كانت الشمس ترسم خطوطها الذهبية على واجهات المباني الزجاجية في صباح مدينة "نوفا سيتي"، مدينة الأحلام المصطنعة حيث الوظائف الفخمة والرواتب المغرية. كانت "هاي يونغ" تقف أمام برج شركة "أومبريلا العالمية للتطوير"، وهي ترفع رأسها لترى الشعار الشهير الذي يزين قمة المبنى بتصميمه الحديث والأنيق. كانت في منتصف العشرينيات، ببدلة عمل سوداء مُكوية بعناية ووشاح حريري يضيف لمسة من الاحترافية الهادئة. كانت عيناها تلمعان بالأمل وبعض القلق.
"أومبريلا... شركة عالمية تعمل في الطاقة النظيفة والتطوير الحضري،" همست لنفسها، وهي تستذكر الوصف الذي قرأته في عقد عملها. كانت قد تخرجت بمرتبة الشرف في الإدارة المالية، وتلك كانت فرصتها الذهبية، وظيفة سكرتيرة تنفيذية في المستوى الثاني للإدارة، مما يعني أنها بعيدة عن الضجيج لكنها قريبة من مراكز القرار.
عندما دخلت الردهة، استقبلتها الفخامة الهادئة؛ الرخام الأبيض المصقول، فن تجريدي باهظ الثمن، وموظفون يمرون بخطوات واثقة وسريعة، كأنهم يحملون على أكتافهم أسرار التجارة العالمية. شعرت بشيء من الرهبة التي سرعان ما تحولت إلى إصرار. لم تكن تبحث عن الأسرار، كانت تبحث عن الاستقرار والنجاح المهني الذي وعدت به عائلتها.
في الأيام الأولى، كانت هاي يونغ غارقة في الأعمال الإدارية الروتينية، لكنها وجدت نفسها بسرعة منسجمة مع فريق العمل الإداري الصغير في طابقها. كان هناك "ليام"، فتى مرح متخصص في تنظيم المؤتمرات، و"سارة"، خبيرة الأرشفة التي كانت دائمًا ما تحمل كوبًا من الشاي، وكلاهما كانا يمثلان الوجه العادي والمُطمئن للعمل المكتبي.
"أهلاً هاي يونغ! لا تُجهدي نفسكِ في اليوم الأول. صدقيني، ملفات الميزانية لا تهرب،" قال ليام بابتسامة واسعة، وهو يمرر لها كوبًا من القهوة الدافئة في الصباح الثاني لها.
ردت هاي يونغ بامتنان: "شكرًا لك ليام. أحاول فقط استيعاب هذا الكم الهائل من الأرقام والتقارير. أومبريلا شركة ضخمة حقًا."
قالت سارة وهي تخرج من خلف كومة من الملفات المُرتبة بأناقة: "هي ضخمة، لكنها مُنظمة جدًا. وهذا هو الشيء الجيد. لا مفاجآت، لا فوضى. عمل إداري بحت. نُسلم التقارير في مواعيدها، وننظم رحلات عمل المديرين، ونُخطط للحفلات الموسمية. هذا كل شيء."
كانت هاي يونغ تستمع لكلمات سارة، وتجد فيها الطمأنينة. هذا هو بالضبط ما بحثت عنه: عمل مُنظَّم، بعيد عن المغامرات غير المحسوبة. بدأت تقضي وقت الغداء مع ليام وسارة، يتحدثون عن خططهم المستقبلية، وعروض المسلسلات الجديدة،
وأحيانًا يتبادلون النكات الخفيفة عن غرابة بعض المديرين. شعرت بالانتماء، وبدأت ترى أومبريلا كمجرد مكان عمل عادي، مع رواتب أعلى بقليل مما هو مُعتاد.
في أحد الأيام، كانت هاي يونغ مكلفة بتوصيل ملف سري للغاية إلى مختبرات التطوير في الطابق السفلي، وهو طابق نادرًا ما يُسمح للموظفين الإداريين بالوصول إليه. كان الملف يخص مشروعًا يحمل اسمًا رمزيًا "تي-سوبريور" (T-Superior)، لكنها لم تهتم بالمحتوى بقدر اهتمامها بتسليم الملف وتأكيد الاستلام.
عندما وصلت إلى منطقة الاستلام، كان الممر هادئًا بشكل غريب، على عكس ضجيج المكاتب. كانت الأضواء بيضاء قاسية، ورائحة مُعقمة خفيفة تملأ الهواء. كان عليها الانتظار قليلًا، فجلست على كرسي في غرفة الانتظار الصغيرة.
بعد بضع دقائق، انفتح باب زجاجي مُنعدم الشفافية ليخرج منه شاب بدا وكأنه في نهاية العشرينيات، يرتدي معطفًا أبيض خاصًا بالمختبرات فوق قميص بولو، وشعره كان فوضويًا بعض الشيء. كانت النظارات السميكة تُخبئ عينين واسعتين تبدوان مُجهدتين. كان يحمل في يده اليمنى ملفًا ضخمًا، وفي يده اليسرى... دمية قماشية كبيرة ذات شعر أزرق وابتسامة واسعة، كانت دمية واضحة لشخصية أنمي مشهورة.
تفاجأت هاي يونغ من هذا التناقض الصارخ: معطف مختبرات شركة عالمية، ودمية أنمي ضخمة.
"آسف جدًا على التأخير. أنا جو يون، مساعد الباحث الرئيسي. أنتِ من الإدارة، صحيح؟" قال الشاب بصوت هادئ، لكنه كان يُمسك بالدمية بطريقة تبدو وكأنها امتداد طبيعي ليده.
وقفت هاي يونغ وقدمت نفسها بمهنية: "أنا هاي يونغ، سكرتيرة تنفيذية في المستوى الثاني. أحضرت لك ملف مشروع تي-سوبريور للتوقيع والاستلام."
مد جو يون يده ليسحب الملف، ثم أشار بدميته إلى كرسي فارغ: "تفضلي بالجلوس. أحتاج إلى قراءة سريع جدًا لصفحة التلخيص قبل التوقيع. هذا هو البروتوكول، على الأقل بالنسبة لي. لا يمكنني التوقيع دون فهم ما أستلم، حتى لو كان مجرد 'تسليم'."
جلست هاي يونغ بصبر، وهي تراقب جو يون. لم يكن يبدو كشخص شرير أو غامض. كان يبدو مُتعَبًا، وتركيزه كان منصبًا تمامًا على الورقة. لكنها لم تستطع كبت فضولها حول الدمية.
"عفواً يا سيد جو يون،" بدأت هاي يونغ بحذر، "لكن... هل تسمح لي بالسؤال؟ ما قصة هذه الدمية؟ لا أظن أنها جزء من الزي الرسمي للمختبرات."
