ولد بروس بانر في الثامن عشر من ديسمبر عام ألف وتسعمئة وتسعة وستين، في مستشفى القديس لوقا بمدينة دايتون بولاية أوهايو، في ليلة كانت الثلوج فيها كثيفة إلى حد أن الطريق إلى المستشفى استغرق ساعتين كاملتين بدلاً من عشرين دقيقة. كانت الساعة تشير إلى الثالثة وسبع وثلاثين دقيقة فجراً حين انتهت ريبيكا بانر من الولادة،
بعد أكثر من ثماني عشرة ساعة من المخاض. لم يكن هناك أحد في غرفة الانتظار سوى براين بانر، زوجها، الذي كان يقف خلف الزجاج يمسك بكوب قهوة بارد منذ ساعات، يحدّق في الفراغ أكثر مما يحدّق في الممرضات.كان براين قد أنهى للتو عمله في مشروع سري بقاعدة لوس ألاموس، حيث تعرض، قبل ثلاث سنوات، لحادث إشعاعي طفيف أثناء تجربة على مفاعل تجريبي. لم يكن الحادث كبيراً بما يكفي ليُسجّل رسمياً، لكنه كان كافياً ليزرع في رأسه فكرة واحدة لن تفارقه أبداً: أن الإشعاع قد تسلل إلى جسده، ثم إلى حيواناته المنوية، ثم إلى الجنين الذي كانت تحمله زوجته. لم يخبر أحداً بهذا الاعتقاد، لكنه كان يعيشه كحقيقة علمية لا تقبل النقاش.عندما حملت الممرضة الطفل إلى غرفة الرضاعة، اقترب براين من الزجاج. كان بروس صغيراً، هادئاً جداً، لا يبكي إلا بصوت خافت وكأنه يراقب العالم قبل أن يقرر الانضمام إليه. نظر براين إليه طويلاً، ثم همس لنفسه كلمة واحدة لم يسمعها أحد:
«ملوث».عادوا إلى البيت في السابع والعشرين من ديسمبر، بعد أن تأكد الأطباء من سلامة الأم والطفل. كان البيت صغيراً، في شارع إلم، ذا سقف مائل وحديقة أمامية لم يُزرع فيها شيء منذ سنوات. في الأيام الأولى، كانت ريبيكا تُرضع بروس وهي جالسة على كرسي هزاز خشبي قديم، تغني له بصوت خافت أغنية «توينكل توينكل»، وكان بروس ينظر إليها بعينين واسعتين لا يرمش فيهما كثيراً.في إحدى الليالي، وكان بروس قد تجاوز أسبوعه الثاني، دخل براين الغرفة في الثالثة فجراً. كان قد عاد للتو من مختبر منزلي أعدّه في القبو. حمل مصباحاً يدوياً وجهاز قياس إشعاع جايجر قديماً. اقترب من المهد، ومرّر الجهاز ببطء فوق جسم الطفل النائم. توقف المؤشر عند قيمة أعلى بقليل من المعدل الطبيعي. لم يكن الفرق كبيراً، لكنه كان كافياً. أطفأ الجهاز، ووضعه جانباً، ثم وقف ينظر إلى ابنه طويلاً.«براين؟» همست ريبيكا من الباب، صوتها متعباً. «ما الذي تفعله؟»
التفت إليها ببطء. «أتحقق.»«من ماذا؟»«من أنه ليس… طبيعياً.»اقتربت ريبيكا بخطوات مترددة، وضعت يدها على كتفه. «إنه طفل، براين. ابننا.»لم ينظر إليها. «ليس بعد الآن.»مرت الأشهر. كان بروس طفلاً هادئاً على غير العادة، لا يكاد يبكي إلا إذا جاع أو بلّل حفاضه. في الشهر السادس، بدأ يجلس وحده، وفي الشهر الثامن كان يزحف بسرعة غريبة. كان براين يراقبه من بعيد، يسجل ملاحظات في دفتر صغير أسود لا يراه أحد. في إحدى الليالي، وبينما كانت ريبيكا نائمة، حمل بروس من مهده ونزل به إلى القبو. وضعه على طاولة معدنية باردة، وأشعل مصباحاً قوياً فوقه. أخرج حقنة صغيرة وأخذ عينة دم من كعب قدم الطفل. بكى بروس بكاءً حاداً لأول مرة منذ أسابيع. صعدت ريبيكا مذعورة، فوجدت زوجها ينظر إلى أنبوب الدم تحت ضوء المجهر.«ماذا تفعل يا براين؟!»«أثبت شيئاً.»«أثبت ماذا؟ إنه طفل!»رفع براين عينيه من المجهر ببطء. «إنه ليس طفلاً. إنه خطأ.»في عيد ميلاده الأول، لم يكن هناك احتفال. اشترت ريبيكا كعكة صغيرة وشمعة واحدة، لكن براين رفض أن يحضر. جلس في القبو طوال اليوم. عندما عادت ريبيكا إلى غرفة المعيشة، وجدت بروس جالساً على الأرض ينظر إلى الكعكة بعينين واسعتين، ثم مد يده الصغيرة ولمس الشمعة المضيئة. احترق إصبعه، فبكى بصوت عالٍ لأول مرة منذ أشهر. صرخت ريبيكا وركضت إليه، لكن براين ظهر فجأة في الباب.«دعيه يبكي.» قال بهدوء. «الألم هو الشيء الوحيد الذي سيعلمه أنه ما زال إنساناً.»
في عام ألف وتسعمئة وثلاثة وسبعين، كان بروس في الرابعة. كان طفلاً طويل القامة نسبياً، نحيلاً، ذكياً بشكل يثير القلق. يقرأ كتب الأطفال بنفسه، ويحل ألغازاً مخصصة لمن هم أكبر منه بسنوات. في إحدى الليالي، وبينما كان يرتب مكعباته الخشبية في برج هندسي معقد، دخل براين من الباب الخلفي متعثراً. كان قد شرب أكثر من المعتاد. نظر إلى البرج، ثم ركله بقدمه بقوة. تطايرت المكعبات في كل مكان.تجمد بروس. لم يبكِ. فقط نظر إلى والده بعينين واسعتين.«لماذا فعلتَ ذلك؟» سأله بروس بصوت هادئ وواضح.اقترب براين منه بخطوات ثقيلة. «لأنك تبني أشياء لا ينبغي لك أن تبنيها. لأنك لست مثل الأطفال الآخرين. لأنك…» توقف، ثم انحنى حتى أصبح وجهه قريباً من وجه ابنه. «لأنك وحش.»في تلك اللحظة، سمعت ريبيكا الصوت من المطبخ. ركضت إلى غرفة المعيشة، فوجدت براين يمسك بكتف بروس بقوة، ووجه الطفل شاحب تماماً.«دعه يا براين!» صرخت.دفعها براين بقوة فسقطت على الأرض. «ابتعدي عنه. إنه ليس ابنك. إنه نتيجة خطأ ارتكبته أنا.»وقف بروس ببطء، ثم اقترب من أمه وساعدها على النهوض. لم يقل شيئاً. فقط نظر إلى والده بنظرة لم تكن فيها دموع، وإنما شيء آخر… شيء أكبر من عمره بكثير.في تلك الليلة، نام بروس في سريره وهو يضع يده على أذنيه، يحاول ألا يسمع صوت والده وهو يصرخ في غرفة المعيشة: «سيتحول… سيتحول إلى شيء لا يمكن السيطرة عليه… أنا أعلم… أنا أرى ذلك في عينيه…».ولم ينم بروس تلك الليلة.
بقي مستيقظاً، يحدق في السقف، يفكر في كلمة واحدة تتردد في رأسه الصغير:
وحش.
