كان الصمت في الشقة يثقل على صدري كأن الهواء نفسه لا يريد أن يُتنفّس.

يجلس بابادوك إلى جانبي، بذراعيه المتقاطعتين وابتسامة خفيفة لا تخبرك أبدًا إن كان يخطط لقتلنا أو مساعدتنا.

أما أمامي، فكان يقف نيمو... وبجانبه ميساكي، الشبح بعينٍ واحدة.

نظرتُ إليها وسألتُ، بصوت لم أستطع جعله حازمًا تمامًا:

"حسنًا... كيف يمكنني معرفة من قتلك، ميساكي؟"

خفضت عينيها، كأنها تتجنب النظر في وجهي، ثم همست:

"آسفة لتخييب ظنك... لكنني شبح فاقدة للذاكرة. لا أعرف من قتلني."

كمية البرود التي نطقتها بها كانت مخيفة بحد ذاتها.

بلعتُ ريقي، ثم زفرت:

"إذًا كيف سنعرفه؟ من أين نبدأ؟"

وقبل أن تُكمل هي، جاء صوت ناعم بنبرة ساخرة:

"يبدو أنكم نسيتم أنني موجود."

كان نيمو. لم يتحرك من مكانه، لكنه كان يراقبنا بابتسامة لا تثق بها العيون.

نظرتُ إليه، وتذكّرت شيئًا...

نيمو... كان صديقها قبل موتها.

بالتأكيد يعرف شيئًا.

قال بابادوك، بينما عينيه تتبعان حركة نيمو:

"لا بد أنك تعرف ما حصل لهذه الشبح، بما أنك تراها، صحيح؟"

هز نيمو رأسه بخفة:

"نوعًا ما."

قهقه بهدوء، ثم استدار نحو الزاوية اليمنى من الغرفة، حيث كان حوض سمك كبير يشع بضوء أزرق بارد.

اقترب منه بهدوء، وركّز نظره على الأسماك داخله.

كان هناك الكثير من الأنواع... لكن ما جذبني فورًا كان وجود سمكتين من نوع البهلوان – بلون برتقالي مشرق تتراقصان مع التيار، وكأنهما تعرفان قصة لا نعرفها نحن.

وقف نيمو هناك، صامتًا للحظات. بدا كأنه يتحدث مع السمك بعينيه.

ثم قال فجأة، بنبرة أكثر جدية من أي وقت مضى:

"أخبركم بقصتي؟ لا بأس... لكن لا تندموا."

ثم أدار رأسه نحونا، وعيناه لم تعودا تبتسمان.

(قبل سنتين)

كان يوماً مشمساً على الثانوية. في الفصل E3، على طاولة خلفية بجانب النافذة، جلست فتاة بشعر أسود، إنها ميساكي.

لكنها لم تكن تلك الشبح البارد ... بل كانت ميساكي إنسانة، جميلة، ناعمة الملامح، جالسة وهي تقرأ رواية أمريكية شهيرة.

قطعت تركيزها على الكتاب همسة مألوفة:

"صباح الخير، ميساكي تشان."

رفعت رأسها، لتجد نيمو، فتى عادي في زي المدرسة، يقف أمامها بابتسامته المعهودة.

"ألم تُكملي هذا الكتاب بعد؟ إنه طويل للغاية."

هزّت ميساكي كتفيها وقالت:

"لو قرأته ستستمتع به. أعلم أنك تحب تصنيف الرعب."

ابتسم نيمو بسخرية طفيفة:

"مستحيل... هذا الكتاب باللغة الإنجليزية، وأنتِ تعرفينني، لا أفقه شيئًا في تلك اللغة، إلا القليل."

نظرت ميساكي لزيه المدرسي، تلاحظ أنه غير مرتب.

"نيمو، هل تخاصمت مع والدك مجددًا؟"

تنهد نيمو، وأومأ برأسه:

"أجل... ما زال يريدني أن أترك الدراسة وأصبح صانع دمى مثله."

رفعت حاجبها وقالت مازحة:

"لا أفهم... أنت تحب الدمى، لماذا لا تعمل إذاً في جمالها؟"

رد عليها بنبرة جادة:

"إنها مجرد هواية لوقت الفراغ. أنا أريد أن أصبح بيطريًا."

ضحكت ميساكي، ضحكة ناعمة دافئة:

"ههههه، سوف تصبح كذلك... بدراجتك المتدنية تلك."

احمرّ وجه نيمو، وبنبرة خجولة مليئة بالامتعاض والمتعة:

"اصمتي!"