رفع جو يون رأسه، وظهرت على وجهه ابتسامة مُحرجة قليلاً، لكنها صادقة. ثم نظر إلى الدمية التي كانت في حضنه، وربت عليها برفق.
"أوه، هذه؟ هذه 'ناجيمي'،" قال جو يون بتعابير جادة بشكل مُبالغ فيه. "ناجيمي هي شخصية من أنمي 'قلوب النجوم'. هي مساعدة عالم، ومُحبة للحكمة. أعلم أنه يبدو غير مهني، لكن... العمل هنا يتطلب تركيزاً رهيباً، والمناطق الإدارية والمالية قد تكون مُرهقة عقليًا. أنا لست جيداً في التعامل مع البشر في هذه الأجواء، لذا أحضر رفيقي البلاستيكي معي."
أضاف جو يون وهو يتنهد: "صدقيني، ناجيمي هي الشيء الوحيد الذي يُذكرني بـالواقع غير المُعقد، العالم حيث الأشرار لديهم خطط واضحة ويمكن هزيمتهم بسيف ضوئي واحد. أنا أعتمد على وجودها الهادئ ليلاً ونهارًا."
توسعت عينا هاي يونغ قليلاً. "هل أنت... أوتاكو مهووس بالأنمي، كما يقولون؟"
ضحك جو يون ضحكة خفيفة ومكتومة، وارتدت الدمية على ركبته قليلاً. "أعتقد أن هذا الوصف دقيق جداً. الأنمي هو متنفسي، هروبي. لا أعرف كيف يتعامل زملائي في الإدارة العليا مع الضغط دون متنفس. هل تتناولون القهوة فقط؟"
فكرت هاي يونغ في ليام وسارة، وكيف كانا يتحدثان عن المسلسلات. "الأغلبية هنا تُحب الروتين. الروتين هو الذي يحفظ العقل، كما قالت سارة لي."
"أرى ذلك،" قال جو يون وهو يعيد النظر إلى الملف. "حسنًا... توقيع بالاستلام لملف تي-سوبريور، المُخصص للطاقة الكامنة... يبدو واضحاً ومُتعارفاً عليه."
وقع جو يون على الملف بخط يده الأنيق، ثم أعاد الملف إلى هاي يونغ. وعندما كانا يتبادلان الملف، لاحظت هاي يونغ شيئاً على رسغ جو يون. لم تكن ساعة أو سوارًا، بل كان سوارًا بلاستيكيًا بسيطًا عليه صورة صغيرة جدًا لشخصية أنمي أخرى.
"أنت لا تترك الأنمي حتى في أدق التفاصيل،" علقت هاي يونغ بابتسامة بسيطة.
ابتسم جو يون هذه المرة بصدق وبدا أنه ارتاح من ثقل البروتوكول. "الأشياء الصغيرة هي التي تحفظنا من الجنون يا هاي يونغ. هل لديكِ أي هوايات أو شيء يُخرجكِ من أجواء العمل؟"
ترددت هاي يونغ للحظة. "أنا... أنا أحب التصوير. تصوير المناظر الطبيعية البعيدة."
"إذًا أنتِ تبحثين عن هروبكِ الخاص أيضًا،" قال جو يون وهو يُعدل نظارته. "الابتعاد عن هذا المكان. أنا أهرب في عوالم متعددة، وأنتِ تهربين في الأفق البعيد. هذا أمر مفهوم."
نهض جو يون، وهو يُمسك بناجيمي ويضعها تحت إبطه بلطف، كأنها حقيبة ملفات ثمينة.
"حسنًا، يجب أن أعود إلى العمل على 'الطاقة الكامنة'. أرجو أن يكون يومكِ هادئًا وروتينيًا كما تتمنين. وشكراً على تسليم الملف بأمان."
غادر جو يون الغرفة بنفس الهدوء الذي دخل به، تاركًا هاي يونغ وحدها. كانت تحمل ملف تي-سوبريور المُوقَّع، لكن عقلها كان مشغولًا بـجو يون ودميته "ناجيمي". لم يكن يبدو عليه أي شيء يشير إلى شر أو حتى عبقرية مُجنونة؛ لقد كان مجرد شاب مُتعَب يجد راحته في الخيال. كان لقاءً غريبًا، لكنه أكد لها شيئًا: حتى في أروقة أومبريلا الفخمة، هناك بشر عاديون يهربون من الروتين والضغط بطرقهم الخاصة. لم يخطر ببالها قط أن ضغط العمل الذي تحدث عنه جو يون كان أخطر بكثير من مجرد جداول بيانات. لقد استلمت الملف، وعادت إلى طابقها الإداري، ودمجت نفسها مرة أخرى في روتين العمل المكتبي، مُعتقدةً أن أومبريلا هي فقط ما تراه: شركة عادية للتطوير والطاقة.
بعد ذلك اللقاء الأول، أصبح جو يون مجرد وجود عابر في عالم هاي يونغ المكتبي. لم تكن ترى الحاجة للاحتكاك بباحثي المختبرات، فمهامها كانت تتعلق بالتقارير المالية والتحضير لاجتماعات المساهمين. ولكن، بحكم طبيعة عملها كحلقة وصل إدارية، أصبح تواصلها مع جو يون أمرًا لا مفر منه، خاصةً مع تصاعد وتيرة العمل على مشروع "تي-سوبريور".
كانت هاي يونغ تجد نفسها تذهب إلى طابق المختبرات مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، وفي كل مرة، كان جو يون يستقبلها بنفس الهدوء، وفي حضنه أو على مكتبه كانت "ناجيمي" حاضرة دائمًا. مع تكرار اللقاءات، تحولت الحوارات القصيرة من مجرد تبادل للملفات إلى تبادل لبعض الجمل العابرة حول حالة الطقس أو عبء العمل.
في إحدى المرات، كانت تنتظر توقيعًا حساسًا يتطلب تركيزًا عاليًا من جو يون. كان ينتحب بهدوء، يقرأ صفحة بعد صفحة، بينما كانت هاي يونغ تراقبه. لاحظت أن شاشة حاسوبه كانت تعرض جدولًا معقدًا من البيانات الكيميائية، لكن في زاوية الشاشة، كان هناك شريط أدوات مُصغر يعرض إطارًا من حلقة أنمي.
"هل أنت... تشاهد الأنمي وأنت تعمل على هذا الجدول؟" سألت هاي يونغ بنبرة لم تخلو من الدهشة المحايدة.
رفع جو يون نظارته السميكة إلى شعره الفوضوي، ثم مسح عينيه المتعبتين. "أوه، مرحباً هاي يونغ. نعم. في الحقيقة، أنا أستمع إليه أكثر مما أشاهده. إنه صوت خلفية، مثل الموسيقى الكلاسيكية بالنسبة للبعض. يساعدني هذا 'الضجيج المنظم' على عزل ذهني عن تفاصيل العمل الشاقة. إنها حلقة من 'أسطورة السيف المُصمم'."
