"حسناً، إذن ما الخطة يا نيمو-سان؟"
قلتُ ذلك بينما كانت عيناي تراقبان انعكاس ضوء المصباح الخافت فوق طاولة الخشب القديمة. كانت الغرفة لا تزال مشبعة برائحة العفن والدمى المحنطة تراقبنا بصمت كأنها تشهد على اتفاق خطير.
نيمو وضع يديه على الطاولة، أصابعه متشابكة وكأنّه يتهيأ لطقس مقدّس. قال بنبرة جادّة:
"ما أعرفه حتى الآن هو أن ميساكي سقطت من سطح المدرسة. السبب الرسمي كان الانتحار، لكن كما رأيت، هي الآن... فاقدة للذاكرة. هذا يعني أنّنا بحاجة لاستعادة ذكرياتها، وأقرب طريق لذلك هو... أصدقاؤها."
"هل هم لا يزالون في الثانوية؟" سألتُ بينما عقلي يحاول ربط النقاط.
"نعم، معظمهم في السنة الثالثة الآن. أنا لا أعرفهم جميعًا، لكن أثناء تحقيقي، تعقّبت بعض الأسماء. أولهم... هوتارو."
كرّر الاسم بنبرة غامضة، كأنه يحمل في طيّاته مفتاحًا مفقودًا.
"هوتارو؟"
"فتاة في الصف الثالث الثانوي. كنتُ أراها دائمًا تتحدث مع ميساكي داخل الفصل. لم تكن صديقة قريبة، لكنها على الأرجح تعرف شيئًا."
أومأتُ، رغم أن معدتي كانت تنقبض من التوتر. "إذن، كيف سأصل إليها؟ لا أظن أنني قادر على اقتحام حياة أحدهم هكذا..."
ابتسم نيمو ابتسامة جانبية، أشبه بابتسامة دمية خشبية تعلم الكثير.
"بسيط. اشترك في نادي الغرائب في المدرسة. إنها مشاركة هناك. تقرّب منها عبر هذا الطريق."
نادي الغرائب... فكرة غريبة، لكنها تبدو مناسبة.
"حسنًا... لستُ أفضل شخص يمكنه التقرّب من الآخرين، لكن..." تنهدتُ، "سوف أحاول."
قال بليك:
"حسنًا، وماذا عن الكتاب؟"
سؤالٌ كان يثقل رأسي منذ لحظة دخولنا هذا المكان. شعرت للحظة أني نسيت أمره وسط كل تلك الدمى، وسط ميساكي، ونيمو، والماضي... لكن الحقيقة أنني لم أنسَ، فقط كنت أتهرب.
أجاب نيمو بهدوء، وكأنه يحمل ثقل العجز بين كلماته:
"للأسف... لو كنت أستطيع مساعدتك لفعلت، لكن... أنا لا أستطيع فعل شيء. أنا مجرد شخص عادي... صادف أنه يرى صديقته."
كلماته اخترقتني، لا بقسوتها، بل بصدقها. نظرتُ إليه، إلى ظله المتكسر على الجدار، إلى عينيه اللتين فقدتا شيئًا لا يُستعاد.
شعرت للحظة أن الحياة تهرب من داخلي، لكن... كالعادة، لم يُترك لي مجال للسقوط.
صوت خطوات... ثم صدى فخم كأن الهواء انحنى له.
دخل بابادوك المحادثة، كما يفعل دائمًا، بكل فخامته الساخرة.
"لا تقلق،" قال وهو يمرر يده على قبعته المميزة، "سأكتشف بنفسي مكان الكتاب."
نظرت إليه بعينين نصف مشككتين ونصف متعلقتين بأمل ما.
"كيف؟" سألت.
ردّ وهو يشير بيده كما لو كان يتحدث عن شيء تافه:
"هل نسيت؟ هالة الكتاب قوية جدًا، لدرجة أنها تسحب كل الجنّ إليها. وكأنها... مصباح، ونحن... النموس."
"إذن لماذا لا تستطيع اكتشاف مكانه الآن؟" سألت، محاولًا الإمساك بثغرة في منطقه المتغطرس.
ضحك، ضحكة سخرية ناعمة لكن مخيفة، ثم قال:
"لو كنت أستطيع، لما كنت هنا، أضيع وقتي معكم في غرفة مملوءة بروائح الفقد والأرواح القديمة. الحقيقة هي... أن هالة الكتاب محجوزة، مخفية. وكأن أحدهم ختمها، قيدها، كي لا يُعثر عليه."
