في العالم الأبيض الذي لا ينتهي، حيث العشب الأخضر يمتد كبحر جامد تحت سماء بيضاء لا تُظهر شمساً ولا نجوماً، وقفت مونو أمام أباكيو مباشرة. شعرها الأسود القصير يتمايل قليلاً رغم غياب الريح، وعيناها الذهبيتان تضيقان كشفرتين. كانت يداها مضمومتين أمام صدرها، وأصابعها تتوهج بضوء خافت يشبه النجوم المكبوتة داخل قبضة حديدية. أباكيو، بزيه الأسود المفتوح الذي يكشف عن صدره المشدود، ابتسم ابتسامة باردة لا تصل إلى عينيه الفضيتين. شعره الطويل يتدفق خلفه كستارة من الثلج السائل، ويده اليمنى مرفوعة ببطء، كأنه يرسم خطاً في الهواء لا يراه أحد سواه.لم يكن هناك صوت في البداية، سوى نبض خفيف في أذني مونو، نبض يشبه قلبها الاصطناعي الذي يعمل بالمانا. ثم بدأ الهواء يتجمد حول يد أباكيو، ليس برداً عادياً، بل برداً يحمل ذكريات. الستاند الخاص به، الذي لم يُعلن عن اسمه بعد، بدأ يتجسد كظلال تتسلل من أصابعه، ظلال تتحول تدريجياً إلى أشكال بشرية شفافة،
كأنها أفلام قديمة تُعرض على ستار من الضباب. الأرض تحت قدمي مونو بدأت ترتجف قليلاً، ليس زلزالاً، بل كأن الماضي نفسه يحاول الخروج من تحت التراب.أول ما ظهر كان قدم صغيرة، قدم طفل حافية مغطاة بالغبار، ثم ساق نحيلة مليئة بالخدوش. ثم الجسم كله، فتى لا يتجاوز الثانية عشرة، جسده هزيل كأنه لم يأكل منذ أيام، ملابسه ممزقة وملطخة بالدم الجاف. رأسه مغطى بكيس قماشي قديم، كيس من الخيش الخشن مربوط بحبل حول عنقه، وفي منتصف الكيس فتحتان صغيرتان تكشفان عن عينين واسعتين، عينين مليئتين بالرعب والحيرة. الفتى لم يكن حقيقياً تماماً، كان شبحاً، نسخة من ماضٍ حدث في مكان آخر، لكنه الآن يقف هنا، في العالم الأبيض، ينظر مباشرة إلى مونو.الفتى لم يتحرك في البداية. وقف فقط، يداه معلقتان بجانبيه، أصابعه ترتجف. ثم رفع رأسه ببطء، والكيس يتحرك معه كجلد ثانٍ. عيناه من خلال الفتحتين كانتا تتوسعان أكثر، كأنه يرى شيئاً لا يفهمه. فمه، المخفي تحت الكيس، بدأ يتحرك، وصوت خرج منه، صوت طفولي مكسور، صوت لم يُسمع منذ سنوات: "لماذا...؟"كلمة واحدة، لكنها حملت وزن جبال. مونو شعرت بها كضربة في صدرها. عيناها الذهبيتان توسعتا للحظة، ثم ضاقتا بغضب لم تشعر به من قبل. الذكرى ضربتها كموجة: غرفة مظلمة، أيدي خشنة تمسك بكيس، صراخ مكتوم، رائحة التراب الرطب، وجهها هي نفسها في المرآة قبل أن تصبح مونو، قبل أن تُخلق كروح اصطناعية. الفتى لم يكن عشوائياً. كان هو. كان نسخة من طفولتها المفقودة،
من اللحظة التي سُرقت فيها إنسانيتها، من اليوم الذي رُبط فيه الكيس على رأسها وهي طفلة في مختبر سري، مختبر حيث حُقنت بالمانا لأول مرة، حيث ماتت الفتاة الصغيرة وولدت مونو.أباكيو لم يقل شيئاً. وقف فقط، يده لا تزال مرفوعة، عيناه تراقبان رد فعل مونو كعالم يراقب تجربته. الفتى الشبح تقدم خطوة واحدة، ثم أخرى، قدماه لا تترك أثراً على العشب، لكنه يقترب. "لماذا... تركتيني؟" الصوت الآن أعلى، أكثر إلحاحاً. "لماذا لم تنقذيني؟" الفتى رفع يده النحيلة، يشير إلى مونو، أصابعه ترتجف كأنها ستتحطم. "أنا... كنتُ أنتِ... لماذا أصبحتِ هكذا؟"مونو لم ترد بالكلام. جسدها بدأ يتوهج، ليس الضوء الذهبي الهادئ المعتاد، بل توهج أحمر مختلط بالذهب، كأن الغضب يحرق المانا داخلها. يداها انفتحتا ببطء، وكرة صغيرة بدأت تتشكل بينهما، كرة ليست أكبر من قبضة يد، لكنها تحمل كثافة نجم. الهواء حولها بدأ يتشقق، شقوق صغيرة في الفراغ نفسه، شقوق تطلق شرارات ذهبية. الفتى الشبح استمر في الاقتراب، عيناه مليئتان بالدموع الشفافة التي لا تسقط، "لماذا... قتلتيني؟"في تلك اللحظة، انفجر الغضب. مونو لم تصرخ، لم تتحدث، لم تفعل شيئاً سوى رفع يدها اليمنى. الكرة الذهبية كبرت فجأة، ليست كرة الآن، بل قذيفة، قذيفة من الضوء المضغوط، سطحها يتماوج كسطح بحيرة من الذهب المنصهر. أباكيو شعر بالخطر لأول مرة، عيناه تضيقان،
لكنه لم يتحرك. الفتى الشبح كان على بعد متر واحد الآن، يده ممدودة كأنه يريد لمس وجه مونو.ثم أطلقتها.الكرة انطلقت بسرعة لا يمكن للعين تتبعها، لكنها لم تكن سريعة فحسب، كانت مدمرة. مرت من خلال الفتى الشبح أولاً، مزقته كورقة، حولته إلى غبار ذهبي يتطاير في الهواء. الغبار لم يسقط، بل استمر في الدوران حول مسار الكرة، كأنها تجذب كل ذكرى، كل ألم، كل لحظة من الماضي. ثم وصلت إلى أباكيو.الضربة لم تكن انفجاراً عادياً. كانت انهياراً. الكرة اصطدمت بصدر أباكيو مباشرة، لكن بدلاً من أن تنفجر، بدأت تمتص. امتصت الستاند، امتصت الظلال، امتصت الهواء نفسه. أباكيو فتح عينيه على وسعهما، فمه يفتح في صرخة صامتة. جسده بدأ يتشقق من نقطة الاصطدام، شقوق ذهبية تنتشر كشبكة عنكبوت على جلده، ثم على زيه، ثم على الستاند الشفاف خلفه. الشقوق لم تكن دماً، بل ضوءاً، ضوءاً يخرج من داخل جسده كأنه كان مليئاً بالنجوم.ثم انفجر.ليس انفجاراً صوتياً، بل انهياراً كونياً. الضوء الذهبي امتد لعشرات الأمتار، يحرق العشب، يشق السماء البيضاء، يترك خلفه حفرة عميقة في الأرض لا قعر لها. أباكيو لم يطير، لم يسقط. تفكك. جسده تحول إلى جزيئات ذهبية، جزيئات تتطاير ثم تتلاشى في الهواء، كأن الوجود نفسه رفض بقاءه. الستاند اختفى معه، الظلال عادت إلى الفراغ،
والفتى الشبح لم يعد موجوداً.الصمت عاد، لكن الصمت الآن مختلف. الصمت بعد عاصفة. مونو وقفت في مكانها، يدها لا تزال مرفوعة، أصابعها ترتجف قليلاً. الضوء الذهبي حولها بدأ يخفت، يعود إلى جسدها، يترك خلفه فقط رائحة خفيفة تشبه المعدن المحمى. نظرت إلى المكان الذي كان يقف فيه أباكيو، حفرة سوداء الآن، حفرة لا تطلق دخاناً، فقط فراغاً.ثم خفضت يدها ببطء. عيناها الذهبيتان عادتا إلى طبيعتها، لكن في أعماقهما، شيء تغير. لم يعد الغضب، بل شيء أعمق. شيء يشبه الحداد. التفت إلى بليك ونيرو، اللذين كانا يقاتلان في الخلفية، وقالت بصوت هادئ، صوت لا يرتجف: "انتهى."لكن العالم الأبيض لم ينته. السماء البيضاء بدأت تتشقق في البعيد، شقوق بيضاء على بياض، كأن الكتاب نفسه يبدأ في التمزق. والحرب، الحرب الحقيقية، كانت لا تزال في بدايتها.