قالت هاي يونغ ببرود مصطنع: "ألم تكن لديك برامج حماية للعقل أو تطبيقات تركيز يمكنها أن تفصل بين العمل وأوقات الترفيه؟ هذا يبدو غير مهني قليلاً."
تنهد جو يون بعمق، وبدا الحزن للحظة يلوح على وجهه المرهق. "غير مهني؟ ربما. ولكن ما هو المهني هنا يا هاي يونغ؟ أن أُحول نفسي إلى آلة حاسبة بلا روح؟ إنني أعمل هنا لمدة خمسة عشر ساعة يوميًا، وأتعامل مع طاقة يمكنها أن تُفني مدينة بأكملها لو أخطأت في حساب واحد. إذا لم أحتفظ ببعض الروابط بعالمي الخاص، عالم الألوان والقصص والشخصيات التي تُقاتل لأسباب نبيلة، سأتحول إلى مجرد رقم آخر في نظام أومبريلا."
أمسك جو يون بيد "ناجيمي" ببطء، وتابع بنظرة جادة: "أنا لا أخجل من أنني أُحب القصص الخيالية. لأنها تمنحني القوة لأعيش واقعي المعقد. هذه الدمية، وهذا الأنمي، هما خط دفاعي الأخير ضد تحولي إلى إنسان آلي. إذا كان هذا هو الثمن الذي أدفعه للحفاظ على سلامة عقلي، فليكن."
أجبرت هاي يونغ نفسها على إبقاء تعابير وجهها محايدة، وهي تستمع إلى اعتراف جو يون العاطفي بهوايته. لقد شعرت بوخز مفاجئ وغير مريح في داخلها. لم يكن الوخز ناتجًا عن الاشمئزاز من هوسه، بل كان ناتجًا عن الغيرة والخوف في آن واحد.
كانت هاي يونغ، في الواقع، أوتاكو متخفية بشكل فائق. كانت تحفظ أسماء الشخصيات في أنمي "قلوب النجوم" عن ظهر قلب، بل وكانت تعلم أن "ناجيمي" هي شخصية جانبية لكنها محبوبة بسبب وفائها. كانت تملك في شقتها مجموعة ضخمة ومخفية من المانجا والمقتنيات التي لم يرها أحد قط، وكانت تقضي لياليها في قراءة الفصول الجديدة من "أسطورة السيف المُصمم" تحت غطاء احترافيتها المتقنة.
لقد بنت هاي يونغ جدارًا سميكًا حول هذا الجانب من شخصيتها. بالنسبة لها، كانت مهنتها هي كل شيء. كانت تؤمن بأن التعبير الصريح عن الهوايات التي تُصنفها المجتمع كـ"طفولية" أو "غريبة" هو نقطة ضعف يمكن أن تستغلها الإدارة القاسية في أومبريلا، أو حتى يراها الزملاء كدليل على عدم النضج. لقد كانت تريد أن تُرى كـ"المرأة الحديدية" التي لا يشغلها سوى الأرقام والنجاح المهني.
ولذلك، عندما رأت جو يون يعترف بحبه للأنمي، لدرجة أنه يحمل دمية ضخمة إلى مختبر سري، ويشاهد الحلقات أثناء إعداد التقارير التي يمكن أن تؤدي إلى كوارث كبرى، شعرت بالاستياء الشديد. لكن استيائها لم يكن موجهًا ضد جو يون نفسه، بل كان موجهًا ضد شجاعته الصادقة.
"حسنًا، هذه وجهة نظر مثيرة للاهتمام،" قالت هاي يونغ بجمود، وهي تمد يدها لتسلم الملف المُوقَّع. "ولكن بغض النظر عن دوافعك، أنا أرجو أن يكون تركيزك كاملاً عندما تُراجع التقارير النهائية. نجاح هذا المشروع مرتبط بأمان الجميع، بمن فيهم محبي القصص الخيالية."
أخذ جو يون الكلمات بمحمل الجد، وأومأ برأسه ببطء. "أنا أقدر نصيحتك، هاي يونغ. وصدقيني، أنا أُقاتل لأجل هذا التركيز كل يوم. أنا أفهم المسؤولية."
في الأيام والأسابيع اللاحقة، استمر هذا التوتر الخفي بينهما. كانت هاي يونغ تُحاول قمع أي وميض معرفة يُخبرها أن جو يون ذكر اسم أنمي كانت قد شاهدته للتو، أو عندما كان يتذمر من شخصية جديدة في مانجا معينة.
في إحدى المرات، رآها جو يون تقف أمام آلة القهوة وهي تفرك جبهتها بتعب.
"تبدين مُجهدة للغاية يا هاي يونغ،" قال جو يون وهو يقترب منها، يحمل كوبًا خاصًا به عليه رسمة خفيفة. "هل كان الاجتماع مع الإدارة العليا صعباً؟"
"كان أشق من الصعب،" اعترفت هاي يونغ بتعب. "إنهم يضغطون من أجل إنهاء الميزانية قبل الموعد. لا يوجد وقت للتنفس."
وضع جو يون يده على كتفها للحظة عابرة قبل أن يسحبها بسرعة، كأنه شعر بالتردد. "يجب أن تجدي متنفسكِ. هل صورتِ أي شيء مؤخرًا؟ المناظر الطبيعية التي تُحبينها؟"
قالت هاي يونغ بسرعة مفرطة: "لا. لا يوجد وقت للهوايات السخيفة. العمل هو الأولوية الوحيدة الآن."
تراجعت ملامح جو يون قليلاً، كأنه شعر بالإهانة نيابة عن "هواياتها السخيفة". "الهوايات ليست سخيفة يا هاي يونغ. إنها الوقود. إنها تُذكركِ بأنكِ لستِ مجرد يدين تُوقعان على الأوراق. عندما ترين الطبيعة أو تقرأين قصة، فأنتِ تُعيدين شحن روحكِ. لا تدعي هذا المكان يستهلككِ بالكامل."
في تلك اللحظة، شعرت هاي يونغ بالغضب يتصاعد داخلها. لم يكن غضباً من جو يون، بل غضباً من نفسها المُتخفية. هذا الشاب، بعيونه المجهدة ودميته الساذجة، كان يعرض نفسه للخطر الاجتماعي والمهني ليكون صادقًا مع ما يُحبه. بينما هي، هاي يونغ، كانت تجلس في شقتها المليئة بالمانجا، مُتظاهرةً بأنها لا تهتم سوى بالأسهم والسندات. لقد كانت تخجل من جانبها الحقيقي، وكانت ترى في صدق جو يون تذكيرًا دائمًا لجبنها.
