انطوت الأبعاد على نفسها بصوت ارتطام مكتوم أشبه بتمزق قماشٍ مهترئ. البوابة السحرية، التي رسمها بليك بسرعةٍ مستهلكًا ما تبقّى من طاقته المنهكة، انكمشت واختفت خلفهم تاركةً فراغًا باردًا في الهواء الرطب. وجد الأبطال أنفسهم واقفين على رصيفٍ متصدعٍ في شارعٍ فرعيٍ مُهمل، محاطين ببنايات قديمة تحمل آثار معركةٍ قريبة.
لم يكن المنظر يوحي بالسكينة إطلاقًا. لم يكن هناك ضوء سوى وميض خافت لجهاز إنذار مكسور يُصدر صوت طنين مُزعج، وشمسٌ صفراء باهتة تُلقي بظلال طويلة مشوهة عبر الشارع. كانت علامات هجوم وحوش "سلابي" واضحة بلا لبس: أبواب محلات مُقتلعة، زجاج نوافذ مُحطم، وجدران مغطاة بطبقة لزجة جافة ذات لون أرجواني داكن. والأهم من ذلك، كان الشارع خاليًا تمامًا من أي كائن بشري، وكأن الحياة قد انتُزعت منه قسرًا.
كان بليك هو أول من سحب نفسًا عميقًا من الهواء الملوث، وقد بدا الإرهاق مُتجذرًا في كل خلية من جسده. عيناه، اللتان تحملان وهج المعارك التي خاضها، تجولتا في الأرجاء ببطء. كان يمسك بحقيبة الظهر الجلدية التي تحتوي على كتاب "شمس المعارف" كأنه جزء من جسده، يضغط عليها للحفاظ على آخر بقايا طاقته.
قال بليك بصوت أجش بالكاد يُسمع: "حسنًا... لقد وصلنا إلى وجهتنا. يبدو أنَّ وحوش سلابي كانت هنا قبل قليل، أو ربما لا تزال كامنة في الجوار. يجب علينا أن نتوخى أقصى درجات الحذر واليقظة. هذه المنطقة هي نقطة التجمع الرئيسية لكيانات فيرتشايلد التي خرجت عن السيطرة".
تقدم بابادوك خطوة للأمام، وقد كان لا يزال يتعافى بصعوبة من قتاله الملحمي ضد الهالك. كان مظهره البشري يُخفي بصعوبة هالة الوحش الكامن؛ كان معطفه المعتاد داكنًا ومُهترئًا، لكن عينيه كانتا تلمعان بحدة تحت قبعته المُهذبة.
رد بابادوك بنبرة هادئة ومُتزنة، تُخالف المشهد المُدمَّر: "الهدوء هنا مريب، بليك. عادةً ما يُصاحب هذا الدمار ضجيج، أو ربما صرخات. هذا السكون هو كمين بحد ذاته. منزل فيرتشايلد هو المبنى الذي يقع في الزاوية، أليس كذلك؟ يجب أن نُسرع في الدخول؛ فجدار المبنى لا يبدو صامدًا لمدة طويلة أمام وحوش تستطيع تمزيق الفولاذ".
تسلل قط الكذب برشاقة بين أقدام بابادوك، ورفع رأسه المثلث الشكل، وأطلق مواءً خافتًا ومُركَّزًا. التقط ماركو الرسالة على الفور.
تنهد ماركو، الذي كان يحمل آلة الكتابة القديمة الضخمة، قائلاً: "القط يقول إنه يشعر بأثر طاقة غريبة. كأن شيئًا ما قد غادر هذا المكان للتو، وهو ليس من وحوش فيرتشايلد. يجب أن نكون سريعين؛ هذه الآلة ثقيلة ولا أحب أن أُعرِّضها للخطر أثناء اشتباك غير مُتوقع. فلندخل سريعًا يا فيرتشايلد، أين الباب؟"
كان فيرتشايلد يقف متسمرًا في مكانه. كان رجلاً نحيفًا ومرتبًا، لكن قلقًا عميقًا رسم خطوطًا واضحة على وجهه. لم يُعر انتباهًا لتحذيراتهم؛ عيناه كانتا مثبتتين على شرفة صغيرة في الطابق الأول من منزل عادي، تبدو أسواره الخشبية متداعية.
قال فيرتشايلد، وصوته مُرتعشٌ بالقلق لأول مرة: "هناك. ذلك هو منزلي. كان يجب أن تكون روزالين... كان يجب أن تكون ابنتي في الداخل. لقد أمرتها ألا تغادر المنزل مُطلقًا مهما حدث. يجب أن أرى ما إذا كانت بخير. سأدخل، انتظروا هنا".
