كان الهواء في الشقة ثقيلاً، مشبعاً برائحة القهوة الباردة والدخان الذي يتسلل من النوافذ المفتوحة. جلستُ على الأريكة المتهالكة، أدير كوب الشاي بين يديّ، أحاول أن أركز على كلمات بروس بانر. كان يجلس مقابلي، قميصه الأبيض ممزق عند الكم، وجهه شاحب لكنه هادئ، كأن الرجل الذي سحق سرعوفاً بحجم مبنى قبل ساعات لم يكن هو. مونو كانت تتكئ على الحائط، ذراعاها متقاطعتان، عيناها الذهبيتان تتابعان كل حركة. نيرو، كعادتها، كانت تجلس على الأرض، ظهرها للنافذة، تلعب بقطعة معدنية صغيرة بين أصابعها، تصدر صوت نقر خفيف مع كل دورة."إذن،" قال بانر، صوته منخفض لكنه واضح، "الغضب هو المفتاح. كلما زاد، كلما... خرجت الأمور عن السيطرة. لكنني أستطيع التحكم به أحياناً. ليس دائماً." توقف، نظر إلى يديه، كأنه يرى شيئاً لا نراه. "أنتم لا تعرفون كم هو مرهق أن تحمل شيئاً بداخلك يريد أن يدمر كل شيء.""نحن نعرف شيئاً عن ذلك،" قالت مونو، صوتها هادئ لكنه حاد كشفرة. لم تنظر إليه، بل إلى النافذة، حيث كانت ألسنة الدخان ترتفع من المدينة البعيدة. "الجوهرة في عين بليك ليست مجرد زينة."نيرو ألقت القطعة المعدنية في الهواء، أمسكتها دون أن تنظر. "

ولا أنا مجرد فتاة تحب الآيس كريم."ضحكتُ، لكن الضحكة خرجت جافة. "حسنًا، إذن لدينا وحش أخضر، كتاب ملعون، وفتاة تتحول إلى عصفور. يبدو أننا فريق متوازن."بانر ابتسم، ابتسامة صغيرة، متعبة. "لو كان الأمر بهذه البساطة." رفع عينيه إليّ. "أنت، بليك. الجوهرة... تشعر بها الآن، أليس كذلك؟"تجمدتُ. الجوهرة في عيني اليمنى كانت هادئة منذ ساعات، لكن عندما ذكرها، شعرت بنبضة خفيفة، كأن شيئاً يتحرك تحت الجلد. "أحياناً،" قلت، محاولاً أن أبدو غير مبالٍ. "لكنها لم تفعل شيئاً منذ أن سقطنا من الهضبة."نيرو رفعت حاجباً. "هذا ما تقوله دائماً. 'لم تفعل شيئاً'. ثم نجد أنفسنا نقاتل تنيناً أو دمية حبر.""أو رجلاً يتحول إلى عملاق أخضر،" أضفتُ، موجهاً كلامي إلى بانر. هو فقط هز رأسه، كأنه يعرف شيئاً لا أعرفه.مونو تحركت أخيراً، اقتربت من النافذة، وضعت يدها على الزجاج. "المدينة هادئة جداً الآن. هذا ليس جيداً."كنتُ على وشك الرد عندما حدث ذلك.لم يكن هناك صوت، لا انفجار، لا ريح، لا ضوء. فقط شعور مفاجئ بأن الأرض اختفت من تحتنا. كوب الشاي سقط من يدي، لكنه لم يصل إلى الأرض. كل شيء توقف. الجدران، الأريكة، الدخان خارج النافذة—كلها تلاشت كأنها رسمة على لوحة تمحى بقطعة قماش مبللة. ثم سقطنا.ليس سقوطاً بالمعنى الحرفي. لم تكن هناك ريح تدفع وجوهنا، ولا صرخات. فقط شعور بالفراغ، ثم اصطدام ناعم. فتحتُ عينيّ لأجد نفسي مستلقياً على عشب طويل، أخضر بشكل غير طبيعي، يصل إلى ركبتي. السماء فوقنا كانت بيضاء، ليست سحب، ليست ضوء، فقط بياض مطلق، كأننا داخل صفحة فارغة.

"ما ال—؟" بدأتُ، لكن الكلمات توقفت في حلقي.مونو كانت واقفة على بعد خطوتين، يدها على سيفها الذهبي، عيناها تضيقان وهي تتفحص المكان. نيرو كانت جالسة، تمسك بحفنة من العشب، تنظر إليه كأنه لغز. بانر كان يقف ببطء، يده على جبهته، ينظر حوله بذعر هادئ."أين نحن؟" سألتُ، صوتي أكثر هدوءاً مما توقعت."لست متأكداً،" قال بانر، صوته منخفض. "لكن هذا ليس مكاناً... عادياً."نيرو سحبت يدها من العشب، نظرت إلى أصابعها. كانت نظيفة، لكنها هزت رأسها. "العشب هذا... لا رائحة له. لا تراب، لا رطوبة. فقط... عشب."مونو دارت حولنا ببطء، خطواتها صامتة. "لا ظلال. لا شمس. لا ريح. لا صوت." توقفت، نظرت إليّ. "الجوهرة؟"نظرتُ إلى عيني اليمنى في انعكاس سيف مونو. كانت تومض، لكن ليس بالأخضر المعتاد. كان الضوء... أبيض، مثل السماء."هي تفعل شيئاً،" قلتُ. "لكنني لا أعرف ماذا."بانر اقترب مني، خطواته حذرة. "هل هذا بسبب الكتاب؟ أم شيء آخر؟""لا أعرف،" قلتُ، وكنتُ صادقاً. "لكننا لسنا وحدنا."كانوا جميعاً ينظرون إليّ الآن. لم أكن أقصد أن أقول ذلك بصوت عالٍ، لكن الكلمات خرجت. شعرتُ بهم قبل أن أراهم. حركة خفيفة في العشب، بعيدة، لكن ليست بعيدة بما يكفي. شيء يتحرك، ليس بسرعة، لكن بثبات. لم يكن هناك صوت، لكن العشب كان ينحني، كأن شيئاً غير مرئي يمر.نيرو وقفت، يدها على خصرها، حيث تحتفظ عادةً بسكينها. "أنا لا أحب هذا."مونو سحبت سيفها ببطء، الشفرة تخرج من غمدها بصوت خفيف، كأنها تتنفس. "لا تتحركوا."لكننا تحركنا. لم يكن خياراً. العشب بدأ يتحرك من حولنا، ليس بريح، بل كأن شيئاً يدفعه من الأسفل. دوائر صغيرة، ثم أكبر، ثم أكبر. كنا في وسطها."بليك،"

قالت مونو، صوتها منخفض، "الجوهرة."نظرتُ إليها مرة أخرى. كانت تومض الآن بسرعة، كأنها تحاول قول شيء. لكن لم يكن هناك كلمات، فقط نبض. نبض، نبض، نبض.ثم توقفت.العشب توقف. السماء البيضاء بدت أكثر بياضاً، كأنها تضغط علينا. لم يكن هناك صوت، لكن شعرتُ بشيء. ليس خوفاً، ليس بالضبط. شيء أعمق. كأن المكان ينظر إلينا.بانر كسر الصمت. "هل هذا... حلم؟""ليس حلمي،" قالت نيرو، صوتها جاف. "أنا لا أحلم بالعشب.""ولا أنا،" أضفتُ.مونو دارت حولنا مرة أخرى، سيفها مرفوع. "هناك شيء هنا. ليس مرئياً. لكنني أشعر به."نيرو اقتربت مني، يدها تمسك بكمي. "بليك. ماذا نفعل؟"لم أكن أعرف. لكن الجوهرة بدأت تومض مرة أخرى، هذه المرة ببطء. كأنها تحاول توجيهنا. نظرتُ حولي، أبحث عن أي علامة، أي شيء. العشب كان متماثلاً في كل الاتجاهات. لا تلال، لا أشجار، لا شيء. فقط أخضر وبياض.ثم رأيته.بعيداً، في الأفق—إذا كان هناك أفق—كان هناك شيء. لم يكن واضحاً، لكن كان هناك. شكل، أو ظل، أو ربما مجرد خطأ في الرؤية. لكنه كان يتحرك. نحونا."هناك،" قلتُ، مشيراً.جميعهم نظروا. لم يقل أحد شيئاً للحظة."ماذا نفعل؟" سألت نيرو مرة أخرى."نمشي،" قال بانر، صوته هادئ لكنه حازم. "أو نركض. لكن البقاء هنا ليس خياراً."مونو هزت رأسها. "ليس بعد. نراقب. إذا تحرك، نتحرك."وقفنا هناك، أربعة أشخاص في أرض خضراء تحت سماء بيضاء، ننتظر شيئاً لا نعرفه. العشب كان صامتاً. السماء كانت صامتة. لكن شيئاً ما كان يقترب.والجوهرة في عيني كانت تومض، تومض، تومض.