"شكرًا على النصيحة، يا سيد جو يون،" قالت بنبرة حادة وباردة، كأنها تخاطب مُتطفلاً. "أنا أهتم بالأرقام فقط. الهرب إلى الخيال هو ترف لا أستطيع تحمله."
أخذت كوب القهوة الساخن وابتعدت عنه بسرعة، تاركة جو يون واقفاً وحده، ينظر إليها بشيء من الحيرة والقلق.
في أعماقها، أدركت هاي يونغ أنها لم تعد تطيق جو يون. لم يكن لأنه غريب الأطوار، بل لأنه كان مرآة حقيقية لجانبها المكبوت، الجانب الذي كانت تُحاول بكل جهد دفنه تحت أكوام التقارير والاحترافية القاسية. لقد كان يحمل علناً ما كانت هي تُقاتل لتبقيه سراً، وهذا الصدق كان يمثل تهديداً خطيراً لاستقرارها المزيف في أومبريلا. كانت كل كلمة يقولها عن الأنمي أو القصص الخيالية تُطلق ناقوس خطر داخل رأسها.
مرت أشهر سريعة بعد ذلك، غارقة في صمت مكتبي يلفه التوتر المهني. استمرت هاي يونغ في تفوقها اللافت. كانت دقيقة، منظمة، وتسبق توقعات الإدارة بخطوتين. نجاحها في إدارة الميزانيات المعقدة لمشاريع التطوير الجديدة لفت إليها الأنظار. لم تعد مجرد "سكرتيرة تنفيذية في المستوى الثاني"، بل أصبحت تُعرف داخل أروقة أومبريلا بـ**"عقل الحسابات الثلجي"**، لكفاءتها التي لا تتأثر بالضغط ورباطة جأشها الظاهرة.
لم يكن تفوقها نابعًا من طموح جامح فحسب، بل كان أيضًا وسيلة دفاع. كلما زادت من عمق انغماسها في الأرقام والجداول، زادت المسافة بينها وبين أي ذكرى أو إشارة إلى "العوالم الخيالية" التي كان جو يون يصر على الهروب إليها. كانت تعمل حتى الإجهاد، تقمع أي رغبة في النظر إلى هاتفها لرؤية جديد المانجا، مؤمنة أن هذا هو ثمن الاحتراف.
وإثر سلسلة من النجاحات في تصفية المشاكل المالية العالقة، جاءت اللحظة التي غيرت مسارها المهني بالكامل.
في صباح يوم ربيعي حار، وبينما كانت تراجع جدول تدفقات نقدية ضخم، رن هاتفها الداخلي. على الشاشة، ظهر اسم لم تكن تتوقع رؤيته أبدًا: "ليو تشنغ - المدير التنفيذي الأكبر".
شعرت هاي يونغ ببرودة غريبة تسري في عمودها الفقري، لم تكن برودة خوف، بل برودة هيبة وتقدير. المدير التنفيذي الأكبر نفسه يتصل بها.
"الآنسة هاي يونغ؟" جاء صوت ليو تشنغ من الطرف الآخر، صوت عميق وله نبرة قيادية هادئة لا تقبل الجدل.
"نعم سيدي، أنا هي. تفضل،" ردت هاي يونغ بهدوء مصطنع، بينما كانت يديها تُمسكان بالقلم بقوة.
"عظيم. لقد راقبت عملكِ في الربعين الأخيرين. كفاءتكِ تفوق كل التوقعات. إنني أبحث عن مساعد تنفيذي شخصي يمكنه إدارة أجندتي المعقدة والحساسة. شخص يتمتع بنفس الدقة والتحفظ الذي لديكِ. أرجو أن تتوجهي إلى مكتبي فورًا، أود مناقشة هذا الأمر معكِ مباشرةً."
انقطع الاتصال. بقيت هاي يونغ جالسة للحظات، قلبها ينبض بإيقاع أسرع مما هو مُعتاد. مساعد تنفيذي لليو تشنغ. هذه ليست ترقية، هذه قفزة مهنية إلى قمة الهرم الإداري في أومبريلا. هذا يعني راتبًا فلكيًا، نفوذًا، واعترافًا كاملاً بكفاءتها. لقد استدعى العقل الثلجي.
توجهت هاي يونغ إلى الطابق التنفيذي الأعلى. كانت الأجواء هناك مختلفة تمامًا عن الطوابق الإدارية؛ صمت مدقع، ديكور فني، وأمن مشدد. عندما دخلت مكتب ليو تشنغ، شعرت بوقع المشهد كله. كان مكتبًا ضخمًا يطل على المدينة بأكملها، لكن ليو تشنغ نفسه كان محط الأنظار.
كان يجلس خلف مكتبه الأنيق المصنوع من الخشب الداكن، يرتدي بدلة داكنة ومُصفف الشعر بعناية فائقة. كان ليو تشنغ رجلًا تبدو عليه آثار القوة والهدوء الممزوجين بذكاء حاد. كانت عيناه، تحت الحاجبين المرتفعين قليلاً، تنظران إليها بتقييم سريع وعميق. كان هذا هو لقائها الأول به وجهًا لوجه.
"تفضلي بالجلوس، الآنسة هاي يونغ،" أشار بيده إلى مقعد أمامه.
جلست هاي يونغ، وهي تُعدل وضعها لتكون بأقصى درجات الانتباه. "شكرًا لك سيدي. لقد أسعدني اهتمامك بعملي."
بدأ ليو تشنغ الحديث بنبرة هادئة ومُقنعة: "بصفتي المدير التنفيذي الأكبر، فإن وقتي وتفاصيل أجندتي هما أغلى ما أملك. أحتاج شخصًا لا يخشى التعامل مع الأسرار، ولا يتأثر بالضغوط. شخص يرى الهدف الأسمى في عملنا ويتفهم أن التضحية ببعض الجوانب ضرورية لأجل مصلحة البشرية. بصراحة، أنتِ الأفضل. أنتِ لا تضيعين الوقت في الترفيه أو الانغماس في العواطف الزائفة. الأرقام هي لغتكِ الوحيدة."
شعر هاي يونغ بالإطراء العميق الذي لامس غرورها المهني. لقد رأى فيها ما كانت تتمنى أن يراه الجميع: الآلة المثالية للإدارة.
"أنا أوافق على أن أكون مساعدتكِ الشخصية سيدي،" قالت بحماس حقيقي وكبير. "أعدكِ بأنني لن أخذلكِ."
ابتسم ليو تشنغ ابتسامة خفيفة، لم تصل إلى عينيه. "أعلم أنكِ لن تخذليني. مرحبًا بكِ في الحلقة الداخلية، هاي يونغ. لنبدأ بالعمل. أول ما عليكِ فهمه هو الطبيعة الحقيقية لعمل أومبريلا."