كانت أيامًا عادية في حياتي.

نيمو... مجرد طالب آخر عادي، يعيش مراهقته بين الكتب، والدراجات، والدمى.

لم يكن هناك شيء استثنائي، لا في الجو، ولا في الوجوه... حتى جاء ذلك اليوم.

في صباح غائم قليلًا، أثناء توجهه إلى الثانوية، سمع نيمو صوت صافرة إسعاف.

شيء ما لم يكن طبيعيًا...

ركض. أسرع دون أن يعرف لماذا.

لكنه ما إن اقترب من بوابة المدرسة حتى بدأ يرى سيارات الشرطة تنتشر في الأنحاء، والمعلّمين يهمسون لبعضهم البعض بقلق.

هناك، أمام المبنى الرئيسي، كانت سيارة الإسعاف تنتظر.

حُمل شخص ما، ملفوفٌ بغطاء أبيض...

لم يرَ مَن هو، لم يعرف الاسم... ليس بعد.

بقي نيمو ينتظر، عاجزًا عن التنفس، حتى ساعات قليلة لاحقًا، حين صعد المدير إلى خشبة المسرح الصغيرة في قاعة المدرسة وقال بصوت مثقل:

"اليوم... أُعلن، وللأسف، عن انتحار تلميذتنا النجيبة ميساكي، من سطح المدرسة، بسبب غير معروف."

سقط الصمت على القاعة كجدار من حجر.

بعض التلاميذ صرخوا، بعضهم شهق، بعضهم غطى فمه.

لكن نيمو... لم يتحرك.

لم يصرخ. لم ينهَر.

بقي صامتًا، يتنفس ببطء، كأنه لم يفهم ما قيل للتو.

لم يبكِ.

لكن قلبه كان يحترق من الداخل.

حتى تحوّل ذلك الحزن الصامت إلى شيء آخر... إلى غضب.

صرخ نيمو فجأة من مكانه:

"أيها الكاذب! مستحيل أن تنتحر ميساكي! كانت أسعد فتاة عرفتها!!"

هرع خارج مقعده باتجاه المنصة، كأنه يريد أن يضرب المدير بقبضته، لولا أن أمسك به زملاؤه في اللحظة الأخيرة.

كان وجهه محمرًا، عيناه متسعتين، نبضه على وجهه.

وهنا، تقدّمت فتاة رياضية البنية، ذات شعر بني مربوط إلى الوراء وعينين واسعتين فيهما دفء مكسور.

كانت " كوغامي"، إحدى صديقات ميساكي، ومعروفة في المدرسة بكونها نجمة فريق الكرة الطائرة، وصوتها دائمًا مفعم بالحيوية... لكن الآن، كان مكسورًا.

أمسكت بذراع نيمو وهي تبكي، وقالت بصوت مخنوق:

"توقف... ما حدث قد حدث. لا يمكنك تغييره الآن."

ثم تمسكت به بقوة أكبر، وأضافت:

"أرجوك... توقف، نيمو..."

صمت نيمو، وأخفض رأسه.

لكن داخله... شيء تحطّم.

بعد فترةٍ من الحداد، حضر نيمو جنازة ميساكي.

كان الجو خانقًا، ليس فقط بسبب الدموع، بل بسبب الشعور الجماعي بالعجز.

والدا ميساكي كانا يجهشان بالبكاء أمام النعش المغلق، غير قادرين على تصديق أن ابنتهما لن تعود أبدًا.

كل شيء كان أسودًا: السماء، الثياب، القلوب.

ومع مرور الأسابيع... بدأ الجميع يتخطى الحادثة.

المعلّمون عادوا لروتينهم، والطلاب وجدوا مواضيع جديدة للثرثرة...

لكن نيمو لم يتخطّ شيئًا.

لم يكن يبكي كما فعل يوم إعلان الخبر.

لكنه ظل حزينًا بصمت.

يأكل بصمت.

يضحك مجاملةً.

يتظاهر بأنه بخير... لكن في داخله، شيء بقي عالقًا.

ذكرى، صدمة... أو ربما سؤال لم يجد له جوابًا.

وفي أحد الأيام... دخل الفصل متأخرًا كعادته.

ألقى نظرة عابرة نحو الطاولة الخلفية بجانب النافذة...

وتجمّد.

كانت هناك.

ميساكي.

جالسة تمامًا كما اعتادت أن تجلس.

شعرها الأسود ينسدل بهدوء، وعلى عينها رقعة سوداء.

لا تبتسم، لا تتحرك.

لكنها هناك.