في الخامسة من عمره، بدأ بروس يفهم أن الصمت أحياناً يكون أكثر أماناً من الكلام.كان يعود من الروضة سيراً على الأقدام مع أمه، يمسك يدها الصغيرة بيدها، وهي تحاول أن تجعل خطواته تتسق مع خطواتها السريعة. كانت ريبيكا تبتسم ابتسامة شاحبة كلما سألها عن سبب عودة والده متأخراً، أو عن سبب الكدمات التي تظهر على ذراعها من حين لآخر. كانت تقول دائماً: «أبوك متعب من العمل، يا بروس. لا تسأل كثيراً».لكن بروس كان يرى. كان يرى كيف يتغير صوت والده حين يشرب، كيف يصبح أعلى وأكثر حدّة، كيف يبدأ بالكلام عن «الإشعاع» و«الطفرات» و«الخطأ الذي لا يمكن إصلاحه». كان يرى كيف تضع أمه كريم الأساس على ذراعيها قبل أن تخرج، وكيف تُخفي معصميها تحت الأكمام الطويلة حتى في الصيف.في إحدى الليالي من شتاء عام ألف وتسعمئة وخمسة وسبعين، كان الجو بارداً إلى درجة أن النوافذ تكوّن طبقة جليدية من الداخل. كان بروس جالساً على الدرج العلوي، يضع ذقنه على ركبتيه، يستمع إلى صوت والديه في المطبخ.صوت براين كان مرتفعاً، متشنجاً:
«إنك لا ترين ما أراه أنا، ريبيكا! أراه كل يوم! كيف يحل المسائل التي لا يستطيع طفل في الخامسة حلها! كيف ينظر إليّ وكأنه يعرف… يعرف أنني أعرف! إنه ينمو بسرعة غير طبيعية! الخلايا… الخلايا تتكاثر بمعدل…»«اخفض صوتك، براين! إنه نائم!»«لن ينام! لا ينام أبداً حقاً! إنه يراقب! يراقب وينتظر! ينتظر اللحظة التي ينفجر فيها ما بداخله!»سُمع صوت كرسي يُسحب بقوة، ثم صوت خطوات ثقيلة.
«كفى، براين. كفى. سأأخذه ونرحل. غداً صباحاً. لن أدعك تؤذيه أكثر.»صمت طويل. ثم صوت براين، أخفض من قبل، أكثر برودة:
«ترحلين؟ إلى أين؟ لا يوجد مكان يمكنكما الاختباء فيه مني. ولا منه.»في صباح اليوم التالي، كان الجو ما زال مظلماً عند الساعة الخامسة والنصف. كانت ريبيكا قد جمعت حقيبة صغيرة، ملابس قليلة لبروس ولبعضها هي، ودفاتر توفير، ومبلغ مئة وسبعين دولاراً كانت تخبئه في علبة قهوة منذ سنتين. أيقظت بروس بهدوء، ساعدته على ارتداء معطفه الأزرق ذي القبعة، ثم أمسكت يده ونزلا الدرج على أطراف أقدامهما.كان براين نائماً على الأريكة في غرفة المعيشة، زجاجة ويسكي فارغة بجانبه، ذراعه متدلية على الأرض. مرّا من أمامه ببطء، يحبسان أنفاسهما. وصلا إلى الباب الأمامي. فتحت ريبيكا القفل بيد مرتجفة، ثم فتحت الباب سنتيمترات قليلة. الهواء البارد تسلل إلى الداخل.في تلك اللحظة، سمعا صوتاً خشناً من خلفهما.«إلى أين؟»التفتت ريبيكا بسرعة. كان براين واقفاً في منتصف الغرفة، عيناه حمراوان، شعره منكوش، يمسك بمطرقة كبيرة كان يستخدمها في القبو.«ابتعد عن الطريق، براين.» قالت ريبيكا بصوت هادئ لكنه مرتجف.«لن تذهبا إلى أي مكان.»خطا خطوة إلى الأمام. وضعت ريبيكا نفسها أمام بروس، دافعة إياه إلى الخلف بجسدها.«دعنا نذهب. لا نريد شيئاً منك. فقط نريد أن نعيش.»«تعيشون؟» ضحك ضحكة قصيرة خالية من الفرح. «لا يمكنكما العيش. لأنه سيقتلكِ يوماً ما. سيقتل الجميع. أنا أنقذكِ الآن.»«إنه طفل!»«إنه ليس طفلاً!» صرخ براين، ثم رفع المطرقة. «إنه وحش!»اندفعت ريبيكا نحو الباب، ممسكة بيد بروس بقوة. لكن براين كان أسرع. في ثانية واحدة، كان قد أمسك بكتفها وجذبها إلى الخلف بعنف. سقطت ريبيكا على الأرض، ظهرها يصطدم بالأرضية الخشبية بقوة. وقف بروس متجمداً، عيناه مفتوحتان على وسعهما.«أمي…»حاول براين أن يمسك ببروس، لكن ريبيكا نهضت بسرعة، رغم الألم، ودفعته بكل قوتها. تراجع براين خطوتين، ثم عاد ورفع المطرقة عالياً.«ابتعدي عنه!»«لا!»سقطت المطرقة.
لم يكن هناك صوت عالٍ. فقط صوت ارتطام ثقيل، ثم صوت جسد ينهار على الأرض.
وقفت ريبيكا للحظة، ثم سقطت ببطء على ركبتيها. كان هناك دم يتدفق من جانب رأسها، يلطخ شعرها الأشقر، يسيل على وجهها، على الأرضية.نظر بروس إليها. لم يصرخ. لم يبكِ. فقط وقف، يحدق.رفع براين المطرقة مرة أخرى، يتنفس بسرعة، عيناه فارغتان.«الآن… انتهى الأمر.»ثم التفت إلى بروس.«الآن… أنت وأنا فقط.»لم يتحرك بروس. بقي واقفاً، ينظر إلى جثة أمه على الأرض، ثم رفع عينيه ببطء إلى والده.في تلك اللحظة، لم يكن في عيني الطفل البالغ من العمر خمس سنوات خوف.كان هناك شيء آخر.شيء لم يره براين من قبل.شيء جعل يده ترتجف للحظة، قبل أن يُمسك بكتف ابنه بقوة ويسحبه إلى الداخل، ويغلق الباب خلفهما إغلاقاً نهائياً.
وصلت سيارة الشرطة بعد ثلاث وعشرين دقيقة من المكالمة الأولى التي أجراها أحد الجيران، بعد أن سمع صوت الصراخ ثم صمتاً ثقيلاً مفاجئاً. كان الضابطان الأولان يطرقان الباب، ثم كسراه عندما لم يُجب أحد. وجدوا براين جالساً على الأريكة، المطرقة بين يديه، يحدّق في الفراغ. كان بروس جالساً على الدرج، يداه على ركبتيه، لا يتحرك، لا يتكلم، لا يبكي. فقط ينظر إلى جثة أمه التي كان الدم قد توقف عن التدفق منها، وأصبح لون البركة تحت رأسها بنياً داكناً.لم يسأل الضابط بروس شيئاً في البداية؛ كان واضحاً أن الطفل في حالة صدمة. لفوه ببطانية، أخرجوه إلى الخارج، وضعوه في المقعد الخلفي للسيارة. عندما أدار المحرك، نظر بروس من النافذة إلى البيت للمرة الأخيرة. لم يرفع يده ليلوح. لم يقل وداعاً. فقط أغمض عينيه عندما بدأت السيارة بالتحرك.في الأيام التالية، لم يتكلم بروس كلمة واحدة. لا مع المحققين، ولا مع أخصائية الرفاه الاجتماعي،
ولا مع عمته إلين التي وصلت من كليفلاند بعد يومين. كان يجلس في غرفة التحقيق، يرسم دوائر متداخلة على ورقة بقلم رصاص حتى ينفد الرصاص تماماً، ثم يبدأ من جديد. عندما حاولوا أن يسألوه «ماذا حدث؟»، كان يرفع عينيه ببطء، ينظر إليهم للحظة، ثم يعود إلى الدوائر.قررت المحكمة، بعد أسبوعين، أن براين بانر غير مؤهل للمثول أمام القضاء بسبب حالته النفسية. أُدخل إلى مصحة ولاية ليما النفسية تحت حراسة مشددة، ووُضعت تهمة القتل العمد ضده. أما بروس، فأُرسل للعيش مع عمته إلين وزوجها جورج في منزل صغير في ضاحية شاكر هايتس. لم يأخذ معه سوى حقيبة ظهر صغيرة فيها ثلاثة قمصان وكتاب فيزياء للأطفال كانت أمه تشتريه له قبل أسابيع.في الأشهر الأولى عند عمته، كان بروس ينام بصعوبة. كان يستيقظ في منتصف الليل، يجلس على سريره، يضع رأسه بين يديه، ويبقى هكذا حتى الصباح. لم يبكِ أبداً. لم يصرخ. فقط يصمت صمتاً ثقيلاً يخيف إلين أكثر من البكاء. في إحدى الليالي، دخلت غرفته فوجدته واقفاً أمام النافذة، ينظر إلى القمر.«بروس… هل تريد أن تشرب شيئاً؟» سألته بهدوء.لم يجب في البداية. ثم قال بصوت خافت جداً:
«هل سيأتي ليأخذني؟»«من؟»«أبي.»وضعت إلين يدها على كتفه، لكن بروس لم يتحرك.