في أعقاب الانهيار الذهبي الذي مزق أباكيو إلى ذرات لا تُرى، انحدر الصمت على العالم الأبيض كغيمة ثقيلة، لكنه لم يدم. على بعد مئات الأمتار، حيث يمتد العشب كبحر من الزمرد المجمد، كانت نيرو تواجه جولين. الريح الخفية التي لا توجد إلا في هذا العالم بدأت تهب، تحمل معها رائحة المعدن المحمى ورذاذ المانا المتبخر.جولين لم تكن تقف بعد الآن. جسدها، الذي كان يبدو كدمية خزفية قبل لحظات، بدأ يتفكك بسلاسة مخيفة. لم يكن تفككاً دموياً، بل تحولاً عضوياً، كأن الجلد نفسه يذوب إلى خيوط. أول ما انفصل كانت أطراف أصابعها اليمنى، خمسة خيوط فضية رفيعة كالشعيرات، كل واحدة تنبض بحياة مستقلة. ثم تبعتها اليد بأكملها، تتفتت إلى عشرات الخيوط المتشابكة، ثم الذراع، ثم الكتف. في أقل من ثانيتين، تحول الجزء العلوي من جسدها إلى سحابة من الخيوط المتماوجة، خيوط تتراوح سمكها بين الشعرة والحبل، كلها تتحرك بتناسق مرعب، كأنها كائن واحد موزع على آلاف الأجسام.الخيوط لم تبقَ معلقة حول جولين. انطلقت.
بعضها انغرس في الأرض، يحفر أنفاقاً صغيرة كالديدان، يخرج من الجهة الأخرى على بعد عشرات الأمتار خلف نيرو. بعضها صعد إلى السماء البيضاء، يتلوى كثعابين في الهواء، يرسم دوائر وأشكالاً هندسية معقدة. والبعض الآخر بقي قريباً، يدور حول المكان الذي كانت تقف فيه جولين، يشكل درعاً حياً، درعاً ينبض ويتنفس.نيرو لم تتحرك في البداية. وقفت فقط، قدماها متباعدتان بمسافة كتف، ذراعاها مرفوعتان قليلاً، قبضتاها مضمومتان. عيناها الزرقاوان الداكنتين تضيقان، تتبعان حركة كل خيط كأنها ترى في بُعد آخر. ثم بدأت تتحرك يدها اليمنى. أصابعها ترسم في الهواء، ليس رسماً عشوائياً، بل رموزاً دقيقة، رموزاً من لغة قديمة لا يعرفها سوى القلة. كل رمز يترك أثراً أزرق في الهواء، أثر يبقى لثانية قبل أن ينغرس في جلد ذراعها.الختم الأول: دائرة صغيرة في منتصف راحة يدها، بداخلها ثلاثة خطوط متعامدة. الختم الثاني: مثلث مقلوب فوق الدائرة، حوافه تتوهج. الختم الثالث: حلقة خارجية من النقاط السبع، كل نقطة تتحرك ككوكب في مدار. عندما اكتملت الرموز، ضغطت نيرو قبضتها. الختم لم يضيء، بل امتص الضوء. المانا حولها بدأت تتجمع، تتكثف، تتحول إلى درع غير مرئي يغلف جسدها بالكامل. عضلاتها انتفخت قليلاً، ليس تضخماً عضلياً، بل صلابة، صلابة تشبه الحديد المطروق على السندان لآلاف السنين.
أول هجوم جاء من الخلف. خمسة خيوط رفيعة انبثقت من الأرض خلف نيرو، كأنها أنياب أفعى، تستهدف أوتار ركبتيها. لم تلتفت. رفعت قدمها اليسرى بسرعة، ثم هبطت بها على الأرض بقوة. الصدمة لم تكن صوتية، بل اهتزازية. موجة من المانا انتشرت من تحت قدمها، موجة دائرية سوداء اللون، قطعت الخيوط الخمسة في منتصفها. الخيوط المقطوعة تلوت للحظة، ثم تحولت إلى غبار فضي يتساقط كالثلج.لكن هذا كان مجرد بداية. من الأمام، عشرون خيطاً سميكاً انطلقت كأسهم، كل واحدة تحمل طرفاً حاداً كالإبرة، تستهدف الصدر، الرقبة، العينين. نيرو لم تتراجع. تقدمت. خطوة واحدة، ثم أخرى، ثم اندفعت. قبضتها اليمنى ضربت الهواء أمامها، لكن الضربة لم تكن في الفراغ. اصطدمت بثلاثة خيوط في وقت واحد، سحقتهم كأنهم أعواد ثقاب. الخيوط تحطمت، أجزاؤها تتطاير، لكن الأجزاء لم تسقط. عادت تتجمع في الهواء، تتشكل من جديد، خيوط أصغر، أسرع.جولين – أو ما تبقى منها – لم تكن صامتة. من بين الخيوط، صوتها خرج، صوت متعدد، كأنه يأتي من آلاف الأفواه في وقت واحد: "لن تمسكيني... أنا في كل مكان..." الخيوط بدأت تتحرك بسرعة أكبر. مائة خيط الآن، ثم مائتان، ثم ألف. يحيطن بنيرو من كل الجهات، يشكلن قفصاً حياً، قفصاً يضيق تدريجياً.
الخيوط الرفيعة تقطع الهواء بصفير، السميكة تضرب الأرض محدثة حفراً، والمتوسطة تتلوى كالثعابين، تبحث عن ثغرة في درع نيرو.نيرو لم تتوقف. كانت تتحرك داخل القفص، ليس بحركات بهلوانية، بل بحركات دقيقة، اقتصادية. كل ضربة من قبضتيها كانت مدروسة. ضربة يسرى في الأسفل، تسحق خيطاً سميكاً كان يحاول لف ساقها. ضربة يمنى في الأعلى، تقطع خمسة خيوط رفيعة كانت تستهدف عينيها. كل ضربة تترك أثراً، أثر أزرق داكن يبقى في الهواء للحظة، ثم ينفجر، يرسل موجة صغيرة تقطع الخيوط المحيطة.لكن الخيوط كانت تتجدد. كل خيط مقطوع يتحول إلى عشرة أصغر. القفص أصبح أصغر، أكثر كثافة. الخيوط الآن تلمس درع نيرو، تحاول النفاذ. بعضها ينجح. خيط رفيع جداً يتسلل بين الرموز، يخدش جلد ذراعها، يترك خط دم أحمر. الألم جاء، لكنه لم يوقفها. بالعكس. جعلها أسرع.رفعت ذراعيها فجأة، ثم ضربت الأرض بقبضتيها معاً. الصدمة كانت هائلة. الأرض انشقت في دائرة قطرها عشرة أمتار، شقوق سوداء تنتشر كشبكة عنكبوت. موجة المانا التي خرجت لم تكن موجة عادية. كانت ختم الضعف في أقصى قوته. كل خيط لامس الموجة توقف، تجمد، ثم تحطم. آلاف الخيوط تحولت إلى غبار فضي في لحظة واحدة.
الغبار لم يسقط، بل علق في الهواء، يشكل سحابة لامعة.في وسط السحابة، ظهرت جولين من جديد. لم تكن كاملة. نصف جسدها فقط، الجزء الأيسر، الخيوط تتجمع ببطء لتشكل الذراع، الصدر، الوجه. عيناها فارغتان، لكن فمها يبتسم. "جميل..." قالت، صوتها الآن واحد، لكنه مشوه. "لكنني لم أنتهِ..."الخيوط المتبقية في الأرض، في السماء، في كل مكان، بدأت تتحرك من جديد. لكن نيرو لم تنتظر. اندفعت إلى الأمام، قبضتاها مضيئتان الآن، مضيئتان بضوء أزرق غامق يشبه البرق المكبوت. كل خطوة من خطواتها تترك أثراً، أثر يحرق العشب، يشق الأرض. وصلت إلى جولين في ثانية، قبضتها اليمنى مرفوعة، مستعدة للضربة الأخيرة.لكن الخيوط كانت أسرع. آلاف الخيوط انطلقت من كل مكان، تلتف حول ذراعي نيرو، حول ساقيها، حول عنقها. لم تكن تحاول التقطيع الآن، بل التقييد. الخيوط شديدة الصلابة، صلبة كالفولاذ. نيرو توقفت، عضلاتها تنتفخ، تحاول التمزق، لكن الخيوط لا تتمزق.ثم فعلتها. أغلقت عينيها. الختم على ذراعها بدأ يتوهج بضوء أبيض، ليس أزرق، أبيض نقي. المانا داخل جسدها بدأت تتدفق بعكس الاتجاه، ليس للخارج، بل للداخل.