تحرك فيرتشايلد بسرعة جنونية نحو الباب الأمامي الخشبي للمنزل، وكان الباب نصف مُخلوعٍ من مكانه، مُعلّقًا بمفصلة واحدة. دفعه فيرتشايلد بعنفٍ ودخل، صائحًا بصوت يائس يتكسر مع كل حرف: "روزالين! روزالين! حبيبتي، هل أنتِ هنا؟ أين أنتِ؟ أجيبي، أرجوكِ!"
لحق به بليك وبابادوك على الفور، متجاهلين دعوة ماركو بالانتظار. كانت الغرفة المعيشة في حالة فوضى؛ أثاث مقلوب، وكتب فيرتشايلد مُبعثرة، ومقعد خشبي مُحطم. لم تكن فوضى قتال، بل فوضى بحث يائس أو ربما تحضير سريع للهروب.
استمر فيرتشايلد في صياحه وهو يندفع نحو غرفة ابنته في الطابق العلوي، يتبعه بليك وبابادوك بحذر. كانت غرفة روزالين صغيرة ومُزينة برسومات طفولية. سريرها مُرتب، باستثناء كتاب مفتوح على وسادتها. لكنها لم تكن هناك.
سقط فيرتشايلد على ركبتيه أمام السرير، يلتقط الكتاب المفتوح. كانت عيناه تدمعان بصمت وهو يقرأ ما كتب. رفع رأسه، وتغير اليأس في عينيه إلى استنتاج مؤلم ولكنه منطقي.
تمتم فيرتشايلد بصوتٍ ضعيف: "ليست هنا. ليست هنا... لقد... لقد ذهبت إلى الثانوية. لقد كانت لديها حصة نهائية اليوم، وهي عنيدة. كتابها هذا، 'مقدمة في الكيمياء العضوية'، هو دليلها. لقد ذهبت إلى المدرسة. لماذا؟ ألم أقل لها أن تبقى؟"
اقترب بليك منه ببطء، وجلس على ركبتيه، ووضع يده على كتف فيرتشايلد المرتجف في لفتة نادرة من التعاطف.
قال بليك بهدوء وثبات: "استمع إليّ جيدًا يا فيرتشايلد. ابنك في الثانوية، وهذا يعني أنها بخير على الأغلب. لو كانت هنا عندما هاجمت الوحوش، لكانت فرص نجاتها أقل. إن ذهابها إلى المدرسة يعني أنها بعيدة عن هذا الخطر المباشر في هذه اللحظة. لا تستسلم للذعر الآن، فنحن نحتاج إلى عقلك صافيًا".
انضم بابادوك إليهما، ووقف يتكئ على حافة الباب، يُراقب المشهد بجدية.
قال بابادوك بنبرة تخلو من المجاملة: "بليك على حق. لو كانت في المدرسة الثانوية، فهناك فرصة كبيرة أن يكون المبنى قد وفّر لها حماية هيكلية ضد الموجة الأولى من هجوم سلابي. يجب أن نعتبرها الآن في وضع آمن نسبيًا حتى نتمكن من إتمام مهمتنا. لا يمكننا المخاطرة بالانحراف عن الخطة الآن للبحث عنها؛ فكل ثانية ضائعة تعني خروج المزيد من كياناتك من السيطرة. هذا المنزل هو أولويتنا الآن".
رفع فيرتشايلد عينيه الحمراوين نحو بليك وبابادوك، وكان صراع القلق والأبوة يمزقه داخليًا.
قال فيرتشايلد بحزم يائس: "كيف... كيف يمكنني أن أفكر في كتابة قصة أخرى، أو صياغة جملة أخرى، بينما فلذة كبدي في خطر في مكان آخر؟ إن وظيفة الكاتب أن يخلق الحياة، ولكن ماذا يعني كل هذا إذا عجزتُ عن إنقاذ الحياة الوحيدة التي تُهمني حقًا؟ ألا تفهمون؟ أنا لست بطلاً خارقًا، أنا رجلٌ بسيطٌ قادته عبقريته اللعينة إلى هذا الجحيم. لقد جئنا إلى هنا لكتابة الفصل الأخير وإغلاق هذه البوابات إلى الأبد، ولكن... ولكن لا يمكنني أن أبدأ قبل أن أرى ابنتي! هذا مستحيل، ببساطة مُحال".
تنهد بليك، مدركًا أن منطقهم الحاد لن ينفع مع أب خائف. كانت هذه العقبة إنسانية بحتة، ويجب التعامل معها بعناية.