كان العشب يلامس ركبتيّ بثبات، كأنه يحتضنني أكثر مما يدعمني. الشكل البعيد الذي رأيناه يقترب لم يكن يمشي. كان يظهر، كأن الفراغ يفتح له باباً صامتاً. في لحظة، لم يكن هناك شيء، وفي اللحظة التالية، كان هناك كرسي. ليس كرسياً عادياً، بل شيئاً فخماً، خشبياً منحوتاً بزخارف دقيقة، مغطى بقماش أحمر داكن يلمع كأنه مبلل بالدم. وعليه، جلس الرجل.كان يجلس باسترخاء، ساق فوق ساق، ظهره متكئ إلى الخلف، كأنه في نادٍ راقٍ وليس في وسط حقل لا ينتهي. في يده اليمنى، كأس شامبانيا طويلة، السائل بداخلها يفور بلطف، فقاعات صغيرة ترتفع ثم تختفي. قبعته الصغيرة، بنفسجية داكنة، كانت مائلة قليلاً على جبهته، تظلل عينيه لكنها لا تخفي حدتهما. قميصه الأخضر الزيتوني كان مفتوحاً عند الياقة، نقشة الماس الدقيقة تلمع مع كل حركة صغيرة. تحت عينه اليمنى، علامة هلالية بنية محمرة، كأنها وشم أو جرح قديم. شفتاه مفتوحتان قليلاً، أسنانه العلوية تظهر، ليست ابتسامة، بل شيء أقرب إلى التحدي.وقفنا جميعاً، أنا ومونو ونيرو وبانر، في دائرة غير مكتملة، ننظر إليه. لم يكن هناك صوت، لا خطوات،

لا ريح، لا حتى صوت الفقاعات في كأسه. فقط نحن، والعشب، والسماء البيضاء، وهذا الرجل.بانر اقترب مني خطوة، صوته منخفض لكنه واضح. "أوي، بليك. هل تعرف هذا القبيح؟"لم أجب فوراً. لم أكن أعرفه، لكن شيئاً في طريقته، في جلسته، في كأسه، جعلني أشعر أننا نُراقب منذ زمن. ثم تحدث الرجل، دون أن يرفع صوته، دون أن يغير وضعيته."هاي. أنا أسمع، أيها الوحش الأخضر."تجمد بانر. عيناه تضيقان، لكن لم يتحرك. أنا شعرتُ بالجوهرة في عيني تنبض مرة واحدة، بقوة، كأنها تحذرني. مونو رفعت يدها، أصابعها ترسم خطوطاً ذهبية خافتة في الهواء، لكنها لم تكمل. نيرو وضعت يديها أمامها، كفّاها مفتوحتين، استعداداً لاستدعاء شيء ما. أنا وقفتُ بينهما، يداي مفتوحتان، لا أسلحة، لكن قلبي يدق بسرعة."من أنت؟" سألت مونو، صوتها حاد كضوء سحرها. "وأين نحن؟"الرجل رفع كأسه، شرب رشفة صغيرة، ثم أمال رأسه قليلاً. "أين أنتم؟ هل تتوقعون حقاً أن أجيبكم؟" ابتسم، ابتسامة صغيرة، لكن عيناه لم تبتسم. "لكن يمكن القول... أنكم الآن في ملعبي. ولا مفر لكم."نيرو صرخت، صوتها يقطع الصمت كسكين. "سوف نرى بشأن ذلك!" رفعت يدها، أصابعها ترسم رموزاً في الهواء بسرعة. "سحر الختم—ختم الضعف!"ضوء أزرق خافت انبعث من يدها، التف حول جسدها كحلقات، ثم تلاشى. لم يكن هناك صوت، لا انفجار، لا ريح. فقط نيرو، ثم اندفعت. لم تكن تمشي، كانت تركض، ثم تقفز، قبضتها مشدودة، تتجه مباشرة إلى وجه الرجل.

كنتُ أراها، كنتُ أعرف قوتها، كنتُ أعرف أن هذه اللكمة يمكن أن تكسر حجرًا.لكنها لم تفعل.اصطدمت قبضتها بوجنت الرجل، لكن لم يكن هناك صوت. لا صوت اصطدام، لا اهتزاز، لا حتى حركة. الرجل لم يتحرك. لم يرمش. فقط بقي جالساً، كأس الشامبانيا في يده لم يهتز. نيرو تراجعت خطوة، عيناها واسعتان، تنظر إلى يدها كأنها لا تصدق."ما الذي يحدث بحق الجحيم؟" قالت، صوتها مرتجف.ثم شعرتُ به. شعور مفاجئ، كأن شيئاً يُسحب من داخلي. الجوهرة في عيني توقفت عن النبض، ثم شعرتُ بفراغ. حاولتُ استدعاء سحر الضوء، أي ضوء، أي شعاع، أي شيء. لا شيء. لا وميض، لا دفء، لا حتى إحساس خفيف في راحة يدي."مخبأ!" صرختُ، صوتي أعلى مما قصدت. "أنا أيضاً لا أستطيع استخدام سحري! ما الذي يجري؟"مونو حاولت استدعاء كرتها الذهبية، يدها ترتفع، أصابعها تتحرك في نمط مألوف. لكن لا شيء ظهر. لا كرة، لا ضوء ذهبي، لا حتى وميض. سقطت يدها إلى جانبها، عيناها تضيقان. "أنا أيضاً فقدتُ سحري!" قالت، صوتها غاضب لكنه خائف.الرجل ضحك. لم يكن ضحكاً عالياً، لكن كان يملأ المكان. كان ينبعث منه، كأن العشب نفسه يضحك. "ههههههه. من الممتع جداً رؤيتكم مشوشين هكذا."نيرو صرخت مجدداً، خطوة إلى الأمام. "أيها اللعين! أين نحن؟ ما الذي يجري؟""اهدئي، يا فتاة." رفع كأسه مجدداً، شرب رشفة.

"إنها مجرد قواعد.""ماذا!؟" قلنا جميعاً، في نفس اللحظة.ابتسم، هذه المرة بأسنانه كلها. "أنتم الآن محبوسون في كتابي. وهنا، فقط قوانيني تحكم. ولا شيء آخر." أشار بكأسه نحونا. "لقد أبطلتُ سحركم. في عالم كتابي، أنتم الآن بشر عاديون."تجمدتُ. الكلمات ضربتني كموجة باردة. كتاب؟ عالم كتاب؟ نظرتُ إلى مونو، إلى نيرو، إلى بانر. وجوههم كانت مرآة لي: صدمة، غضب، خوف."من أنت؟" سألتُ، صوتي منخفض، لكنه لم يكن ضعيفاً.الرجل وضع كأسه على ذراع الكرسي، كأن هناك طاولة غير مرئية. وقف ببطء، ليس بسرعة، لكن بثقة. كان طويلاً، أطول مما بدا وهو جالس. قميصه يلمع مع كل حركة. القبعة لا تزال مائلة. العلامة تحت عينه تبدو أكثر وضوحاً الآن."أنا أحد مستعملي الستاند من فرقة مستعملي الستاند الستة." توقف، نظر إلينا واحداً تلو الآخر. "هدفي هو الإمساك بكم. أخذ كتاب شمس المعارف. وهالك." أشار بإبهامه إلى بانر، الذي كان يقف الآن، قبضتاه مشدودتان، عيناه تضيقان. "اسمي هو أنڨالو."الاسم تردد في رأسي، لكن لم يعنِ شيئاً. ليس بعد. لكن الجوهرة في عيني، التي كانت صامتة، نبضت مرة واحدة. نبضة قوية، كأنها تعرف شيئاً لا أعرفه. نظرتُ إلى أنڨالو، إلى كرسيه، إلى كأسه، إلى العشب الذي لا يتحرك. ثم إلى أصدقائي.كنا عالقين. بلا سحر. بلا قوة. في عالم ليس عالمنا.وأنڨالو كان يبتسم.

أنڨالو لم ينهِ كلامه بعد، أو ربما لم يكن ينوي إنهاءه أصلاً. ابتسامته كانت لا تزال معلقة على شفتيه، لكنها اتسعت فجأة، كأن شيئاً ما انفتح داخل وجهه. لم يرفع يده، لم يصفق، لم يقل كلمة. فقط نظر إلى الأمام، إلى العشب الذي بدأ يتماوج كأنه ماء.ثم خرجوا.أول ما ظهر كان صوتاً خفيفاً، كأن أحدهم يمشي على أوراق جافة، لكن لا أوراق هنا.

ثم ظهرت القبعات. حمراء، زرقاء، مدببة، تتراقص فوق رؤوس صغيرة. كانت الشخصيات صغيرة، لا تتجاوز طول كفّي، لكن عددها كان كثيراً. عشرات، ربما مئات، تخرج من العشب كأنها تنبت. وجوههم قناعية، بيضاء، بلا تعبير، عيون سوداء فارغة، أفواه مبتسمة بشكل ثابت. ملابسهم مخططة بالأحمر والأبيض، كأطفال في مسرحية قديمة. في وسطهم، شيء أكبر. رأس ضخم، لحمي، متورم، كأنه جذع شجرة مقطوع ومتروك ليتعفن. عينان صغيرتان، فم مفتوح يظهر فيه أسنان غير منتظمة. كان يطفو فوق الأرض، لا يمشي، فقط ينجرف."هؤلاء..." قال أنڨالو بصوت هادئ، كأنه يقدم ضيوفاً في حفلة، "أبناء الناس."لم يكن هناك وقت للتفكير. اندفعوا نحوي.

لم يكونوا سريعين، لكنهم كانوا كثيرين. أقدامهم الصغيرة تصدر صوتاً خفيفاً، كأنها حبات ذرة تتساقط على خشب. أحدهم قفز على كتفي، قبعته الحمراء تميل، يده الصغيرة تمسك بأذني. آخر تسلق ساقي، أظافره تحك جلدي. لم يكن الألم كبيراً، لكنه كان مزعجاً، كأن مجموعة من الأطفال يلعبون لعبة خشنة. لكنني لا أستطيع دفعهم. لا سحر. لا قوة. فقط يداي."ابتعدوا!" صرختُ، أضرب بيدي، أسقط اثنين، لكن ثلاثة آخرين يحلون محلهم. الرأس الضخم كان يقترب، فمه يفتح ويغلق، يصدر صوتاً مثل طقطقة عظام.في الوسط، ظهر الماعز.كان أبيض، لكن ليس أبيض نظيف. أبيض متسخ، كأنه مغطى بطبقة من الغبار القديم. وجهه مشوه، عيناه غائرتان، قرونه ملتوية كأنها أغصان مكسورة. لم يكن يمشي، كان يركض، لكن ببطء، كأنه في حلم. اتجه مباشرة إلى مونو."أمهات الماعز،" قال أنڨالو، وكأنه يعلق على لوحة.مونو رفعت يديها، حاولت استدعاء كرتها الذهبية، لكن لا شيء. الماعز صدمها بقرنيه، لم يكن الاصطدام قوياً، لكنه دفعها إلى الخلف. سقطت على ظهرها، العشب يخفف السقوط. الماعز وقف فوقها، ينظر إليها، أنفاسه تخرج من أنفه المشوه.نيرو لم تكن أفضل حالاً. من العشب، ظهرت مقصات. ليست صغيرة. ضخمة، شفراتها معدنية لامعة، مقابضها حمراء، مائلة نحو الوسط كأنها تنتظر أمراً. بدأت تتحرك، تقترب من نيرو بخطوات معدنية ثقيلة. كانت بطيئة، لكن كل خطوة تصدر صوتاً يشبه صرير باب قديم. نيرو حاولت الركض، لكن إحدى المقصات أمسكت بكاحلها، لم تقطع، فقط أمسكت، شدّتها إلى الأرض."ما هذا؟!" صرخت نيرو، تحاول التحرر، لكن المقص الآخر كان يقترب من وجهها.في الخلفية، فوق كل هذا، ظهر بينوكيو. لم يكن بينوكيو العادي. عيناه كبيرتان، منتفختان، كأنهما على وشك الانفجار. أنفه طويل، لكنه لا يطول أكثر.