«لا، يا حبيبي. لن يأتي. هو… في مكان لا يستطيع أن يخرج منه.»التفت بروس إليها لأول مرة منذ أيام.
«لكنه قال إنه سيعود. قال إنني سأقتل الجميع يوماً ما. وقال إنه لن يدعني أفعل.»لم تجد إلين كلمات. فقط ضمته إلى صدرها، وهو لم يقاوم، لكنه لم يحتضنها أيضاً.في المدرسة الابتدائية، كان بروس تلميذاً صامتاً، ذكياً بشكل يقلق المعلمين. ينهي الاختبارات في نصف الوقت، ثم يجلس ينظر إلى السقف. في الصف الثالث، ضرب زميلاً له كسر أنفه لأنه قال له «أبوك قاتل». لم يكن الضرب عنيفاً جداً، لكن عيني بروس كانتا فارغتين تماماً وهو يضرب. عندما سألته المديرة «لماذا فعلت هذا؟»، أجاب بهدوء:
«لأنه كذب.»بعد الحادثة، أُحيل إلى أخصائي نفسي. في الجلسة الأولى، جلس بروس على الكرسي، يداه في حجره، لا ينظر إلى الطبيب.«مرحباً، بروس. أنا الدكتور موريس. هل تعرف لماذا أنت هنا؟»«نعم.»«هل تريد أن تخبرني؟»«لا.»«حسناً. لا بأس. يمكننا أن نجلس هكذا إذا أردت.»جلسا في صمت لخمس عشرة دقيقة. ثم قال بروس فجأة:
«أحياناً… أسمع صوتاً في رأسي. يقول إن عليّ أن أكون غاضباً. لكنني لا أريد.»نظر إليه الدكتور موريس باهتمام.
«وماذا يحدث إذا لم تكن غاضباً؟»«يصرخ أكثر.»«وهل تخاف منه؟»توقف بروس طويلاً. ثم قال بصوت خافت:
«أخاف أن يكون على حق.»استمر العلاج لسنوات. لم يتكلم بروس كثيراً، لكن شيئاً فشيئاً بدأ يرسم، يقرأ، يحل مسائل رياضية معقدة. في الثانوية، أصبح طالباً متميزاً، لكنه لم يكن له أصدقاء حقيقيون. كان يجلس وحده في المكتبة، يقرأ كتب الفيزياء النووية التي لا يفهمها أحد في سنه.في عام ألف وتسعمئة وثمانية وثمانين، عندما كان بروس في التاسعة عشرة من عمره، وصلته رسالة من مصحة ليما. هرب براين بانر من زنزانته قبل ثلاثة أيام، وقتل حارساً، وكان يُعتقد أنه متجهاً إلى كليفلاند.في ليلة عيد الميلاد، طرق الباب. فتحت عمته إلين، فوجدت براين واقفاً في الثلج، نحيلاً، عيناه غائرتان، يرتدي ملابس المصحة.«أين هو؟» سأل بهدوء.تراجعت إلين خطوة. «اخرج من هنا، براين. الشرطة قادمة.»«لن يصلوا في الوقت المناسب.»دخل البيت، دفعها جانباً. صعد الدرج ببطء. كان بروس في غرفته، يقرأ كتاباً في الفيزياء النظرية. رفع عينيه عندما فُتح الباب.وقف براين في الإطار، يتنفس بصعوبة.«كبرت.» قال.لم يتحرك بروس.
«اخرج.»«لا. جئت لأنهي ما بدأته.»تقدم براين خطوة. أخرج من جيبه سكيناً صغيرة كان قد سرقها من المصحة.«أنت تعرف لماذا. أنت تعرف ما أنت عليه.»وقف بروس ببطء. كان أطول من والده الآن.
«ابتعد.»«لن أدعك تؤذي العالم.»اندفع براين فجأة، رفع السكين. لكن بروس كان أسرع. أمسك بمعصم والده، لواه بقوة حتى سقطت السكين. دفع براين إلى الخلف بقوة أكبر مما كان يقصد. ارتطم براين بالحائط، ثم سقط على الأرض.في تلك اللحظة، سمعا صوت سيارات الشرطة تقترب.نظر براين إلى ابنه من الأرض، يتنفس بصعوبة.
«سترى… يوماً ما… سيخرج… وسيقتل الجميع…»نهض بروس، ينظر إليه من فوق.«ربما.» قال بهدوء. «لكن ليس اليوم.»دخل الضباط، أمسكوا ببراين، سحبوه إلى الخارج. لم يقاوم. فقط ظل ينظر إلى بروس حتى اختفى.في اليوم التالي، وفي زنزانة الاحتجاز المؤقت، وجد الحراس براين بانر ميتاً. كان قد كسر نظارته، واستخدم قطعة زجاج حادة ليقطع شرايين معصمه. على الحائط، كتب بدمائه كلمة واحدة:وحش.
بعد وفاة براين، بقي بروس في منزل عمته إلين حتى تخرج من الثانوية عام ألف وتسعمئة وسبعة وثمانين. كان ترتيبه الأول على الولاية، حصل على منحة كاملة من ثلاث جامعات مرموقة، لكنه اختار جامعة ديزرت ستيت في نيفادا؛ أبعد مكان ممكن عن أوهايو، وأقرب مكان ممكن إلى المنشآت النووية التي كان يقرأ عنها منذ كان في الثالثة عشرة.في السنة الأولى، سكن في غرفة مشتركة مع طالب هندسة ميكانيكية يُدعى مارك ريغان. في الأسبوع الأول، عاد مارك من محاضرة في الحادية عشرة ليلاً ليجد بروس جالساً على مكتبه، أمامه خمسة كتب مفتوحة في وقت واحد، وورقة مليئة بالمعادلات مكتوبة بخط دقيق لا يُخطئ.«يا رجل، هل نمت أصلاً؟» سأل مارك وهو يلقي بحقيبته على السرير.رفع بروس عينيه ببطء. «النوم غير ضروري إذا كنت تستطيع تنظيم دورات اليقظة بشكل صحيح.»ضحك مارك. «أنت غريب نوعاً ما، لكني أحب ذلك.»لم يضحك بروس. فقط أومأ برأسه وعاد إلى معادلاته.كان بروس يحضر محاضرات الدكتوراه وهو لا يزال في السنة الثانية من البكالوريوس. أستاذه في الفيزياء النووية، البروفيسور ستيرن، كان يُدخله مختبر الإشعاع المغلق ببطاقته الخاصة، رغم أن اللوائح تمنع الطلاب دون الدراسات العليا. في إحدى الجلسات، وبينما كانا يقيسان طيف إشعاع غاما من عينة كوبالت-٦٠، قال ستيرن فجأة:
«بروس، لماذا تختار دائماً الموضوعات الأكثر خطورة؟ معظم الطلاب في عمرك يدرسون فيزياء الجسيمات أو الكونيات. أنت تدرس الإشعاع كأنك تبحث عن شيء شخصي.»توقف بروس عن تدوين الأرقام، ونظر إلى الأستاذ للحظة طويلة.«لأن الإشعاع هو الشيء الوحيد الذي لا يكذب. يدمر، يُغيّر، يُنتج طاقة هائلة، لكنه لا يدّعي أنه شيء آخر غير ما هو عليه.»صمت ستيرن، ثم أومأ ببطء. «هل جربت يوماً أن تثق بالبشر بنفس القدر الذي تثق فيه بالفيزياء؟»«البشر يكذبون.» قال بروس بهدوء. «المعادلات لا تكذب.»تخرج بروس في عام ألف وتسعمئة وتسعين بأعلى معدل في تاريخ القسم، ثم أكمل الماجستير في سنة واحدة، والدكتوراه في سنتين. كانت أطروحته بعنوان «إمكانية توليد نبضة غاما مركّزة بكثافة طاقة تفوق القنبلة الهيدروجينية بمليون مرة في حيز مكاني محدود». عندما دافع عنها، كان أحد الحضور عقيداً في الجيش برتبة لواء، يجلس في الصف الخلفي ببدلة مدنية.بعد المناقشة، اقترب اللواء من بروس في الردهة.«دكتور بانر، أنا اللواء ثاديوس روس. نحن نعمل على مشروع في قاعدة كيرتيلس بولاية نيو مكسيكو. نريد شخصاً يستطيع أن يحول نظرياتك إلى واقع عملي. الراتب غير محدود، والصلاحيات كاملة.»نظر بروس إلى الرجل للحظات. «ما هو اسم المشروع؟»«لا يوجد اسم رسمي بعد. لكننا ندعوه داخلياً قنبلة غاما.»لم يتردد بروس. «متى أبدأ؟»في صيف ألف وتسعمئة وخمسة وتسعين، وصل بروس إلى قاعدة كيرتيلس، صحراء نيو مكسيكو، حيث درجات الحرارة تتجاوز الأربعين نهاراً وتنخفض إلى ما دون الصفر ليلاً.