سقطت حقيبته من يده، وركض نحوها بلا وعي.

"ميساكي!! هل... هل هذه أنت فعلًا؟ لقد... لقد عدتِ!"

ضمّها بقوة وهو يبكي.

"المدير أخبرنا أنكِ... أنكِ...!"

كلمات مختنقة، قلب ينهار، عقل يرفض التصديق.

ميساكي لم تقل شيئًا.

كانت تنظر إليه... بصمتها المعتاد.

همّت بفتح فمها، وكأنها ستقول شيئًا...

لكن صراخ نيمو قاطعها.

"هاي!! أيها الجميع!! ميساكي هنا! إن ميساكي عادت!!"

لكن ما إن نطق بذلك، حتى لاحظ نظرات الآخرين.

كانت نظرات... غريبة.

مقرفة.

نظرة شفقة، نظرة خوف، نظرة استغراب.

وقف أحد التلاميذ في الخلف، همس لصديقه:

"ما به نيمو اليوم ،الم يقل انه تخطى الامر...؟"

نيمو التفت إليهم بسرعة.

"ما بكم؟ لماذا لا تردّون؟ إنها هنا! أمامكم!"

لكن أحدًا لم يجب.

الهمسات بدأت تتناثر في الهواء:

"هل جنّ جنونه؟"

"هل مرض؟"

"أهو يمزح؟"

فجأة، صرخت كوغامي من مقعدها الأمامي:

"هذا ليس مزاحًا لطيفًا فعلاً يا نيمو!"

كانت غاضبة بشدة

"ما الذي تعنينه؟!" صاح نيمو. "إنها هنا! ألا ترونها؟!"

أشار نحو الطاولة...

لكن ما رأوه لم يكن فتاةً جالسة.

رأوا طاولة فارغة فقط.

شيئًا فشيئًا... بدأ نيمو يستوعب.

أن ما يراه، لا يراه أحد غيره.

أن ميساكي عادت له وحده.

أن كل شيء... ليس كما يبدو.

ارتجف، تراجع خطوة للوراء، ثم فجأة...

ركض.

هرب من الفصل، من النظرات، من الأسئلة، من الواقع.

ركض و ترك ميساكي ورائه

رائع، المشهد يدخل الآن في نقطة تحوّل حاسمة في ماضي نيمو، وسأكمل بناءً على تعليماتك، مع الحفاظ على الأسلوب والنبرة والوتيرة:

حاول نيمو، مرارًا وتكرارًا، بعد تلك الحادثة، أن يُخبر الجميع بأن ميساكي عادت.

قال لهم إنه يراها... يسمعها أحيانًا... يشعر بها تقف بجانبه.

ذهب إلى والديها أولاً، وقف أمام باب منزلها القديم، وقال بصوتٍ يرتجف:

"إنها حية... أنا أراها! ميساكي لم تمت، أرجوكم!"

لكن الرد لم يكن كما توقع.

صفعة قوية من والدها طارت على خده، دفعت رأسه جانبًا.

قالت الأم بصوت مكسور، تحاول ألا تبكي:

"كفى عبثًا... لا تعُد إلى هنا مجددًا."

وأُغلق الباب في وجهه... للأبد.

ذهب إلى المعلمين، إلى المدير، إلى زملائه، إلى بقال الحي...

يروي القصة نفسها: "إنها هنا، ميساكي لم تمت!"

لكن لا أحد صدقه.

لا أحد فهمه.

ومع الوقت... صار له اسم جديد بين الناس: "مجنون البلدة."

ووسط هذا كله... كانت ميساكي لا تزال معه.

تحوم حوله دائمًا، تقف في الزوايا، تتبعه بلا صوت.

لم تتكلم.

لكن عينيها كانتا تقولان أشياء كثيرة... وكأنها تحاول، لكنها لا تستطيع.

وفي أحد الأيام...

اتخذت الأمور منحى أعمق.

أرسلته إدارة المدرسة إلى ولي أمره برسالة طرد نهائي.

"سلوكه يهدد سلامة التلاميذ الآخرين."

هكذا كُتب في الورقة الباردة.

وعندما عاد إلى المنزل، وقف والده عند الباب، لا ينظر إليه حتى.

قال له بصوت جامد:

"لقد انتهى الأمر... ارحل."

لم يكن هناك نقاش.

لم يكن هناك حوار.

خرج نيمو، بلا حقيبة، بلا مال، بلا مأوى.

تجول في الشوارع كأن الأرض كلها لفظته.