ملابسه بنية وصفراء، متسخة. كان يركض نحو بانر، يديه ممدودتان، أصابعه طويلة بشكل غير طبيعي."اركض!" صرختُ، لكن بانر لم يكن بحاجة للأمر. كان يتراجع، يديه مرفوعتان، لكنه لا يستطيع التحول. لا هالك. لا قوة. فقط رجل يهرب من دمية خشبية.بجانب بينوكيو، كانت ه AUTOMATED. امرأة عارية، بيضاء كالثلج، شعرها أشقر طويل يتدفق كأنه ماء. لم تكن تمشي، كانت تطفو. ثم، فجأة، كانت في حضن أنڨالو. لم أرَها تتحرك. فقط وجدتها هناك، ذراعاها حول عنقه، رأسها على كتفه. بجانبها، رجل يرتدي ملندوناً أخضر، يعزف على آلة موسيقية غريبة، شيء بين قيثارة وناي، أصواته غريبة، كأنها تأتي من داخل رأسك.أنڨالو كان يبتسم، يداعب شعر المرأة، يستمع للموسيقى، بينما الفوضى تدور حولنا. الأطفال الصغار يتسلقونني، الماعز يقف فوق مونو، المقصات تحاصر نيرو، بينوكيو يطارد بانر.لم يكن الأمر مميتاً. لم يكن هناك دم، لا جروح عميقة، لا صراخ ألم. لكنه كان مزعجاً. مقلقاً. لأننا لا نستطيع فعل شيء. لا سحر. لا قوة. فقط نحن، وهذه المخلوقات الكرتونية الغريبة، في عالم لا يتبع قوانيننا.والموسيقى تستمر.

[منظور نيرو]

كنتُ أسمع صوت المقصات قبل أن أراها بوضوح، صرير معدني يشبه أظافر تُجرّ على لوح حديدي. كانت المقابض الحمراء تبرز من العشب كأعمدة إشارة، ثم بدأت الشفرات تتحرك. لم تكن سريعة، لكن كل خطوة كانت محسوبة، كأنها تعرف أين أضع قدمي قبل أن أفعل. أول مقص أمسك بكاحلي، لم يقطع، فقط ضغط، كأنه يذكّرني أنني الآن مجرد لحم ودم. شددتُ ساقي، حاولت التحرر، لكن المقص الثاني كان يقترب من وجهي، شفرتاه مفتوحتان كفكّ مفترس."نيرو!" سمعتُ صوت بليك من بعيد، لكنه كان مشغولاً بأبناء الناس الذين يتسلقونه كالنمل.لم أرد. لم يكن هناك وقت. ركضتُ إلى الوراء، لكن المقص الأول لم يتركني. سقطتُ على ركبتيّ، العشب يخفف السقوط، لكن المقص الثاني كان فوقي الآن.

رفعتُ ذراعيّ، أمسكتُ بالمقبض الأحمر، حاولتُ ثنيه. كان بارداً، ثقيلاً، لكنه لم ينثنِ. الشفرات اقتربت من عنقي، سنتيمترات فقط.ثم شع الفرق.في البداية، كانت الشفرات باهتة، كأنها صدئة. لكن مع كل ثانية تمر، كانت تتغير. أولاً، لمعان خفيف. ثم، حدّة. ثم، صوت. صوت شحذ، كأن هناك سكيناً يُشحذ داخل المعدن. المقص الذي يمسك بكاحلي بدأ يضغط أكثر. شعرتُ بالدم يتجمع تحت الجلد، ليس جرحاً بعد، لكن قريباً."لا..." همستُ، أسناني مشدودة.الثالث ظهر من الجانب. لم أره يأتي. فقط شعرتُ بالريح الباردة على خدي، ثم الشفرة تمر بجانب أذني، تقطع خصلة من شعري. سقطت على العشب، سوداء، نظيفة. ثم الرابع. ثم الخامس. كانوا يتكاثرون، ليس بالظهور،

بل بالتحرك. كلما تحركتُ، كلما اقتربوا. كلما اقتربوا، كلما أصبحوا أكثر حدّة.قمتُ بوثبة إلى الوراء، تحررتُ من المقص الأول، لكن الثاني كان ينتظر. شفرتاه الآن لامعتان، حادتين، كأنهما جديدتان. ضربتُ بقدمي، أصبتُ المقبض، لكنه لم يتحرك. فقط اهتز، ثم عاد. المقص الثالث كان خلفي الآن، يقترب من ظهري. لففتُ جسدي، أمسكتُ بذراعيّ، حاولتُ دفعه. كان ثقيلاً، لكنني دفعتُ. سقط على جانبه، لكن الشفرات بقيت مفتوحة، تنتظر.كنتُ أتنفس بصعوبة. العرق يلتصق بظهري. المقصات كانت تحيط بي الآن، خمسة، ربما ستة. كل واحدة أكثر حدّة من الأولى. شعرتُ بقطعة صغيرة في ذراعي، دم خفيف، ليس عميقاً، لكن ك

افياً ليذكرني أنني أنزف."لا يمكنني..." قلتُ، لكنني لم أنهِ.

لأنني كنتُ أعرف. لا سحر. لا ختم. لا قوة. فقط أنا.ثم رأيتُها. فجوة. بين المقص الثاني والثالث. لم تكن كبيرة، لكن كافية. ركضتُ، ليس إ لى الوراء، بل إلى الأمام، بينهما. الشفرات مرّت بجانبي، واحدة تقطع قميصي، أخرى تمسح ذراعي. لكنني مررتُ. ثم استدرتُ، أمسكتُ بالمقبض الأحمر للأقرب، شددتُ بكل قوتي. لم ينثنِ، لكنني لم أكن أريد ثنيه. كنتُ أريد استخدامه.رفعتُ المقص، كان ثقيلاً، لكنني رفعتُه. ثم ضربتُ به المقص الآخر. شفرتان تصطدمان، صوت معدني عالٍ. لم ينكسر، لكن اهتز. ثم الثاني. ثم الثالث. كنتُ أستخدمهم ضد بعضهم. لم يكن قتالاً نظيفاً. كان فوضى. لكنها كانت تعمل.واحدة تلو الأخرى، بدأت تسقط. ليس مكسورة، لكن متوقفة. كأنها تنتظر أمراً لم يأتِ. كنتُ أتنفس بصعوبة، ذراعيّ ترتجفان، دم يسيل من جرح صغير في كتفي. لكنني كنتُ واقفة. المقصات حولي، ستة، سبعة، كانت ملقاة على العشب، شفراتها مفتوحة، لكنها لم تتحرك.نظرتُ إلى أنڨالو. كان لا يزال جالساً، المرأة في حضنه، الموسيقى تستمر. لم يكن ينظر إليّ. لكنه كان يبتسم."جيد،" قال، صوته منخفض، "لكن هذا مجرد البداية."لم أرد. فقط وقفتُ، أتنفس، أنتظر. لأنني فزتُ. بالكاد. لكن فزتُ.

[منظور مونو]

كنتُ أشعر بالعشب تحت ظهري، ناعماً أكثر مما ينبغي، كأنه يمتصّني بدل أن يدعمني. الماعز كان فوقي، ثقله ليس ثقيلاً كحيوان حقيقي، لكنه كان كافياً ليضغط على صدري، يجعل كل نفس يخرج متعثراً. عيناه الغائرتان تنظران إليّ مباشرة، لا تعبير فيهما، فقط فراغ أبيض متسخ. قرونه الملتوية كانت تلامس خديّ، باردة، خشنة، كأنها فروع شجرة ميتة. لم أستطع استدعاء الكرة الذهبية. لا ضوء. لا سحر.

فقط أنا، وهذا الشيء.حاولتُ دفعه بيديّ. أصابعي غرقت في فرائه الأبيض المتسخ، لم يكن فراءاً ناعماً، كان خيوطاً متشابكة، رطبة قليلاً، كأنها مغطاة بعرق قديم. دفعته، لكنه لم يتحرك. فقط أمال رأسه، ثم فتح فمه. لم يكن هناك صوت، لكن رائحة خرجت، رائحة تراب قديم، وشيء حلو متعفن."انزل..." همستُ، صوتي خافت، لكنه لم يسمع. أو ربما سمع ولم يبالِ.ثم بدأ الألم .لم يكن من الماعز. لم يكن من قرونه، ولا من ثقله. كان داخلي. في بطني أولاً، كأن شيئاً يتحرك هناك، يدور،

يضغط. ثم في ذراعيّ، كأن عظامي تُكسر ببطء، لكن لا كسر. فقط ألم. ثم في رأسي، نبضة، نبضة، نبضة، كأن قلبي يضخ دمًا حاراً جداً. لم أكن أصرخ. لم أستطع. فقط أغلقتُ عينيّ، أسناني مشدودة.فتحتُ عينيّ مرة أخرى. الماعز كان لا يزال هناك. لكن شيئاً تغير. لم يكن ينظر إليّ الآن. كان ينظر إلى الألم. كأنه يراه. كأنه يستمتع.حركتُ يدي اليمنى ببطء، أمسكتُ بقرنه الأيسر. كان بارداً، لكن ليس كالثلج. بارد كشيء ميت. شددتُ. لم يكن سهلاً. ذراعي كانت ترتجف، الألم في كتفي يزداد، كأن شيئاً يسحب العضلة من مكانها. لكنني شددتُ. ثم اليد اليسرى، على القرن الآخر. الآن كنتُ أمسك بهما، كأنني أحمل رأسه."انزل..." قلتُ مرة أخرى، هذه المرة بصوت أعلى.دفعته. ليس بقوة. لم يكن لدي قوة. لكن بثبات. الماعز تحرك، ليس للخلف، بل إلى الجانب. سقط على الأرض، ببطء، كأنه في حلم. لم يقاوم. فقط سقط. ثم وقف. ليس بسرعة. ببطء. ثم نظر إليّ مرة أخرى.الألم زاد.هذه المرة في ساقيّ. كأن شيئاً يمشي داخلهما،