كان المختبر تحت الأرض، ثلاثة طوابق، محاطاً بجدران خرسانية بسمك مترين، وأنظمة تبريد تعمل على مدار الساعة. أعطوه مكتباً زجاجياً مطلّاً على غرفة التجارب الرئيسية، حيث كان قلب المفاعل التجريبي يُبنى.في الأشهر الأولى، عمل بروس ثماني عشرة ساعة يومياً. كان ينام على أريكة في غرفة التحكم، يستيقظ كلما رن جهاز الإنذار. في إحدى الليالي، وبينما كان يراجع بيانات المحاكاة، دخل اللواء روس.«بروس، لدينا ضغط من البنتاغون. يريدون عرضاً عملياً خلال ثمانية عشر شهراً. هل هذا ممكن؟»رفع بروس عينيه من الشاشة. «إذا أعطيتموني فريقاً لا يسأل أسئلة، وميزانية غير محدودة، وإلغاء كل البروتوكولات الأمنية الروتينية، نعم، ممكن.»ابتسم روس ابتسامة خفيفة. «اعتبرها منجزة.»بحلول عام ألف وتسعمئة وتسعة وتسعين، كان الجهاز جاهزاً: أسطوانة من التنجستن المقوى بطول عشرة أمتار، محاطة بحلقات مغناطيسية، وفي مركزها قلب من اليورانيوم-٢٣٥ المخصب بنسبة تسعين بالمئة. كان الهدف إنتاج نبضة غاما مركزة تستطيع اختراق الدروع النووية وتعطيل الأجهزة الإلكترونية في دائرة نصف قطرها مئة كيلومتر دون إحداث انفجار حراري كبير.في ليلة الاختبار الأولى، كانون الثاني ألفين وواحد، وقف بروس في غرفة التحكم، يرتدي بدلة الإشعاع البيضاء، يداه ثابتتان على لوحة القيادة. كان اللواء روس خلفه، ومعه خمسة ضباط كبار.«كل الأنظمة خضراء.» قال أحد الفنيين.نظر بروس إلى الشاشة الرئيسية. ثم ضغط الزر الأحمر ببطء.لمدة ثانيتين، لم يحدث شيء. ثم اهتز المبنى كله، وارتفع صوت هدير عميق من تحت الأرض. على الشاشة، ظهرت قمة طاقة غاما بلغت ثلاثة أضعاف ما كان متوقعاً.التفت بروس إلى روس.
«لقد نجح.»ابتسم روس. «أكثر من مجرد نجاح، دكتور بانر. لقد غيّرت قواعد الحرب إلى الأبد.»لم يبتسم بروس. فقط نظر إلى الشاشة، حيث كان منحنى الطاقة لا يزال يرتفع ببطء، كأن شيئاً ما في قلب الجهاز لم ينتهِ بعد من الاستيقاظ.
في الشهر الثالث من وجوده في قاعدة كيرتيلس، بدأ بروس يلاحظها.كانت تأتي كل يوم اثنين وخميس إلى المركز الطبي الموجود في الطابق الأرضي لإجراء الفحوص الدورية للعاملين في المناطق المشعة. بيتي روس، خمس وعشرون سنة، ممرضة متخصصة في التعرض للإشعاع،
ابنة اللواء ثاديوس روس الوحيدة. شعرها بني مائل إلى الحمرة، عيناها خضراوان هادئتان، وصوتها هادئ دائماً حتى عندما تكون منهكة. كانت ترتدي زياً أبيض بلا أكمام، وتضع سماعتها حول عنقها كأنها جزء منها.في البداية كان يراها من بعيد فقط. يمرّ في الرواق المؤدي إلى المصعد وهي تخرج من غرفة الفحص، تحمل ملفات، تبتسم ابتسامة خفيفة للجنود الذين يحيونها باحترام مبالغ فيه. كان بروس يخفض عينيه فوراً، يسرّع خطاه، يعود إلى مختبره تحت الأرض حيث لا أحد يبتسم ولا أحد ينظر إليه أصلاً.ثم جاء يوم الفحص الشهري الإجباري.كان في الثالثة عصراً، وكان بروس قد نسي الموعد تماماً حتى رن هاتف غرفة التحكم.
«دكتور بانر، أنت متأخر بساعتين على فحص الدم والإشعاع.» صوت الملازم في الطرف الآخر.تنهد بروس، خلع بدلة العمل، ارتدى قميصاً عادياً، وصعد إلى الطابق الأرضي. كانت غرفة الفحص شبه فارغة، فقط بيتي وممرض آخر يرتب الأدوات. عندما دخل، رفعت بيتي عينيها من السجل، ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة مهذبة.«دكتور بانر، تفضل بالجلوس.»جلس على الكرسي المعدني، لفّ قميصه إلى فوق الكوع دون كلام. بدأت بيتي بقياس الضغط، ثم أخذت عينة دم من الوريد بمهارة لم يشعر معها بأي ألم. كان صمت بروس ثقيلاً، ينظر إلى الأرض، يحاول ألا يتنفس بقوة حتى لا يبدو متوتراً.«مستوى التعرض لديك طبيعي تماماً هذا الشهر.» قالت بيتي وهي تكتب في الملف. «لكن نبضك مرتفع قليلاً. هل تنام كفاية؟»رفع بروس عينيه للحظة، ثم أنزلهما مجدداً.
«أنام ما يكفي.»توقفت بيتي عن الكتابة، نظرت إليه مباشرة.
«أعرف أنك تعمل ست عشرة ساعة يومياً على الأقل. سمعتُ والدي يتحدث عنك. يقول إنك لا تخرج من المختبر إلا إذا أُجبرت.»لم يرد بروس فوراً. ثم قال بهدوء:
«العمل يحتاج إلى تركيز.»ابتسمت بيتي ابتسامة أوسع قليلاً.
«العمل يحتاج أيضاً إلى إنسان يقوم به.»شعر بروس بشيء يضغط على صدره. لم يكن يعرف كيف يرد على جملة كهذه. أمسك بكمه، أنزله، وقام.
«شكراً لك.»كان يهم بالخروج عندما سمعته تقول:
«دكتور بانر… إذا احتجت أن تتحدث إلى أحد… أنا هنا كل اثنين وخميس.»توقف عند الباب، لم يلتفت.