رد بليك، محاولًا التوفيق بين الواقع والاحتياج العاطفي: "أنا أتفهم تمامًا مدى قلقك. أنا أيضًا لدي أناس أُقاتل من أجلهم. لكن دعنا نفكر في الأمر بواقعية: إذا ذهبنا الآن للبحث عنها، فإننا نُعرّض المهمة كلها للخطر. كتاب 'شمس المعارف' بين يدي، ولكنني لا أستطيع استخدامه بكامل قوته السحرية إلا في محيط البؤر التي تتغذى عليها كياناتك. المكان الأكثر فعالية لنا الآن هو هنا. بمجرد أن نغلق هذا المكان، ستتوقف الوحوش الجديدة عن الظهور، وستتضاءل قوة الوحوش القديمة. ألا ترى أنَّ إتمام العمل هو الطريق الأقصر لضمان سلامة ابنتك؟"
في هذه اللحظة، ظهر ماركو وقط الكذب على عتبة الغرفة.
قال ماركو، الذي كان قد وضع آلة الكتابة على طاولة جانبية في الطابق السفلي قبل الصعود: "لقد سمعتُ الجدال، وهو غير مُجدٍ. فيرتشايلد، أنت تعرف أنَّك لا تستطيع التفكير بوضوح قبل أن تراها. ولكننا أيضًا لا نستطيع إضاعة الوقت. الوحوش التي أطلقتها هي مخلوقات خيالك المظلم؛ هي تتغذى على الفوضى. يجب أن تبدأ بالكتابة فورًا لإلغاء وجودها، أو على الأقل تحويل تركيزها نحوكم بدلاً من المدنيين الأبرياء".
تدخل بابادوك مرة أخرى، مُلخصًا الوضع بصرامة: "يجب أن نُنهي هذا العمل الذي بدأناه. فيرتشايلد، لديك خياران، لا ثالث لهما، ولا مجال للمناقشة الآن: إما أن تبدأ في الكتابة هنا الآن، وتُنهي هذا الفصل المروع من حياتك، وبذلك تضمن أنَّه لن يكون هناك خطر على روزالين في المستقبل القريب؛ أو نذهب معك للبحث عنها، فنُعرّض الكتاب وروزالين والمدينة بأكملها للخطر، وقد تجدها بعد فوات الأوان. ما هو خيارك الأبوي؟ الضمان طويل الأمد، أم الرغبة المؤقتة؟"
نظر فيرتشايلد إلى بليك، ثم إلى بابادوك وماركو. كان يدرك تمامًا صدق كلامهم وواقعيته القاسية. إن مجرد فكرة ترك ابنته في مكان غير معلوم ومُهدَّد كانت كافية لتمزيق روحه، لكنه كان يعلم أيضًا أنَّ هذه هي اللحظة الوحيدة التي يمكنهم فيها الانتصار على الخيال الذي هرب من بين يديه.
أخذ فيرتشايلد نفسًا عميقًا هزّ صدره بالكامل، ثم نهض ببطء، وترك كتاب ابنته المفتوح على السرير. تغير تعبير وجهه، وتبدل اليأس إلى تصميم بارد وثابت.
قال فيرتشايلد بصوتٍ جاف، يتخذ قرارًا مصيريًا: "حسناً... حسناً، سأكتب. سأكتب الآن، وسأجعل هذا اللعنة تنتهي. لكن... لديّ شرط واحد، وهو شرطٌ لا رجعة فيه. أريد منكم جميعًا أن تُقسموا لي بأسماء عوالمكم وقواكم على ألا تغادروا هذا الموقع مهما حدث، وألا تتوقفوا عن حمايتي حتى تظهر كلمة 'النهاية' على الصفحة. بمجرد أن أُنهي الفصل، سأذهب لرؤية ابنتي، وسأحمل آلة الكتابة معي، وسنذهب جميعًا معًا. أُقسم لكم، لن أكتب أي شيء قبل أن تُقسموا لي جميعًا على هذا الشرط".
نظر بليك إلى بابادوك. كانت المهمة ضخمة، والتهديدات القادمة من المليارديرات والمرتزقة الكونيين وشيكة. لكنهم كانوا يحتاجون إلى فيرتشايلد مُستقرًا لإنهاء العمل.
تحدث بليك أولًا، وعيناه ثابتتان على فيرتشايلد: "أقسم باسم سحر شمس المعارف وقوة الـ ستاند التي تحميها مونو ونيرو، لن أغادر هذا المكان حتى تُنتهي من كتابة الفصل الأخير الذي يُغلق هذه البوابات، وسأستخدم كل قوة لديّ لحمايتك من أي شيء يجرؤ على الاقتراب. أُقسم".
تبعه بابادوك، وظهرت علامات التعب على وجهه، لكن صوته كان حادًا وواضحًا: "أقسم باسم الظل، وبقوة الجني الكامنة في دمي، سأقف بجوارك مثل الدرع ضد أي وحش أو إنسان يهددك. أُقسم على الحماية حتى اللحظة الأخيرة، وسأُنفذ القسم".
نظر فيرتشايلد نحو ماركو، الذي كان يقف بهدوء بجوار آلة الكتابة.
