الفصل العشرون: "لقد قلت إنني سأعود"
—
كانت الليلة هادئة… أكثر هدوءًا مما ينبغي.
الريح لم تكن تعوي، الغابة لم تصدر أي أصوات، وكأن الكون كله قد حبس أنفاسه.
ملاذ كانت جالسة قرب النار، يداها ممدودتان أمام اللهب، تحدق في الألسنة الراقصة وكأنها تبحث عن شيء ما بينها… شيء يفسر الفوضى التي تعصف بداخلها.
كيرين كان يجلس على بعد خطوات منها، نظراته تائهة في الظلام، فكره يسبح في مكان بعيد، أبعد حتى من الغابة الموحشة التي تحيط بهم.
لم يكن أي منهما يتحدث.
كان الصمت أثقل من أي كلمات.
—
ثم…
كسر صوت الخطوات الهزيلة هذا الصمت.
—
كان صدى الخطوات متقطّعًا، ضعيفًا، وكأنه صوت شخص يسير بالكاد، على حافة الانهيار.
كيرين رفع رأسه ببطء، حواجبه انعقدت، ويداه تحركتا تلقائيًا نحو سلاحه.
ملاذ لم تنتبه في البداية، لكن عندما لاحظت تغير تعابير كيرين، التفتت بدورها نحو الظلام.
—
ثم… رأوه.
—
ظلّ طويل… متمايل… يقترب بخطوات بطيئة، وكأنه يقاتل من أجل كل خطوة يخطوها.
القمر كان خافتًا، لكن عندما اقترب أكثر، كشفت أضواء النار وجهه.
—
عيناه الغامقتان، المليئتان بالإرهاق، شفتاه المتشققتان، بشرته التي فقدت لونها، والدماء… الدماء التي غطت جسده بالكامل.
ملاذ لم تستطع التنفس.
كيرين وقف ببطء، أصابعه تشدّ على مقبض سلاحه، غير مصدّق لما تراه عيناه.
—
"لقد قلت…"
صوته كان أجشًا، مرهقًا، وكأن كل كلمة كانت تأخذ منه مجهودًا جبارًا.
رفع رأسه قليلًا، نظراته تلاقي نظراتهما، والابتسامة التي كانت دائمًا هناك… لم تعد سوى شبح لما كانت عليه.
"لقد قلت إنني سأعود."
—
ثم…
انهار.
—
"هيسوكا!!"
صوت ملاذ كان أول من شقّ السكون.
قفزت من مكانها، هرعت إليه قبل أن يرتطم جسده بالأرض، احتضنته بقوة، وكأنها تحاول أن تمسكه قبل أن يضيع مجددًا.
كان وزنه أثقل مما توقعت… أو ربما كان ذلك بسبب الإنهاك الذي غزا كل خلية في جسدها.
لكنها لم تهتم.
لم تهتم سوى بالدفء الخافت الذي لا يزال ينبض في جسده.
—
كيرين وقف في مكانه، مشدوهًا، غير قادر على استيعاب ما يجري.
كيف؟
كيف استطاع النجاة؟
كيف تمكن من العودة… وهو في هذه الحالة؟
—
"كيرين! ساعدني!"
صوت ملاذ قطع أفكاره، عيناها كانت مليئتين بالذعر، وجسدها كان يرتجف وهي تحاول إبقاء هيسوكا مستندًا إليها.
عندها فقط، أدرك أن هذه ليست اللحظة المناسبة للأسئلة.
تحرّك بسرعة، أمسك بجسد هيسوكا الذي كان ثقيلاً كالرصاص، ورفعه على كتفه بصعوبة.
—
"علينا تنظيف جروحه فورًا!"
قالت ملاذ بصوت مرتجف وهي تسرع إلى الداخل، قلبها يخفق بجنون.
—
كان هذا… لا يُصدَّق.
هيسوكا، الذي ظنّوا أنه مات، عاد إليهم.
لكنه لم يعد كما كان.
—
كانت حالته أقرب للموت من الحياة.
—
بمجرد أن وضعوه على الفراش المتواضع في الكوخ، بدأت ملاذ تمزق قميصه الملطخ بالدماء.
كانت الجروح تملأ جسده، عميقة، قاتلة، بعضها بدا وكأنه لم يكن مجرد طعنات بل تمزيق متعمد.
أصابعه كانت باردة، أنفاسه شبه معدومة، وكأن مجرد بقائه على قيد الحياة كان معجزة.
—
"علينا إيقاف النزيف!"
قالت ملاذ وهي تضع قطعة قماش نظيفة على إحدى الجروح، ضغطت عليها بقوة رغم أن يديها كانتا ترتجفان.
كيرين لم يقل شيئًا، لكنه كان يتحرك بسرعة، يحضر الماء المغلي والأعشاب التي جمعها مسبقًا من الغابة.
—
"كيف يمكن لشخص أن ينجو بعد هذا؟"
تمتم كيرين بصوت منخفض وهو ينظر إلى الجروح التي تغطي جسد هيسوكا.
—
"لأن هذا هو هيسوكا…"
قالت ملاذ بصوت هامس، عيناها مسمرة على وجهه.
—
نظرت إليه… إلى ملامحه المتعبة، إلى عينيه المغلقتين بإحكام، إلى صدره الذي يرتفع وينخفض ببطء شديد… كأن كل نفس يأخذه هو صراع بحد ذاته.
أصابعها لمست جبينه بلطف… كان دافئًا.
—
"لقد عاد…"
همست، وشيء ما في قلبها انكسر.
—
عادت الذكريات تتدفق…
أول مرة رأته فيها… عندما كان مجرد قاتل بارد بلا مشاعر.
عندما قتل ليوكس بلا رحمة… وعندما قتل لأجلها لاحقًا.
عندما كان عدوها… ثم أصبح حاميها…
والآن…
الآن هو هنا، أمامها، ممزق، محطم، لكنه لا يزال على قيد الحياة.
—
لكن… إلى متى؟
—
ملاذ لم تكن تعرف الإجابة.
كل ما كانت تعرفه…
هو أنها لن تتركه يموت.
ليس الآن.
ليس بعد كل هذا.
—
كان
ت تعلم أنه لن يستيقظ الآن.
لكنها كانت مستعدة للانتظار.
حتى لو استغرق الأمر العمر كله.
—
وفي الخارج…
كانت الريح تعصف من جديد، كأنها تحذرهم من العاصفة القادمة.