أصبحت هاي يونغ مساعدته، وبدأ العمل فورًا. لأيام كانت غارقة في ترتيب المستندات والتحضير لاجتماعاته، لكن هذه المرة، كانت المستندات مُختلفة. لم تعد مجرد جداول مالية، بل تقارير حول "التفاعل الجيني"، و**"تعديلات الحمض النووي"، و"بروتوكولات الحجر البيولوجي"**.
في البداية، اعتقدت أنها مجرد أبحاث متقدمة في مجال الصيدلة، وهو أحد المجالات التي تعمل بها أومبريلا. لكن ذات مساء، عندما كانت تفرغ ملفًا ورقيًا يحمل شفرة "المتطوعون في المرحلة صفر"، تجمدت يدها. كانت رسومات تخطيطية لجسم بشري، لكنه مُشوه بطرق غير طبيعية، مع بيانات حول مستويات عدوانية وقدرات تجدد مفرطة.
لقد عرفت الحقيقة.
لم يكن الأمر يتعلق بالطاقة النظيفة أو الصيدلة. لقد كانت أومبريلا تُجري تجارب بيولوجية غير إنسانية على كائنات حية، وربما على بشر، داخل مختبرات سرية بعمق لا تعرفه. كانت تلك هي طبيعة "الأسرار" التي تحدث عنها ليو تشنغ.
في صباح اليوم التالي، كانت هاي يونغ هادئة بشكل قاتل، لكن ليو تشنغ لاحظ حتماً التوتر الخفيف في طريقة إمساكها بكوب القهوة. استدعاها إلى مكتبه دون سابق إنذار.
"أرى أنكِ اطلعتِ على تقارير المتطوعين،" قال ليو تشنغ، وعيناه مثبتتان عليها بهدوء تام. كان يجلس في هدوء مخيف، كأنه يتحدث عن حالة الطقس.
لم تجد هاي يونغ الكلمات المناسبة، فصمتت. كان قلبها يرتعش خوفًا.
"هل أنتِ خائفة؟" سأل.
همست هاي يونغ بصوت بالكاد مسموع: "هذه... هذه التجارب... سيدي، إنها تجاوزت كل الحدود الأخلاقية. هذه ليست روحًا بشرية يتم إنقاذها، هذه وحوش يتم خلقها."
نظر إليها ليو تشنغ بهدوء، ثم ابتسم تلك الابتسامة الباردة مرة أخرى. "اسمعي يا هاي يونغ، هذه الأرواح التي تتحدثين عنها هي مجرد مراحل ضرورية في مسيرتنا. إن أومبريلا لا تبحث عن سلاح، أومبريلا تبحث عن شيء أعظم بكثير من الأخلاق العادية."
وقف ليو تشنغ وتقدم نحو النافذة الزجاجية، مشيرًا بيده إلى المدينة الممتدة أسفله. "انظري إلى هذه المدينة، إلى هؤلاء البشر. إنهم ضعفاء، يموتون بالأمراض، يشيخون، وتتآكل أجسادهم. أنا، يا هاي يونغ، أملك الرؤية والقدرة على منحهم الخلود. أن أُطيل حياتهم، أن أجعلهم أقوى من أي مرض. هذه التجارب القاسية، هذا التشويه المؤقت، هو الثمن القليل جدًا الذي ندفعه للحصول على المادة الجينية الخام التي ستُغير مصير البشرية إلى الأبد."
عاد ليو تشنغ ونظر إليها مباشرة، بنظرة أخضعت هاي يونغ بالكامل. "هدفنا هو الخلود للبشر. وهذه التجارب هي خطوتنا الأولى. أنتِ الآن تعرفين أعمق أسرار أومبريلا. لن أطلب منكِ أن تحبي ما ترينه، لكني أطلب منكِ أن تتأملي الهدف الأسمى وأن تبقي صامتة. هل تفهمين؟"
لم تستطع هاي يونغ أن تنطق بكلمة واحدة. كانت كل محاولة للرد أو الجدال محبوسة في حلقها بفعل الخوف الممزوج بالهيبة التي كان ليو تشنغ يفرضها. كان ليو تشنغ قد وضعها في وضع لا يمكنها فيه التراجع أو الفرار.
"أفهم، سيدي،" قالت أخيرًا، وصوتها كان خاليًا من أي عاطفة.
منذ تلك اللحظة، انهار العالم الذي بنته هاي يونغ على ركائز الاحترافية والروتين. أصبحت حياتها اليومية مزيجًا مرعبًا من جداول أعمال ليو تشنغ الرنانة وبين صور التشويه البيولوجي التي كانت تراها في الملفات. كانت ترى مناظر متوحشة في عقلها، ضحايا التجارب الذين كانت تُنظم مواعيد اختباراتهم.
لقد علمت الحقيقة، وأصبحت جزءًا منها، وهي تعرف أن الاستقالة مستحيلة. لقد كانت تعلم أسرارًا يمكن أن تُسقط أومبريلا بالكامل، وهذا جعلها رهينة للنظام. لقد فقدت عملها الروتيني الهادئ، وفقدت إمكانية التعبير عن أي استياء أو خوف.
بدأ الاكتئاب يتسرب إلى روحها ببطء ويقين. كانت تشعر بالوحدة المطلقة. لم تعد تُجيب على اتصالات ليام أو سارة، وعزلت نفسها في عالم بارد من الأرقام، لكنها هذه المرة، كانت أرقامًا مُلطخة بدماء وأنين. لم يعد لديها حتى ذلك المتنفس السري، الأنمي، لأنها الآن أصبحت تعيش أسوأ كابوس خيالي على أرض الواقع، كابوس لا يمكن هزيمته بسيف ضوئي، بل يجب عليها أن تخدمه بصمت. كانت محبوسة في قفص ذهبي، مساعد ليد تدفع بالبشرية نحو خلود ملوث بالرعب، ولا تستطيع الفرار.
كانت الأيام تتوالى على هاي يونغ كأحجار طاحون تسحق روحها. أصبحت الظلال تحت عينيها أعمق من أي وقت مضى، وارتسمت على وجهها قسوة باردة لم تكن جزءًا من طبيعتها. كانت تؤدي عملها بكفاءة لا تشوبها شائبة، لكنها كانت أشبه بجثة مُتحركة، عقلها يُسجل الأوامر ويُنفذها بينما روحها تصرخ في صمت أبدي. لم يعد الأمر يتعلق بالاستقرار المهني أو الخوف من ليو تشنغ؛ بل أصبح يتعلق بمحاولة الحفاظ على عقلها سليمًا وسط هذه الفظائع.
في أحد الأيام المشؤومة، كانت ترافق ليو تشنغ إلى أعمق مستوى في مختبرات الحجر البيولوجي، حيث كانت التجارب تجري على "المراحل الأولية". كان المكان يشبه قفصًا معدنيًا عملاقًا، تُفصله عنهم جدران زجاجية سميكة مقاومة للانفجار، وتملأه أصوات الأجهزة الطبية والطنين الكهربائي المستمر. كان الجو خانقًا، مُحمَّلاً برائحة كيميائية تُشبه المطهراتالقوية ممزوجة بشيء آخر... شيء خام، شيء حيوي ومُتعفن.
