سمع طرقات على باب غرفته ليتبعه صوت هادئ بعدها
-العشاء سيدي "
انتظر قليلا ليسمع وقع خطواتها المغادرة بعد ان لم تسمع جوابا .
اعاد بصره نحو خارج النافذة . كانت الشمس قد غربت منذ وقت طويل وحلت بدايات الظلام الحالكة على هذا القصر كوحش يفتح فمه العملاق ويبتلعه .
-لقد حان الوقت تقريبا" .
فتح باب غرفته وادخل صينية العشاء
كان عازما على تناول اخر عشاء له على الأقل هنا قبل مغادرته
-تحتاج الرحلة الطويلة الى معدة ممتلئة.."
تمتم بهذا وهو يأخذ لقمات من قطعة اللحم الموضوعة امامه ، لم ينسى ان يرمي ببصره نحو حقيبة صغيرة موضوعة امام مكتب غرفته.
كان فيها كل ما يحتاجه للمغادرة الليلة،
اراد ان ينهض ليتحقق منها للمرة الاخيرة قبل رحيله لكنه تردد وقرر اكمال عشاءه أولا، قد لا تكون هناك فرصة قريبا لتناول عشاء فخم كهذا.
حسب اقوال "بيلما" يقع القصر داخل غابة كبيرة ،
اقرب قرية من هنا تبعد عشرات الاميال ناهيك عن انه يريد الابتعاد عن القصر قدر الامكان ،
تذكر ما قرأه في الكتاب اليوم ، كانت المستعمرات مثل التي هو فيها هي جزرا من قارة امانيسيا غزتها الامبراطوريات واقامت مدنا صغيرة عليها
لكل جزر أمانيسيا او بالاحرى شظية القارة، وحدة تحكم مختلفة تعرف باسم الاثار المختومة، ذلك انها تكون مختومة في مكان ما على ارض الجزيرة.
يحاول جيش الاتحاد في كل مرة ينحسر فيها ضباب الاثير عن احدى الجزر ان يجد هذه الاثار .
الاستيلاء على الاثر يعني الاستيلاء على الجزيرة كاملة ، ومن خلال التحكم فيه يستطيع جعل الجزيرة تطفو لتغادر امانيسيا وتنظم الى المدن العائمة الاخرى وتصبح ارضا صالحة للسكن للابد، او حتى تبقى فيها دون الانجرار الى حركة المدار الفوضوية
المستعمرة التي هو فيها تقع على حدود القارة وهي تحت حكم إمبراطورية "لونا"، بالأحرى مستعمرة منخفضة ذلك ان الأثر المختوم الذي يتحكم فيها متضرر لذلك لن تستطيع الطفو ابدا .
قد يبدو هذا كشيء جيد فلا يهم ان كانت في السماء او الارض فالمهم انها صالحة للسكن ،لكن للاسف هي ليست كذلك !
تُصنف المستعمرات على انها ادنى لأن الأثر الذي يتحكم فيها غير مستقر وقد يؤدي ذلك الى ضياع الجزيرة في حركة القارة المستمرة ،
لن يكون من الممتع ابدا إن تحركت المستوطنة لتجد نفسك وجها لوجه مع وحوش على مستوى الذروة او في قلب ضباب الأثير حيث تكثر العواصف ويكمن المجهول الذي حتى اعتى القوى تتجنب دخوله،
لحسن الحظ تقل حركة جزر امانيسيا العشوائية على حدودها ،لذلك يستطيع علماء الامبراطوريات تقدير وقت حركتها من خلال مراقبة حجم الأثير فيها ،
-لذلك من المفترض ان تضل هذه المستعمرة آمنة لبعض الوقت ، على الاقل في 200 سنة القادمة "
تمتم بهذا وهو يشعر بالارتياح لأن منزله سيبقى آمنا لفترة
نظر الى الساعة المعلقة على الحائط ليترك الشوكة التي بيده برفق على الصينية ،نهض بعدها ودفع العربة خارج غرفته ، لم يلبث طويلا حتى سمع وقع اقدام الخادمة ثانية وهي تسحبها بعيدا .
صمت قليلا حتى يؤكد اختفاءها من الممر، سار نحو حقيبته و فتحها برفق وحذر .
كان هنالك بعض اكياس الخبز والطعام الجاف بالاضافة لكيس من البلورات الصغيرة وحذاء و قميص ابيض كبير يخص الخدم .
سحبه ليرتديه ولم ينسى أن يضع كتابه الحبيب في حقيبته خشية فقدانه .
قالت "بيلما " ان الناس في الخارج لا يرتدون هذا ،
نظر نحو ملابسه الباهضة الملقاة على الارض بعشوائية .
كان قميص الخادم كبيرا جدا على جسده الصغير ، لكنه لم يستطع ان يساعد في هذا فلا يوجد اي خادم في مثل عمره في القصر .
انتظر بهدوء يعد الدقائق حتى مرت ساعة كاملة وهدءت ضوضاء القصر تماما .
كان متأكدا ان جميع الخدم قد عادو الى غرفهم فعندما حاول التسلل عدة مرات في الليل لم يسبق ان لمح حتى ظل خادم لا يزال في الممرات ، كان هذا هو مدى تأثير رئيس الخدم وانضباطه في مواعيد النوم والاستيقاظ للجميع .