الخيوط التي تلتف حولها بدأت ترتجف، ثم تتشقق، ثم تنفجر. لم يكن انفجاراً كبيراً، بل انفجارات صغيرة متتالية، كل خيط ينفجر لوحده، يرسل شرارات فضية في الهواء.عندما انتهى كل شيء، كانت نيرو تقف وحدها. جولين اختفت. لم يبقَ منها سوى بقعة صغيرة على الأرض، بقعة من الغبار الفضي الذي يتلاشى ببطء. نيرو خفضت قبضتيها، تنفسها منتظماً، لكن عيناها لا تزالان مضيئتين. التفت إلى الجهة التي كانت مونو فيها، ثم إلى بليك البعيد، ثم إلى السماء البيضاء التي بدأت تتشقق أكثر.المعركة لم تنته. لكن هذه الجولة، على الأقل، كانت لها
في قلب العالم الأبيض، حيث السماء البيضاء تتفتت كصفحة ورقية قديمة، وقف بليك كجبل لا يتزحزح. العشب تحت قدميه لم يعد عشباً، بل كان يتماوج كأمواج بحر من الزمرد السائل، يرتفع ويهبط بتنفس كائن عملاق نائم تحت الأرض. أمامه، انڨالو. لم يكن انڨالو إنساناً، بل كان ظلاً يرتدي هيئة بشرية، رداءه الأسود يتدفق كدخان حي، عيناه حفرتان سوداوان لا قعر لهما، ويداه مرفوعتان كما لو كان يعزف على أوتار الواقع نفسه.الهواء حول انڨالو بدأ يتشوه أولاً. لم يكن تشوهاً عشوائياً، بل تحكماً دقيقاً، كأن الفراغ نفسه يصبح طيناً بين أصابعه. الأرض تحت قدمي بليك انشقت فجأة، لكنها لم تنشق إلى أسفل، بل إلى أعلى. قطع من العشب ارتفعت كجزر عائمة، تدور حول بليك ككواكب صغيرة، ثم بدأت تتحول. العشب أصبح حجارة، الحجارة أصبحت سيوفاً، السيوف أصبحت أفاعي من نار سوداء، كلها تتجه نحو بليك بسرعة البرق.بليك لم يتحرك. لم يرفع يديه ليحمي نفسه، لم يتراجع. وقف فقط، عضلاته الضخمة تتقلص تحت قميصه الممزق، قبضتاه مضمومتان بجانبيه. الأفاعي النارية وصلت إليه، لفت حول ذراعيه،
حول صدره، حول عنقه. النار لم تحرق، بل حاولت الذوبان، حاولت إعادة كتابة جسده، تحويله إلى شيء آخر. لكن جسد بليك لم يكن جسداً عادياً. كان لغزاً. المانا التي حُقنت فيه منذ ولادته، المانا التي ألغت السحر عنه، جعلته فراغاً، حفرة سوداء تبتلع كل محاولة للتلاعب.الأفاعي بدأت ترتجف. النار السوداء خفت، ثم انطفأت. تحولت إلى رماد يتساقط ببطء، رماد يذوب في الهواء قبل أن يلمس الأرض. انڨالو ضيق عينيه. يده اليسرى تحركت هذه المرة، أصابعه ترسم رموزاً في الهواء، رموزاً تتوهج باللون الأرجواني الداكن. الواقع استجاب فوراً. السماء البيضاء انفتحت، لكنها لم تنفتح على الفراغ، بل على بحر من الرمال المتحركة، رمال سوداء تتدفق كشلال، تتجه مباشرة نحو بليك.الرمال لم تكن رمالاً عادية. كانت حية. كل حبة رمل كانت عيناً، فماً، ناباً. بدأت تتجمع حول قدمي بليك، ترتفع، تحاول بلعه. في ثوانٍ، وصلت إلى ركبتيه، ثم فخذيه، ثم خصره. بليك لم يتحرك. لكن قبضته اليمنى بدأت تتوهج، ليس بضوء سحري، بل بضوء جسدي، ضوء العضلات المشدودة إلى أقصى حد، ضوء الدم الذي يجري كأنه نهر من الحديد المنصهر.ثم ضرب.قبضته هبطت على الرمال بقوة لم يسمعها أحد، لكن الجميع شعر بها. الصدمة لم تكن صوتية، بل اهتزازية. الأرض انشقت في دائرة قطرها مائة متر، الرمال السوداء توقفت، تجمدت، ثم تحطمت. كل حبة رمل انفجرت إلى غبار، غبار يتطاير كعاصفة. الجزر العائمة التي كانت تدور حول بليك سقطت، تحطمت على الأرض، تحولت إلى عشب مرة أخرى.انڨالو لم يتوقف. يده اليمنى الآن، أصابعه تنقر في الهواء كعازف بيانو مجنون.
الواقع بدأ يتغير بسرعة أكبر. الأرض تحت بليك تحولت إلى مستنقع من الوحل الأسود، وحل يغلي، يطلق فقاعات من السم. ثم السماء، السماء أصبحت مرآة، مرآة تعكس بليك نفسه، لكن ليس بليك الحقيقي. بليك المعكوس كان أكبر، أضخم، عيناه حمراء، قبضتاه مضيئتان بسحر أسود. المعكوس قفز من المرآة، هبط أمام بليك، قبضته مرفوعة.الضربة الأولى جاءت من المعكوس. قبضة هائلة ضربت صدر بليك، لكن بليك لم يطير. وقف فقط، صدره يهتز، لكن قدماه ثابتتان. ثم رد. قبضته اليسرى اصطدمت بوجه المعكوس، لم تكن ضربة عادية. كانت انهياراً. وجه المعكوس تشقق، ثم تحطم، تحول إلى زجاج مكسور يتطاير. لكن الزجاج لم يسقط. عاد يتجمع، يشكل المعكوس من جديد، أسرع، أقوى.القتال بدأ الآن.بليك اندفع إلى الأمام، قبضتاه تتحركان بسرعة لا يمكن تتبعها، كل ضربة تصدر صوتاً كالرعد. المعكوس يرد بنفس القوة، قبضتاه تصطدمان بقبضتي بليك، كل اصطدام يرسل موجة صدمية تشق الأرض، تكسر الجزر العائمة، تحرك السماء. الوحل الأسود تحت أقدامهما بدأ يغلي بقوة أكبر، يطلق أعمدة من السم، لكن السم لا يلمس بليك. يذوب قبل أن يصل.انڨالو كان يراقب، يداه لا تتوقفان. الواقع حوله يتغير باستمرار.
الآن، الأرض أصبحت جليداً، جليداً أسود ينزلق. بليك والمعكوس ينزلقان، لكن بليك لا يسقط. يضرب الأرض بقدمه، يكسر الجليد، يخلق نقطة ثبات. المعكوس يحاول الالتفاف، لكن بليك أسرع. قبضته اليمنى تخترق دفاع المعكوس، تصيب صدره، تخترقه. المعكوس يتفكك، لكن هذه المرة، لا يتجمع من جديد.انڨالو غير تعبيره لأول مرة. لم يكن خوفاً، بل دهشة. يده اليسرى الآن، أصابعه ترسم دائرة كبيرة في الهواء. الواقع استجاب بقوة أكبر. السماء انفتحت مرة أخرى، لكن هذه المرة، لم يكن بحر رمال، بل كان عاصفة من الظلال، ظلال تأخذ شكل وحوش، تنانين، عمالقة، كلها تتجه نحو بليك.بليك لم يتوقف. اندفع إلى الأمام، يخترق الظلال بقبضتيه. كل ضربة تسحق وحشاً، تحول تنيناً إلى دخان، تكسر عملاقاً إلى غبار. لكن الظلال لا تنتهي. كلما سحق واحدة، ظهر عشرة. انڨالو بدأ يتراجع، خطوة، ثم أخرى. يده اليمنى الآن، ترسم رمزاً أخيراً، رمزاً معقداً، رمزاً يتوهج باللون الأحمر الدموي.الواقع توقف.كل شيء توقف. الظلال، العشب، السماء، الريح. كل شيء تجمد في مكانه. بليك توقف في منتصف ضربة، قبضته مرفوعة. انڨالو ابتسم. "الآن..." قال، صوته يتردد في الفراغ.
