- لقد اختفى .."
فُتحت العيون الهادئة خلف القناع بعد أن همس هذا بخفة.
ظهر في حينها شخص يرتدي أردية بقلنسوة بيضاء تُخفي وجهه ، لم يسمح بناءه الضئيل بمعرفة جنسه إلا ان الصوت شبه الخشن بعد ذلك اثبت هويته كرجل
-هل حقا ..؟ "
سأل بشك محدقا نحو الرجل الهادئ الذي يتكئ على الشجرة السوداء المتفحمة،
كان التباين بين المنظر خلف الرجل وردائه الثلجي يعطي انطباعا بالبرودة المخيفة .
لم يعقب المقنع على سؤاله بل نهض متابعا
-لننفصل هنا "
لم يلبث بعد أن انهى كلامه حتى اختفى فجأة ،تاركا صمتا طويلا في المكان الموحش بالفعل
°°°°
-لقد كانت ساعة تقريبا
لهث ثيودور ماسحا عرق جبهته وهو ينظر نحو المنصة الدائرية امامه
في النصف ساعة الاخيرة وبعد ان تأكد من عدم وجود فخاخ او ابواب اخرى في الممر ، سمح لنفسه بالركض لتقليل وقت خروجه من هنا
لحسن حظه او لسوئها ،كوفئت جهوده بمقابلة باب ضخم يسد طريقه .
كانت الغرفة خلف الابواب كبيرة جدا مزينة بجداريات غريبة ابرزها وما تعرف عليه كانت زهرة الجريس من قبل .
-هل هي رمز من نوع ما ؟"
لقد قابلها كثيرا جدا لتكون مجرد مصادفة
-علي البحث عن هذا بعد خروجي ...لكن ؟
عبس وهو ينظر نحو المنظر حوله
كانت اغلب الجداريات في الغرفة قد تحطمت بالفعل و بالكاد تعرف على رسم الزهرة لانه رآها من قبل
-ولم يحدث هذا منذ وقت طويل ..!"
اخذ نفسا عميقا من الهواء ليزفره بقوة مهدئا انفاسه
-منذ اربع سنوات على الاقل ؟"
كانت هذه اكثر من مجرد مصادفة اخرى
-لكن لماذا ؟ "
نظر بانزعاج وغضب نحو المنصة امامه
حسب تخمينه كان الشيء في الصندوق سابقا قد فتح باب الخروج لهذا الغريب أيضا ،لكن أسوء ما أزعجه أن الأخير قد دمر المكان وأكثر من ذلك طريقه للخروج من هنا .
عض على أسنانه وهو يدور حول المنصة التي بها بوابة النقل المحطمة .
كانت مفاجئة بالفعل أن المخرج حرفيا لم يكن مخرجا بل بوابة نقل بعدية، لكنه للأسف لا يعرف كيفية إصلاحها .
بحث في كل الغرفة عن باب سري آخر او آلية ما ،حتى أنه تقدم نحو الباب محاولا إصلاحه من خلال تجميع ما تبقى من شظايا الأحجار المكانية
كان لكل حجر شكل مختلف ، حسب الكتب التي قرأها من المستحيل وجود أحجار مكانية بنفس الشكل ،وهذا يؤدي ايضا الى استحالة بناء بوابة مكانية تقود لأماكن مختلفة بحجر واحد .
أغلب الاماكن التي قد يقودك إليها الحجر الوحيد ستؤدي إلى اللامكان ، قد تظهر حرفيا عند استعماله في جزيرة مجهولة أو حتى في وسط عاصفة مكانية.
لكن تجميعها معا يؤدي الى احتمالات مختلفة! ، كانت هذه أحد أبرز المعارف التي استعادها الإتحاد من الحضارة القديمة .
بالنسبة لعالم يدرس هندسة النقل الآني، كانت الاحجار امامه تعني إمكانيات لا محدودة لطرق سفر يستطيع تصنيعها نحو أماكن مختلفة .
لكن بالنسبة له ، حتى مع كل الكتب التي قرأها لم تكن الشظايا أمامه سوى حجارة عادية ، قد يُؤدي لعبه بها بتهور إلى ارساله لموته.
كانت الاحجار المكانية في البداية نادرة لن تُستخدم باسراف ولا يمكن حتى شراؤها بسهولة ، ناهيك عن أن الكتب المتعلقة بكيفية الاستفادة منها أندر من ذلك! وحتى تـُصنف بأنها سرية ومحظورة بالنسبة للدول العشر !
في كل الكتب التي استطاع قرائتها في ذاكرته بالكاد وجد واحدا او اثنين تحدثا عن وصف موجز لاستخدامها .
- لكن حسب الكتاب كذلك فإن شراء بوابة جاهزة للنقل في طريق سفر واحد لن يكلف كثيرا ....حسنا للعائلات الثرية جدا على الأقل ."