ومع كل خطوة، كانت ميساكي تسير خلفه، كما اعتادت.

كان يتكلم معها... لا يريد، لكنه لا يستطيع التوقف.

ليس لأنها ترد... بل لأنه لم يبقَ له أحد غيرها.

"لا تقلقي، ميساكي..."

همس، بينما يمشي وحذاؤه يضرب الرصيف المُتشقق.

"سوف أجد الحل... بالتأكيد سأجد الحل."

مشاها، ومشى ظلّه، ومشى شبحها معه، حتى بدأ لون السماء يتغيّر.

الشمس كانت تغرب، ترسم خطوطًا برتقالية باهتة في الأفق.

وأخيرًا...

وقف أمام مبنى مهجور، تركه الزمن خلفه منذ سنوات.

جدرانه متآكلة، نوافذه مكسورة، وسياجه الحديدي مُغطى بالصدأ.

لم يكن يدري لماذا قدماه قادته إلى هنا.

لكنه شعر بشيء يجذبه...

شيء قديم، غريب، مألوف في الوقت نفسه.

نظر إلى المبنى، ثم إلى ميساكي التي وقفت بجانبه، تراقبه بصمت.

دفع الباب الصدئ ببطء و دخل

بدأ نيمو يستكشف المكان بصمت، يتنقّل بين الجدران المتآكلة والأبواب المخلعة.

صوت خطواته الخافتة كان يتردّد في أرجاء المبنى الفارغ، وكأنّ المكان كله يحبس أنفاسه.

وفي النهاية...

وجدها.

شقة صغيرة، بدت الأقل تضررًا بين باقي الوحدات.

لا تزال جدرانها واقفة، ونوافذها مغلقة نسبيًا، ورائحتها... لا تُشبه رائحة الموت التي لفّت الممرات.

دخل وجلس على الأرض، في قلب الغرفة.

نظر إلى ميساكي، كما اعتاد أن يفعل كل يوم... لكن هذه المرة، شيء تغير.

"نيمو..."

قالتها بصوت خافت.

تجمّد.

اتسعت عيناه، وقلبه قفز في صدره.

"نيمو... نيمو... نيمو..."

تكررت الكلمة، كأنها انكسرت في حلقها،

كأنها تريد أن تبكي، لكن البرود... البرود الذي فُرض عليها، غطّى كل شيء.

ثم، بصوت مرتجف، خرجت منها الكلمات التي غيّرت كل شيء:

"نيمو... ساعدني."

وقف نيمو بسرعة، ركض نحوها وأمسك يدها الباردة بكل ما تبقّى فيه من حرارة.

"بالتأكيد... بالتأكيد سأساعدك!"

قالها بعينين يملؤهما الإصرار.

نظر إليها بثقة، نظرة من لم يعد لديه ما يخسره،

ثم قال بصوتٍ ثابت:

"لن أستسلّم."

منذ ذلك اليوم، بدأ نيمو يصنع الدمى.

كل يوم.

كل ليلة.

يداه لا تتوقفان.

صقل مهارته، أتقنها، أعاد إحياء إرث والده الذي لطالما رفضه.

كل دمية فيها عيب طفيف، يرميها بلا رحمة في مستودع صغير في أسفل المبنى.

أما الدمى الكاملة... فكان يبيعها بهدوء في الأسواق.

ومع الوقت، كسب مالًا.

قليلًا في البداية، ثم كثيرًا.

اشترى معدات احترافية لصناعة الدمى.

اشترى سريرًا لائقًا، بعض الملابس القديمة، وطعامًا يكفي لأسابيع.

ثم في أحد الأيام... وجد عرضًا خاصًا في متجر صغير.

حوض سمك بتخفيض كبير.

لم يستطع مقاومة الفكرة، فاشتراه

، وعاد إلى شقته.

وضع الحوض قرب النافذة، وملأه بالماء.

أطلق فيه أسماكًا صغيرة ملونة... ومن بينها، سمكتان من نوع البهلوان.

وقفت ميساكي خلفه، تنظر للحوض بصمت، ثم همست:

"نيمو... لماذا اشتريت هذا؟"

ضحك نيمو، ضحكة دافئة لم يعرفها منذ زمن.

جلس إلى جانب الحوض وقال:

"أتدرين... ماذا ترمز إليه سمكة البهلوان؟"

سكتت لحظة، ثم سألت:

"ماذا؟"

نظر إلى السمكتين، بعينين زجاجيتين، وقال:

"ترمز إلى... الضياع."

2025/06/22 · 16 مشاهدة · 1735 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025