"سأمحوك من الوجود."لكن بليك لم يكن متجمداً تماماً. قبضته، قبضته كانت لا تزال تتحرك. ببطء، بطء مؤلم، لكنها تتحرك. العضلات ترتجف، العروق تنتفخ، المانا داخل جسده ترفض التوقف. الرمز الأحمر بدأ يتشقق. انڨالو وسع عينيه.ثم انفجر.بليك اندفع إلى الأمام، قبضتاه تضربان في وقت واحد. الضربة الأولى كسرت التجميد، الضربة الثانية وصلت إلى انڨالو. لم تكن ضربة عادية. كانت نهاية. قبضة بليك اخترقت صدر انڨالو، لم تخترقه فقط، بل مزقته. الرداء الأسود تحطم، الظلال تفككت، الواقع نفسه بدأ يعود إلى طبيعته. انڨالو لم يصرخ. فقط نظر إلى بليك، عيناه تفقدان الضوء، ثم تفكك. جسده تحول إلى غبار أسود، غبار يتطاير مع الريح التي عادت تهب.بليك وقف في مكانه، قبضتاه لا تزالان مضمومتين، تنفسه منتظماً. التفت إلى نيرو، ثم إلى مونو، ثم إلى السماء التي بدأت تتشقق أكثر. الحرب لم تنته. لكن هذه المعركة، معركة الواقع نفسه، كانت قد انتهت.بانتصار.
في أعمق نقطة من العالم الأبيض، حيث يلتقي العشب بالفراغ وتتوقف السماء عن التشقق للحظة، انفتحت بوابة. لم تكن بوابة عادية، بل شقاً في الواقع نفسه، شقاً أسود اللون ينبض كجرح مفتوح. من خلاله، سقطت ثلاثة أجساد، ليست سقوطاً عنيفاً، بل هبوطاً بطيئاً، كأن الجاذبية نفسها تتردد في لمسهم.أولاً، أباكيو. جسده الممزق، الذي كان قد تفكك إلى جزيئات ذهبية، عاد يتجمع ببطء، لكن ليس كاملاً. الشقوق الذهبية لا تزال تنتشر على صدره، على ذراعيه، على وجهه، شقوق تطلق ضوءاً خافتاً كأنها نجوم محتضرة. سقط على ظهره، عيناه مغلقتان، شعره الطويل يتدفق على العشب كدماء بيضاء. لم يتحرك. تنفسه غير موجود، لكن قلبه – إن كان لا يزال موجوداً – ينبض بضعف، نبض يشبه همس الموت.ثم انڨالو. الظل الذي كان يتحكم في الواقع، الآن مجرد كومة من الدخان الأسود المتصلب. رداؤه الممزق يتدلى من جسده الهزيل، جسد أصبح شفافاً جزئياً، كأن الوجود نفسه يرفض الاحتفاظ به. سقط على جانبه، يده اليمنى ممدودة كأنها لا تزال تحاول رسم رمز، لكن أصابعه متجمدة، متكسرة. عيناه مفتوحتان، لكنهما فارغتان، حفرتان لا تعكسان شيئاً. لا صوت، لا حركة، فقط بقايا قوة كانت تتحدى الكون.أخيراً، جولين. الخيوط التي كانت تملأ السماء، الآ
ن مجرد حفنة من الخيوط الفضية المقطعة، متشابكة حول جسدها النصفي.
الجزء الأيمن من جسدها مفقود تماماً، مقطوع عند الكتف، عند الخصر، عند الفخذ. الدم – إن كان دماً – لا يتدفق، بل يتجمد في الهواء كبلورات فضية. سقطت على بطنها، وجهها ملتصق بالعشب، عيناها مفتوحتان، لكنها لا ترى. خيط واحد فقط لا يزال حياً، خيط رفيع يخرج من إصبعها اليسرى، يتلوى بضعف، يحاول الوصول إلى شيء، لكنه ينهار قبل أن يتحرك متراً.البوابة أغلقت خلفهم بصوت لم يكن صوتاً، بل إحساساً بالاختناق. العالم الأبيض عاد إلى صمته، لكن الصمت الآن مختلف. صمت ما بعد المعركة، صمت يحمل رائحة المانا المحترقة والأجساد المكسورة.بليك كان الأول الذي وصل. خطواته الثقيلة تهز الأرض، كل خطوة تترك أثراً عميقاً في العشب. عضلاته لا تزال مشدودة، قبضتاه مضمومتان، لكن عيناه – عيناه الرماديتان – تضيقان وهو يرى الأجساد. لم يقل شيئاً. وقف فقط، يراقب، كأنه يقيم ما إذا كانوا أحياء أم لا.ثم مونو. ظهرت من الضباب الذهبي الذي لا يزال يتطاير في الهواء، شعرها الأسود يتمايل، عيناها الذهبيتان باردتان كالعادة. لم تمشِ، بل انزلقت، قدماها لا تلامسان الأرض تماماً. توقفت بجانب أباكيو، نظرت إليه للحظة، ثم رفعت يدها. كرة ذهبية صغيرة تشكلت في راحة يدها، لكنها لم تطلقها. خفضت يدها ببطء. "لا يزال حياً،" قالت، صوتها هادئ،
لكنه يحمل نبرة لم يسمعها أحد من قبل. نبرة شك.نيرو كانت الأخيرة. وصلت بخطوات سريعة، لكن ليست مذعورة. ذراعاها مطويان، الختم الأزرق على جلدها لا يزال يتوهج بضعف. توقفت أمام جولين، نظرت إلى الخيط الوحيد المتبقي، ثم ركلت الأرض بجانبها. العشب انشق، والخيط سقط، تحطم. "هذه... لم تمت بعد،" قالت، صوتها حاد كشفرة.الثلاثة تجمعوا حول جولين. لم يكن تجمعاً عشوائياً. بليك وقف في الأمام، مونو على اليمين، نيرو على اليسار. جولين كانت بينهم، جسدها النصفي يرتجف بضعف، عيناها تحاولان التركيز. فمها تحرك، لكن لا صوت. بليك انحنى، قبضته اليمنى تمسك بكتفها المتبقي، ليست بقوة، لكن بما يكفي ليجعلها تشعر. "الستاند،" قال، صوته عميق، كأنه يخرج من أعماق الأرض. "ما هو."جولين حاولت الابتسام. ابتسامة مشوهة، أسنانها مكسورة، دماء فضية تتدفق من زاوية فمها. "لن... أخبركم..."مونو تقدمت خطوة. يدها اليسرى مرفوعة، أصابعها تتوهج. "سنأخذ الإجابة إن لم تعطيها،" قالت، صوتها بارد كالثلج. كرة ذهبية صغيرة ظهرت فوق إصبعها، تدور ببطء، لكنها تحمل تهديداً واضحاً.نيرو لم تتحدث. رفعت قدمها فقط، وضعتها على ظهر جولين، ليست بقوة، لكن بما يكفي لتضغط. جولين أغمضت عينيها، ثم فتحتهيا. "حسناً..." همست،
صوتها مكسور، لكنه واضح الآن. "الستاند... هو..."بدأت تتكلم. الكلمات خرجت ببطء، كأن كل كلمة تكلفها جزءاً من روحها."الستاند هو تجسيد مادي لطاقة حياة الشخص... أو روحه. كيان نفسي يولد من المستخدم... يُدعى مستخدم الستاند."توقفت للحظة، تنفسها متقطع. بليك ضغط على كتفها أكثر. استمرت."يظهر كشكل أثيري... يحوم فوق المستخدم أو بجانبه... مستعد للعمل بأوامره. لهذا يُسمى 'ستاند'... يقف بجانبك."مونو أومأت برأسها ببطء، عيناها تضيقان. نيرو رفعت حاجبها."كل ستاند له قدرة فريدة... خارقة للطبيعة... مختلفة تماماً... تعطي المستخدم قوة تفوق الإنسان العادي بمراحل."جولين توقفت مرة أخرى، دماء فضية تسيل من فمها. بليك رفع يده، أشار إلى نيرو. نيرو رفعت قدمها، لكن مونو هزت رأسها. "استمري،" قالت."الستاند غير مرئي... للأشخاص العاديين. فقط مستخدمو الستاند يرونه. لكنه يتفاعل مع الأجسام العادية... رغم أنه أثيري."بليك أومأ. "العلاقة؟"جولين ابتسمت ابتسامة مريرة. "مرتبط بنا... ارتباط وثيق. إذا أصيب الستاند... يصاب المستخدم. والعكس. لا يمكن إيذاء الستاند... إلا بستاند آخر."نظرت إلى الثلاثة، عيناها تفقدان الضوء تدريجياً. "باختصار... الستاند هو شريك قتال خارق... يمثل روحك... وقوتك.