«أنا لا أتحدث كثيراً.»«لا بأس.» قالت بصوت هادئ. «لكن إذا أردت يوماً أن تصمت مع شخص آخر، فالباب مفتوح.»لم يجب، خرج، أغلق الباب خلفه بهدوء.بعد ذلك اليوم، بدأ يجد أسباباً للصعود إلى الطابق الأرضي. يمرّ من أمام المركز الطبي في وقت متأخر، ينظر من الزجاج، يراها تجلس تكتب تقارير أو تشرب قهوة من كوب ورقي. كان يقف لحظات، ثم يعود أدراجه. في إحدى المرات، كانت بيتي خارجة من الباب في نفس اللحظة، فاصطدما تقريباً.«آسف.» قال بسرعة، تراجع خطوة.«لا بأس.» ضحكت ضحكة خفيفة. «أنت دائماً تبدو كأنك تهرب من شيء.»توقف بروس، لم يعرف ماذا يقول. ثم قال بصوت منخفض:
«ربما أهرب.»نظرت إليه بيتي للحظة طويلة، كأنها تحاول أن ترى شيئاً خلف عينيه.
«من ماذا؟»لم يجب. فقط وقف، يشد على ملفاته بقوة. ثم همس:
«من كل شيء.»في صيف ألف وتسعمئة وسبعة وتسعين، كان هناك عطل في نظام التكييف في الطوابق السفلية، فأُجبر الجميع على العمل في الطوابق العلوية لثلاثة أيام. وضعوا مكتباً مؤقتاً لبروس في غرفة فارغة بجانب المركز الطبي. كان يجلس هناك من السابعة صباحاً إلى الثانية بعد منتصف الليل، وكانت بيتي تمرّ من أمامه عدة مرات يومياً.في اليوم الثاني، وجد كوب قهوة ساخن على مكتبه مع ورقة صغيرة: «بدون سكر، لأنك تبدو كمن يشربها سوداء.»لم يشربها فوراً، لكنه لم يرمها أيضاً.في اليوم الثالث، عندما أُصلح التكييف، كان برروس يجمع أغراضه ليعود إلى الأسفل. مرت بيتي من أمام الباب، توقفت.«هل ستختفي مجدداً في الطوابق السفلية؟»أومأ بروس برأسه.
«نعم.»«حسناً.» قالت بهدوء. «لكن إذا شعرت يوماً أن الهواء ثقيل جداً هناك… تعلم أين تجد الهواء النقي.»نظر إليها للحظة أطول من المعتاد. ثم قال بصوت خافت جداً:
«شكراً… بيتي.»كانت أول مرة ينطق اسمها.ابتسمت ابتسامة لم يرها من قبل، هادئة، دافئة، حقيقية.
«على الرحب، بروس.»أمسك بحقيبته، خرج، لكنه توقف خارج الباب للحظة، أغلق عينيه، تنفس بعمق. لأول مرة منذ سنوات، شعر بشيء يشبه الأمل، لكنه كان خائفاً جداً من أن يعترف به، حتى لنفسه.
في الشتاء الذي تبعه، بدأت اللقاءات تتكرر خارج إطار الدوام الرسمي.أولها كان صدفة: عطلة نهاية الأسبوع الوحيدة التي أُجبر فيها بروس على مغادرة القاعدة لأن نظام الطاقة كان تحت الصيانة السنوية. وجد نفسه في موقف الحافلات الصغير خارج البوابة الرئيسية، ينتظر الحافلة إلى مدينة ألبوكيركي القريبة، حين توقفت سيارة جيب قديمة اللون الأخضر الزيتوني بجانبه. خفضت بيتي زجاج النافذة.«إلى أين أنت ذاهب بهذا البرد؟»نظر بروس إلى الأرض المغطاة بطبقة رقيقة من الثلج.
«إلى المدينة فقط. أحتاج بعض الكتب.»«اركب. سأوصلك.»تردد ثانيتين، ثم فتح الباب وجلس في المقعد الأمامي. كانت السيارة دافئرة، رائحة القهوة والجلد القديم تملأ المكان. شغّلت بيتي المذياع على محطة موسيقى كلاسيكية خافتة، ثم انطلقت.سادا صمت مريح لعشر دقائق، حتى قالت فجأة:
«هل تعرف أنني أقرأ كل ورقة بحث تخرج من مختبرك قبل أن تُرسل إلى واشنطن؟»التفت إليها متعجباً. «كيف؟»«لأنني مسؤولة عن توقيع تقارير السلامة الإشعاعية. أقرأ كل شيء.» توقفت لحظة، ثم أضافت بهدوء: «أنت تكتب بلغة جميلة جداً، بروس. حتى المعادلات تبدو عندك كأنها شعر.»لم يعرف ماذا يقول. شعر بحرارة تصعد إلى وجهه، فالتفت إلى النافذة.عندما وصلا إلى المدينة، أصرت على أن يشربا قهوة معاً في مقهى صغير في الشارع الرئيسي. جلسا في الزاوية البعيدة، أمام نافذة مغطاة ببخار الدفاية. طلبت بيتي شوكولا ساخنة، وطلب بروس قهوة سوداء. تحدثت هي أولاً.«أعندما كنت في السابعة عشرة، قرأت كتاباً لريتشارد فاينمان اسمه «بالتأكيد تمزح يا سيد فاينمان». هل قرأته؟»أومأ بروس برأسه. «ثلاث مرات.»«كنت أظن أن كل العلماء مثل فاينمان: مرحون، يحبون الحياة، يضحكون. ثم جئت إلى هنا ورأيت العشرات منهم… كلهم جديون، متعبون، خائفون. إلا أنت.» رفعت عينيها إليه. «أنت مختلف. أنت حزين، لكنك لا تخاف.»أمسك بروس بكوبه بكلتا يديه، كأنه يستمد منه الدفء.
«الخوف مضيعة للطاقة.»«ليس دائماً.» قالت بهدوء. «أحياناً الخوف هو الشيء الوحيد الذي يذكّرنا بأننا ما زلنا أحياء.»لم يرد. فقط نظر إليها طويلاً، ثم قال بصوت خافت:
«أنا لا أعرف كيف أكون حياً، بيتي. أعرف فقط كيف أبقى واقفاً.»وضعت يدها على الطاولة، قريبة من يده لكن دون أن تلمسه. بقيا هكذا حتى أغلق المقهى أبوابه.بعد ذلك اليوم، صارت اللقاءات تتكرر: نزهة قصيرة في الصحراء ليلاً عندما تكون السماء صافية، جلسة في غرفة الاستراحة بعد منتصف الليل حين ينتهي الجميع، رسائل قصيرة تتركها بيتي داخل ملفات الفحص الطبي، ويرد عليها بروس بملاحظات صغيرة مكتوبة على حواشي الأوراق العلمية. كانا يتحدثان عن كل شيء وعن لا شيء: عن نظرية الأوتار، عن موسيقى باخ، عن الخوف من الموت، عن سبب كون السماء زرقاء، عن الذكريات التي لا يستطيع أي منهما مشاركتها كاملة.في إحدى الليالي من ربيع ألفين وواحد، كانا جالسين على سطح المبنى الإداري، القاعدة نائمة تحت أقدامهما، النجوم كثيفة إلى حد الإيلام. كانت بيتي قد أحضرت بطانية صوفية، لفتها حول كتفيهما معاً.«بروس… هل فكرت يوماً كيف ستكون حياتك لو لم تكن عالماً؟»نظر إلى الأفق البعيد حيث تلامس الصحراء السماء.