شعرت بقشعريرة تمرّ في عمودي الفقري.
"هل يمكن... فعل شيء كهذا أصلًا؟" سألت.
ابتسم، تلك الابتسامة التي لا تُشبه البشر، ثم قال ببطء وكأنه يلقي تعويذة:
"في هذا العالم... لا يوجد شيء مستحيل، بليك."
ثم تقدم خطوة إلى الأمام، عيناه تتوهجان بلون غريب، مزيج بين البنفسجي والرمادي.
"لكن الشيء المريب فعلاً... هو أن من يملك الكتاب الآن، ليس شخصًا عاديًا."
بلعت ريقي بصعوبة، "ليس عادي؟... أهو وحش؟"
هزّ رأسه ببطء.
"لا أعلم. لكن ما أعلمه... أنه قوي."
سقط الصمت في الغرفة مرة أخرى، ولم تتحرك نسمة هواء.
لقد انتصف الليل.
نظرتُ إلى ساعتي ثم قلت:
"حسنًا، يجب أن أعود إلى المنزل الآن."
رفعت حقيبتي وأخذت نفسًا بطيئًا.
"سأحاول الدخول إلى نادي الغرائب غدًا، وبابادوك سيتولى أمر الكتاب... لكن يجب أن أذهب الآن."
بدأتُ أتوجه نحو الباب عندما سمعت صوتًا هادئًا خلفي، ناعمًا كأن الريح همست باسمي:
"بليك..."
استدرت، كانت ميساكي، واقفة بالقرب من إحدى الدمى الكبيرة، شبحها الشفّاف يلمع تحت ضوء المصباح الأصفر.
"تذكّر... عاملني غدًا وكأنني غير موجودة في الفصل، حسنًا؟"
قالتها بنبرة جادة، تخفي رجفة صغيرة.
أومأت ببطء. "مفهوم."
ثم أدرت ظهري، وخرجت من الشقة متجهًا إلى الرواق المظلم للمبنى المهجور. خطواتي تردد صداها في المكان، وكل شيء حولي بدا أهدأ من اللازم... وكأن المبنى نفسه يحبس أنفاسه.
"بليك."
توقفت.
ذلك الصوت... لم يكن كالصوت الذي ناداني قبل قليل.
استدرت، كان نيمو-سان، واقفًا هناك خلفي، يضع يديه خلف ظهره، يبتسم بلطف شاحب.
"نعم؟ ما الأمر؟" قلت بلطف.
وفجأة، انحنى.
انحنى انحناءة حقيقية، بزاوية حادة، كما لو كان يعتذر باسم العالم.
"شكرًا لك..."
قالها بصوت متأرجح، فيه شيء من الامتنان الذي لا تستطيع الكلمات ترجمته.
"أنت لا تعرف... مقدار السعادة التي أدخلتها إلى قلبي، إلى قلب ميساكي... لأنك فقط وافقت أن تساعدنا."
شعرت بالحرج، رفعت يدي بسرعة كأني أوقفه، وقلت مرتبكًا:
"ارجوك... ارفع رأسك، هذا ليس بالأمر الكبير..."
لكنه لم يتوقف. بل تابع، بصوت مكسور ولكن صادق:
"في الواقع... نحن... السبب أننا سرقنا الكتاب بدلًا من أن نطلب مساعدتك من البداية... هو أننا لم نثق بك. ظننا أنك سترفض... أنك سترى ميساكي مجرد شبح، مجرد حمل زائد."
أخفض رأسه أكثر، تابع:
"ونتيجة لذلك... تسببنا في كل شيء.
سرقنا الكتاب، ففُتح الباب لما لا يجب أن يُفتح.
صُنع الوحش.
فُقد الكتاب.
ومع ذلك... أنت الآن من يحاول إصلاح الأمر."
صمت.
كلماته كانت خفيفة، لكنها اخترقتني كالإبر.
نظرت إليه طويلاً، لم أجد شيئًا أقوله. شعرت فقط بثقل بسيط على صدري... لكنه لم يكن ألمًا.
كان... دفئًا.
"لا بأس..." قلت أخيرًا، بصوت هادئ.
"ما دمنا نحاول الآن... معًا."
أكمل نيمو كلامه، وصوته كان هذه المرة أقرب إلى الهمس منه إلى الحديث العادي، كأن الكلمات نفسها كانت تثقل عليه:
"أتَعلم... كانت ميساكي فتاة نابضة بالحياة قبل موتها. كانت تضحك كثيرًا، وتصرخ على الآخرين، وتجادل المعلمين. لكن الآن... بعد أن أصبحت روحًا، تجردت من كل تلك الطبقات. بقي فقط البرود، الصمت، والعيون التي لا ترمش."