"الصمت عاد. لكن الصمت الآن مختلف. صمت الفهم. بليك ترك كتفها، وقف. مونو خفضت يدها، الكرة الذهبية اختفت. نيرو نظرت إلى السماء، ثم إلى الأجساد الثلاثة."إذن..." قال بليك أخيراً، صوته هادئ، لكنه يحمل وزن جبال. "المعركة الحقيقية... لم تبدأ بعد."مونو نظرت إلى البوابة التي أغلقت، ثم إلى أباكيو وانڨالو. "هم ليسوا الأعداء الوحيدين،" قالت.نيرو ابتسمت ابتسامة صغيرة، لكنها ليست سعيدة. "بل هم مجرد البداية."جولين أغمضت عينيها. الخيط الأخير تحطم. جسدها توقف عن الارتجاف. لكن الستاند... الستاند لم يمت. شيء ما، شيء أثيري، لا يزال يحوم في الهواء، غير مرئي، ينتظر.العالم الأبيض بدأ يتشقق مرة أخرى. لكن هذه المرة، الشقوق لم تكن عشوائية. كانت تشكل كلمة. كلمة واحدة، مكتوبة بلغة لا يعرفها أحد."ستاند."
في قلب العالم الأبيض الذي بدأ ينهار ببطء، وقف الثلاثة حول الأجساد الثلاثة الممددة على العشب الذي لم يعد أخضر، بل أبيض كالرماد. السماء فوق رؤوسهم لم تعد سماء، بل صفحة كتاب مفتوحة، حوافها تحترق بضوء أبيض خافت، والكلمات تتلاشى منها كأن الحبر يذوب في الفراغ. الهواء نفسه أصبح ثقيلاً، كأن كل نفس يسحب جزءاً من الروح.بليك كان الأول الذي تحرك. خطا خطوة إلى الأمام، قدماه تغوصان في العشب حتى الكاحل، ثم التفت إلى مونو ونيرو. "لا يمكننا البقاء هنا،" قال، صوته منخفض، لكنه يتردد في الفراغ كأنه يخرج من كهف عميق. "الكتاب يغلق. إذا بقينا، سنصبح جزءاً منه."مونو نظرت إلى السماء، عيناها الذهبيتان تضيقان. "الستاند... طاقته لا تزال هنا. الكتاب ليس مجرد مكان. إنه عقل. عقل انڨالو. إذا أغلق، سنُحبس في وعيه." يدها اليمنى تحركت ببطء، أصابعها ترسم خطاً في الهواء، خطاً ذهبياً يتلاشى فوراً. "لا بوابة. لا مخرج. لا شيء."نيرو وقفت بجانب جولين، قدمها لا تزال على ظهرها، لكن الآن لا حاجة للضغط. جولين لم تعد تتحرك. "إذن كيف نخرج؟" سألت، صوتها حاد، لكنه يحمل نبرة شك. "ليس لدينا مفتاح. ليس لدينا تعويذة. ليس لدينا شيء سوى قبضتينا ومانا."بليك لم يرد فوراً. أغلق عينيه. في ذهنه، صفحات شمس المعارف بدأت تتقلب،
صفحات لم يقرأها من قبل، صفحات كتبها أناس ماتوا قبل آلاف السنين، أناس تحدوا الواقع نفسه. كل صفحة تحمل تعويذة، كل تعويذة تحمل إمكانية. لكنه لم يكن يبحث عن أي تعويذة. كان يبحث عن واحدة محددة. واحدة قرأها مرة في ليلة ممطرة، ليلة كان فيها وحيداً في غرفة مظلمة، يقرأ بضوء شمعة."تحويل الواقع إلى باب."فتح عينيه. "وجدتها،" قال.مونو التفتت إليه بسرعة. "من شمس المعارف؟" سألت، صوتها يحمل نبرة تحذير. "تلك التعويذة... لم تُستعمل من قبل. ليس في مكان كهذا.""لأنها لا تعمل في مكان عادي،" رد بليك. "تحتاج إلى طاقة روحية هائلة. طاقة كافية لتحويل الواقع نفسه إلى ممر. وهنا..." نظر حوله، إلى الأجساد، إلى السماء، إلى العشب. "هنا مليء بطاقة الستاند. طاقة أرواح. طاقة كافية لتمزيق الكتاب نفسه."نيرو رفعت حاجبها. "وإذا فشلت؟"بليك لم يرد. بدأ يتحرك.وقف في منتصف الدائرة، بين الأجساد الثلاثة. رفع ذراعيه ببطء، قبضتاه مفتوحتان، راحتا يديه موجهتان إلى الأرض. عيناه مغلقتان مرة أخرى. بدأ يهمس. لم تكن كلمات عادية. كانت لغة قديمة، لغة لا تنطق بها الأفواه، بل الأرواح. كل كلمة تخرج من فمه كأنها حجر يسقط في بحيرة ساكنة، يرسل دوائر من الضوء الأسود في الهواء.الأرض بدأت ترتجف.ليس اهتزازاً عادياً. بل نبضاً. نبض قلب عملاق. العشب تحت قدميه بدأ يتحول، ليس إلى تراب، بل إلى ضوء.
ضوء أسود، لكنه ليس مظلماً. ضوء يبتلع الضوء. الأجساد الثلاثة بدأت ترتفع ببطء، ليست طيراناً، بل تعليقاً. أباكيو، انڨالو، جولين. أجسادهم تتوهج بضوء خافت، ضوء الستاند الذي لا يزال يحوم حولهم، غير مرئي، لكنه موجود.مونو ونيرو تراجعتا خطوة. لم تكونا خائفتين. لكنهما شعرتا به. الطاقة. طاقة ليست مانا، ليست سحر، بل شيء أعمق. شيء يشبه الروح.بليك رفع صوته. لم يعد همساً. كان صوتاً. صوت يتردد في العظم، في الدم، في الوجود.
. "أنا أحول الواقع... إلى باب... إلى الشقة."الأرض انفتحت.ليس شقاً. بل باباً. باباً عملاقاً، مصنوعاً من الفراغ نفسه. إطاره أسود، لكنه ينبض بضوء أبيض. في وسطه، مرآة. لكن المرآة لا تعكس العالم الأبيض. تعكس شيئاً آخر. غرفة. غرفة مألوفة. أريكة قديمة. طاولة خشبية. نافذة مفتوحة على ليلة ممطرة. الشقة. وفي وسطها، بروس بانر، جالس على الأريكة، يقرأ كتاباً، عيناه الخضراوان تضيئان قليلاً عندما يشعر بشيء.الباب مفتوح.الأجساد الثلاثة انجذبت إلى الباب، دخلت المرآة، اختفت. ثم مونو. ثم نيرو. وأخيراً، بليك.الباب أغلق خلفه.ثم انهار العالم الأبيض.في الشقة،
الساعة تشير إلى الثالثة فجراً. المطر يضرب النوافذ بقوة. الضوء الخافت من مصباح قديم يضيء الغرفة.بروس بانر رفع رأسه من الكتاب قبل أن يحدث شيء. شعر به. نبضاً في الهواء. ثم انفتح الباب في وسط الغرفة. لم يكن باباً حقيقياً، بل شقاً في الواقع.أول من ظهر كان أباكيو. سقط على الأرض، جسده لا يزال مشققاً، لكنه الآن يتنفس. ثم انڨالو، ثم جولين. ثم مونو، ثم نيرو.وأخيراً، بليك.بانر أغلق الكتاب ببطء، وقف. "يبدو أنكم عدتم،" قال، صوته هادئ، لكنه يحمل ابتسامة خفيفة. "وبضيوف غير متوقعين."بليك نظر إليه، ثم إلى الأجساد. "نحتاج إلى مكان لهم،" قال. "وللحديث."بانر أومأ. "الأريكة كبيرة بما يكفي."الليلة كانت طويلة.لكنها لم تنته بعد.