«لا أعرف إذا كان لي خيار آخر. الفيزياء هي المكان الوحيد الذي أشعر فيه… بالأمان.»التفتت إليه. «وأنا؟ هل أنا مكان آمن؟»توقف طويلاً، ثم قال بصوت يكاد يكون همساً:
«أنتِ المكان الوحيد الذي أخاف أن أفقده.»اقتربت منه أكثر، وضعت رأسها على كتفه. لم يتحرك في البداية، ثم، ببطء شديد، رفع ذراعه ووضعها حول كتفيها. بقيا هكذا حتى اقترب الفجر، لا يتكلمان، فقط يتنفسان معاً.لكن السرية كانت ضرورة قاسية.كان اللواء روس قد لاحظ شيئاً. في إحدى الاجتماعات الأسبوعية، وبينما كان يمرّر تقارير التقدم، توقف عند اسم بروس، ثم قال بصوت عالٍ أمام الجميع:
«الدكتور بانر عبقري، لا شك. لكنه ضعيف الشخصية، جبان، يختبئ خلف الأرقام لأنه لا يستطيع مواجهة العالم الحقيقي. هذا النوع من الخطير، يا سادة: يبني أسلحة لا يملك الشجاعة لاستخدامها.»سُمع الصمت في القاعة. لم يرفع بروس عينيه من الأوراق. في تلك الليلة، عندما التقيا في الممر الخلفي، كانت عينا بيتي مملوءتين بالدموع الغاضبة.«سمعتُ ما قاله والدي.»لم ينظر إليها. «لا يهم.»«يهمّني أنا.» اقتربت خطوة. «أنت لست جباناً، بروس. أنت أشجع إنسان عرفته، لأنك تختار كل يوم أن تظل طيباً رغم كل شيء.»رفع عينيه إليها أخيراً. «بيتي… إذا عرف… سينقلني إلى منشأة أخرى في اليوم التالي.»وضعت يدها على خده بلطف. «إذن سنبقى سراً. ليس إلى الأبد. فقط حتى نجد طريقة.»
أمسك يدها، ضغط عليها بقوة خفيفة، ثم قبل راحة يدها لأول مرة. كانت قبلة خجولة، مرتجفة، لكنها حملت كل ما لم يستطع أي منهما قوله بصوت عالٍ.منذ تلك الليلة، صارت اللقاءات أكثر حذراً وأعمق في الوقت نفسه: غرفة تخزين مهجورة في الطابق السفلي، مقعد خلفي في سيارتها تحت أشجار الجوز القريبة عند منتصف الليل، مكالمة هاتفية طويلة من هاتف عمومي عندما يكون اللواء خارج القاعدة. كان كل لقاء يحمل طعماً مراً حلواً: دفء اليدين الممسكتين في الظلام، وخوف أن يُكشف الأمر في أي لحظة.في إحدى الليالي، وبعد أن انتهى اختبار محاكاة طارئ في الثالثة فجراً، وجدها تنتظره عند مدخل المصعد. كانت ترتدي معطفاً طويلاً، عيناها متعبتان لكنها مبتسمة.«تعال.» همست.أخذته إلى السطح مجدداً. كانت قد أحضرت بطانية وثلاجة صغيرة فيها زجاجة نبيذ رخيص وكوبين بلاستيكيين. جلسا على حافة السطح، أرجلهما متدلية في الفراغ.«اليوم هو عيد ميلادي السابع والعشرون.» قالت بهدوء. «لم أخبر أحداً غيرك.»نظر إليها متفاجئاً. «لماذا لم تخبريني من قبل؟»«لأنني أردت أن أقضيه معك فقط.»أخرجت من جيبها علبة صغيرة، فتحتها: ساعة يد قديمة فضية، ماركة والدها القديمة.
«كي تتذكر أن الوقت ثمين، حتى لو كنت تعتقد أنك لا تملكه.»أمسك الساعة، وضعها على معصمه بيدين مرتجفتين. ثم اقترب منها، وضع جبهته على جبهتها، وهمس:
«أنا أحبك، بيتي.»كانت المرة الأولى التي ينطق فيها بالكلمة.أغلقت عينيها، دموعها تسيل على خديها، ثم قالت:
«وأنا أحبك، بروس. منذ اليوم الأول الذي رأيت فيه عينيك وأنت تحاول أن تبدو غير مبالٍ.»بقيا هكذا حتى طلع الفجر، متشابكي الأيدي، يعلمان أن كل ثانية مسروقة قد تكون الأخيرة، ومع ذلك يختاران أن يعيشاها كأنها أبدية.
الثامن عشر من مايو، عام ألفين واثنين، الساعة الرابعة وسبع وخمسين دقيقة عصراً، صحراء نيومكسيكو، قاعدة كيرتيلس، موقع الاختبار رقم ٤٧-ب.كان الجو حاراً حتى بالنسبة للصحراء، أربع وأربعون درجة مئوية، والريح تحمل رمالاً ناعمة تلسع الوجه. في غرفة التحكم تحت الأرض، كان الهواء مكيفاً، لكنه ثقيل برائحة الخوف والتوقع. كان اللواء روس يقف خلف كرسي بروس، يداه خلف ظهره، عيناه مثبتتان على الشاشة الرئيسية التي تعرض العد التنازلي. كان هناك خمسة عشر ضابطاً آخرين، واثنان من علماء الوزارة من واشنطن، ومصوران يوثقان الحدث للأرشيف.كان بروس يجلس في المقعد الأمامي، يرتدي قميصاً أبيض مكويا، أكمامه مرفوعة، أصابعه تتحرك بسرعة على لوحة المفاتيح لإجراء آخر فحص للمعايير. كان صوته هادئاً كالعادة، لكنه كان يشعر بشيء غير مريح في معدته منذ الصباح.«جميع الأنظمة خضراء. مستوى الطاقة في القلب ٩٨.٤ بالمئة. الحلقات المغناطيسية مستقرة. الدرع الخارجي مغلق.» توقف لحظة، ثم أضاف: «نستطيع البدء بالعد التنازلي عندما تعطي الأمر، سيدي.»التفت اللواء روس إلى الجميع. «هذا هو اليوم الذي يتغير فيه توازن القوى في العالم. فلنبدأ.»ضغط الضابط المسؤول عن العد زراً، وبدأت الشاشة تعرض الأرقام الحمراء الكبيرة:
T-١٠:٠٠
T-٩:٥٩
T-٩:٥٨…في الخارج، على بعد ثلاثة كيلومترات من برج الإطلاق، كانت سيارة شيفروليه كامارو موديل ١٩٨٣ تتقدم ببطء على طريق ترابي محظور. داخلها، ريك جونز، سبعة عشر سنة، شعر أشقر متمرد، يضع نظارات شمسية مكسورة، ويشغل راديو بصوت عالٍ. كان قد راهن أصحابه في المدرسة الثانوية بمئة دولار أنه يستطيع الدخول إلى «المنطقة المحظورة» والعودة بصورة أمام اللافتة.«يا إلهي، هذا أسطوري.» قال لنفسه وهو يصور بالكاميرا القديمة من نافذة السيارة.في غرفة التحكم، ظهرت نقطة حمراء صغيرة على شاشة الرادار السطحي.