سكت لحظة، ثم تابع بنبرة فيها شيء من الحنين:
"لكنها من الداخل... لا تزال طيبة جدًا. أنا أراها.
اليوم... كانت على وشك البكاء من الفرح عندما وافقت أن تساعدنا."
نظرت إليه بصمت.
داخل رأسي، قلت لنفسي:
فهمت الآن... سبب برودها الشديد.
إنه مجرد قناع، فرضه الموت عليها.
قال نيمو، وهو لا يزال مطأطئ الرأس:
"لا بأس... حقًا، يمكنك أن ترفع رأسك.
نحن الآن متورطون في مشاكل أكبر منّا، لذا... علينا أن نساند بعضنا البعض."
ابتسم نيمو... تلك الابتسامة التي لم أرها منه من قبل، ابتسامة فيها صدق نادر، كأنها وُلدت من رماد الأيام التي قضاها وحيدًا.
"شكرًا لك مجددًا، بليك."
ابتسمتُ بدوري، شعرتُ للحظة وكأننا صرنا حلفاء حقيقيين، لا فقط شركاء في مأزق.
"من دواعي سروري... والآن، تصبح على خير."
استدرت، بخطى بطيئة، وغادرت.
خرجت من المبنى.
الهواء الليلي كان باردًا، منعشًا بطريقة غريبة، كأنه يغسلني من الداخل. رفعت رأسي نحو السماء، كانت النجوم مشوشة خلف سُحب داكنة، والقمر نصفه مخفي، كأنه يراقبني بحذر.
الشارع كان صامتًا.
لكنني... لم أشعر بالوحدة.
رغم كل شيء... شعرت أنني أخيرًا لست وحدي في هذا الجنون.
قبل أن أتحرك مبتعدًا، ظهر بابادوك إلى جانبي، كأنه خرج من الظل نفسه.
"حسنًا... ماذا ستفعل بشأن الوحش؟"
قالها وكأنه يسأل عن شيء بسيط، كحشرة في الحديقة.
"ما به الوحش؟" سألته وأنا أحاول أن أخفي قلقي.
نظر إليّ بنظرة تعني حقًا؟
"سيقتل كل من له علاقة بجريمة قتل فتاة الشبح.
هل نسيت؟… كنت أعلم أنك أحمق."
"ماذااا؟!"
اتسعت عيناي، وشعرت كأن قلبي يسقط إلى معدتي.
"إذًا يجب أن نوقفه فورًا! قبل أن يعمّ الدمار!"
قلت ذلك بخوفٍ لا أنكره.
لكن بابادوك، كعادته، لم يرد بشكل تقليدي. فقط ابتسم… تلك الابتسامة الكريهة.
"لدي فكرة أفضل."
"حقًا؟ ما هي؟"
قال وهو يضع إصبعه على ذقنه، كأنّه يقدم اقتراحًا فلسفيًا لا أكثر:
"ما رأيك أن نترك الوحش يقتل بعض الأشخاص المتورطين في الجريمة؟
بذلك سنحصل على خيوط كثيرة توصلكم إلى الحقيقة بسرعة."
وقفت مصدومًا. "ماذا؟! مستحيل!"
"لماذا؟ أليسوا سبب موت تلك الفتاة؟ أليست تلك الروح المسكينة التي تتعاطف معها؟"
نظرت إليه بحدة.
"لا يجوز قتل أي روح، مهما كانت مذنبة! هذه ليست عدالة، إنها… مذبحة."
تنهد بابادوك وقال بازدراء:
"كل مرة أسمعك أكتشف أن بوصلتك الأخلاقية تثير قرفي."
رفعت حاجبي، ثم ابتسمت بسخرية:
"انظر من يتكلم. في الواقع… كنت أظنك تملك قلبًا. لكن يبدو أنك تحمل قطعة من الغائط هناك بدلًا عنه."
"ماذا قلت، أيها اللعين؟!"
قالها وهو يزمجر، لكنني لم أبقَ لأسمع رده.
تحركت مبتعدًا بخطوات غاضبة، وخرجت إلى الشارع دون أن أنظر خلفي.
لكن فجأة، ومن دون سابق إنذار…
"هاي، انت! احذر!!"
رفعت رأسي.