وقف ليو تشنغ وهاي يونغ أمام زجاج المراقبة، وخلفهما كان يجلس فريق من العلماء يرتدون ملابس واقية، ينقرون على لوحات المفاتيح ببرود مُذهل. في الغرفة المقابلة، على طاولة فحص معدنية ضخمة، كان هناك رضيع صغير، بالكاد يبلغ ثلاثة أشهر من العمر. كان الرضيع يُصارع النوم، مُقيدًا بأشرطة جلدية ضيقة حول ذراعيه وساقيه، وقد أُدخلت في وريده إبرة بلاستيكية رفيعة.
شحب وجه هاي يونغ، وكادت تسقط حقيبة الملفات من يدها. لم يسبق لها أن شاهدت تجربة على رضيع. حتى ليو تشنغ نفسه بدا مركزًا ببرود مرعب.
"هذا هو البروتوكول التجريبي رقم ثمانية وعشرون، المرحلة 'جاما'،" قال ليو تشنغ بصوت هادئ، كأنه يصف إطلاق قمر صناعي. "هذا الكيان الصغير يمتلك قابلية جينية عالية لامتصاص مُنشط 'الخلود السائل'. فلنرَ النتائج."
أصدر أحد العلماء أمرًا مقتضبًا. ضُخَّ سائلٌ أحمر قاني، كثيف وغريب، ببطء عبر الوريد النحيل للرضيع. للحظات قليلة، لم يحدث شيء. ثم، بدأ الرضيع بالبكاء بصوت غير طبيعي، صرخة حادة وممزقة، لم تكن صرخة جوع أو ألم عادي، بل صرخة كائن يتمزق من الداخل.
بدأ جسد الرضيع يتفاعل مع السائل الأحمر بوحشية مطلقة. تضخمت الأوعية الدموية تحت الجلد الرقيق للرضيع بشكل مخيف، مُتحولة إلى شبكة سوداء مزرقة ومُنتفخة. ارتفع بطن الرضيع وانتفخ، وبدأت ملامح وجهه تتلوى في عذاب يفوق الوصف.
في اللحظة التالية، وقبل أن يتمكن العلماء من إيقاف الضخ أو تسجيل القراءة الأخيرة، انفجر الرضيع حرفياً.
تحولت الطاولة المعدنية، والجدران الزجاجية الداخلية، إلى رقعة مغطاة بسيل من الأشلاء الدموية المتناثرة والكتل البيولوجية الممزقة التي كانت قبل لحظة كائنًا حيًا. كان المشهد فظيعًا، عنيفًا، لا يترك أي مجال للشك أو التأويل.
"فشلت التجربة رقم ثمانية وعشرون. التوافق الجيني أقل من الصفر،" أعلن أحد العلماء ببرود آلي، وهو يرتدي قناعًا على وجهه. لا صدمة، لا تعاطف، مجرد تسجيل لإخفاق تقني.
بقي ليو تشنغ ثابتًا أمام الزجاج، مُتأملاً الأشلاء الملطخة للحظات، ثم قال بنبرة خيبة أمل بسيطة: "ننتقل إلى البروتوكول رقم تسعة وعشرون. يجب تحسين عامل الاستقرار الوراثي. نظفوا الغرفة بسرعة."
لم تستطع هاي يونغ تحمل المشهد. لقد كانت تسيطر على نفسها أمام تشويه البالغين، لكن مشهد الرضيع الممزق حطم آخر حصون صبرها. شعرت بموجة من الغثيان تجتاحها، وكأن كل وجبة تناولتها في حياتها تصعد إلى حلقها.
"سيدي... ليو تشنغ،" تمكنت هاي يونغ من أن تتفوه بالكلمات، صوتها كان أشبه بهمس مهزوز. "أطلب... أطلب استراحة قصيرة. يجب أن أغادر هذا المكان للحظات."
التفت ليو تشنغ إليها. رأى وجهها الشاحب، عيناها المتسعتان من الرعب. لم يُظهر أي تعاطف، بل ظهرت على وجهه علامات الضيق من ضعفها اللحظي.
"لا تدعي المشاعر الإنسانية تتغلب عليكِ يا هاي يونغ،" قال بتوبيخ هادئ. "تذكري الهدف. اذهبي واهدئي نفسكِ. لا تتأخري."
استدارت هاي يونغ وهرعت خارج غرفة المراقبة. ركضت في الممرات المعقمة، وتوقفت في أبعد زاوية ممكنة، زاوية لم تكن تحت كاميرات المراقبة المباشرة. أسندت ظهرها إلى الجدار المعدني البارد، ودفنت وجهها في راحتي يديها، وبدأت تبكي بحرقة.
لم يكن البكاء مجرد دموع، بل كان صوتًا مكتومًا يخرج من أعماق صدرها، صوتًا يحمل كل الغضب والخوف والاشمئزاز الذي كبته في الأشهر الماضية. كانت تبكي على الرضيع، وتبكي على روحها التي انحدرت إلى هذا القاع المظلم.
ماذا أفعل؟، كان السؤال يتردد في رأسها كصوت مدفع. كان عقلها الإداري يقول لها: اذهبي إلى ليو تشنغ، اعترفي بكل شيء للشرطة، حاولي الهرب. لكن العقل الذي أصبح يعرف أسرار أومبريلا كان يصرخ: مستحيل. سيقتلونكِ ويُخفون جثتكِ في سائل أحمر. أنتِ تعرفين الكثير. الخوف من القوة الهائلة لليو تشنغ والنظام المُحكم لأومبريلا كان يحيط بها كجدار من الفولاذ.
كان ضميرها يُشعل النيران في أعماقها. شعرت وكأن روحها نفسها تتقلص وتتوكل وتتلوث بهذه المناظر الشنيعة التي تراها يوميًا. لم تعد هاي يونغ، بل أصبحت شريكة صامتة في جرائم لا تُغتفر.
"ما الأمر يا هاي يونغ؟ هل أنتِ بخير؟"
جاء الصوت هادئًا وقلقًا من خلفها. رفعت هاي يونغ رأسها المبلل بالدموع، ورأت جو يون واقفًا على بعد خطوات، يرتدي معطف المختبرات المعتاد، وفي حضنه، كانت الدمية "ناجيمي". كان وجهه شاحبًا، لكن عينيه كانتا مليئتين بالقلق الصادق.
حاولت هاي يونغ أن تمسح دموعها بسرعة وتستعيد قناعها البارد، لكنها فشلت فشلاً ذريعًا. كانت ضعيفة جداً، مُحطمة بالكامل.