تساءل بهدوء عما إذا كانت عائلته قد وصلت إلى حد وصفها فاحش الثراء للعالم الخارجي ، كانت هذه بالتأكيد علامة مهمة ! على الاقل لن يضطر للبحث عن أصله في كل شوارع الامبراطوريات .
-هذا اذا استطعت الخروج من هنا اولا !"
تنهد بيأس ورمى الحجارة بين يده في حين وقف متراجعا ينزل من المنصة ،
حمل حقيبته التي تركها على الأرض قبلا في حين اندفع راكضا يعود من الطريق الذي جاء منه .
-اذا صدق حدسي ، فإن هذا هو المخرج الوحيد من هنا ، لكن لا يزال ..!
تمتم وهو يتذكر الباب الوحيد الذي رآه بعد دخوله الممر
لم يكن لديه خيار آخر سوى العودة ، لقد دُمر طريق خروجه بالفعل ومن المستحيل عليه اصلاحه،
لذلك إذا كان هناك أمل متبقي في هذا المكان فسيكون بهذه الغرفة التي وجدها بممر من المفترض أن يكون طريقا سريا للهروب من القصر .
-ايضا إذا خرجت من الممر وعدت للقصر فلن تكون هناك فرصة ٱخرى للعودة سيختفي المدخل حال خروجي منه "
تقطعت أنفاسه وهو يركض مسابقا الزمن للرجوع نحو الباب
كاد مصباح الاثير أن يسقط من يده اكثر من مرة في النصف ساعة وربع التي ركض فيها عائدا
تعثر ممسكا بالمقبض حال وصوله ودفعه بقوة يتمنى في خاطره أن يكون ما حصل معه قبلا آخر مرة يشعر فيها بخيبة أمل اليوم
°°°°°
كان الظلام الذي وصل لبصره شديدا جدا وبالكاد استطاع مصباحه الصغير ان يضيء بضعة اقدام حوله بوضوح.
استطاع ثيودور بغموض ان يميز اطراف الغرفة الضخمة هي الاخرى جراء بعض الضوء الضبابي الذي كانت تطلقه كرة معلقة في الهواء وسطها.
سمع صوت نقرة واستدار فزعا ينظر خلفه،
لمح الباب وقد ٱغلق وامتزج سطحه مع جدار الغرفة ليصباح واحدا.
ارتجف من فكرة انه قد تم حبسه هنا لكنه لم يلبث أن شعر بعلاقة غريبة مع الجدار امامه .
حاول ثيودور فحصه لكن صوت صرير شيء ما حال دون ذلك .
-من هناك ؟"
صرخ نحو الافق ليتردد صوته الضعيف قبل أن يبتلعه الظلام تماما
-لقد سمعت صوتا ! انا متأكد ! "
ابتلع غصة الخوف في حلقه قبل ان يتقدم للامام يفحص المكان بقلق.
-كان من هنا .."
لم يلبث أن وصل للمكان حتى تعثر وسقط أرضا محدثا ضجيجا قويا .
تدحرج مصباحه بعيدا عن يده ليستقر اخيرا بعد ان اصطدم بشيء ما.
-لا يمكن أن يكون حظي اليوم أكثر سوءا !"
تذمر ثيودور ممسكا رأسه المصاب يهز شعره الفوضوي عن عينيه بألم
اندفعت قشعريرة لتسري من رأسه لأخمص قدميه لما فتح عيناه بالكاد
-ماا ؟؟"
كاد يطلق صرخة رعب لولا أنه تدارك نفسه في اللحظة الأخيرة!
رفع جسده الصغير متراجعا وهو يُكذب ما رآه في حين تمتم بصدمة
-بي ...بيلما !!"
أمام ثيودور ، كانت الخادمة التي يعرفها جيدا والتي عادة ما تحكي له بحماس عن العالم الخارجي متكئة بهدوء على جدار الغرفة البارد مغمضة عيناها .
كانت تحيط بها هالة ضبابية بيضاء بالكاد ملحوظة لولا المصباح أمامها .
بعد دفع خوفه وتساؤلاته التي ملئت ذهنه. اندفع نحوها بقلق يهزها متسائلا
-بيلما ؟ هل انت بخير ؟ قولي شيئا !"
لم تجبه أبدا ولم تفتح عيناها حتى وسط توسلاته بل اندفع جسدها مائلا ليسقط على الأرض مثل دمية مكسورة .
-بيلما !! "
ركض من الناحية الٱخرى يفحصها خشية أن تكون قد أصابت راسها
-انها بخير "
تنهد ثيودور بارتياح لما لم يرى اي إصابات وتركها حاملا مصباحه ودفعه نحو زاوايا قريبة ٱخرى .
شحب وجهه حينها حتى كاد يشعر بالدوار جراء احساسه أن الهواء لا يصل دماغه من فرط الصدمة.
