتي كثيرا اليوم "
-همم من اللطيف ان تكون شابا "
أدلى بملاحظة بسيطة في النهاية, ملمحا الى هروبه من دروسه لاجل ان يلعب في الغابة خلف القصر .
حسب كلام بيلما في خارج هذا القصر، غابة ضخمة وكانت الغابة بداخل القصر جزئا تم فصله منها، لذلك احب دائما ان يتردد على ذلك المكان لانه شعر ببعض الحرية هناك
لم يرد على ملاحظته بل تقدم وجلس في مكتبه المخصص في حين عاد ليوبارد ليمسك بكتابٍ قد وضعه سابقا ،
انتظر حتى رتب الطفل افكاره لينتشله منها بسؤال عن دروسهم الفائته
-اذا لنبدأ درسنا اليوم ، السيد ثيودور بافيليوس، هل يمكنك اخباري عن تاريخ الاتحاد ؟
-كله !؟"
-نعم " اومأ الاخير تأكيدا ليتعكر وجهه
"ثيودور بافيليوس"، كان يعلم انه لما ناداه باسمه الكامل كان يؤكد أن عدم تقديمه اجابة صحيحة ستؤدي به الى اخبار رئيس الخدم عن هروبه المتكرر من دروسه .
لحسن الحظ كان جزء التاريخ هذا من أكثر الاشياء تكرارا في كتب المكتبه لذا فقد اجاب بدقة ووضوح
-يعود إنشاء الإتحاد الى 60 الف سنة، قيل أن الدول العشر كانت في نزاع على أراضي "أمانيسيا"، إلا انهم توصلوا في النهاية لإتفاق اكتشافها معا مُذ أن شاهدوا الأخطار التي تحيط بهذا المكان. "
صمت مفكرا ليتابع
-اقترح المؤسس الأول وممثل البشر ، حاكم إمبراطورية لونا ، عقد هدنة مع بقية الاجناس ، وبعد سنوات تطور الأمر الى تشكيل جيش الاتحاد الموحد بعد حرب "الممر"
انتهى بكلماته هنا رافعا رأسه نحو معلمه آملا أنه أجاب بشكل صحيح وتام على سؤاله
إلا ان الاخير اعطى ضحكة مكتومة فقط ليوجه نظراته نحوه
-انت لم تقرأ الكتاب الذي اعطيتك اياه في المرة الاخيرة صحيح ؟"
-كتاب ! ..اي كتاب " تمتم بهذا محاولا التذكر لينتفض فجأة ويسحب درج مكتبه،
هناك شاهد كتابا محفورا عليه بحروف اللغة القديمة "اساطير القارة القديمة"
-ما هذا ؟"
كان هنالك العديد من الكتب في المكتبة ورغم أن نصف الرفوف كانت فارغة إلا أن العدد المهول للبقية لم يمنعه من التذكر بشكل صحيح .
"هذا العنوان لم يره بالتأكيد من قبل "
لقد كان متحمسا وفي نفس الوقت محرجا، لانه في اخر درس، لم يكلف نفسه عناء النظر اليه ودفعه في درج مكتبه ليخرج مسرعا نحو الغابة .
-هذا؟..ايها المعلم "
ظلت ابتسامة ليوبارد كما هي ،
لقد توقع ذلك بالفعل لكنه لا يزال مستمتعا بردة فعل الطفل المحرجة والمترقبة
-لا باس .. كان خطئي في المرة الاخيرة لانني لم اشر الى عنوانه "
-اذن ..؟
لقد فهم ما كان يحاول الطفل طرحه ليبتسم متابعا
-هل سمعت من قبل عن اسطورة القارة القديمة ؟"
-اليست هذه حكاية شعبية يرويها الشعراء في الاحتفالات عادة ؟"
اجاب بعدم ثقة وارتباك، في النهاية كانت هذه من الاشياء التي روتها له "بيلما" عن العالم الخارجي ولم يرها او يسمعها بنفسه
فهم ليوبارد أزمة سيده الصغير ليطلب غير متسرع في دفعه
-حسنا، ما الذي سمعته عنها ؟"
- مم تقول الاسطورة ان الدول العشر لم تأتي من هذا العالم ولكن عالم مختلف ،واننا كنا نعيش على ارض باسم القارة القديمة وليس في الجزر العائمة كما نحن الآن ...ايضا "
تمتم بهذا غير متأكد من صحة هذا الجزء
-في أحد الأيام سمعوا نداء أمانيسيا ،تبعوا الصوت وقرروا بناء المدن العائمة ورحلوا الى هذا العالم."
لقد شعر بالحرج وهو يروي هذا الجزء ،لم يفهم كيف أن عقل أي بالغ يستطيع تصديق ما قاله .
كانت "أمانيسيا " هي اسم القارة التي تطير فوقها المدن العائمة حاليا ، كانت قارة واسعة بشكل لم تُعرف حدوده حتى الآن .
مُغطاة بضباب الأثير على مدار العام ، حاول جيش الاتحاد اكتشافها عدة مرات ولم ينجحوا حتى في تجاوز المنتصف، على الاقل هذا ما يعرفه !