قال ماركو، بابتسامة باهتة: "أنا لستُ منكم، أنا من قوم الشجرة. ولكنني أُقسم لك بمصير عائلتي التي أبحث عنها، سأحميك أنت وآلتك، لأن هذا هو المفتاح الوحيد لإنهاء هذا العبث واستعادة سفينتي والعودة إلى عالمي. أُقسم لك".
نظر فيرتشايلد إلى قط الكذب، الذي كان يموء مواءً هادئًا مُفعمًا بالثقة. أومأ فيرتشايلد برأسه.
قال فيرتشايلد، وقد شعر ببعض الارتياح يغمر قلبه المُتعب: "شكرًا لكم. والآن... لنبدأ العمل إذًا. سأكتب الفصل الأخير، فصل الإغلاق والتوبة. أتمنى فقط أن تكون ابنتي بخير حتى ذلك الحين. هيا بنا إلى آلة الكتابة، فلنعد إلى الأسفل".
تحرك الجميع نحو الطابق السفلي. كان فيرتشايلد يمشي ببطء، وعيناه لا تزالان مُشيرتان إلى غرفة ابنته. وضع بليك يده على كتفه مرة أخرى، وربّت عليها بهدوء. كان هذا تحالفًا قائمًا على القسم، على اليأس، وعلى الأبوة.
وصلوا إلى الغرفة المعيشة. تقدم فيرتشايلد وجلس على كرسي خشبي متبقٍ، أمام آلة ماركو القديمة. وضع يديه على المفاتيح الباردة. كانت الآلة صامتة، لكنها كانت تنتظر.
قال فيرتشايلد، وهو يحدق في الورقة البيضاء المنتظرة أمامه: "ماذا أكتب؟ يجب أن يكون الفصل الأخير فصلاً لائقًا. يجب أن يكون مُقنعًا ومُغلقًا، وأن يُعيد الكيانات إلى مصدرها. سأكتب عن نهاية الخيال، وعودة الوحوش إلى الصندوق. سأبدأ الآن. أرجوكم، كونوا مستعدين. فمجرد بدء الكتابة سيُنبه الكيانات القريبة إلينا. الآن، لنبدأ".
جثا فيرتشايلد أمام آلة الكتابة، أصابعه تحوم فوق المفاتيح الباردة، وعيناه تركزان على الورقة البيضاء التي تحمل وعد الإنهاء. لكنه لم يكد يشرع في الضغط على المفتاح الأول، حتى انقطع الهدوء الممزوج بالقلق الذي خيّم على الغرفة.
لم يكن الصوت قادمًا من الخارج هذه المرة؛ بل انبعث من داخل المنزل نفسه. كان صوتًا متناميًا ومُزعجًا، أشبه بقرع مئات الأقدام الصغيرة الصلبة على أرضية خشبية، يترافق مع حفيف خشن كصوت احتكاك السيراميك ببعضه البعض. بدأت الاهتزازات الخفيفة تتسرب من الجدران، وتضاعفت بسرعة جنونية.
صرخ بليك فجأة، مُمسكًا بسيفه الذي كان موضوعًا بجانبه: "ما هذا؟ لقد ظهرت للتو! ألم تبدأ بالكتابة بعد؟"
قفز فيرتشايلد من مقعده، وعيناه متسعتان من الرعب الذي لم يكن سببه الخطر بل سببه الإدراك. أشار بإصبع مرتجف نحو المطبخ الذي يقع في آخر الغرفة المعيشة.
صاح فيرتشايلد بصوت يائس يحمل نبرة المُكتشف: "انتقام أقزام العشب! يا إلهي، لقد نسيت هذه الرواية اللعينة! إنهم من روايتي القديمة، رواية "انتقام أقزام العشب"! يجب أن نكسرهم، إنهم لا يُقهرون إلا إذا كُسِروا! لكن حذارِ، إنهم يعاودون التشكل، لا يكفي سحقهم مرة واحدة!"
تدفق التيار الأول منهم من مدخل المطبخ المُظلم، موجة بشرية صغيرة وكثيفة. كانوا تماثيل الجان، أو الأقزام الحديقة، بتفاصيلها المألوفة: قبعاتهم الحمراء المدببة كأنها خوذ الحرب، لحاهم البيضاء المنسدلة، وأنوفهم البارزة التي لم تكن ودودة الآن بل تحمل نظرة شريرة وحقد دفين. كانوا يحملون فؤوسًا صغيرة وكماشات ذات مقبض أحمر، وكأنهم جيش من عمال المناجم السيراميكيين خرجوا لجمع خراجهم بالعنف.
تجمعت الحشود بسرعة، تُصدر صوت طقطقة مُتصاعدة. كان الجان في المقدمة أكبر حجمًا وأكثر تفصيلاً، يُشبهون قادة الصفوف.