في الشقة العتيقة، حيث يتسرب صوت المطر كأنين بعيد عبر النوافذ المغلقة، وقف بليك في منتصف الغرفة، ظهره منحنياً قليلاً، كأن ثقلاً غير مرئي يضغط على كتفيه. الضوء الخافت من المصباح الوحيد يرسم خطوطاً حادة على وجهه، تُبرز التجاويف تحت عينيه، والخطوط الرفيعة التي لم تكن موجودة قبل ساعات. يداه معلقتان بجانبيه، أصابعه تفتح وتغلق بلا إرادة، كأنها تبحث عن شيء لتمسكه.أخفض رأسه، ثم رفع صوته، لكنه خرج خشناً، متشققاً كحجر جاف:
"كنت بلا فائدة." توقف للحظة، يتنفس بعمق، ثم استمر، كلماته تخرج بطيئة، ثقيلة:
"في العالم الأبيض... أنتم قاتلتم. مونو مزقت أباكيو بضربة واحدة. نيرو سحقت جولين بقبضتيها. وأنا... كدت أُغرقنا جميعاً. انڨالو كان يتحكم بي، بالواقع، بكل شيء. لو لم أجد التعويذة في اللحظة الأخيرة..."
سكت. لم يُكمل. لكن الصمت كان أعلى من الكلمات.مونو تحركت أولاً. خطوة واحدة، ثم وقفت أمامه. لم ترفع يدها، لم تلمسه، لكن عيناها الذهبيتان كانتا تتحدثان. "هالك." قالتها ببساطة، كأنها تُلقي حجرًا في بركة ساكنة. "هالك هو من أوقف السرعوف. هالك هو من أعطانا الوقت. هالك هو من أنقذنا." نيرو قفزت من ذراع الأريكة، هبطت بجانبه بصمت، ثم قالت بصوت منخفض، لكنه حاد:
"وإلا كيف كنا سنخرج؟ أنت الوحيد الذي فتح الباب. أنت الوحيد الذي عرف التعويذة. بدونك، كنا سنبقى داخل الكتاب إلى الأبد." بانر، الذي كان يقف في الزاوية، أغلق الكتاب بين يديه ببطء، ثم أومأ برأسه، عيناه الخضراوان تضيئان قليلاً في الظلام. "أنت لم تكن عبئاً." قالها بهدوء، لكن صوته كان كضربة مطرقة على الحديد. "أنت كنت السبب في أننا هنا." بليك لم يرد. لكنه رفع رأسه ببطء. عيناه لا تزالان مظلمتين، لكن شيئاً ما فيهما تغير. ثم حدث. باب الشقة انفجر. لم يُفتح. لم يُركل. انفجر. الخشب تحطم إلى شظايا، المفصلات انفصلت، الباب كله طار إلى داخل الغرفة، هبط على الأرض بصوت مدوٍ. في الثانية التالية، دخل ني يان. لم يكن يمشي. كان يتحرك كظل. قدماه لا تلامسان الأرض، جسده يتمايل كأنه جزء من الهواء. يده اليمنى تمتد، أصابعه تلامس رف الكتب، لا تتوقف، لا تبحث. يعرف بالضبط أين هو. شمس المعارف. في لحظة، كان الكتاب بين يديه. ثم قفز. ليس إلى الباب. إلى النافذة. الزجاج تحطم تحت قدميه، لكنه لم يتوقف. هبط على السطح المجاور، خطوة واحدة، ثم أخرى، يركض عبر الأسطح المبللة بالمطر، جسده ينساب بين الأنابيب والمداخن كأنه ماء أسود. بليك لم يتردد. اندفع. قفز فوق الباب المحطم، عبر النافذة المكسورة، هبط على السطح بقوة كسرت البلاط تحت قدميه. المطر يضربه في الوجه، الريح تعصف بشعره، لكنه لم يتوقف. ني يان كان أمامه بعشرة أمتار، يركض بخفة مخيفة، الكتاب مضغوطاً تحت ذراعه. بليك اندفع خلفه. السطح الأول. قفزة.
السطح الثاني. انزلاق على البلاط الزلق، لكنه استعاد توازنه بضربة قبضة في الجدار. ني يان لم ينظر خلفه. لكنه كان يعرف. قفز إلى أنبوب تصريف، انزلق عليه كأفعى، ثم هبط على سطح أدنى، يستمر في الركض. بليك تبعه. المدينة تحت أقدامهما، أضواء النيون تتلألأ في البرك، السيارات تصفر في الأسفل، لكن فوق الأسطح، كان عالماً آخر. عالم من الظلال والمطر والمطاردة. ني يان قفز فجوة بين مبنيين، جسده يمد في الهواء كسهم. بليك قفز بعده، عضلاته تشتعل، قدماه تهبطان على الحافة، يكاد يسقط، لكنه دفع نفسه إلى الأمام. الفجوة تتسع. ني يان يبتعد. لكن بليك لم يستسلم. قبضتاه تضيئان بضوء خافت، مانا تتدفق في عروقه.
المطر ينهمر كسياط من الفضة على أسطح بودونغ، يحول البلاط إلى مرايا زلقة تعكس أضواء النيون الدامية. بليك يركض، قدماه تضربان الأسطح بقوة تهز الحديد، كل قفزة تقربه من الظل الأسود الذي يسبقه بخطوات محسوبة. ني يان يتحرك كأنه يعرف كل شق في كل مبنى، يقفز فجوات بعرض شارع، يتعلق بحافة سقيفة، ينزلق تحت أنابيب تصريف، الكتاب مضغوطاً تحت ذراعه كأنه جزء من جسده.بليك يرفع يده اليمنى، أصابعه تتجمد في الهواء. "جليد." كلمة واحدة. الهواء يتكتل حول ساق ني يان اليمنى، يتجمد في لحظة، يتحول إلى قيد ثلجي شفاف يلتصق بالبلاط.
ني يان يتعثر، يسقط على ركبة واحدة، لكن يده اليسرى تسحب شفرة رفيعة من داخل كمه. شق. الجليد ينفصل كزجاج مكسور، يتفتت إلى غبار أبيض يذوب في المطر. ني يان يقفز مرة أخرى، لكن هذه المرة ليس لوحده.أمامه، على حافة السطح التالي، تقف فتاة. آيا. فستانها الأبيض المائل للوردي يرفرف كجناح فراشة في العاصفة، كورسيهها البنفسجي الداكن يشد خصرها كأنه يحتضن سراً. شعرها الأشقر المربوط في ذيل حصان منخفض يتمايل على كتفها، غرتها المرفوعة تكشف جبيناً ناعماً، عيناها محاطتان بآيلاينر أسود حاد كشفرة. تضع إصبعها السبابة على شفتيها المطليتين بالأحمر الفاتح، نظرتها مغوية، واثقة، كأنها تعرف نهاية القصة قبل أن تبدأ.ني يان يتوقف فجأة، يسقط على ركبة واحدة، صوته يخرج صرخة رضوخ ممزوجة باليأس:
"يا سيدة آيا! لقد أحضرت ما طلبه المليارديرات! شمس المعارف! الآن... أيمكنني استرجاع أختي؟"آيا تخفض إصبعها ببطء، تبتسم ابتسامة لا تصل إلى عينيها. "نجحت في مهمتك، إذن." تنظر خلفه، إلى بليك الذي يقف على بعد أمتار، المطر يسيل من شعره، قبضتاه مضيئتان بضوء أزرق خافت. "لكن لماذا لم تقتل هذا... بليك الذي يلاحقك؟"ني يان يخفض رأسه، صوته يرتجف:
"للأسف... إنه قوي. وأنا... أريد أختي بسرعة. لا أريد التورط في قتاله."آيا تتنهد، ثم ترفع يدها اليمنى. في الهواء، يتشكل شيء. فتاة صغيرة. شعر أسود قصير، عيون واسعة، ترتدي فستاناً أزرق باهتاً. تقف هناك، ترتجف، تنظر إلى ني يان. "ها هي... اهتم." ني يان يندفع. يجري، يقفز، يمسكها بين ذراعيه، يعانقها بقوة، دموعه تمتزج بالمطر. "أختي... أخيراً..." بليك يتقدم خطوة، صوته يدوي كالرعد:
"الكتاب ملكي!"لكن الفتاة في أحضان ني يان تبدأ... تذوب. ليس دماً. بل قماشاً. خيوطاً. عيونها تتحولان إلى أزرار، شعرها إلى خيوط صوفية. دمية. آيا تضحك. ضحكة خفيفة، موسيقية، لكنها تقطع الهواء كشفرة. "تظن فعلاً أننا سنعيد لك أختك، أيها اللص الحثالة؟" تخطو خطوة إلى الأمام، كعب حذائها يصدر صوتاً حاداً على البلاط. "سوف تبقى رهينة عندنا. وبذلك... تبقى عبداً لنا." ني يان يرفع رأسه، عيناه مليئتان بالغضب والخيانة. "كيف فعلتِ ذلك؟!"آيا تبتسم، ترفع يدها، أصابعها ترسم شكلاً في الهواء. "قدرة ستاندي." الهواء يتشوه للحظة، شيء أثيري يحوم خلفها، غير مرئي، لكنه موجود. "أستطيع تغيير شكل أي شيء." تخفض يدها، تنظر إلى بليك مباشرة. "العضوة السادسة في فرقة الستاند." المطر يهدأ للحظة.