كانت أسباب عدم اكتشافها اكثر مما يظهر على السطح ،
من بينها شيء قرأه في إحدى الكتب القديمة واصفة قارة امانيسيا بأنها عبارة عن عدة جزر منفصلة سُميت فيما بعد "بشظايا القارة "،
تدور هذه القارة حول نفسها في حين ان اماكن الجزر فيها تتغير بشكل عشوائي بطريقة سحرية ،
كان هذا احد الاسباب التي أدت لتشكيل الاتحاد ،مذ أن اغلب الجيوش التي ٱرسلت تختفي بشكل غير منطقي كل مرة .
بالطبع لقد وجدوا حلا لذلك بعد مرور كل هذا الوقت الطويل على كل هذه التضحيات و..
-السيد الصغير!! "
خرج من افكاره على وقع ضحك ليوبارد
-لست واثقة من أين سمعت الاسطورة لكن خيال المؤلف رائع بالفعل !"
ضحك ليوبارد حتى كاد أن ينسى آدابه لكنه ما لبث ان توقف إثر تحديق ثيودور المحرج فيه ،
سعل بخفة ليتكلم بعدها
- حسنا ما سمعته ليس بنصف سيء ، انه صحيح لكنه غير كامل "
قال هذا ليطرح سؤالا فجاة
-هل سبق لك أن تساءلت من اين تأتي المدن العائمة ، لماذا تتوسع اراضي الدول كل عام ؟
مجددا حدق ثيودور في معلمه بحنق لم يفهم اذا كان معلمه مصرا على احراجه اليوم ،
بالكاد يُسمح له بالخروج من بوابات القصر للغابة ناهيك عن رؤية شكل المدن العائمة او معرفة أن أراضي الدول تتوسع .
حتى لو خرج من جدران القصر، فبحسب كلام "بيلما " يقع هذا القصر في إحدى المستعمرات على حدود قارة "أمانيسيا "
حسب المعرفة العامة، يفصل ضباب الأثير بين المدن العائمة التي تنتمي للدول واراضي القارة، لذلك حتى لو رفع احدٌ في المستعمرات رأسه نحو السماء فإن كل ما يشاهده هو السماء المصطنعة من الأثير ! ، لن يلمح ذيل المدن العائمة حتى يخرج منها
نفخ ثيودور خديه الممتلئين في عبوس طفولي في حين ان معلمه جفل من نظرته متداركا خطأه .
-حسنا لننسى الامر .. تمتم معلمه بهذا في حين تابع
-دعني اخبرك بالتاريخ الحقيقي لهذه المدن والدول "
نفض "ثيودور" غضبه وحبس انفاسه مستمعا بتركيز
-الجزء الاول من الاسطورة الشعبية هو حقيقي بالفعل ، الدول العشر ليست من هذا العالم
تقول المخطوطات القديمة ان الامبراطوريات سكنت قارة مختلفة تسمى القارة القديمة ، بعد حروب عديدة بينهم على آثار غير معروفة استمرت لقرون ، توقفوا فجاة إثر غزو مفاجئ
-غزو ؟؟ " هتف ثيودور في مفاجأة
أومأ معلمه متابعا
-نعم غزو أجنبي .. أشخاص بقوة مهولة وجيش مدمر لم تستطع حتى جيوش الدول مجتمعة وقفه
-لقد كانت مذبحة ...مذبحة من طرف واحد !..
تتمتم ليوبارد بهذا وكانه يرى صور التاريخ بٱم عينيه
-في خضم اليأس التام للدول ،قرروا الاتحاد والتراجع الى النصف الغربي من القارة حيث كانت الآثار "
خفض بصره نحو الطفل متسائلا
-هل تعرف ما هي الآثار ؟
صمت ثيودور مفكرا وفجاة خطر على ذهنه شيء يعرفه كل سكان هذا العالم ،ربط بين الاثنين متمتما
-هل هي آثار الحضارة القديمة ؟...لكن يا معلم اليست هذه الاشياء موجودة على قارةأامانيسيا ؟ ...كيف هي في القارة القديمة بعالم مختلف؟
سأل مرتبكا
حسب الكتب ، كانت آثار الحضارة القديمة هي بقايا متناثرة في جميع أجزاء قارة امانيسيا المكتشفة ، لقد كانوا السكان الاصليين لهذا المكان .
بفضل ما تُرك منهم استطاعت الدول أن تنهض لتصبح ما هي عليه الآن ،
حتى نظام تدريب الشفق والأثير كان منهم، فكيف يمكن ان يكون هنالك اي آثار في القارة القديمة، لحظة !!!
نظر الى معلمه مصدوما
-هل تقصد !
-نعم ، ابتسم معلمه معقبا
-في الاساطير الشعبية يقال اننا سمعنا صوت أمانيسيا واتبعناه لكن الحقيقة هي ان المدن العائمة جاءت من الآثار ، قيل ان نفق الابعاد عُثر عليه هناك ايضا .
لقد كانت محاولة يائسة للهروب لكنها بطريقة ما اسفرت عن نتائج مذهلة . عبرت مدن الدول العائمة الى هذا العالم الجديد !
انتهى الامر بنفق الابعاد للانهيار في المنصف . مات الكثير لكن 60 ألف سنة من التطوير والاكتشاف اعادت الامور لنصابها ، لا بل احسن مما كانت عليه "
كانت هناك بحة طويلة في صوته ورهبة لم تنفصل عن الخوف من تلك الحقبة .
سميت هذه الحقبة "بالمولد الجديد "...
وكانت هذه بداية تقويمنا في هذا العالم !