يعض، يمزق. لم أنظر. لم أستطع. فقط وقفتُ، ركبتيّ ترتجفان، يداي مفتوحتان. الماعز تقدم خطوة. ثم أخرى. لم يكن يركض. لم يكن بحاجة. كنتُ أنا من أتراجع.ثم توقفتُ.لأنني شعرتُ بشيء. ليس في جسدي. في رأسي. صوت. ليس كلمات. فقط إحساس. كأن شيئاً يقول: "لا تهربي."نظرتُ إلى الماعز. لم يكن يتحرك الآن. فقط يقف. ينتظر.رفعتُ يدي. لم أكن أعرف لماذا. لكن فع لتُ. ثم ضربتُ. ليس بقبضة. بكفّ مفتوح. على وجهه. لم تكن ضربة قوية. لكنها كانت دقيقة. على عينه اليمنى. لم يكن هناك صوت. فقط اهتزاز. ثم تراجع خطوة.الألم توقف.للحظة.ثم عاد. لكن ليس فيّ. في الماعز. رأيته. وجهه بدأ يتشوه أكثر. ليس من الضربة. من شيء داخلي. عيناه بدأتا تنتفخان، فمه يفتح أكثر، قرونه تبدأ بالتصدع. لم يكن يصرخ. لم يكن هناك صوت. فقط تغير.ثم انفجر.ليس بانفجار. لم يكن هناك دم، لا نار. فقط تلاشى. كأن شيئاً سحبه من الداخل. بقي للحظة، ثم اختفى. لم يبقَ سوى بقعة بيضاء على العشب، تذوب ببطء.سقطتُ على ركبتيّ.الألم كان لا يزال هناك. لكن ليس حاداً الآن. كان خافتاً، كأنه ذكرى. نظرتُ إلى يديّ. لا جروح. لا دم. فقط ألم. كأن جسدي يتذكر شيئاً لم يحدث.نظرتُ إلى أنڨالو. كان لا يزال جالساً. المرأة في حضنه. الموسيقى تستمر.لم يقل شيئاً.لكنني سمعتُ صوته في رأسي."جيد."

[منظور بانر]

كنت أركض، لكن الركض لم يكن يعني شيئاً هنا. العشب يبتلع خطواتي، السماء البيضاء تضغط على رأسي، وبينوكيو يلاحقني بأنفه الطويل الذي يهتز كأنه يشمّ رائحتي. لم أكن أنظر خلفي، لكنني أشعر به. أصابعه الخشبية تمتد، تلامس كتفي، ثم تمسك. لم تكن قبضة قوية، لكنها كانت ثابتة، كأن الخشب يلتصق بالجلد. حاولتُ التملص، لكن ذراعيه التفت حول خصري، أنفه يدفع ظهري، وفجأة توقفتُ.لم أتوقف. هو من أوقفني.رفعني عن الأرض، كأنني لعبة. قدميّ تتدليان، يداي تحاولان الوصول إلى شيء، أي شيء. لكن لا شيء. ثم بدأ يمشي. ليس ركضاً.

خطوات بطيئة، متئدة، كأنه يحمل جائزة. نحو أنڨالو.كان جالساً، كما كان دائماً. المرأة العارية في حضنه، شعرها الأشقر يتدفق على كتفه، جسدها الأبيض يلمع تحت السماء البيضاء. يده اليسرى تتحرك ببطء، تداعب صدرها، أصابعه ترسم دوائر خفيفة، كأنه يعزف لحناً لا يسمعه أحد. لم تكن تنظر إليّ. عيناها مغمضتان، ابتسامة خفيفة على شفتيها. الموسيقي بجانبه، ملتون أخضر، يعزف، أصوات الناي تتسلل إلى رأسي، تجعلني أشعر بالدوار.بينوكيو ألقاني أمامه. سقطتُ على ركبتيّ، العشب بارد تحت يديّ. رفعتُ رأسي. أنڨالو كان ينظر إليّ الآن. عيناه واسعتان، القبعة البنفسجية مائلة، العلامة تحت عينه تبدو كأنها تنبض."حسابة،" قال، صوته منخفض، لكنه يملأ المكان. "أن تمتلك دكتوراه... ومع ذلك تضيّع نفسك في العرب، من بلد إلى بلد، بسبب الوحش داخلك."تجمدتُ. الكلمات لم تكن جديدة. سمعتُها من قبل. في رأسي. في المرايا. في الليالي التي أحاول فيها النوم. لكن أن يقولها هو... بشكل علني، أمام الجميع..."أنت لا تعرف شيئاً،" قلتُ، صوتي خشن، لكنه لم يكن قوياً."أعرف ما يكفي." ابتسم، يده لا تزال تتحرك. "أعرف أنك تهرب. أعرف أنك تخاف. أعرف أنك...""كفى!" صرختُ. لم أقصد. لكن الكلمة خرجت. ثم الغضب.

لم يكن تدريجياً. كان مفاجئاً. كأن شيئاً انفتح داخلي. ليس الباب. ليس الصمام. شيئاً أعمق.شعرتُ به.الوحش.لم يكن يخرج. كان يندفع. جسدي يتمدد، العضلات تنتفخ، الجلد يخضر، العظام تطقطق. لم أكن أرى. لم أكن أسمع. فقط أشعر. الغضب. النار. القوة.هالك.بينوكيو كان أمامي. لم أفكر. ضربتُ. قبضتي اصطدمت بوجهه، الخشب ينفجر، الأنف يطير، العينان تنفجران كفقاعات. لم يكن هناك صوت. فقط صمت. ثم سقط. قطع خشبية متناثرة على العشب.ثم أنڨالو.قمتُ بوثبة. لم أكن أركض. كنتُ أطير. قبضتي مشدودة، تتجه إلى وجهه. اصطدمت. لم تكن ضربة نظيفة. كان وجهه يتحرك، لكن ليس بسرعة كافية. رأسه مال إلى الوراء، القبعة طارت، الدم يسيل من أنفه. المرأة سقطت من حضنه، الموسيقي توقف.لكنه لم يسقط.وقف. ببطء. يده تمسح الدم. ابتسم. "جيد،" قال. "الآن يبدأ القتال."لم يكن…

القتال لم ينتهِ.

[منظور بليك]

كانت أصوات المعركة تملأ الهواء حولي، لكنني لم أكن أسمعها حقاً. كل ما شعرتُ به هو أجساد تلك الكائنات الصغيرة، "أبناء الناس" كما سمّاهم أنڨالو، وهي تتسلقني كالنمل على جذع شجرة. قبعاتهم المدببة الحمراء والزرقاء تلامس وجهي، أيديهم الصغيرة تمسك بملابسي، أظافرهم تحكّ جلدي. لم تكن قوية، لكنها كانت مزعجة، كأنها تحاول إرباكي أكثر من إيذائي. لكنني لم أكن خائفاً. ليس بعد شهر كامل من التدريب مع مونو.كانت تدريباتها قاسية، لا هوادة فيها. كل صباح، قبل أن تشرق الشمس، كنا نركض عبر الغابات، نحمل أثقالاً على ظهورنا، نصعد التلال ونهبطها حتى تنفجر رئتاي. كانت تقف فوقي، عيناها الذهبيتان تلمعان، وهي تصرخ: "أسرع، بليك! أقوى!" كانت تضرب الأرض بقدمها، ترسل موجات من الضوء الذهبي لتجبرني على التحرك. كنتُ أسقط، أنهض، أسقط مجدداً. لكنني تعلمتُ. تعلمتُ كيف أتحكم بجسدي، كيف أحوّل الألم إلى قوة، كيف أبقى هادئاً وسط الفوضى.الآن، كانت تلك الدروس تعمل.أمسكتُ بكائن صغير يتسلق ذراعي، قبعته الزرقاء مائلة،

وجهه القناعي يبتسم بثبات. رميته بعيداً، ليس بعنف، لكن بقوة كافية ليطير عدة أمتار ويسقط في العشب. آخر قفز على كتفي، حاول خنقي بذراعيه الصغيرتين. استدرتُ بسرعة، استخدمتُ زخمي لألقيه عن ظهري، ثم ضربتُ الأرض بقدمي، مما أسقط ثلاثة آخرين كانوا يحاولون الاقتراب من ساقيّ. كانوا يعودون، لكنني كنتُ أسرع. يدي اليمنى تضرب، اليسرى تدفع، قدميّ تركلان. لم أكن أفكر. كنتُ أتحرك. كل حركة مدروسة، كل ضربة دقيقة. في دقائق، كان العشب حولي مليئاً بأجسادهم الصغيرة، ملقاة على الأرض، لا تتحرك.تنفستُ بعمق، أنظر حولي. نيرو كانت تقف على بعد، المقصات الضخمة ملقاة حولها، شفراتها مفتوحة لكنها صامتة. كانت تلهث، ذراعها تنزف قليلاً، لكن عيناها كانتا مضيئتين بانتصار. رأتني، أومأت برأسها، ثم بدأت تركض نحوي. التقينا في منتصف الطريق، دون كلام. لم يكن هناك وقت.ثم رأيتُها.مونو.كانت بعيدة، ملقاة على العشب، جسدها يرتجف. لم تكن هناك جروح، لا دم، لا شيء يشير إلى إصابة. لكنها كانت تتألم. رأسها مرفوع قليلاً، عيناها الذهبيتان مفتوحتان على وسعهما، فمها مفتوح كأنها تصرخ، لكن لا صوت. يداها تضغطان على بطنها، أصابعها مرتجفة، كأنها تحاول إيقاف شيء داخلي.قلبي توقف."مونو!" صرختُ،

صوتي يمزق الصمت. ركضتُ، نيرو بجانبي، خطواتنا تصدر صوتاً خافتاً على العشب. كل خطوة كانت بطيئة، كأن العالم يقاومني. رأيتُ وجهها، شاحباً، عرقاً يلتصق بخصلات شعرها. كانت عيناها تبحثان عن شيء، ربما عني، لكنها لم ترَ. كانت غائبة، غارقة في ألم لا أراه.وصلتُ إليها، ركعتُ بجانبها. "مونو، مونو!" هززتُ كتفيها، لكنها لم ترد. جسدها كان بارداً، لكنه يرتجف. يداها لا تزالان تضغطان على بطنها، أصابعها بيضاء من القوة. حاولتُ رفعها، لكنها كانت ثقيلة، ليس بثقل جسدها، بل بثقل الألم الذي يسحبها إلى الأسفل."بليك!" سمعتُ صوت نيرو، لكنني لم أنظر إليها. كنتُ أنظر إلى مونو. خوفي كان يأكلني. لم يكن خوفاً عادياً. كان عميقاً، كأن شيئاً يمزق صدري. مونو، التي دربتني، التي وقفت أمامي كالصخر، التي لم تظهر ضعفاً يوماً... الآن كانت هنا، مكسورة، صامتة، تتألم دون سبب.ثم سمعتُه.صوت بانر. بعيداً، لكنه واضح. صوت غضب، صوت هالك. صوت قبضة تصطدم،