"لا... لا شيء، جو يون،" حاولت الكذب، لكن صوتها خرج متقطعًا. "مجرد... ضغط عمل."
اقترب جو يون بخطوات حذرة، ثم جلس بجانبها على الأرض المعدنية الباردة، ولم يقل شيئًا لبعض الوقت. نظر إلى الأسفل، يربت على رأس ناجيمي، ثم نظر إلى الجدار أمامه.
"هل كان... بسبب البروتوكول ثمانية وعشرون؟" سأل جو يون أخيرًا، بنبرة كانت أكثر من مجرد إشارة؛ كانت معرفة تامة.
نظرت إليه هاي يونغ بصدمة. "كيف... كيف عرفت؟"
نظر جو يون إلى الأرض، وظهر على وجهه حزن عميق لم تكن تعرفه عنه من قبل، حزن أطفأ بريق الأنمي في عينيه. "أنا لستُ مجرد عالم مساعد يا هاي يونغ.
أنا أكتب بعض هذه البروتوكولات وأُجهز التركيبات الكيميائية لـ'الخلود السائل'. لا أشارك في التنفيذ، لكنني أرى الأوامر، وأرى النتائج في التقارير التي توقعين عليها. كل يوم، أُساعد في بناء وحوش أو... أسوأ."
أمسك جو يون بدميته "ناجيمي" وضمها إلى صدره بقوة، وبدا وكأنه يوشك على البكاء هو الآخر. "هل تعتقدين أنني أحضر ناجيمي لأنني مهووس سخيف فقط؟ أنا أحضرها لأنني إذا لم أفعل، فسأرى وجوههم جميعاً، وجوه من فشلت تجاربهم، في الظلام. أنا أتألم يا هاي يونغ. كل يوم هنا هو عذاب مضاعف؛ عذاب العمل القاسي وعذاب الضمير الذي يصرخ."
انفجر جو يون فجأة بمشاعر مكبوتة: "أنا هنا لأجل الراتب، ولأنهم يملكون حياتي بمعلوماتي، ولأنني جبان جداً لأُغادر. أنا أفهم شعوركِ. نحن كِلانا محبوسان. أنتِ في قفص الإدارة الذهبي، وأنا في قفص المختبرات المليء بالجراثيم."
تحطم الجدار الأخير لهاي يونغ أمام صدق جو يون الذي تجرأ على كشف ضعفه وألمه. لقد كانت تراه طوال الوقت كمرآة مزعجة لجبنها، لكنها الآن رأته كشريك في الباجع. لم تعد تتحمل، فاندفعت إليه، سقطت الدمية من حضنه، ودفنت هاي يونغ وجهها في صدر جو يون، وانفجرت في بكاء هستيري وحرقة لم تعرفها من قبل.
احتضنها جو يون بذراعيه، احتضانًا هادئًا وقويًا، كأنه يحتضن روحه المكسورة. لم يقل شيئًا، فقط تركها تبكي كل العذاب الذي رأته، وتمسك بها بقوة. كانت هي تبكي في صدره، وهو يشد عليها، وكل منهما يجد في الآخر راحة من الرعب الذي يعيشانه.
بعد فترة طويلة، ابتعدت هاي يونغ قليلاً، وعيناها حمراوان ومُتورمتان، لكن نظرتها أصبحت أكثر وضوحًا وقوة.
"ماذا سنفعل يا جو يون؟ لا يمكننا الاستمرار في هذا. لا يمكنني أن أُرى طفلاً آخر يتحول إلى أشلاء،" قالت بصوت مبحوح لكنه حازم.
نظر جو يون إلى عينيها، ووجد فيهما عزيمة لم يرها من قبل. وضع ناجيمي جانباً وأمسك بيدي هاي يونغ بقوة. "لدينا شيئان يا هاي يونغ؛ أنا أعرف كيف يصنعون هذا 'الخلود'، وأنتِ تعرفين كيف يديرون الأموال والاجتماعات. نحن، معاً، نمتلك مفاتيح هذا القفص."
أضاف بصوت منخفض ملؤه الإصرار: "علينا أن نجد حلفاء. أشخاص لديهم القوة الكافية لمواجهة ليو تشنغ وجيشه البيولوجي. لا يمكننا فعل ذلك وحدنا. يجب أن نُسقط هذه الشركة الشريرة، ونُوقف هذا الجنون الذي يرتكبونه باسم الخلود."
"حلفاء..." كررت هاي يونغ الكلمة بتأمل عميق. لم تعد تفكر في أرقام الميزانية، بل في ميزان القوى. "سوف نبحث عنهم يا جو يون. لن أعود إلى تلك الغرفة مرة أخرى لأُشاهد أي بروتوكول آخر. هذا وعد."
شعر جو يون بدفء غير متوقع يغمره. كان هذا بداية تحالف حقيقي، تحالف لم يولد من شغف مشترك بالأنمي، بل من قاسم مشترك أعمق وأكثر ألماً: الرغبة في إنقاذ ما تبقى من إنسانيتهما.
انقطع الشريط الكابوسي لذكريات هاي يونغ بعنف. اهتزت ناطحة السحاب تحت وطأة الاصطدام الهائل الذي أحدثه هجوم باكي بارنز المفاجئ. عادت هاي يونغ، التي كانت قبل لحظات غارقة في صدمة ماضيها مع جو يون، إلى الواقع القاسي والمُشتعل.
كانت هي وجو يون مختبئين الآن بضيق خلف سرير ضخم مُحطم، زُج به إلى جانب الجدار المنهار جراء اختراق باكي. كان الجو مليئًا بغبار الحطام ورائحة البارود، وأصوات المعدن المُمزق والصراخ المختلطة بزمجرة الأسلحة النارية.
في منتصف الحطام، كان أكيهيكو يرقص قتالًا، سيفه يُحدث وميضًا أزرق كهربائيًا في الظلام الجزئي، يتفادى ضربات باكي بارنز الحديدية والرشيقة التي كانت تُحاول سحقه بلا رحمة. كانت معركة فردية منقطعة النظير، لكنها كانت أشبه بمبارزة بين قوة خارقة ميكانيكية وسرعة خارقة.
وفي زاوية أخرى، كانت معركة أخرى أكثر فوضوية تدور بين ليون إس. كينيدي وجيل فالنتاين وريبيكا تشامبرز ضد فرقة الجنود المدججين بالسلاح الذين كانوا قد طوقوا الغرفة. كان الفريق يقاتل بخبرة وتغطية متبادلة، لكن الأعداد كانت غادرة، والموقع كان مفتوحًا عليهم.