شكره في ذهنه مرة ٱخرى ، لم يعتقد أبدا أن قوانينه الصارمة يمكن ان تكون مفيدة يوما ما .
حمل حقيبته وتسلل بهدوء من غرفته حافيا ، حرص على ارتداء ثلاث جوارب فقط حتى يتأكد من اختفاء وقع خطواته تماما ، لايزال يفضل الحذر على الندم لاحقا.
تبع الممرات الطويلة واستدار عدة مرات لتتوقف خطواته أخيرا عند احد الابواب الكبيرة .
تسللت لأنفه رائحة منعشة جعلت حتى عقله القلق مرتاحا للغاية
فتح الباب ببطئ ، كان اول شيء وقعت عليه عيناه هي أزهار الجريس البنفسجية التي كانت قابعة في اصيص زجاجي فوق المكتب . لم يفهم كيف ان هذه الازهار لم تذبل حتى بعد وقت طويل من وضعها هنا .
تدفقت الرائحة الجميلة للزهور لتغطي الغرفة كاملة ، استمتع بمنظرها للحظة وتصاعدت عواطفه وهو يرى هذا المكان ،
كان الباب القريب من يمين هذه الغرفة هو مدخل مكتبة القصر
عادة كان يقضي اغلب وقته هنا ، يحضر كتبه ويجلس امام الزهرة يقرأها ، حتى انه كان يقضي قيلولته على الاريكة في الزاوية . شعر دائما بأنه يحب هذه الغرفة كثيرا وقد آلمه فراقها .
دفع بعينيه نحو رف الكتب الوحيد الموجود بالغرفة ، كان اغلبه فارغا مثل حال المكتبة ، لكن بسبب هذا بالضبط تمكن من ايجاد خزنة سرية تحتوي على القلادة الموجودة حول رقبته ،
-امي .."
همس بهذا بمشاعر معقدة ، فهم ان هذه الغرفة يجب أن تكون مكتب ٱمه سابقا ، ربما لهذا كان يشعر بالراحة هنا ،
دفع بمشاعرة الحزينة بعيدا وهو يتذكر حوارا دار في احد احلامه.
لقد كان صدفة أن وجد ممرا سريا في هذا المكان ، لمّا سأل سيرينا عن ذلك اخبرته انه ممر للطوارئ يؤدي للخارج ،
عندما كان مشدوها من صدقها في اخباره بذلك وهي لا تخشى ان يستغله في الخروج
اخبرته انه فوت فرصته بالفعل ،
كان هذا الممر يتغير عشوائيا حول القصر.
بدون سيطرة المالك ، اذا فُتح مرة واحدة فلن يستطيع احد دخوله من نفس الباب ثانية .
وبهذا فقد فقد فرصة الهروب في حلمه ، حتى بعد ان بحث كثيرا لم يستطع ايجاده ثانية .
لكن هذه المرة الامور مختلفة
-هذا واقعي .. "
همس متسائلا ان كان الممر لا يزال هنا مثل حلمه ، لم يجرأ على تجربته فعلا حتى أكد قراره بالرحيل ، أما عن ما يقبع فيه فليس لديه خيار سوى تجربتها الآن.
شد بيده الصغيرة على حقيبته ومع اخذه نفسا عميقا للعطر حوله ليهدء ، اندفع نحو احدى اللوحتين المعلقتين على جانبي المكتب .
لم ينسى دفع احد الكراسي نحو الجدار ليصعد فوقه متذمرا حول قصر قامته ،
رفع يده ولمس اطار اللوحة مُديرا اياها في زاوية افقية ،
لم يلبث ثانية حتى اختفى جزء من الجدار امامه مع اللوحة ، لا، الأصح لقولها انه اصبح شفافا ،قفز من الكرسي دون تردد يمر يعبره ،
شد راسه في دوار وهو يشعر بالغثيان
-هل هذا ممر بعدي ؟ قرات ان اعراض الغثيان هي شيء طبيعي لعبور احداها "
حاول اعادة تركيز بصره وجسده المترنح بجهد لينظر حوله بصعوبة
كانت غرفة ٱخرى تشبه غرفة الدراسة السابقة ،حتى ان رائحة الزهرة لا تزال في انفه . كاد يشك لما رآها انه لا يزال في نفس المكان لولا أن الباب الجديد الموجود على يسار الغرفة أخبره بعكس ذلك.
رمى ببصره هنا وهناك متفحصا المكان ، حتى انه رأى رف كتب فيها تماما مثل السابق عدى ان هذا كان ممتلئا تماما ،
نظر للباب المألوف على اليسار وتردد قليلا قبل ان يتجه نحوه
- هذا المكان يمنحني شعورا غريبا .."
في العادة كان الباب الوحيد الموجود في الغرفة هو للمكتبة
رفع يده يدير المقبض مفتوحا ،
ارتمت لناظريه صورة لقاعة دائرية مترامية الاطراف ، انتشر على طول حائطها حتى السقف رفوف كتب طويلة ،
على عكس المكتبة السابقة امتلأت أغلب رفف الكتب هذه ، شعر بالرهبة والحماس للحظة
-هل يعقل ان كل الكتب المختفية تم نقلها هنا "
تساءل وهو يندفع بحماس الى احد الارفف لكنه ما لبث ان عاد بخطواته للوراء عندما اندلعت قشعريرة في كامل جسده
-شعرت به، نفس الموت من احلامي !"