صوت شيء ينكسر. نظرتُ للحظة. رأيتُ ظلّه الضخم، أخضر، يتحرك بسرعة، يضرب أنڨالو. لكن القتال لم يكن لي. ليس الآن."نيرو!" قلتُ، صوتي حاد. "خذيها. احميها."نيرو ركعت بجانبي، يداها تمسكان مونو بحذر. لم تقل شيئاً، لكن عيناها كانتا تقولان كل شيء. أومأتُ لها، ثم وقفتُ. نظرتُ إلى مونو للحظة أخيرة. كانت لا تزال صامتة، جسدها يرتجف، لكن عيناها وجدتاني أخيراً. لم تقل شيئاً. لم تستطع. لكنني رأيتُه. الثقة. الأمل."سأوقفه،" همستُ، لنفسي أكثر منها.ثم ركضتُ. نحو الصوت. نحو هالك. نحو أنڨالو.

ركضتُ عبر العشب الذي لا ينتهي، خطواتي تترك أثراً خفيفاً يختفي فوراً، كأن الأرض تبتلع كل دليل على وجودي. الهواء كان ساكناً، لكنه يحمل صوت الاصطدامات، صوت لحم يضرب لحماً، صوت شيء ينكسر دون أن يصدر صوتاً حقيقياً. كنتُ أرى الظل الأخضر الضخم لهالك،

يتحرك كعاصفة، قبضتاه ترفعان وتنزلان بسرعة تجعل الهواء يهتز. أنڨالو كان أمامه، لم يكن يتحرك كثيراً، فقط يميل، يتفادى، ثم...ضربة هالك جاءت سريعة، قبضته الضخمة تتجه مباشرة إلى صدر أنڨالو. اصطدمت، لكن لم يكن هناك صوت. فقط اهتزاز في الهواء، ثم طار أنڨالو. لم يكن طيراناً عادياً. كان كأن الأرض دفعته، أو السماء سحبته. جسده انزلق للخلف، عبر العشب، دون أن يلامس الأرض، يطير ببطء، كأنه في حلم. توقف على بعد عشرات الأمتار، قدماه تلامسان العشب بلطف، كأنه لم يتحرك أصلاً. مسح فمه بظهر يده، ابتسم.هالك لم ينتظر. زمجر، صوت عميق يهز الأرض، ثم قفز. قفزة هائلة، جسده الأخضر يرتفع عالياً، يحجب السماء البيضاء للحظة. كان يتجه مباشرة إلى أنڨالو، قبضته مشدودة، جاهزة للضربة التالية.لكنها لم تصل.المرأة العارية كانت هناك فجأة. لم أرَها تتحرك. كانت في حضن أنڨالو، ثم كانت أمام هالك. جسدها الأبيض يلمع، شعرها الأشقر يتدفق خلفها كأنه ماء. رفعت يديها، كفّاها مفتوحتان، واصطدمت بهالك في الهواء. لم تكن ضربة. كانت دفعة. هالك توقف في منتصف القفزة، جسده الضخم يتمايل، ثم سقط على الأرض بثقل يهز العشب. لم يصرخ. فقط وقف ببطء، عيناه تضيقان.الموسيقي كان بجانبها الآن. ملتون أخضر، آلته الموسيقية في يديه

، لكنه لم يكن يعزف. كان يحملها كسلاح. تقدم خطوة، ثم ضرب. الآلة اصطدمت بكتف هالك، لم تكن ضربة قوية، لكنها كانت دقيقة. هالك تراجع خطوة، يده تمسك كتفه، ثم زمجر مجدداً."ابتعدوا عنه،" قال هالك، صوته عميق، لكنه لم يكن غاضباً تماماً. كان حذراً.المرأة لم ترد. فقط تقدمت. خطواتها صامتة، جسدها يتحرك بسلاسة، كأنها ترقص. رفعت يدها مرة أخرى، أصابعها ترسم شيئاً في الهواء، ثم ضربت. هذه المرة، كانت قبضة. اصطدمت بصدر هالك، لم تكن قوية، لكن هالك تراجع خطوتين. لم يسقط. فقط نظر إليها، عيناه تضيقان أكثر.الموسيقي تحرك من الجانب. آلته الآن كعصا، يدورها بسرعة، ثم يضرب. الضربة جاءت على ساق هالك، لم تكن لتكسر عظمة، لكنها كانت لتؤلم. هالك انحنى قليلاً، ثم استدار، قبضته تتجه إلى الموسيقي. اصطدمت، لكن الموسيقي لم يكن هناك. كان قد تحرك، خطوة إلى الجانب، ثم ضرب مرة أخرى، هذه المرة على ظهر هالك.كانوا يتحركون معاً، المرأة والموسيقي، كأنهما يرقصان. لم يكونوا سريعين، لكنهم كانوا دقيقين. كل ضربة تأتي من زاوية مختلفة، كل حركة محسوبة. هالك كان يضرب، قبضتاه تمزقان الهواء، لكنها لا تصيب. كان يزمجر، يدور، يقفز، لكنها كانت دائماً خطوة أمامه."لماذا تحمون هذا؟" سأل هالك، صوته يخرج مع كل ضربة.المرأة لم ترد. فقط ضربت مرة أخرى،

هذه المرة على وجهه. لم تكن قبضة. كانت كفّ مفتوح. اصطدمت بخده، تركت علامة حمراء خفيفة. هالك توقف للحظة، يده تمسح وجهه، ثم زمجر، قفز نحوها. هذه المرة، أمسكها. يداه الضخمتان حول خصرها، رفعها عن الأرض.لكن الموسيقي كان هناك. آلته تضرب ظهر هالك، ليس مرة، بل مرتين، ثلاثاً. هالك أفلتها، استدار، قبضته تتجه إلى الموسيقي. اصطدمت بكتفه، دفعته للخلف، لكنه لم يسقط. وقف، يمسك آلته بيد واحدة، اليد الأخرى تمسح فمه.أنڨالو كان يراقب، واقفاً على بعد، يده تمسك قبعته، يبتسم. لم يتحرك. لم يقل شيئاً. فقط يراقب.هالك تقدم مجدداً، خطواته ثقيلة، العشب ينحني تحت قدميه. المرأة وقفت أمامه، شعرها يتدفق، جسدها لا يزال يلمع. الموسيقي بجانبها، آلته جاهزة. كانوا ينتظرون."سئمتُ من هذا،" قال هالك، صوته منخفض.ثم قفز. ليس عالياً هذه المرة. قفزة قصيرة، سريعة، قبضته تتجه إلى المرأة. اصطدمت بكتفها، دفعته للخلف، لكنها لم تسقط. وقفت، يدها تمسك كتفها، ثم تقدمت. الموسيقي ضرب من الجانب، آلته تصطدم بساق هالك. هالك استدار، أمسك بالآلة، شدها، سحب الموسيقي نحوه، ثم ضرب. قبضته اصطدمت بصدره،

دفعته للخلف عدة أمتار.المرأة كانت خلفه الآن. يدها على ظهره، أصابعها تضغط، ثم تدفع. هالك تراجع خطوة، استدار، قبضته تتجه إليها. لكنها كانت قد تحركت. خطوة إلى الجانب، ثم ضربة على ذراعه. لم تكن قوية، لكنها كانت مستمرة.كانوا يدورون حوله، يضربون، يتحركون، يتفادون. هالك كان يضرب، يزمجر، يقفز، لكنه لم يكن يصيب. كانوا دائماً أسرع بقليل، أدق بقليل. العشب حولهم كان مليئاً بآثارهم، خطوات، ضربات، حركات. لكن لا دم. لا جروح عميقة. فقط تعب.نظرتُ إلى نيرو، التي كانت لا تزال تحمل مونو. عيناها كانتا على القتال، يدها تمسك بكتف مونو بحذر. مونو كانت لا تزال صامتة،

جسدها يرتجف بين الحين والآخر، لكن عيناها كانتا مفتوحتين الآن، تنظران إلى هالك."يجب أن نفعل شيئاً،" قلتُ، صوتي منخفض.نيرو هزت رأسها. "لا يمكننا. ليس الآن."هالك كان يتنفس بصعوبة الآن. لم يكن متعباً، لكنه كان محبطاً. قبضتاه مشدودتان، عيناه تضيقان. المرأة كانت أمامه، شعرها يتدفق، جسدها يتحرك بسلاسة. الموسيقي بجانبها، آلته في يده، جاهزة.ثم توقفوا.للحظة.هالك لم يتحرك. المرأة لم تتحرك. الموسيقي لم يتحرك. أنڨالو كان يبتسم، يده تمسك قبعته."جيد،" قال أنڨالو، صوته يقطع الصمت. "لكن هذا ليس النهاية."هالك زمجر، تقدم خطوة. المرأة رفعت يدها. الموسيقي رفع آلته.والقتال استمر

كان القتال يدور في حلقة لا تنتهي، خطوات هالك الثقيلة تهز العشب، بينما المرأة والموسيقي يتدفقان حوله كظلال لا تُمسك. هالك يضرب، قبضته تمرّ بجانب وجه المرأة بفارق شعرة، فتستدير هي وتضغط كفّها على صدره، دفعة خفيفة لكنها تجعله يتراجع نصف خطوة. الموسيقي يدخل من الجانب، آلته تدور في الهواء، تصطدم بفخذ هالك بصوت مكتوم، لا يؤذي، لكنه يُبطئ. هالك يزمجر، يستدير، يمسك بالآلة بيد واحدة، يشدّها، لكن الموسيقي يتركها وينزلق إلى الخلف، يلتقطها من الهواء مجدداً."كفى اللعب!" يقول هالك، صوته يخرج من أعماق صدره كرعد بعيد.المرأة لا ترد. تقترب، خطوة، خطوتان، ثم ترفع ذراعها،