المطر يهدأ قليلاً، لكنه لا يزال يسيل على وجه بليك كدموع غاضبة، يقف على حافة السطح، عضلاته مشدودة كأوتار قوس، عيناه الرماديتان تضيئان بضوء أزرق بارد ينبعث من قبضتيه.
ني يان يقف على بعد خطوات، يده لا تزال ممدودة حيث كانت الدمية، أصابعه ترتجف، وجهه مشوه بالغضب والخيانة، الكتاب لا يزال تحت ذراعه، لكنه الآن يبدو كعبء ثقيل. آيا تقف بينهما، ابتسامتها لا تزال معلقة على شفتيها، لكن عيناها تضيقان قليلاً، كأنها تدرك أن اللعبة تغيرت.بليك يخطو خطوة إلى الأمام، صوته يخرج منخفضاً، لكنه يتردد في الأسطح كرعد بعيد: "أنتِ... ستدفعين ثمن هذا."آيا ترفع حاجبها، تضحك ضحكة خفيفة، لكنها لا تتحرك. "تهديد لطيف،" تقول، صوتها ناعم كالحرير، لكنه يحمل سموماً. "لكنكما تعرفان أنكما لا تستطيعان فعل شيء. الكتاب معي الآن، وأختك..." تنظر إلى ني يان، "ستبقى لعبة في يدي."ني يان يصرخ، صرخة حيوانية، صوت يخرج من أعماقه، يندفع إلى الأمام، يده اليمنى تسحب شفرة طويلة من داخل معطفه، شفرة سوداء لامعة، حافتها تتوهج بضوء أزرق خافت. يقفز، جسده يمد في الهواء، الشفرة موجهة مباشرة إلى عنق آيا.آيا لا تتحرك. فقط ترفع يدها اليسرى، أصابعها ترسم دائرة صغيرة في الهواء. الستاند يتجسد خلفها، شكل أثيري شفاف، يشبه امرأة طويلة بأجنحة من الضباب، يده تمتد، تلمس الشفرة. الشفرة تتحول. ليست إلى معدن، بل إلى زهور. زهور بيضاء ناعمة، تسقط على الأرض، تذوب في المطر.ني يان يهبط، يتعثر، لكنه لا يتوقف. يدور، يركل، قدمه اليمنى تضرب في بطن آيا. آيا تطير إلى الوراء، تصطدم بمدخنة، الطوب يتكسر تحت ظهرها، لكنها تضحك. "جميل،" تقول، وهي تقف ببطء، فستانها ممزق قليلاً عند الكتف، لكن عيناها لا تزالان واثقتين.بليك يتحرك في نفس اللحظة. يرفع يديه، أصابعه ترسم رموزاً في الهواء، رموزاً من شمس المعارف، رموزاً لم يستخدمها من قبل. "نار الجليد," يهمس. الهواء يتجمد حول آيا، ليس جليداً عادياً، بل ناراً زرقاء باردة، ناراً تحرق بالبرد. النار تلتف حول ذراعيها، حول ساقيها، تثبتها في مكانها، الجليد يتشكل كأغلال، يضغط على جسدها.آيا تحاول التحرك، لكن الجليد يشد. "مثير للاهتمام،"
تقول، صوتها لا يزال هادئاً، لكن عيناها تضيقان أكثر. الستاند خلفها يتحرك، يحاول لمس الجليد، لكن النار تحرق يده الأثيرية، تجعلها تتراجع.ني يان يندفع مرة أخرى. هذه المرة، ليس بشفرة. بقبضته. يضرب في وجه آيا، ضربة مباشرة، أنفها ينزف، الدم الأحمر يختلط بالمطر. آيا تترنح، لكنها لا تسقط. تضحك مرة أخرى، لكن الضحكة الآن مشوهة. "أنتما... مجنونان."بليك يقترب، يده اليمنى تمتد، تلمس الكتاب الذي سقط من يد ني يان أثناء القتال. الكتاب يعود إلى يده، جلده القديم يشعر بالدفء تحت أصابعه. "الكتاب ملكي،" يقول، صوته هادئ الآن، لكنه يحمل قوة.آيا تحاول النهوض، لكن ني يان يضع قدمه على صدرها، يضغط. "أين أختي؟" يسأل، صوته يرتجف من الغضب.آيا تبتسم، ابتسامة دموية. "في مكان آمن،" تقول. "لكن إذا قتلتموني، لن تجدوها أبداً."بليك ينظر إلى ني يان، ثم إلى آيا. يرفع يده، النار الزرقاء تشتعل أكثر. "لن نقتلك،" يقول. "لكنك ستخبريننا."القتال يستمر. ني يان يضرب مرة أخرى، بليك يستخدم تعويذات أخرى، تعويذات من شمس المعارف، تعويذات تجعل الجليد ينتشر، تجعل الهواء يثقل، تجعل الستاند يتراجع. آيا تقاوم، قدرة ستانديها تغير الأشياء حولها، تحول الأسطح إلى رمل، تحول المطر إلى إبر، لكنها تتعب. جسدها ينزف، فستانها ممزق، كورسيهها مكسور.في النهاية، تسقط. على ركبتيها، تنفسها متقع، عيناها لا تزالان واثقتين، لكنها تعرف. "حسناً،" تقول، صوتها ضعيف الآن. "سأخبركما."لكن بليك يهز رأسه. "لا،" يقول. "سنذهب معاً."ني يان ينظر إليه، عيناه واسعتان. "ماذا؟""سننقذ أختك،" يقول بليك. "ونحن معاً، سنهزم المليارديرات. أنت تساعدني، أنا أساعدك."ني يان يتوقف للحظة، ثم يومئ برأسه ببطء. "اتفاق."آيا تضحك ضحكة ضعيفة. "أنتما... أحمقان.
"لكنهما لا يردان. بليك يرفع الكتاب، يضعه تحت ذراعه. ني يان يمسك بذراع آيا، يجبرها على الوقوف. يبدآن في النزول من الأسطح، يقفزان من مبنى إلى آخر، يعودان إلى الشقة.في الشقة، الباب لا يزال محطماً، الغرفة في فوضى، لكن مونو ونيرو وبانر يقفون، ينتظرون. عندما يدخل بليك وني يان، يحملان آيا بينهما، يرفع الجميع حاجبيهم.بليك يضع الكتاب على الطاولة، ثم يشير إلى ني يان. "هذا ني يان،" يقول. "حليف جديد. ساعدني في استرجاع الكتاب، وسيساعدنا في هزيمة المليارديرات. ونحن سنساعده في إنقاذ أخته."نيرو تتقاطع ذراعيها، تنظر إلى ني يان. "لص؟"ني يان يخفض رأسه، صوته منخفض: "أنا... آسف لسرقة الكتاب. كنت مضطراً. أختي..."مونو تنظر إليه، عيناها الذهبيتان تضيقان، ثم تهز رأسها. "الآن أنت معنا."بانر يبتسم، يمد يده. "مرحباً بالحليف الجديد."ني يان يمسك يده، يومئ.آيا، لا تزال مكبلة بجليد بليك، تنظر إليهم، عيناها مليئتان بالدهشة. لكنها لا تتحدث.الليلة طويلة، لكن الآن، لديهم خطة.الفصل انتهى.