«سيدي، هناك جسم متحرك في القطاع السابع. سرعة ٤٥ كيلومتراً في الساعة. يبدو أنه مركبة مدنية.»التفت اللواء روس بسرعة. «ماذا؟ كيف دخل إلى المنطقة؟ ألم تكن الحواجز مغلقة؟»«نعم سيدي، لكن يبدو أنه تجاوز الحاجز الخارجي من الجهة الشمالية الغربية.»اقترب بروس من الشاشة، عيناه تضيقان. «هذه سيارة. هناك شخص داخل المنطقة.»«أوقفوا العد!» صرخ أحد العلماء من واشنطن.لكن اللواء روس رفع يده. «لا مزيد من التأجيل. لقد أُنفق مئتان وثمانون مليون دولار على هذا الاختبار. إن كان هناك أحمق، فهو من يتحمل مسؤولية نفسه. استمروا.»T-٤:١٢
T-٤:١١ وقف بروس فجأة. «لا.» قال بصوت هادئ لكنه حاسم. «لا يمكننا المتابعة.»«اجلس، بانر.» قال روس بنبرة حادة.«لا، سيدي. هناك إنسان هناك.»«إنه في منطقة محظورة. القانون واضح.»نظر بروس إلى الشاشة، ثم إلى اللواء، ثم عاد إلى الشاشة. كان العد قد وصل إلى ثلاث دقائق وأربعين ثانية.فجأة، ضغط بروس على زر الإنذار اليدوي، فتوقف العد عند T-٣:٣٩. ثم فتح الباب الرئيسي للغرفة، وجرى في الرواق.«بانر! عد إلى هنا فوراً!» صرخ روس، لكن بروس كان قد اختفى.ركض بروس في الرواق المضيء بالأحمر، صعد السلالم درجتين درجتين، وصل إلى السطح، ثم إلى البوابة الخارجية. أخذ جيباً عسكرياً مفتوحاً من أمام المخزن، قاد بأقصى سرعة نحو موقع الاختبار.في الخارج، كان ريك قد توقف ليصور البرج من مسافة قريبة جداً، يضحك وهو يقول لنفسه: «سأصبح أسطورة في المدرسة.»سمع صوت محرك قوي، فرفع عينيه. جيب عسكري يقترب بسرعة جنونية. توقف الجيب بجانبه بعنف، ونزل رجل طويل نحيف، وجهه شاحب، يصرخ:«اخرج من السيارة! الآن!»«من أنت؟» سأل ريك باستغراب.«لا وقت للكلام! انفجار بعد ثلاث دقائق! اركض!»أمسك بروس بذراع ريك، جرّه خارج السيارة، ثم ركضا معاً نحو خندق اختباري قديم على بعد مئتي متر. كان العد قد استأنف من غرفة التحكم، رغم محاولات أحد الضباط إيقافه.T-٠:٤٥
T-٠:٤٤ ألقى بروس بنفسه وريك داخل الخندق، غطى الصبي بجسده.
«أغلق عينيك! لا تفتحهما مهما حدث!»T-٠:٠٥
T-٠:٠٤
T-٠:٠٣
T-٠:٠٢
T-٠:٠١
T-٠:٠٠لم يكن هناك صوت انفجار تقليدي. فقط وميض أخضر لامع، كأن الشمس انشقت في الأرض. ثم موجة صدمية صامتة، ثم صمت مطبق.كان الإشعاع الغاما النقي، بكثافة لم تُختبر من قبل، ينطلق في كل الاتجاهات. اخترق جدران الخندق الخرسانية كأنها ورق، مرّ عبر جسد بروس الذي كان يغطي ريك تماماً. لم يشعر بألم في البداية. فقط حرارة غريبة، ثم برودة، ثم شيء يتحرك داخل خلاياه بسرعة لا يمكن تصورها.بعد ثلاثين ثانية، رفع بروس رأسه ببطء. كان كل شيء حوله أخضر باهتاً، ثم عاد اللون الطبيعي تدريجياً. نهض، ساعد ريك على الوقوف. كان الصبي يرتجف، لكنه سليم.«أنت… أنت أنقذتني.» قال ريك بصوت مرتجف.لم يرد بروس. كان ينظر إلى يديه، كأنه يرى شيئاً لا يراه أحد غيره.في تلك اللحظة، شعر بشيء يتغير في أعماقه، شيء كبير، ثقيل، غاضب، لكنه لم يكن مستيقظاً بعد.كان فقط… ينتظر.
استيقظ بروس في غرفة العناية المركزة تحت الأرض بعد ثمانٍ وأربعين ساعة من الغيبوبة الكاملة.
كانت الأنوار خافتة، أجهزة التنفس الصناعي تصدر صوتاً منتظماً، ورائحة المطهر تملأ المكان. أول ما رآه عندما فتح عينيه كان وجه بيتي، شاحباً، عيناها محمرتان من البكاء، يدها ممسكة بيده بقوة وكأنها تخشى أن يُسحب منها مجدداً.«بروس…؟» همست بصوت مكسور.حاول أن يتكلم، لكن حلقه كان جافاً كالصحراء. حرّك أصابعه بضعف داخل يدها.
«أنا… هنا.»أغلقت بيتي عينيها، دموعها تسقط على يده، ثم ضغطت زر النداء. في غضون ثوانٍ، دخل ثلاثة أطباء وممرضتان، وبدأوا بفحصه بسرعة. قاسوا الضغط، أخذوا دماً، وجهوا ضوءاً قوياً في عينيه. أحدهم همس للآخر:
«لا يمكن أن يكون حياً… الجرعة كانت كفيلة بقتل فيل».لكن بروس كان حياً. نبضه منتظم، حرارته طبيعية، ومستوى الإشعاع في جسده ينخفض بسرعة غير قابلة للتصديق. بعد أربع وعشرين ساعة أخرى، أزالوا أنبوب التنفس، وجلس على السرير، يشرب الماء ببطء. دخل اللواء روس مرتدياً بزته الكاملة، وجهه جامد كالصخر.«لقد خالفت أوامر مباشرة، بانر. كلّفتنا تأجيل الاختبار ثلاثة أيام، وكدت تقتل نفسك من أجل صبياد مغامرات أحمق.»لم يرفع بروس عينيه. «كان طفلاً.»«كان متسللاً إلى منطقة عسكرية.»«كان إنساناً.»نظر روس إليه طويلاً، ثم استدار وخرج دون كلمة أخرى.في الليلة الرابعة، بعد أن أطفأوا الأنوار في الجناح الطبي، شعر بروس بشيء غريب. نبض بطيء، ثقيل في صدغيه، حرارة تتصاعد من معدته، عرق بارد يغطي جسده. حاول أن يستدعي الممرضة، لكنه لم يستطع الوصول إلى الزر. بدأ قلبه يخفق بقوة غير طبيعية، كأن شيئاً يطرق جدران صدره من الداخل.ثم جاء الألم. ألم لم يشبه شيئاً عرفه من قبل، كأن كل خلية في جسده يُمزّق ثم يُعاد تركيبه بسرعة أكبر. صرخ صرخة خافتة، فسقط من السرير على الأرض. سمع خطوات الممرضة تركض، ثم صوتها المذياع الداخلي: «كود أزرق، غرفة ٤-ب!»لكن قبل أن تصل، كان قد بدأ التحول.تمزقت القميص الطبي عن جسده، عضلاته تنتفخ، عظامه تطول وتتشقق بصوت يشبه كسر الأغصان الجافة،
جلده يتحول إلى لون أخضر داكن، عروقه بارزة كأنابيب حديدية. في أقل من عشر ثوانٍ، لم يعد هناك بروس بانر على الأرض. كان هناك كائن طوله متران ونصف، وزنه يقترب من نصف طن، يتنفس بصوت هدير عميق، عيناه خضراوان مشتعلتان.حطم الباب المعدني بضربة واحدة، خرج إلى الرواق، وكلما حاول الحراس إيقافه، ألقى بهم جانباً كدمى. لم يكن يتكلم، فقط يزمجر كحيوان جريح. وصل إلى السطح، قفز فوق السياج الكهربائي، واختفى في الصحراء تحت ضوء القمر.في الصباح، وجدوا بروس عارياً تماماً، نائماً على بعد ثمانية كيلومترات من القاعدة، جسده مغطى بالرمال، لا أثر للكائن الأخضر. عندما استيقظ، لم يكن يتذكر شيئاً سوى ألم خافت في عضلاته. أعادوه إلى الجناح، وضعوه تحت حراسة مشددة.في الليلة التالية، عاد التحول عند غروب الشمس بالضبط. هذه المرة سجّلوه بالكاميرات. رأوا كيف يصرخ بروس، يمسك رأسه، ثم يبدأ الجسد بالتمدد والانتفاخ، ثم يهدأ فجأة، ويعود إلى حجمه الطبيعي مع شروق الشمس. استمر الأمر أسبوعاً كاملاً: كل ليلة يتحول، كل فجر يعود.في اليوم الثامن، جلسوا معه في غرفة الاستجواب: اللواء روس، طبيبان عسكريان، وبيتي التي أصرت على الحضور رغم رفض والدها.«ما الذي تشعر به قبل أن يحدث؟» سأل أحد الأطباء.أجاب بروس بصوت منهك: «غضب. غضب عميق، قديم، كأنه ليس غضبي أنا… بل غضب شخص آخر بداخلي.»«وهل تستطيع السيطرة عليه؟»نظر بروس إلى يديه المرتجفتين. «لا. ليس بعد.»استدار روس إلى الطبيبين: «نحتاجه حياً وتحت السيطرة. ابدأوا بتجارب التهدئة التحول.»لكن في الليلة الثانية عشرة، حدث شيء جديد. لم يكن غروب الشمس هو السبب هذه المرة. كان أحد الحراس قد أساء إلى بيتي أمامه في الرواق، فقال لها كلمة قاسية عن «الفتاة التي تحب الوحوش». لم يغضب بروس ظاهرياً. شكر الحارس بهدوء ومضى. لكن بعد ساعة، أثناء جلسة فحص، ارتفع نبضه فجأة إلى ٢٢٠، وانفجر التحول في وضح النهار. حطم الجدران الخرسانية، وكاد يقتل ثلاثة حراس قبل أن يهرب مجدداً إلى الصحراء.عندما عاد عارياً مع الفجر، جلس على سريره، رأسه بين يديه، وقال لـ بيتي التي كانت تجلس بجانبه دون أن يجرؤ أحد على إبعادها:
«إنه ليس مرتبطاً بالشمس فقط. إنه مرتبط بالغضب. كلما غضبتُ… يستيقظ.»وضعت بيتي يدها على كتفه برفق. «إذن سنتعلم معاً كيف لا تغضب.»رفع عينيه إليها، صوته مكسور: «وماذا لو لم أستطع؟ ماذا لو استيقظ يوماً ولم أعد أنا من يتحكم؟»لم تجب. فقط ضمت يده إلى صدرها، ودموعها تسقط على أصابعه.في الأسابيع التالية، أصبح بروس بانر موضوعاً سرياً للغاية داخل القاعدة. أُعطي زنزانة خاصة بجدران من التيتانيوم، وكاميرات تعمل على مدار الساعة، وحقن مهدئة قوية كل أربع ساعات. لكن الجميع كانوا يعلمون أن الحقطة واحدة ثابتة:الرجل الهادئ الذي يجلس الآن مكبل اليدين في غرفة بلا نوافذ هو في الوقت نفسه أخطر سلاح مشى على قدمين تمتلكه الولايات المتحدة يوماً.وكل ليلة، عندما تهدأ الأضواء، يسمعون الهدير الخافت من خلف الجدران، هدير كائن لا يزال يتعلم أن ينام… لكنه لن ينام طويلاً.