اندفع بابادوك نحوهم دون تردد، محولاً مظلته (التي كان قد أصلحها جزئيًا بطاقة الظل) إلى عصا صلبة. صاح بليك محذرًا: "انتظر! لا تستهِن بهم!"
لكن بابادوك كان قد وصل بالفعل إلى الموجة الأولى. وجّه ضربة قاضية قوية بمظلته إلى الجني الأمامي الذي يحمل الكماشة. تحطم تمثال الجني إلى آلاف الشظايا السيراميكية البيضاء والحمراء والخضراء، مُحدثًا صوتًا حادًا كصوت انفجار زجاجي. لكن قبل أن تسقط الشظايا على الأرض، بدأت تتجمع بسرعة مذهلة، كأنها حبيبات رمل مغناطيسية، لتعود وتُشكّل الجني مرة أخرى، ببطء لكن بثبات.
ابتعد بابادوك بضعة خطوات، وعلامات الدهشة والضيق واضحة على وجهه.
قال بابادوك، وهو ينفض الغبار عن معطفه: "ما هذا الهراء؟ لقد عاد للتو! إنها ليست مجرد تجديد، بل إعادة تجميع فورية! هذه الكيانات سخيفة بقدر ما هي مزعجة!"
صاح فيرتشايلد، وهو يرتجف خلف آلة الكتابة: "قلت لكم! لقد منحتهم في تلك الرواية خاصية 'التجديد السيراميكي'! بمجرد تحطيمهم، تتشكل جسيماتهم وتعود. لا يمكن القضاء عليهم بالسحق المادي وحده، يجب إلغاء وجودهم بالكتابة! أسرع يا بليك، سأبدأ الآن!"
لكن الأقزام كانت أسرع. أدركوا أن فيرتشايلد هو نقطة الضعف والحل. في حركة منسقة بشكل غريب لتماثيل صغيرة، تجمعت صفوف منهم حول طاولة الكتابة، وشكّلوا حائطًا سميكًا ومزدحمًا من السيراميك والبلاستيك، عازلين فيرتشايلد وآلته عن بليك وبابادوك وماركو.
صاح بليك محذرًا: "لا! لقد حاصروه! يجب أن نبدأ القتال! ماركو، القط، ابقوا بالقرب من مدخل المطبخ! سأستخدم السحر الناري لإذابتهم!"
اندفعت مئات من تماثيل الجان نحو فيرتشايلد المُحاصر، رافعين فؤوسهم الصغيرة بتهديد غريب. كان فيرتشايلد يصرخ من الرعب، بينما كان يحاول يائسًا أن يجد مفتاح "البدء" في آلة الكتابة تحت الضغط.
قال فيرتشايلد وهو يرتجف: "سأكتب! سأكتب، فقط ابتعدوا عني أيها الأوغاد السيراميكيون!"
اندلع القتال بعنف داخل الغرفة المعيشة الضيقة والمزدحمة.
من جهة بليك وبابادوك:
أطلق بليك تعويذة نار عظيمة. انفجر اللهب الذهبي والأبيض ليغطي المطبخ بالكامل، وتطايرت مئات الجان الصغيرة في الهواء ككرات مشتعلة. تحولت التماثيل إلى كتل متوهجة من السيراميك المنصهر، وبدأت تُذوب وتتقطر على الأرض.
صرخ بليك: "النار فعّالة! الحرارة تمنعهم من التجمع! لكنهم كثيرون، والمانا لديّ ليست كافية!"
انطلق بابادوك بمهارة فائقة، واستخدم مظلته كقاعدة ارتكاز للدوران. وجّه ضربات دقيقة لكسر رقاب وأذرع الجان القادمة. على الرغم من عودة التشكل السريع، إلا أن الضربات العنيفة أبطأت تقدمهم.
قال بابادوك وهو يراوغ فأسًا سيراميكيًا صغيرًا كاد يقطع معطفه: "يا له من إزعاج! يجب أن تكون هذه الكيانات هي الأسوأ، لا تستسلم، ولا تموت بشكل كامل! بليك، هل يمكنك إحداث فجوة تسمح لي بالوصول إلى فيرتشايلد؟ يجب أن نبعده عن آلته ليتمكن من الكتابة بتركيز، أو على الأقل لكي نستخدم الآلة بأمان!"
أطلق بليك شعاعًا ناريًا آخر، يذيب الجان الذين كانوا يُحاولون التسلق فوق بعضهم البعض.
رد بليك، وهو يلهث من الجهد: "أنا أحاول! قوتي في حالة يرثى لها. يجب أن نتحرك بخطة أذكى! سنضطر إلى إجبارهم على التجمع في مكان واحد! ماركو، هل يمكنك مساعدتي؟"
من جهة ماركو وقط الكذب:
كان ماركو يقف عند مدخل المطبخ، يراقب المشهد بغضب مكتوم. رفع سكينًا خشبيًا قصيرًا وبسيطًا.