في الشقة المضطربة، حيث يتجمع الجميع حول الطاولة المكسورة جزئياً، والمصباح الوحيد يلقي ضوءاً أصفر خافتاً يرقص على الوجوه المتعبة، جلس ني يان على كرسي خشبي قديم، يداه مضمومتان أمام فمه، عيناه مثبتتان على الأرضية المخدوشة كأنها تحمل أسرار الماضي. المطر لا يزال يطرق النوافذ بإيقاع منتظم، لكنه الآن يبدو كخلفية لقصة لم يُروَها أحد من قبل. بليك جلس أمامه، الكتاب مغلقاً بجانبه، مونو تقف خلفه، نيرو تتكئ على الجدار، بانر يقف في الزاوية، وآيا مكبلة في كرسي آخر، عيناها تضيقان بفضول. الصمت كان ثقيلاً، ثقيلاً كالرطوبة في الهواء، حتى رفع ني يان رأسه ببطء، صوته يخرج خشناً،
متردداً في البداية، ثم يتدفق كسيل لا يمكن إيقافه.كنتُ طفلاً ضعيفاً، يبدأ، صوته يرتجف قليلاً عندما يتذكر. في مدينة بودونغ القديمة، حيث الأبراج الشاهقة تخفي أزقة ضيقة مليئة بالفقر، كنتُ ني يان، الابن الأكبر لعائلة كانت تملك كل شيء. والدي، رجل طويل القامة، شعره أسود كالحبر، عيناه دائماً تضحكان، كان يدير "World Bloc Financial Group"، شركة استثمارية كانت تتحكم في تدفق المال كأنها نهر عملاق. كنا نعيش في فيلا واسعة، جدرانها مغطاة بلوحات فنية، حديقتها مليئة بأشجار الكرز التي تتفتح في الربيع، رائحتها تملأ المنزل بحلاوة. أختي الصغيرة، اهتم، كانت طفلة في الخامسة، شعرها أسود قصير، عيناها واسعتان كالبحيرات، دائماً تجري خلفي، تضحك، تطلب مني أن ألعب معها بدمىها. كنتُ أحميها، أحملها على كتفي، أعد لها بأنني سأكون بطلاً يوماً ما.لكنني لم أكن بطلاً. في المدرسة، كنتُ الضعيف. جسدي نحيل، عضلاتي غير موجودة، صوتي يرتجف عندما أتحدث. الفتيان الآخرون، أولاد الأثرياء، كانوا يدفعونني في الردهات، يسرقون كتبي، يضحكون على ملابسي التي كانت دائماً أنيقة لكنني أرتديها بخجل. "الوريث الضعيف"، كانوا ينادونني، يرمون عليّ الكرات في الملعب حتى أسقط، يتركونني ملطخاً بالطين. في المنزل، كنتُ أبكي في غرفتي، أخفي وجهي تحت الوسادة، أسمع والدي يتحدث عن صفقات كبيرة، عن ملايين تتدفق، لكنني كنتُ أشعر بالعجز. حبيبتي الأولى، شيه ياو، فتاة من فصلي، شعرها بني طويل، عيناها خضراوان كالزمرد، كانت تبتسم لي في السر، تمسك يدي تحت الطاولة، تعد بأننا سنتزوج يوماً، سنعيش في منزل صغير بعيداً عن كل هذا.ثم جاء كاو شو.
رجل في الأربعين، وجهه حاد كسكين، عيناه سوداوان كالفحم، كان يدير شركة منافسة، "Xu Empire". كان عدواً قديماً لوالدي، خلافات تجارية تحولت إلى حرب. بدأ الأمر بصفقات مسروقة، عملاء يتركوننا، أسهم تنخفض. والدي كان يجلس في مكتبه ليالٍ طويلة، يدخن سيجارة تلو الأخرى، عيناه محمرتان، يهمس "سنتجاوز هذا". لكن كاو شو كان أذكى. زيف وثائق، اتهم والدي بالفساد، رفع قضايا، اشترى الصحف لتنشر كذبات. الشركة انهارت في أشهر. الموظفون يغادرون، البنوك تطالب بديون، الفيلا تباع في مزاد.والدي تغير. أصبح شبحاً. يجلس في غرفة مظلمة، يحدق في الفراغ، يشرب حتى يفقد الوعي. أمي تبكي في المطبخ، تحاول إخفاء دموعها عن اهتم. أنا، في الثامنة عشرة، تركتُ الجامعة، بحثتُ عن عمل، لكن كل باب يُغلق. "ابن المدين"، يقولون، "لا نريد مشاكل مع كاو شو". شيه ياو، حبيبتي، بدأت تبتعد. مكالمات أقل، لقاءات أقصر. والداها ضغطا عليها، "اختاري مستقبلاً آمناً". في ليلة ممطرة، قالت لي في حديقة مهجورة، دموعها تسيل، "أنا آسفة، ني يان. لا أستطيع". ذهبت مع رجل آخر، ابن عائلة ثرية، تركتني وحيداً.ثم الانتحار. والدي، في مكتبه القديم الذي أصبح غرفة إيجار صغيرة، علق حبلاً في السقف. وجدته أنا، جسده يتدلى، عيناه مفتوحتان، رسالة على الطاولة: "سامحني، ابني. فشلتُ في حمايتكما".
دفناه في مقبرة رخيصة، المطر يغسل القبر، اهتم تبكي بين ذراعي، تسأل "لماذا أبي ذهب؟". أصبحتُ كل شيء لها. أعمل في وظائف مؤقتة، أغسل أطباقاً، أحمل صناديق، أعيش في غرفة ضيقة، جدرانها متشققة، سرير واحد، اهتم تنام بجانبي، أحكي لها قصصاً عن بطل ينقذ العالم.لكن الفقر يأكل الروح. اهتم مريضة، سعال يزداد، أدوية غالية. أنا أتدرب في السر. في أزقة مظلمة، أتعلم الرماية من لص قديم، أقوي جسدي برفع أثقال من خردة، أقرأ كتباً عن السرقة، عن الظلال. في الثانية والعشرين، أصبحتُ قناصاً. في ليلة عاصفة، تسللت إلى فيلا كاو شو، مكان فاخر، حراس في كل زاوية. من سطح بعيد، بندقية قناص، رصاصة واحدة. اخترقت الزجاج، دخلت صدره، سقط على مكتبه، دم يسيل على أوراقه. هربتُ، لا أحد يعرف. لكن الانتقام لم يعيد والدي، لم يعيد شيه ياو، لم يشفِ اهتم.استمر التدريب. أصبحتُ في الخامسة والعشرين لصاً. أسرق بنوكاً صغيرة، جواهر من أثرياء، دائماً لأعيش، لأشتري دواء لاهتم. أصبحتُ محترفاً، أتحرك كظل، أقفز أسطحاً، أفتح أقفالاً بإبرة، أختفي قبل أن يلاحظ أحد. في الثامنة والعشرين، كنتُ أسرق لنفسي وللآخرين، أعطي جزءاً لفقراء،
أحتفظ بما يكفي لاهتم. عشنا في شقة صغيرة، نظيفة، اهتم تدرس، تضحك، تناديني "أخي البطل".ثم جاء فيكتور راموس. ملياردير، وجهه مستدير، ابتسامته زائفة، يملك إمبراطورية تكنولوجيا. سمع عني، عن مهاراتي. في يوم، اختفت اهتم من المدرسة. رسالة على هاتفي: صورة لها مكبلة في غرفة مظلمة، صوت فيكتور: "أحضر لي شمس المعارف، الكتاب القديم من شقة بليك. إلا، ستموت". بحثتُ، وجدتُ الشقة، خططتُ، سرقتُ الكتاب. لكن الآن، أعرف أنها كذبة، أن آيا جزء منهم، أن أختي لا تزال رهينة.ني يان يتوقف، عيناه مليئتان بدموع لم تسقط، ينظر إلى الجميع. الصمت يعم الغرفة، المطر يبطئ، الجميع يفهم الآن. بليك يضع يده على كتفه، مونو تهز رأسها ببطء، نيرو تبتسم
ابتسامة صغيرة، بانر يومئ. آيا، مكبلة، تخفض رأسها.