-هؤلاء ..بقية الخدم !"
كان كل خدم القصر تقريبا الذين يعرفهم هنا ، حتى ٱولئك الذين اختفوا منذ فترة طويلة بالإضافة إلى الذين رآهم بالأمس أيضا ،
جميعهم جالسون بطريقة غريبة مغلقين أعينهم كالنيام .
-هل سبب عدم رُؤيتي لخادم واحد في الليل هو انهم كانوا جميعهم هنا ؟ "
تساءل ممسكا أمعاءه المتقلبة وغثيانه من أن ينفجر فجأة .
لقد شعر بالخداع ، كل الوجوه والأشياء التي يعرفها باتت غريبة عنه فجأة !
تذكر لما سأل سيرينا عن مكان بيلما صباح امس
""-هل عادت بيلما ؟
توقفت يد سيرينا لوهلة لتتابع ما كانت تفعله بعدها
-لا ...قال رئيس الخدم انها اختارت ان تعود الى مسقط رأسها ، لقد دفع لها راتبها مقدما... اخشى انك لن تراها بعد الآن ""
كان هذا جوابها .
-هل كذبت علي ؟ لا ! في المقام الأول من هي بيلما حتى !!"
لقد شعر أن سر هذه الغرفة قد يهدم كل ما قد عاشه في هذا القصر لثماني سنوات،
لقد شعر بالخوف ! حتى أكثر من الموت على يد المقنع في حلمه ! الخوف من أن حياته والاشخاص الذين عرفهم كانوا كلهم عبارة عن خدعة كبيرة !
اتكأ ثيودور على الجدار متعبا بعد أن ما عادت ساقيه تحملانه .
انزلق عليه محدقا في الفراغ طويلا في حيرة
-هل يعقل ...أنها دُمى ؟ "
نظر نحو الظلام وكأن عيناه تستطيعان رسم أشكال الأشخاص الجالسين في الارض حوله .
رسم في ذاكرته حواراته مع جميع الخدم ، ضحكاتهم وردود أفعالهم على مقالبه ، حتى قلقهم الشديد عليه في حال إختفائه،
رغم قوانين رئيس الخدم الصارمة التي حدت من تفاعلاتهم كثيرا إلا أنهم كانوا عائلته الوحيدة !
كانت هذه صورتهم في قلبه !!
اغرورقت عيناه بالدموع وكبت نحيبه ينظر بكراهية وبؤس طفيف نحو الكرة الطافية في وسط الغرفة
كانت تُدعى في الكتب "إيشن" وهي إحدى الآثار المختومة المنتشرة في مملكة "تيانوس" والتي تُدعى كذلك بالمملكة المظلمة.
إذا كان أحد سيجري إحصاءا لسكان الإتحاد عن أكثر مملكة مكروهة فستحتل بالتأكيد المرتبة الأولى ، هذا لأن أساليبهم كانت أبعد ما تكون عن القاسية،
كانت "إيشن " اداة للاحتفاظ بدمى الأثير !
عادة ما يتسرب الأثير من الشخص بعد موته ويتشتت بعد مدة قصيرة ، كانت الكرة التي تطفو وسط الغرفة هي احدى الآثار التي تسمح للاحتفاظ بأثير هؤلاء الأشخاص وتحويلها إلى دمى تشبههم تماما، حتى أنها قد تحتوي على بعض معارفهم وتجاربهم !
يستطيع مالكها أن يعطي أي أمر لتنفيذه إلا أن عيبها يتجلى أن الدمى تحتاج وقتا لاعادة تزويدها بالأثير كل نصف يوم تقريبا،
وقد تكون هناك قابلية لان تتصرف الدمى حسب غريزتها من الذكريات الموجودة فيها اذا تُركت وحدها دون أوامر لفترة طويلة .
هذا ما جعل هذه الاداة مطلوبة بشدة في إمبراطورية تيانوس رغم عيوبها الشديدة .
صر على أسنانه لما تذكر أن بعض الخدم قد حدثوه عن العالم الخارجي لما سئل ليختفوا بعدها فجأة .
-سيرينا ..رئيس الخدم ..لماذا ؟ "
همس ثيودور في حيرة وسط دموعه فيما يجب أن يفكر فيه بشأن من ربياه منذ طفولته ،
إلا انه لم يلبث ان مسح دموعه بكم قميصه الفضفاض وربت على وجهه بيديه صارخا
- إذا أردت أن أعرف يجب علي الخروج من هنا ! لن أتلقى أي إجابات داخل هذا القفص ! "
-معك حق في هذا !"
ارتفع شعر جسده كله على وقع الصوت المفاجئ ، ليسمع بعدها وقع خطوات طويلة تمشي نحوه من الظلام العميق للغرفة
-فقط ..من !؟"