قال ماركو، ببرود غريب: "الخشب ضد السيراميك؟ هذا ليس قتالًا عادلاً. يجب أن نعتمد على الخداع".
انطلق قط الكذب نحوه بخفة. قفز القط فجأة على ظهر ماركو، واندفع ماركو إلى الأمام، مُطلقًا مواءًا حادًا يقطر خبثًا. كانت حاسة السمع لدى الجان ضعيفة، لكن حاسة الاهتزاز قوية. تجمعت الأنظار السيراميكية نحو ماركو والقط، ظنًا منهم أنهما هدف جديد.
صرخ ماركو نحو بليك: "لقد جذبتُ انتباههم! أين أذهب؟"
رد بليك بسرعة: "اذهب نحو الباب الأمامي! حاول أن تفتح فجوة تسمح لنا بالخروج مؤقتًا، أو تشتيت الحشود بعيدًا عن فيرتشايلد! بابادوك، سأغطيك، حاول أن تندفع نحوهم!"
من جهة فيرتشايلد (المُحاصر):
كان فيرتشايلد يضغط على جسده نحو طاولة الكتابة، بينما كان الجان يتسلقون عليه من كل جانب. سقطت قبعاتهم الحمراء على لوحة المفاتيح.
صرخ فيرتشايلد بذعر وهو يحاول دفع تمثال جني كان يضع فأسه على عنقه: "ابتعدوا عني! سأكتبكم خارج الوجود! سأكتب أنكم جميعًا... أصبحتم... أصبحتم زهورًا! لا، لا، هذا ساذج! يجب أن أكون جادًا!"
في خضم الفوضى، وبينما كان يده اليسرى تُدافع عن وجهه، سمع فيرتشايلد صوتًا آخر. كان صوتًا غامضًا، ليس صوت سيراميك يتكسر، ولا صوت نيران بليك.
كان الصوت أشبه بأنين الرياح الباردة، أو صوت احتكاك جلود جافة على بعضها البعض. كان قادمًا من الطابق العلوي، من جهة غرفة روزالين تحديدًا.
تجمد فيرتشايلد للحظة، ناسيًا هجوم الجان عليه. كان هذا الصوت جديدًا وغريبًا.
تمتم فيرتشايلد بخوف، وقد تسرب الذعر الحقيقي إلى نبرته: "ما هذا؟ صوت آخر؟ من أين أتى هذا؟ هل هناك وحوش أخرى في الطابق العلوي؟"
عندئذ، انطلق الجني القائد في الهجوم، وهو يوجه فأسه نحو آلة الكتابة نفسها.
صاح فيرتشايلد صرخة عالية: "لا! ليس الآلة!"
في اللحظة التي كان فيها الجني على وشك تدمير الآلة، اندفع بابادوك كالسهم من خلال فجوة أحدثها بليك.
صاح بابادوك بعنف، موجّهًا ضربة قاضية مباشرة نحو الجني القائد: "ابتعد عن الكاتب أيها السيراميك اللعين!"
تحطم الجني القائد بالكامل، لكن هذه المرة، تمكن بابادوك من الإمساك بكتلة السيراميك قبل أن تعاود التجمع، وألقاها في كومة نيران أطلقها بليك للتو، مما أبطأ تجددها.
أمسك بابادوك بذراع فيرتشايلد وسحبه بعنف بعيدًا عن حائط الجان السيراميكي، في اللحظة نفسها التي كان ماركو وقط الكذب يندفعان من الباب الأمامي، ومعهما موجة كبيرة من الجان تتبعهما إلى الخارج.
كان فيرتشايلد يلهث، وقد كان على وشك الانهيار.
صرخ فيرتشايلد: "شكرًا لك! لكنني سمعتُ شيئًا! سمعتُ صوتًا آخر غريبًا من الأعلى! إنه ليس صوت جان! هناك شيء آخر في هذا المنزل، شيء قادم من غرفتي روزالين!"
نظر بليك وبابادوك إلى بعضهما البعض بعلامات استفهام واضحة. لم يكن هذا جزءًا من الخطة.
قال بليك، وهو يرفع يده لحماية فيرتشايلد: "لا وقت لهذا! يجب أن تبدأ بالكتابة فورًا! هل الآلة بخير؟"
تدخل بابادوك بعيون حادة ومركزة، يُراقب مدخل المطبخ والباب الأمامي في الوقت ذاته.
قال بابادوك بصوت هامس يحمل نبرة قلقة: "صوت آخر؟ يجب أن نتوقع أن هذه الوحوش الغبية ليست سوى طليعة لشيء أكبر. بليك، ابقَ هنا مع فيرتشايلد. سأتولى أمر ذلك الصوت الغريب في الطابق العلوي قبل أن ينضم إلى هذه الفوضى. لا تسمح له بالتوقف عن الكتابة مهما كلف الأمر! هذا المنزل يتحول إلى فخ مُميت!"