أصابعها مفتوحة، تضرب على رقبة هالك. ليست قوية، لكنها دقيقة. هالك يشعر بالوخز، يهز رأسه، ثم يضرب بمرفقه. يصيب كتفها، تدور، تتراجع، لكنها لا تسقط. الموسيقي يدخل من الخلف، آلته تضرب أسفل ظهر هالك، صوت طرق على خشب. هالك ينحني قليلاً، يستدير، قبضته تتجه إلى صدر الموسيقي، لكن الرجل ينزلق تحتها، يضرب ساق هالك مرة أخرى.كانا يرهقانه. ليس بالقوة، بل بالاستمرارية. كل ضربة صغيرة، كل دفعة خفيفة، كل حركة محسوبة. هالك يتنفس بصعوبة أكبر، ليس من الإرهاق، بل من الغضب المكبوت. يريد أن ينهي هذا، لكنه لا يستطيع الإمساك بهما.ثم تغيّر شيء.هالك توقف. ليس تراجعاً. توقفاً تاماً. قدماه ثابتتان في العشب، ذراعاه معلقتان على جانبيه. المرأة تقترب، ترفع يدها. لكن هالك لم يتحرك. الموسيقي يدخل من الجانب،

آلته مرفوعة. هالك لم ينظر إليه."الآن،" همس هالك، صوته منخفض لكنه واضح.ثم تحرك.ليس ضربة. ليس قفزة. حركة واحدة، سريعة، دقيقة. يده اليمنى تمتد، تمسك بمعصم المرأة قبل أن تصل إليه. شدها نحوه، ثم يدور. جسدها يتبعه، يطير في الهواء، ثم يصطدم بالموسيقي. الاثنان يسقطان معاً، متشابكين، على العشب. لم يكن هناك صوت. فقط سقوط.هالك يقترب، خطوة، خطوتان. المرأة تحاول الوقوف، شعرها يغطي وجهها، لكنها بطيئة. الموسيقي يمسك آلته، يحاول النهوض، لكن ساقه ترتجف. هالك يرفع قدمه، يضعها على صدر الموسيقي، ليس بقوة، لكن بثقل كافٍ ليبقيه على الأرض."انتهى،" يقول هالك.المرأة تنظر إليه، عيناها مفتوحتان، لكنها لا تتحرك. الموسيقي يتنفس بصعوبة، آلته ملقاة بجانبه. هالك ينظر إلى أنڨالو، الذي كان لا يزال واقفاً على بعد، يبتسم.لم يقل شيئاً. لكن القتال، أخيراً، توقف.

ركضتُ نحو الدائرة التي يدور فيها القتال، خطواتي تتباطأ كلما اقتربت، كأن الهواء يثقل أكثر مع كل متر. نيرو كانت خلفي، تحمل مونو بين ذراعيها، لكنني لم أنظر إليها. عيناي كانتا مثبتتين على هالك، الظل الأخضر الضخم الذي يقف فوق المرأة والموسيقي الملقيين على العشب، صدره يعلو ويهبط ببطء، قبضتاه مشدودتان. أنڨالو كان على بعد، يقف بهدوء، يده تمسك قبعته، ابتسامته لا تزال معلقة على شفتيه كأن شيئاً لم يحدث.هالك لم ينتظر. زمجر، صوت عميق يهز الأرض تحت قدميّ، ثم تقدم. خطوة ثقيلة، ثم أخرى. العشب ينحني تحت وزنه، يترك أثراً يستمر للحظة قبل أن يعود إلى شكله.

أنڨالو لم يتحرك. فقط وقف، ينظر إليه، عيناه تضيقان قليلاً."الآن أنت،" قال هالك، صوته منخفض لكنه يملأ المكان.رفع قبضته، الضخمة، الخضراء، تتجه مباشرة إلى وجه أنڨالو. الضربة جاءت سريعة، الهواء ينفجر أمامها. لكن أنڨالو مال إلى الجانب، ببطء، كأن الزمن يتباطأ حوله. القبضة مرّت بجانب أذنه، بفارق سنتيمترات، ثم اصطدمت بالعشب. الأرض اهتزت، عشب يطير في الهواء، لكن أنڨالو كان قد تحرك بالفعل، خطوة إلى الخلف، يده تمسك كأسه الذي ظهر فجأة في يده مرة أخرى.هالك استدار، قبضته الأخرى تتجه إلى صدر أنڨالو. اصطدمت، لكن لم تكن اصطداماً كاملاً. يد أنڨالو كانت هناك، كفّه مفتوح، يمسك بالقبضة، يوقفها. لم يكن يدفع. فقط يمسك. هالك شدّ، لكن القبضة لم تتحرك. أنڨالو ابتسم، شرب رشفة من كأسه."بطيء،" قال، صوته هادئ.هالك زمجر، سحب قبضته، ثم ضرب بمرفقه. أنڨالو انحنى، المرفق يمرّ فوق رأسه، ثم دفع بكفه على صدر هالك. لم تكن دفعة قوية، لكن هالك تراجع خطوة. لم يسقط. فقط تراجع. ثم تقدم مجدداً، قبضتاه تضربان معاً، واحدة إلى الوجه، الأخرى إلى البطن. أنڨالو دار، القبضة الأولى تمرّ، ثم مال، الثانية تمسح قميصه. لم يكن يركض. كان يتحرك بسلاسة، كأن الهواء يساعده.

"لا يمكنك لمسي،" قال أنڨالو، يدور حول هالك، كأسه في يده.هالك قفز، ليس عالياً، قفزة قصيرة، قدماه تضربان الأرض أمام أنڨالو، ثم قبضته تنزل من الأعلى. أنڨالو رفع يده، كفّه يمسك بالقبضة مجدداً، لكن هذه المرة دفع. هالك طار للخلف، ليس بعيداً، مترين، ثلاثة، ثم سقط على ظهره. العشب خفف السقوط، لكنه وقف ببطء، يهز رأسه."ما هذا؟" قال هالك، صوته أكثر حذراً الآن.أنڨالو لم يرد. فقط تقدم، خطوة، خطوتان. هالك رفع قبضتيه، يستعد. أنڨالو ضرب، ليس بقبضة، بكفه المفتوح، على خد هالك. لم تكن ضربة قوية، لكنها تركت علامة. هالك استدار، قبضته تتجه إلى جانب أنڨالو. اصطدمت، لكن أنڨالو كان قد مال، القبضة تمرّ، ثم يدفع بكتفه على صدر هالك. هالك تراجع خطوتين.كانا يدوران الآن، هالك يضرب، أنڨالو يتفادى، يدفع، يمسك. لم يكن هناك إصابات كبيرة، لا دم، لا كسور، فقط حركة مستمرة. هالك يتنفس بصعوبة أكبر، أنڨالو يبتسم، كأسه يعود إلى يده كل حين.ثم تغيّر شيء.هالك ضرب، قبضته تتجه إلى وجه أنڨالو. أنڨالو لم يتحرك هذه المرة. فقط وقف. القبضة اقتربت، ثم توقفت. لم تصطدم. توقفت في الهواء،

سنتيمترات من وجهه. هالك شدّ، لكن القبضة لم تتحرك. أنڨالو رفع يده، أصابعه ترسم شيئاً في الهواء، ثم دفع. القبضة عادت إلى هالك، اصطدمت بصدره نفسه. تراجع، يمسك صدره."مستحيل،" قال هالك.أنڨالو تقدم، يدور حول هالك، كأسه في يده. "هل تشعر به؟" سأل، صوته منخفض.هالك ضرب مجدداً، قبضتاه معاً. أنڨالو مال، إحدى القبضتين تمرّ، ثم يمسك بالأخرى، يدور، يستخدم زخم هالك ليرميه إلى الأمام. هالك سقط على ركبتيه، ينهض بسرعة، لكن أبطأ. أنڨالو كان خلفه الآن، يدفع بكفه على ظهره. هالك تقدم خطوتين، يستدير، عيناه تضيقان.كان جسد هالك يتغير. لم يكن واضحاً في البداية. لكن عضلاته بدأت تنكمش، ليس بسرعة، ببطء. الخضرة في جلده تبدأ تتلاشى، تتحول إلى بشرة عادية. قبضتاه تقلصان، ذراعاه يصبحان أصغر. كان يقاتل، يضرب، لكن ضرباته أصبحت أضعف، أبطأ."ما الذي تفعله؟" سأل هالك، صوته يعود إلى صوت بانر، أعلى، أقل عمقاً.أنڨالو لم يرد. فقط ضرب، كفه على كتف بانر الآن، يدفع. بانر تراجع،

يحاول الوقوف، لكن ساقاه ترتجفان. جسده يتقلص، الخضرة تختفي تماماً، يعود إلى حجمه العادي، قميصه الممزق يتدلى عليه. كان يتنفس بصعوبة، يده تمسك صدره."انتهى،" قال أنڨالو، يقف أمامه، كأسه في يده.بانر نظر إليه، عيناه واسعتان، ثم سقط على ركبتيه. لم يكن فاقداً للوعي. فقط متعباً. ضعيفاً.أنڨالو شرب رشفة، ثم نظر إليّ. ابتسم.

ركضتُ نحو أنڨالو قبل أن ينتهي بانر من السقوط، خطواتي سريعة، العشب ينزلق تحت قدميّ كأنه زيت. كان بانر على ركبتيه، يتنفس بصعوبة، يده تمسك الأرض، لكنني لم أنظر إليه طويلاً. عيناي كانتا على أنڨالو، الذي وقف يشرب من كأسه، ابتسامته لا تزال هناك، كأن كل شيء جزء من لعبة يعرف نهايتها."أنت التالي،" قلتُ، صوتي منخفض،

لكنني سمعتُه يتردد.رفعتُ قبضتي، اندفعتُ نحوه. لم أكن أفكر في السحر، لم يكن هناك سحر. فقط جسدي، العضلات التي بنيتها مع مونو، الشهر من الركض والضرب والسقوط. قبضتي تتجه إلى وجهه، سريعة، مدروسة. لكن أنڨالو لم يتحرك. فقط مال رأسه قليلاً، ثم رفع يده، أصابعه ترسم شيئاً في الهواء.ثم ظهروا.من الخلفية، من اليسار، حيث كانت السماء البيضاء تبدو أكثر بياضاً، بدأ العشب يتحرك. لم يكن ريحاً. كان شيئاً يخرج. أولاً، الزهور. حمراء، صغيرة، تنبت فجأة، تغطي بقعة واسعة من الأرض. ثم الرجل السمين. عارياً، ممدداً على ظهره، جسده يغطي الزهور، يضغطها، لكنه لا يتحرك. بطنه يعلو ويهبط ببطء، عيناه مغمضتان، كأنه نائم.فوق ظهره، جلس الآخر. صغير، سمين، تاج ذهبي صغير على رأسه، يلمع رغم عدم وجود شمس.