في ليلة الثالث والعشرين من يونيو عام ألفين وثلاثة، انقطعت الكهرباء في الطابق السفلي للقاعدة كيرتيلس لمدة ثلاث عشرة ثانية فقط، عطل صغير في المولد الاحتياطي.
لكن ثلاث عشرة ثانية كانت كافية.كان بروس ممدداً على سرير التيتانيوم، مربوطاً بأحزمة فولاذية معززة، حقنة مهدئة من الليثيوم المعدّل تُدخل في وريده كل ثلاث ساعات. عندما انطفأت الأنوار، توقفت المضخة الآلية للحظة. استيقظ الشيء بداخله قبل أن يستيقظ هو.في الظلام، سمعه الحارسان أولاً: صوت المعدن يتمزق كورقة قصدير. ثم صرخة قصيرة انقطعت فجأة. عندما عادت الكهرباء، كان الباب الرئيسي للزنزانة قد اختفى تماماً، والحائط المواجه له مفتوحاً على الصحراء كأن عملاقاً فتح فمه. لم يبقَ من الحارسين سوى خوذتين مشوهتين وبركة دم صغيرة.في غرفة القيادة، وقف اللواء روس أمام الشاشات الفارغة، يده ترتجف للمرة الأولى منذ فيتنام.
«اطلقوا كل الوحدات. أريدوه حياً… أو على الأقل أجزاء كافية لنعيد بناءه.»بدأت المطاردة.الليلة الأولى: دمر هالك ثلاث دبابات أبرامز على طريق ٣٨٠، قلب واحدة منها كأنها لعبة، ثم اختفى في جبال روكي.
الأسبوع الأول: عبر ولايتي أريزونا وكاليفورنيا سيراً على الأقدام، تاركاً وراءه محطات وقود محطمة، طرقاً سريعة مقطوعة، وتقارير إخبارية تتحدث عن «كائن أخضر عملاق».
الشهر الأول: وصل إلى المحيط الهادئ، سبح عبره مسافة غير معروفة حتى ظهر في خليج المكسيك، ثم عاد بروس إلى نفسه على شاطئ مهجور، عارياً، جائعاً، لا يتذكر شيئاً سوى طعم الملح والدم في فمه.كان الجيش يتبعه في كل مرة. طائرات أباتشي، فرق دلتا، أقمار صناعية، كلاب بوليسية. كانوا يجدونه حين يعود إنساناً، يحاولون أسره، فيغضب، فيستيقظ الوحش، فيهرب مجدداً. صار اسمه في التقارير السرية «الهدف ألفا-١»، وفي الصحف «الوحش الأخضر»، وفي ملفات اللواء روس فقط: «ملكية شخصية».عامان كاملان من الهروب المتواصل.استخدم بروس كل ذكائه ليبقى خطوة واحدة أمامهم: سافر بالقوارب التجارية كعامل نظافة في الموانئ،
عمل في مناجم فحم في منغوليا تحت اسم مستعار،
عاش أشهراً في أدغال الأمازون حيث لا تصل الأقمار،
تعلم لغات جديدة في أسابيع، يختفي قبل أن يُسجل اسمه في أي قاعدة بيانات.
لكن اللواء روس لم يتوقف يوماً. كان يرسل الفرق إلى أي مكان يُشاع فيه عن «رجل أخضر». كان يعرض مكافأة عشرة ملايين دولار لمن يسلمه حياً. كان يقول في الاجتماعات المغلقة: «هذا السلاح صنعته أنا، وسأسترده حتى لو قلب الأرض كلها».في أوائل عام ألفين وخمسة وعشرين، وصل بروس إلى الصين عبر الحدود الشمالية، متخفياً كعامل بناء في مشروع سكة حديدية. اختار شنغهاي لأنها المدينة الوحيدة في العالم التي يمكن لإنسان أن يغرق فيها بين مئتين وخمسين ألف وجه جديد كل يوم. استأجر غرفة صغيرة في الطابق السابع من عمارة قديمة في منطقة بودونغ القديمة، تحت اسم «لي شياو لونغ»، يعمل ليلاً في مختبر طبي صغير غير رسمي، يحلل عينات دم مقابل أجر زهيد ولا أسئلة.كان يعتقد أنه اختفى أخيراً.لكنه لم يكن يعلم أن قمرين صناعيين أمريكيين كانا يراقبان ميناء شنغهاي منذ أسابيع، وأن فرقة دلتا خاصة بقيادة اللواء روس نفسه (الذي أُحيل إلى التقاعد رسمياً لكنه لا يزال يدير العملية من الظل) قد وصلت إلى هونغ كونغ قبل ثلاثة أيام فقط.في ليلة السابع عشر من نوفمبر عام ألفين وخمسة وعشرين، كان بروس يجلس في غرفته الصغيرة، ينظر إلى صورة قديمة لبيتي كان يحتفظ بها في محفظته منذ سنوات. كان يهمس لنفسه:
«كفى هروباً. سأبقى هنا. سأتعلم كيف أعيش.»في تلك اللحظة بالذات، دوّى صوت انفجار هائل في وسط شنغهاي. لم يكن بروس هو السبب… لكن السماء احتدمت، والشوارع امتلأت بالجنود والوحوش والدمار.وعندما سمع بروس صوت الطائرات العمودية تقترب، وصوت اللواء روس يصدح من مكبرات الصوت بالإنجليزية المشددة:
«بانر! نعلم أنك هنا! اخرج الآن وسننهي الأمر بهدوء!»أغلق بروس عينيه، شعر بالغضب القديم يتصاعد في صدره كموجة خضراء لا يمكن إيقافها.في تلك الليلة، عاد هالك إلى شنغهاي.ولم يعد هناك مكان للاختباء بعد الآن.