لم يكد فيرتشايلد ينهي قسمه حتى انغمس في حالة من الهستيريا الدفاعية. ركل بعنف ما تبقى من تماثيل الجان التي كانت لا تزال تتجمع ببطء، محولًا إياها إلى غبار سيراميكي قبل أن تكتمل دورتها التجديدية. كان يوجه ركلات دقيقة بأقصى قوة لديه، مدمرًا بذاك ما تبقى من تلك الكيانات المُزعجة.
قال فيرتشايلد، وهو يلهث، مُنتفضًا من هول المشهد: "سأقتلها كلها! سأقضي على كل واحد منها قبل أن أبدأ بالكتابة! لن أمنحهم الفرصة للعودة!"
صرخ بليك، وهو يُشعل طرف سيفه بلهب أزرق خافت: "توقف يا فيرتشايلد! يجب أن تُبقي طاقتك للكتابة! الجان انتهوا، لكننا لم نُغلِق البوابات بعد!"
في تلك اللحظة، وفي خضم الضجيج والعنف والدمار، اخترق المكان صوتٌ غير متوقع. رنينٌ إيقاعيٌ ومُتكررٌ لجرس الباب الأمامي.
توقف الجميع عن الحركة. كان الصوت غريبًا ومُفاجئًا في هذا المشهد المُدمَّر، وكأن الحياة الطبيعية تُحاول جاهدةً أن تفرض نفسها في خضم الجحيم.
تمتم بليك، وهو يشعر بالارتباك: "جرس الباب؟ من يمكن أن يجرؤ على القدوم إلى هنا الآن؟ الجنود؟ أم عملاء المليارديرات الجدد؟"
نظر بابادوك إلى بليك، وقد ازدادت عيناه حِدّةً.
قال بابادوك بصوت مُنخفض وثابت: "لا أحد يرن الجرس قبل اقتحام منزلٍ مُدمّر. إنه فخ، أو ربما كيان جديد. لا تفتح الباب مباشرة، كن حذرًا. سأبقى أنا وفيرتشايلد هنا لحماية الآلة. اذهب أنت وتحقق. تذكر، نحن تحت القسم؛ لا تتأخر".
تسلل بليك نحو الباب الأمامي المخلوع جزئيًا. أمسك بمقبض الباب بحذر شديد، وتأكد من أن سيفه مُستعدٌ للهجوم. استجمع ما تبقى من تركيزه وماناه، وفتح الباب ببطء، ليجد المشهد أمامه يتناقض كليًا مع ما رآه.
لم يكن خلف الباب جنديٌ مدججٌ بالسلاح ولا عميلٌ يرتدي بزة رسمية. كان هناك كلبٌ صغيرٌ لطيفٌ للغاية، من سلالة البودل، بفرائه الأبيض المنفوش والمُنظَّم. كان الكلب يرتدي طوقًا مزينًا، وفي منتصف رأسه، بين أذنيه، ثُبِّتت زهرةٌ ورديةٌ صغيرة، تُضفي عليه مظهرًا وديعًا ومرحًا.
شعر بليك بلحظة من التردد غير المفهوم. كان التناقض صادمًا بين هذا الكائن الأنيق والدمار الذي يحيط به.
تمتم بليك بصوت خافت: "كلب؟ هل هذا كلب ضال؟ لا يمكن... لا يمكن أن يكون مجرد كلب ضال!"
في تلك اللحظة، بينما كان بليك لا يزال يُحلل المشهد، بدأ الكلب الأبيض الصغير في الارتفاع ببطء وهدوء. ارتفع جسده المنفوش في الهواء دون أي حبل أو دعم، متجاوزًا عتبة الباب، ثم ارتفع أكثر حتى وصل إلى مستوى رأس بليك تمامًا، وظل طافيًا هناك.
تلاشت الوداعة المصطنعة فجأة. انفتح فم الكلب الأبيض على اتساعه، مُطلقًا عواءً غاضبًا ومُشوهًا. لم تكن أنيابه صغيرة ووديعة؛ كانت حادة وطويلة ومُخيفة، وعيناه الداكنتان احتقنتا بالغضب المُتعجرف والشرس. كانت الزهرة الوردية في رأسه تبدو سخرية مُهينة للقوة الكامنة فيه.
صاح الكلب الغاضب بصوتٍ جهوريٍ غير متوقع، وكأنه صوت رجل بالغ محبوس في جسد صغير: "أيها الساحر الحقير! ظننت أنك تستطيع الهروب مني؟ أنا الحارس! أنا الغضب! سأمزقك وأُعيدك إلى الجحيم الذي خرجت منه!"