سيارة مسرعة تشق الطريق كرصاصة خارجة من فوهة جنون. لم أكن في منتصف الطريق حتى!
كل شيء حدث بسرعة.
المصابيح تومض في عيني، الأدرينالين ضرب صدري.
ثم...
صفعة هواء قوية!
ذراع مظلة سوداء سحبتني للخلف، بقوة غير بشرية.
سقطت على الأرض. السيارة مرّت بجانبي بشعرات فقط… لكن ليس بدون أثر.
شعرت بألم في فمي… كدمة قوية، ربما قطعت الشفة.
"تبًا... أيها الأعمى الملعون!"
صرخت خلف السيارة، لكنّها لم تتوقف. فقط اختفت في الظلام.
كنت أرتجف. ليس من الألم، بل من شيء أعمق… شيء يشبه شعور الشخص الذي لمح موته يمر بجانبه.
بابادوك وقف بجانبي بهدوء، وكأنه يعرف.
قال بصوته الهادئ، المزعج كعادته:
"في الواقع… نسيت أن أخبرك بشيء مهم."
نظرت إليه، والغضب يغلي في عينيّ:
"ماذا الآن؟!"
قال بنبرة هادئة لدرجة أنها بدت ساخرة:
"خلال الأيام الثلاثة عشر القادمة… ستواجه مواقف قد تقتلك حرفيًا. ليس بسبب أحد، بل لأنك فقدت الكتاب."
تجمدت في مكاني.
"...لم أفهم."
"لن تموت في اليوم الثالث عشر بالضبط.
لكنك… ستبدأ بالاقتراب من الموت شيئًا فشيئًا.
الحوادث، القدر، المصادفات القاتلة… كلها ستتآمر ضدك.
وهذه السيارة؟ كانت مجرد البداية."
لم أستطع الرد.
كنت لا أزال ألهث، أضع يدي على فمي، أتحسس الكدمة، والنبض في أذني كاد يصمّني.
لم أكن أعرف ما الذي أخشاه أكثر…
الوحش الذي يقتل؟
الكتاب الضائع؟
أم أن العالم نفسه بدأ يتآمر عليّ؟
صرختُ فيه بكل ما أوتيت من غضب:
"لـماذا لم تخبرني من البداية؟!"
أدار وجهه نحوي، وعلى شفتيه ابتسامة المخلوقات المنفصلة عن المنطق البشري:
"كنتُ أريد أن أرى تعابير وجهك عندما تسمع ذلك… وصدقني، كان الأمر يستحق."
ثم… ضحك.
ضحكته الطفولية تلك… الساحرة والمستفزّة في آنٍ واحد.
ضحكة مزيج من مهرج وشيطان صغير يشاهد نملة تحترق تحت عدسة مكبرة.
لم أتمالك نفسي.
أمسكته من لباس صدره بشراسة، وعيناي تكاد تقذف شررًا:
"أقسم… أنا أمسك نفسي بشدة الآن كي لا أضربك، أيها الكائن المغرور..."
لكنه فقط ابتسم، تلك الابتسامة المستفزة التي تجعلك تندم لأنك لم تضربه.
"حسنًا، حان وقت الذهاب. وداعًا."
قالها ببساطة، وبدأ يبتعد وهو يُخرج مظلته السوداء.
صرخت خلفه:
"مهلًا! لحظة! أوصلني إلى المنزل! يا تاكسي المظلّة الغبي!!"
استدار ببطء، ورفع حاجبًا واحدًا.
"لا."
"...ماذااااااااااا؟!"
شعرتُ أن وريدي في الجبهة سينفجر.
"لكنني في خطر! وتتركني وحدي الآن؟!"
هزّ كتفيه بلا مبالاة، وقال وكأنه يقرأ من نصّ محفوظ:
"لا أهتم.
في الواقع؟ من الأفضل أن تموت.
أنقذتك فقط... لأرى تعابير وجهك عندما تعرف الحقيقة."
ثم فتح مظلته ببطء، بحركة مسرحية كأنه ساحر على خشبة مسرح مهجور، وارتفع في الهواء وسط ضوء القمر، حتى صار ظلًا يتلاشى بين الغيوم.
وقفت هناك في منتصف الشارع، شعري منكوش، قميصي ممزق من عند الياقة، وكدمة على فمي، ودماغي يشتعل بأسئلة وجودية، وأعصابي تحترق من الغيظ...
فصرخت، بكل ما في داخلي من إحباط:
"أععععععععععععععع!!"