"لا يمكنهم الصمود طويلاً، جو يون،" همست هاي يونغ، عيناها مثبتتان على ليون وريبيكا. كانت ترى ليون يطلق آخر رصاصاته، ثم يقذف ببندقيته الفارغة بعيداً، ويلتقط قطعة من الأنقاض كدرع أخير. أما ريبيكا، فكانت تحاول توفير غطاء ناري لجيل التي كانت تخوض قتالًا بالأيدي مع جندي ضخم، لكن ذخيرتها كانت تنفد هي الأخرى.
"لم يتبق لهم شيء،" رد جو يون بصوت هامس، عيناه الواسعتان تعكسان أضواء إطلاق النار المتقطعة. كان يمسك بـ"ناجيمي" تحت إبطه بحركة لا إرادية، لكن الدمية هذه المرة لم تكن مصدر راحة، بل كانت تذكيرًا بماضٍ مؤلم. "إنهم على وشك أن يُقضى عليهم، تماماً كما خطط ليو تشنغ."
في تلك اللحظة، رأى هاي يونغ وجو يون جنديين يتقدمان ببطء نحو ليون وريبيكا، أسلحتهما موجهة بثبات نحو رأسيهما. انتهى القتال؛ كان الفريق على وشك أن يُهزم.
تسللت موجة من البرد إلى قلب هاي يونغ، لكن هذه المرة لم يكن برد خوف، بل كان برداً يُشبه الغضب المُتأجج. لقد هربت من أومبريلا، وتخفت خلف أكيهيكو ورفاقه، ولكنها الآن ترى أمامها رجالاً ونساءً يضحون بأنفسهم ضد نظام القتل الذي عرفته جيداً.
تذكرت هاي يونغ دموعها في الممر البارد، وصوت جو يون وهو يشد عليها، واتفاقهما الهامس: "علينا أن نجد حلفاء. يجب أن نُسقط هذه الشركة الشريرة."
هل كان هذا هو التراجع مرة أخرى؟ أن تختبئ وتترك الحلفاء يُسحقون أمام عينيها؟ أن تترك أرواحًا بريئة أخرى تسقط بيد النظام الذي ناضلت للهروب منه؟
"لا يمكننا الجلوس والاختباء، جو يون،" قالت هاي يونغ، كلماتها قوية ومُقررة بشكل لم تتوقعه هي نفسها. "لقد فررنا من أومبريلا بحثًا عن فرصة لإسقاطها. هؤلاء هم حلفاؤنا، وهذا هو ميدان القتال. إذا لم نتحرك الآن، فلن يكون هناك فرق بيننا وبين العلماء الذين كانوا يُسجلون فشل التجارب ببرود."
نظر جو يون إلى وجهها. كانت عيناها، المُجهدتان والمُتورمتان، تلمعان بعزيمة غير معهودة. ثم نظر إلى الدمية في يده، "ناجيمي"، التي كانت رمزًا لهروبه الهادئ. في تلك اللحظة، رمى جو يون بالدمية بعيداً خلف السرير. لم يعد هناك وقت للهروب إلى الخيال.
"لقد وعدنا بعضنا البعض، هاي يونغ،" قال جو يون، وعيناه الآن مليئتان بالإصرار الذي يضاهي إصرارها. "لن نعود إلى الوراء. لن ندعهم يموتون بسبب جبننا."
كان جو يون وهاي يونغ شخصين عاديين، عالِم ومُديرة، لا يملكان قوى خارقة أو تدريباً عسكرياً. لكنهما كانا يملكان شيئاً أقوى من الرصاص: معرفة النظام وضميرًا مُتأججًا بالرغبة في التكفير عن الصمت الماضي.
بسرعة فائقة ومُفاجئة للجنود، اندفع جو يون وهاي يونغ من خلف السرير. كان تحركهما مفاجئاً للغاية.
"هذا هو الالتهاء الذي نحتاج إليه!" صرخ جو يون، بينما كان يندفع نحو أقرب جندي.
لم يكن جو يون مقاتلاً. لكنه كان عالمًا في مختبرات بيولوجية. أمسك بيده اليمنى قنينة مجهولة صغيرة، كان قد احتفظ بها في جيب معطفه الأبيض، ورمى بها نحو الأرض بين الجنود. انفجرت القنينة مُطلقة سحابة كثيفة من الدخان الأبيض ذي الرائحة النفاذة والمُخدرة.
"ابحثوا عن أي شيء، هاي يونغ! لا تدعيهم يتقدمون!" صرخ جو يون وهو يسعل وسط الدخان.
اندفعت هاي يونغ نحو جندي كان على وشك إطلاق النار على ريبيكا. لم يكن لديها سلاح، لذا أمسكت بكرسي مكتبي مكسور، ووجهت ضربة يائسة إلى ظهر الجندي. لم تكن الضربة قوية، لكنها كانت مُفاجئة وأحدثت خللاً في توازنه، مما جعله يطلق رصاصته في السقف.
"تغطية! الالتهاء قادم من المدنيين!" صرخ قائد الجنود وسط الفوضى.
هذا الاندفاع المفاجئ خلق الفراغ الذي كان ليون وريبيكا وجيل يحتاجونه.
"ما هذا؟ هل جنوا؟" تساءل ليون بصوت عالٍ، وهو يرى هاي يونغ تدفع جنديًا بعيدًا عن ريبيكا.
"لا يهم! إنها فرصتنا!" صرخت ريبيكا، وهي تستغل تحويل انتباه الجنود نحو هاي يونغ وجو يون اللذين كانا يعرقلان حركتهم. رمت ريبيكا آخر قنبلة صوتية لديها نحو مجموعة الجنود المُتشتتة.
انفجرت القنبلة، مما أحدث إرباكًا وصوتًا مدوياً. استغل ليون الإرباك، والتقط مسدس جندي ساقط، ووجه طلقة دقيقة نحو قائد الفرقة، مما أخرجه من القتال. وفي الوقت نفسه، اندفعت جيل فالنتاين نحو الجنود المُتأثرين بالدخان الأبيض، وبدأت تُسقطهم بضربات سريعة وقاضية بالأيدي، مستغلة خبرتها القتالية.
كانت هاي يونغ، وهي تجر جو يون بعيدًا عن فوهة بندقية، ترى ريبيكا تبتسم لها بامتنان سريع ومُركز قبل أن تندفع لتغطية ليون.
لم يعد هاي يونغ وجو يون مجرد أوتاكو ومهووس أنمي مُتخفيين. لقد تحولا إلى مُعارضين فعلّيين، ألقوا بكل حذرهم جانباً، ليدفعوا ثمن حريتهم المُتأخرة بمواجهة الموت. لقد نجحوا في هدفهم: منح حلفائهم بضع ثوانٍ ثمينة للفوز بالمعركة. وبقيت المهمة الآن لليون وريبيكا وجيل لإكمال القضاء على الجنود، بينما كان أكيهيكو لا يزال يُقاتل باكي في مبارزة السيف والمخلب الميكانيكي، في قلب المعركة التي أشعلها الزوجان العاديان.