وقبل أن يتمكن بليك من إغلاق فمه أو إطلاق تعويذة دفاعية، اندفع الكلب الطائر نحوه بقوة تفوق حجمه بمئات المرات. اصطدم الكلب بصدر بليك المنهك، مُطلقًا صرخة غاضبة. كانت الضربة هائلة ومُركّزة.
صاح بليك من الألم، شعر بضلوعه تُطقطق تحت الهجوم المفاجئ، وأُطلق جسده نحو الجدار الداخلي للمنزل بقوة مدمرة.
في الداخل، سمع بابادوك وفيرتشايلد صوت الارتطام المُدوّي، والذي كان أقوى بكثير من صوت تحطم الجان.
صاح فيرتشايلد بذعر: "بليك! ما هذا الصوت؟ ما الذي حدث؟"
قفز بابادوك على الفور، متجاهلاً سؤال فيرتشايلد، وهرع نحو مصدر الصوت. كان ماركو على وشك اللحاق به، لكنه لم يخطُ خطوة واحدة.
فجأة، وبدون أي سبب واضح، أو أي صوت سابق، أو أي قوة مرئية، شعر ماركو بقوة ضخمة ومُركّزة تضربه من الخلف. لم تكن الضربة جسدية، بل كانت أشبه بـ "موجة طاقة" أو دفع غير مرئي. طار جسد ماركو في الهواء بقوة جنونية، مُحدثًا فجوة ضخمة ومُدمرة في نافذة المنزل الخشبية، ومزقها بالكامل.
اقتلع ماركو الزجاج والخشب، وسقط على رصيف الشارع المدمر خارج المنزل، بالقرب من حيث هبط بليك قبل قليل.
كان ماركو يلهث، مُصابًا بكدمات وجروح من الزجاج المتطاير، لكن عقله كان أكثر انشغالًا مما رآه. رفع رأسه بصعوبة ليرى خصمه.
لم يكن أمامه الكلب الغاضب، بل كان أمامه كائنان غريبان تمامًا، يقفان بهدوء في الظلام المحيط بالشارع. كانا يرتديان دروعًا داكنة وخوذات ضخمة ذات وجه شفاف. داخل الخوذة، لم يكن هناك وجه بشري، بل كائن شبيه بالحيوانات البحرية أو كائنات فضائية صغيرة ذات رؤوس مدببة وعيون كبيرة وداكنة. كان كل واحد منهما يحمل جهازًا لامعًا يشع ضوءًا أزرق كهربائيًا قويًا في المنتصف.
كانت هيئة الكائنين تصرخ بـ الخيال العلمي المظلم والساخر.
تمتم ماركو، الذي جاء من حضارة نجمية، وهو يشعر بالصدمة الممزوجة بالإدراك: "يا إلهي! كائنات فضائية! لكن... لا، هذه ليست خوذات فضائية حقيقية! هذه... هذه كيانات من خياله! لقد عثرتُ على مصدر جديد. هذا جنون محض!"
أدرك ماركو على الفور أن هذين الكائنين الفضائيين هما أيضًا وحوش من إبداع فيرتشايلد، لكنهما يمثلان جانبًا مختلفًا من خياله.
في داخل المنزل، كان بابادوك قد وصل إلى الجدار الأمامي وشاهد جسد بليك يرتطم به بقوة. لكنه لم يرَ أي شيء سوى الكلب الأبيض الطافي يهاجم بليك مرة أخرى بوحشية. التفت بابادوك ليجد ماركو قد اختفى للتو عبر النافذة.
قال بابادوك بصوت مُندهش: "ماركو؟ ما الذي حدث؟ لقد طار للتو! هل سحره الكلب أيضًا؟"
في اللحظة التي كان فيها بابادوك يُركز نظره على الكلب الغاضب وبليك المنهار، شعر فجأة بيد باردة وغير مرئية تُحيط بعنقه. كانت اليد ضخمة وقوية، تضغط على حنجرته وتُثبته بعنف على الحائط المجاور للباب.
توقف بابادوك عن الحركة، والذعر الخالص يغمر عينيه. كان لا يستطيع التنفس، ولا يستطيع الرؤية. كان يقاتل ضد العدم.
تمتم بابادوك بصعوبة، وصوته يخرج كهمسة مُختنقة: "كائن... كائن خفي؟ وحش غير مرئي؟ اللعنة على فيرتشايلد وخياله البشع! لا أستطيع رؤيته! أين هو؟"
أدرك بابادوك، وهو يصارع من أجل التنفس، أن هذا كائن آخر من كيانات فيرتشايلد، كائنٌ خفيٌ تمامًا، جاء لمُباغتتهم. كانت هذه بداية الهجوم المضاد المُتعدد الأوجه. الجميع الآن في خطر جسيم.