كان يضحك، صوت خفيف، طفولي، لكنه لم يكن مضحكاً. حولهم، الماعز الصغيرة. بيضاء، صغيرة، عيونها سوداء، تتحرك بسرعة، تقفز فوق الزهور، فوق جسد الرجل السمين."أب صاحب متجر الشوكولاتة،" قال أنڨالو، صوته هادئ، يشير بكأسه نحو الرجل الصغير.لم أنتظر. اندفعتُ نحو أنڨالو مجدداً، لكن الماعز كانت أسرع. قفزت واحدة على ساقي، أخرى على ذراعي، أظافرها تحك، لكن ليس عميقاً. الرجل الصغير قفز من ظهر السمين، هبط أمامي، يده الصغيرة تمسك بقبضتي. لم يكن قوياً، لكن كان ثابتاً. شدّ، حاول إسقاطي، لكنني استدرتُ، رميته بعيداً. سقط على الزهور، ضحك، ثم قفز مجدداً.الماعز كانت تحيط بي الآن، تقفز، تدور، أجسادها الصغيرة تصطدم بي، ليست قوية، لكن مستمرة. ضربتُ واحدة، يدي تصطدم بجانبها، تطير، تسقط، ثم تقف مجدداً. أخرى قفزت على ظهري، أظافرها في كتفي، شددتُ، ألقيتها. الرجل الصغير كان يركض حولي، يضرب بقدميه الصغيرتين، يصرخ كلمات غير مفهومة، يضحك."ابتعدوا!" صرختُ، أدور، أضرب، أركل. كنتُ أصيب، لكنها كانت تعود. دائماً تعود.ثم سمعتُ صوت نيرو.نظرتُ.

الرجل السمين كان يتحرك الآن. لم يكن يركض. كان يزحف، جسده يترك أثراً في الزهور، يتجه نحو نيرو ومونو. نيرو كانت واقفة، مونو بين ذراعيها، فاقدة للوعي، رأسها مائل. نيرو رفعت يدها، حاولت الدفع، لكن الرجل السمين كان قريباً الآن، يده تمتد، تمسك بكاحل نيرو."ابتعد عنها!" صرخت نيرو، تركل، لكن الرجل لم يتحرك. فقط شدّ، سحبها قليلاً.ركضتُ نحوها، لكن الماعز كانت أمامي، الرجل الصغير يقفز على صدري، يداه تمسكان بياقتي. دفعته، لكن آخر جاء. كنتُ أقاتل، أضرب، أدور، لكنني كنتُ بعيداً. نيرو كانت تدفع الرجل السمين، يدها تضرب وجهه، لكنه لم يتأثر. فقط يزحف، يقترب من مونو."بليك!" صرخت نيرو.أنڨالو كان يراقب، كأسه في يده، يشرب رشفة.القتال استمر.

كنتُ أحمل مونو بين ذراعيّ، جسدها خفيفاً أكثر مما ينبغي، كأن الألم يسحب من وزنها. رأسها مائل على كتفي، شعرها الذهبي يلتصق بجبهتها بالعرق، أنفاسها ضعيفة، متقطعة. لم تكن تتحرك، لكن جسدها كان يرتجف بين الحين والآخر، كأن شيئاً داخلها يحارب. عيناي كانتا على الرجل السمين العاري، الذي يزحف نحونا عبر الزهور الحمراء، جسده يترك أثراً من العشب المسحوق والبتلات المهروسة.

لم يكن يركض، لكنه كان ثابتاً، يده تمتد، أصابعه السمينة تتحرك ببطء نحو كاحلي."ابتعد!" صرختُ، صوتي يقطع الصمت، لكنني لم أتحرك. لم أستطع. مونو كانت بين يديّ، وإذا أسقطتها، لن أسامح نفسي.الرجل وصل. يده أمسكت بكاحلي، أصابعه باردة، رطبة، كأنها مغطاة بطبقة من الزيت. شدّ. لم تكن شدة قوية، لكنها كانت كافية. تراجعتُ خطوة، حاولتُ التوازن، لكن مونو كانت تزداد ثقلاً في حضني. ركلتُ بقدمي الأخرى، أصبتُ معصمه، لكنه لم يترك. فقط أمال رأسه، عيناه مفتوحتان، فارغتان، كأنه لا يرى."نيرو!" سمعتُ صوت بليك من بعيد، لكنه كان مشغولاً. الماعز الصغيرة تقفز حوله، الرجل الصغير ذو التاج يضحك، يركض، يضرب.لم أنظر إليه. ركلتُ مجدداً، هذه المرة أقوى، أصبتُ كتفه. الرجل تراجع قليلاً، لكنه عاد. يزحف، يده تمتد مجدداً، هذه المرة نحو مونو. أصابعه تلامس ساقها،

يحاولان سحبها."لا!" صرختُ، أدفع يده، أضرب بكفي على وجهه. لم يكن هناك رد. فقط يستمر، يزحف، يداه تمسكان الآن بذراع مونو. شدّ. شعرتُ بجسدها ينزلق من بين يديّ، لكنني أمسكتُ بها، أشدّها إليّ. كنتُ أتراجع، خطوة، خطوتان، العشب يعيقني، الزهور تتشابك مع قدميّ.حاولتُ رفعها أعلى، لكن ذراعيّ كانتا ترتجفان. لا سحر. لا ختم. لا قوة. فقط أنا، وهذا الرجل، ومونو التي تتألم دون صوت. الرجل وقف الآن، ليس بسرعة، ببطء. جسده السمين يهتز مع كل حركة، يده تمتد مجدداً. ضربتُها، يدي تصطدم بمعصمه، لكنها لم تتحرك. فقط أمسك بكتفي، شدّ.سقطتُ.ليس بعيداً. على ركبتيّ. مونو لا تزال بين يديّ، لكن الرجل كان فوقنا الآن. ينحني، يده تمسك بذراعها، يسحب. حاولتُ الوقوف، لكن ساقيّ كانتا ثقيلتين. ضربتُ صدره، قبضتي تصطدم بلحمه، لكنها كانت كضرب طبل. لا تأثير. فقط يستمر، يسحب، عيناه فارغتان."مونو..." همستُ، صوتي مرتجف. كانت لا تزال صامتة، جسدها يرتجف، أنفاسها ضعيفة.الرجل شدّ مجدداً. شعرتُ بمونو تنزلق، أصابعي تحاول الإمساك، لكنها كانت تتحرك. ضربتُ وجهه، يدي تصطدم بخده، لكنها لم تترك أثراً. فقط عاد، يده الأخرى تمسك بساقي، يشدّ. سقطتُ على ظهري، العشب بارد تحتي، مونو فوق صدري.كنتُ أحارب، أضرب، أركل، لكنني كنتُ أضعف. الرجل كان يقترب، يده تمسك بمونو، يحاول سحبها. كنتُ أمسك بها، أشدّها، لكن ذراعيّ كانتا تحترقان. لا سحر. لا قوة. فقط أنا.

كنتُ أدور في دوامة من الأجساد الصغيرة، الماعز البيضاء تقفز كالكرات الحية، أرجلها الرفيعة تضرب ساقيّ، أبدانها الناعمة تصطدم بفخذيّ دون ألم حقيقي، لكن بإلحاح يجعلني أفقد التوازن.

الرجل الصغير ذو التاج، أب صاحب متجر الشوكولاتة، يركض حولي كطفل في لعبة، يضحك بصوت عالٍ يتردد في الفراغ، يده الصغيرة تمسك بكم قميصي، يشدّ، يحاول إسقاطي. ضربتُ واحدة من الماعز، يدي تصطدم بجانبها، تطير متراً، تسقط، ثم تقفز مجدداً. رميتُ الرجل الصغير عن كتفي، سقط على الزهور، ضحك، قفز.كانوا كثيرين. عشرات، ربما مئات. يخرجون من العشب، من الزهور، من الهواء نفسه. كلما أسقطتُ واحداً، يحلّ محله ثلاثة. كنتُ أتنفس بصعوبة، ذراعيّ تحترقان، لكنني لم أتوقف. ضربتُ، ركلتُ، دارتُ. كنتُ أصيب، لكنها كانت تعود. دائماً تعود.ثم توقفتُ.ليس لأنني استسلمت. لأن شيئاً ما لاح في رأسي. ليس فكرة كاملة. مجرد وميض. نظرتُ إلى أنڨالو، الذي كان يقف على بعد، كأسه في يده، يراقب. لماذا لم يوقف تحول بانر من البداية؟ لماذا سمح لهالك بالظهور أصلاً؟ ونيرو... في هجومها الأول، ختم الضعف، كان هناك وهج أزرق خافت، للحظة، قبل أن يختفي.هو لا يتحكم في كل شيء.ليس في الوقت نفسه.العالم هذا، الكتاب، قوانينه... ليست مطلقة. هناك حدود. تركيز. إذا شغلته، إذا فرّقتُ انتباهه...نظرتُ حولي. الماعز تقفز، الرجل الصغير يضحك. لم أضربهم هذه المرة. ركضتُ. ليس نحو أنڨالو. ليس نحو نيرو. عشوائياً. يساراً، يميناً، خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الخلف. كنتُ أركض في دوائر، في خطوط متعرجة، أقفز فوق الماعز، أدور حول الزهور."ما الذي تفعله؟" سمعتُ صوت أنڨالو، لأول مرة، متفاجئاً.لم أرد. بدأتُ أقول الكلمات. لم تكن تعويذات حقيقية.