صرخة مجنونة، صافية، من قلب مراهق قرر العالم أن يلعب به كدمية في حفلة شواء.
مرّت قطة بجانبي، نظرت إليّ باستغراب، ثم واصلت طريقها.
رائع. حتى القطط تحكم عليّ الآن.
أثناء مشيي، محاولًا الوصول إلى منزلي البعيد، وأن ألتقط أنفاسي ولو قليلاً بعد الليلة الغريبة التي مرّت، رأيت وجهًا أعرفه.
سورا.
كان واقفًا في الجهة المقابلة من الطريق، يرفع رأسه نحو السماء كأنه يبحث عن شيء بين النجوم.
ولد ذو شعر أصفر باهت، لونه يُشبه ضوء الصباح الباهت الذي لا يُزعج العين. عينيه سوداوان، باردتان ومطمئنتان في نفس الوقت، ووجهه يحمل ملامح هادئة، كأنّه لا ينتمي لعجلة هذا العالم.
من القلائل الذين تحدثت معهم في الفصل. لم يكن صاخبًا ولا خجولًا... فقط شخص تعرف أنك تستطيع أن ترتاح معه.
"بليك؟"
قالها بدهشة، وقد بدأ يقترب أكثر.
"بليك، إنه أنت فعلاً. ما الذي تفعله في هذا الوقت من الليل؟"
ترددتُ، لم أعرف ماذا أقول.
"سورا... أنا..."
عقلي أفرغ نفسه فجأة، ولم أجد إجابة صادقة لا تبدو مجنونة.
"في الواقع..." قلت وأنا أحاول الحفاظ على نبرة عادية،
"كنت أزور أحد أقاربي، وتأخرت قليلًا... الآن فقط غادرت وأنا في طريقي إلى المنزل."
كذبت. لا أعرف لماذا، لكنها كانت أسهل من شرح الجنّ، والكتب، والوحوش.
"آه، إذا هكذا الأمر."
قالها بابتسامة صغيرة.
"وأنت؟ ما الذي تفعله هنا؟"
نظر إلى السماء، ثم إليّ، وقال:
"أنا فقط... مصاب بالأرق."
"...بالأرق؟"
ضحك ضحكة هادئة، كأنّه معتاد على الشرح.
"نعم،لذالك اقضي وقتي ليلاً في الجوار، أراقب النجوم، أشعر أن الليل أكثر صدقًا من النهار."
"آه..." ابتسمتُ بتعب. "أنا آسف لإفساد جولتك."
"لا، لا بأس. كنت عائدًا للمنزل على أية حال.
هل تريد أن نعود معًا؟ منازلنا في نفس الجهة، أليس كذلك؟"
"حسنًا."
لم أتردد. وجوده بجانبي... جعل الشارع أقل وحدة.
مشينا معًا في طريق هادئ، نتحدث عن أشياء كثيرة.
أحيانًا نرمي أفكارًا عشوائية، أحيانًا ندخل في نقاش فلسفي عن الوقت والمستقبل، وأحيانًا كنا فقط مراهقين نتحدث عن الأشياء التي لا يفهمها الكبار.
ضحكت معه.
ونسيت...
الكتاب، بابادوك، الأشباح، الوحوش، والقدر.
للحظات فقط... شعرت أنني طبيعي.
حين وصلنا إلى منزلي، توقف سورا وقال وهو يشير إلى الأمام:
"حسنًا، منزلي في الشارع الذي بعد التالي. يجب أن أذهب الآن. تصبح على خير، بليك."
"تصبح على خير."
قلتُ له، وأنا أشعر بالحزن... لم أرد أن ينتهي الحديث. كنت أريد أن أبقى معه أكثر، أن أُغرق رأسي في أحاديث لا علاقة لها بالموت ولا بالدم.
لكنني لم أمتلك الشجاعة لطلب ذلك.
استدرتُ لأفتح باب منزلي، وعندما كنت على عتبة الدار، سمعت صوته من خلفي:
"فلنكمل محادثتنا في الفصل غدًا!"
صرخها بصوت عالٍ، كأنّه أراد أن يربط الغد بالليلة هذه.
توقفت، نظرت خلفي، ابتسمت.
فرحت.
بصدق... فرحت.
أغلقت الباب خلفي.
جلست على سرير الغرفة، غيرت ملابسي، أكلت شيئًا بسيطًا، ثم وضعت لاصقة طبية على الكدمة في فمي.
استلقيت، أنظر إلى السقف... أفكر.
وأخيرًا... حظيت بصديق.