كلمات عشوائية، أصوات، أناشيد قديمة سمعتها من مونو، كلمات من كتب،

من أحلام. "إيغنيس فلاما... تيرا موفي... أكوا سيركل..." كنتُ أصرخ، أهمس، أغني. صوتي يتردد، يملأ الفراغ.الماعز توقفت للحظة. الرجل الصغير أمال رأسه. أنڨالو رفع حاجباً، كأسه توقف عند شفتيه.ثم شعرتُ به.نبضة. في عيني. الجوهرة. لم تكن قوية. لم تكن كاملة. لكنها كانت هناك. لثانية. ضوء أخضر خافت، يومض، يختفي. لكن كافية.رفعتُ يدي. لم أفكر. فقط فعلتُ. "تيرا كراش!"الأرض اهتزت.ليس اهتزازاً خفيفاً. انفجاراً. العشب انشق، الزهور طارت، الأرض تحتنا تحطمت، كأن شيئاً عملاقاً داس عليها. الماعز طارت في الهواء، أجسادها الصغيرة تتقلص، تختفي قبل أن تسقط. الرجل الصغير صاح، تاجه يطير، جسده ينفجر في سحابة من الدخان البني، يتلاشى. الزهور، العشب، كل شيء تحتنا انهار في حفرة واسعة، عميقة، مظلمة.سقطتُ على ركبتيّ، أتنفس بصعوبة. الجوهرة توقفت. الضوء اختفى. لكنها كانت كافية.نظرتُ إلى أنڨالو. كأسه سقط من يده، تحطم على العشب. عيناه واسعتان.لأول مرة.

كنتُ أمسك بمونو بكلتا يديّ، ظهري يلامس العشب البارد، والرجل السمين العاري ينحني فوقنا كظلّ ثقيل. كان جسده يهتز مع كل زحفة، بطنه يتدلّى ككيس ماء ممتلئ، أصابعه الرطبة تمتدّ نحوي مرة أخرى، تمسك بكتفي، تسحب. كنتُ أدفع، أركل،

أضرب، لكن كل ضربة كانت تُمتصّ في لحمه الطريّ كأنني أضرب وسادة. مونو كانت لا تزال فاقدة للوعي، رأسها يتدلّى على ذراعي، أنفاسها ضعيفة، جسدها يرتجف بين الحين والآخر كأن الألم يجذبها من الداخل.ثم اهتزّ العالم.لم يكن اهتزازاً عادياً. كان صوتاً عميقاً، كأن قلب الأرض نفسه نبض مرة واحدة. نظرتُ، عيناي تتجاوزن الرجل السمين، إلى حيث كان بليك. رأيته. يقف في وسط حفرة عملاقة، العشب ممزق، الزهور متناثرة، الماعز والرجل الصغير ذو التاج اختفيا كأنّهم لم يكونوا. الجوهرة في عينه تومض للحظة، ثم تنطفئ. أنڨالو كان يقف على بعد، كأسه مكسور على الأرض، وجهه لأول مرة بدون ابتسامة.فهمتُ.ليس تحكم كامل. ليس في كل شيء.

ليس في الوقت نفسه.الرجل السمين شدّني مجدداً، يده تمسك بمونو هذه المرة، أصابعه تلامس ذراعها. لم أدعه. دفعتُ بكلتا يديّ، أمسكتُ بمعصمه، شددتُ، استدرتُ، استخدمتُ وزنه لأرميه جانباً. سقط على جانبه، الزهور تتطاير، لكنه عاد، يزحف، أبطأ هذه المرة.قمتُ بوثبة، مونو لا تزال في حضني، ركضتُ خطوتين إلى الوراء، أضعها على الأرض بلطف، ظهري لها. الرجل كان يقترب. لم أنظر إليه. نظرتُ إلى يديّ. لا سحر. لا ختم. لكن بليك فعلها. للحظة. ثانية واحدة.إذا استطاع هو...الرجل وصل. يده تمتد. تفادتُ. خطوة إلى الجانب، يده تمرّ بجانب وجهي. عاد، يد أخرى. تفادتُ مجدداً، استدرتُ، ركلتُ ساقه. لم تسقط. فقط تراجعت. كنتُ أتحرك، أدور، أتفادى. كل حركة مدروسة، كل خطوة محسوبة. لم أكن أضرب. كنتُ أشغله. أنتظر.ثم شعرتُ به.نبضة. في أصابعي. وهج أزرق خافت،

للحظة. لم يكن كاملاً. لم يكن قوياً. لكن كان هناك."ختم الضعف!"الكلمات خرجت من فمي دون تفكير. الضوء الأزرق انبعث، لفّ جسدي، ثم انطلق. لم يكن كالعادة. لم يكن انفجاراً. كان ضربة واحدة. قبضتي مشدودة، تصطدم بصدر الرجل السمين. لم تكن قوية. لكنها كانت دقيقة.سقط.ليس ببطء. سقط ككيس. جسده اصطدم بالأرض، الزهور تتطاير، ثم بدأ يتلاشى. لم يكن اختفاءً مفاجئاً. كان تدريجياً. لحمه يذوب، يتحول إلى ضباب أبيض، يختفي في الهواء. لم يبقَ سوى بقعة رطبة على العشب.نظرتُ إلى يديّ. الوهج اختفى. لكنني فعلتُها."هذا هو جزاؤك لإظهار خصيتيك القبيحة،" قلتُ، صوتي هادئ، لكنني سمعتُه يتردد.ثم استدرتُ إلى مونو. كانت لا تزال ملقاة، جسدها يرتجف، عيناها مغمضتان. ركعتُ بجانبها، يدي على جبهتها. كانت باردة. لكن النبضة لا تزال هناك. خافتة. لكن موجودة."ختم الضعف،" همستُ مجدداً.الضوء الأزرق عاد، للحظة، لفّ جسد مونو. لم يكن ليضعفها. كان ليختم الألم. ليوقف ما يأكلها من الداخل. الضوء دار حولها، ثم دخل. جسدها توقف عن الارتجاف. أنفاسها أصبحت منتظمة. عيناها فتحتا ببطء.كانت مستيقظة.

استفاقت مونو في هدوء، وكأن الحقل بأكمله يتنفس معها. الحشائش الخضراء الطويلة تحركت بخفة مع نسيم خفيف، وتداعب ساقيها وهي جالسة بين صفوفها. عينيها تفتحتا ببطء، تتبعثر أشعة الضوء الأبيض في السماء فوقها، فتظهر خطوط القلق والارتباك مختلطة بوميض غامض ينبثق من الداخل. تنهدت، وصوتها كان هامسًا بالكاد يسمعه أي أحد: «أين… نحن؟»

أنڨالو وقف على مسافة قليلة، بين الأمواج المتموجة من الحشائش، عيناه تتسعان وهو يراقب مونو بحذر. «مونو… استيقظتِ أخيرًا…» صوته ارتجف قليلًا، محاولًا كبح الخوف، لكنه كان واضحًا في كل نغمة.

مونو لم تتحرك كثيرًا، لكن نظرتها كانت كافية لإرسال موجة من الغضب المكبوت إلى أنڨالو. فجأة، ارتفعت يداها ببطء، والهواء حولهما بدأ يتموج كما لو أنه يراقب تحركاتها. شعاع ذهبي خفيف بدأ يتجمع حول مونو، يتلألأ مع الحشائش، كأنها تتوهج من الداخل، يعلو تدريجيًا إلى وهج متوهج.

«أنڨالو…» همست بحدة، وكأن مجرد نطق اسمه كان يشعل الشرر في الداخل.

هو لم يجرؤ على الاقتراب، خطواته كانت مترددة، الحشائش تصطدم بقدميه بصوت خافت. «مونو… أهدئي…» لكن الكلمات لم تصل إلى قلبها، لم تملك قوة أمام ما بدأ يتجمع.

فجأة، ارتفعت مونو عن الأرض، جسدها يطفو فوق الحشائش الطويلة، والسماء البيضاء تعكس وهجها الذهبي. كل شيء حولها يتوهج كما لو أن الحقل نفسه أصبح جزءًا من طاقتها.

«كفى…» همست، عيونها تتوهج كالذهب المنصهر، ثم فجأة تشكلت كرة ضخمة من الطاقة أمامها، تتلألأ بالضوء الذهبي الساطع. الكرة ارتفعت ببطء، تضخمت في الهواء، والهواء حولها تمزق بصمت، وكأن السماء نفسها تنحني أمام قوتها.

أنڨالو تراجع خطوات، قلبه يدق بقوة، لكنه لم يتوقع قوة كهذه. «مونو… توقفي!» صرخ، صوته ممتزج بالخوف والذهول.

لكن مونو لم تتوقف. الكرة الذهبية انطلقت فجأة، تدمر كل شيء أمامها، تضرب الحشائش، تهز الأرضية، وتمتزج مع النسيم الذي بدأ يلتف حولهم. انفجار الطاقة جعل السماء البيضاء تتوهج للحظة، والحشائش تتماوج كما لو أنها على وشك الانصهار.

أنڨالو حاول الصمود، لكنه لم يكن هناك شيء يمكنه فعله. الكرة اصطدمت به مباشرة، وأصوات التمزق والاحتراق ملأت الفضاء المفتوح. بعد لحظات، هدأ كل شيء، وبدأت بقايا الطاقة الذهبية تتلاشى، تاركة أثرًا من الضوء الباهت على الحشائش الطويلة.

مونو عادت إلى الأرض، تقف بين الحشائش، تتنفس ببطء، عيناها لا تزال متوهجة بوهج باهت. أنڨالو جلس على الأرض، يده على وجهه، ينظر إليها دون أن ينطق بكلمة، وكأن الصمت نفسه كان كافياً للتعبير عن كل شيء.

«لقد… كدتَ تموت…» همس، صوته مهتزًا لكن هادئًا.

مونو لم تجبه. نظرت إلى الفراغ أمامها، ثم عادت عيناها لتستقر على أنڨالو، هدوءها مشوب بتحدٍ داخلي، مع وميض خافت من القوة المتبقية في جسدها.

تمتمت بصوت منخفض: «الآن… انتهى كل شيء هنا.»

جلسوا بين الحشائش الطويلة، صامتين، كل منهم يحاول استيعاب ما حدث، بينما السماء البيضاء ممتدة فوقهم، الحقل كله يبدو وكأنه يختزن السرّ في كل سنبلة من الحشائش، كل خطوة كانت مليئة بالغموض، وكل نفس يمر بينهما كأنه يترك أثرًا من المعنى المجهول.

2025/11/11 · 13 مشاهدة · 7962 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025