تستمر روعة اليزابيث في تقديم المساعدة، فبالرغم من أنها أميرة مملكة ليونس، إلا أنها بقيت في الكهف المظلم، بعيدًا عن بريق عالمها، تاركة مملكتها وحيدة لتقف حارسة على قبيلة "الريف"، تلك الكائنات الفضائية الصغيرة والمسالمة، تمامًا كما كان ميليوداس سيفعل.
في داخل الكهف الذي اكتشفه ماركو، كان الهواء باردًا ورطبًا، وكانت الأصوات الوحيدة المسموعة هي همسات قبيلة الريف، وهم يجلسون في حلقات صغيرة، وعيونهم الفضية الكبيرة تلمع بخوف خافت. مرت خمس ساعات ثقيلة، تبدو كخمسة أيام. كانت إليزابيث، بشعرها الأشقر الطويل الذي ينسدل بهدوء على كتفيها، تجلس على حجر مسطح، تحاول أن ترسم ابتسامة هادئة على وجهها لإخفاء قلقها المتزايد.
"يا أميرة، هل تعتقدين أن ماركو بخير؟" سألتها فتاة صغيرة من الريف بصوتها الرقيق الذي يشبه حفيف الأوراق.
تنهدت إليزابيث بلطف، ووضعت يدها على كتف الفتاة بحنان: "لا تقلقي أيتها الصغيرة. ماركو قوي، وهو يعرف المدينة جيدًا. لقد ذهب مع أشخاص أقوياء جدًا مثل بابادوك وبليك. لديهم خططهم وسيعودون قريبًا. نحن فقط نحتاج إلى التحلي بالصبر... وهم يثقون بنا لحماية هذا المكان."
لكن الحقيقة كانت أشد قسوة. كانت إليزابيث تشعر بالجوع الشديد، وإصاباتها الداخلية التي تلقتها في المعارك السابقة تئن في صمت. إنها ليست مقاتلة، وقوتها الوحيدة هي روحها النقية وقدرتها على شفاء الآخرين. وهي هنا بلا طعام، وبلا قوى سحرية يمكن الاعتماد عليها في هذه البيئة الغريبة.
"أعتذر منكم جميعًا،" همست إليزابيث بصدق، وعيناها الزمرديتان تبحثان في وجوههم، "لو كان لديّ القوة الكافية لشفائي تمامًا، لذهبت للبحث عن طعام لكم جميعًا. لكن... لا يمكنني ترككم وحدكم. يجب أن نتمسك ببعضنا البعض، تمامًا كما علمني ميليوداس."
بدأت الكائنات الصغيرة في تبادل الهمسات فيما بينها، مُظهرين المزيد من القلق. الجوع والخوف بدأا ينتشرا بين صفوفهم كالوباء.
فجأة، انقطع صوت الهمس الخفيف بصوت غريب خارج الكهف.
كان صوتًا يشبه قرع الأقدام على الأرض المليئة بالحصى، لكنه ليس صوت ماركو أو أي من أصدقائها. إنه أثقل وأكثر انتظامًا، وكأنه خفقان لقلب معدني عملاق.
"ما هذا الصوت؟" سأل شيخ القبيلة بصوت خافت، واختبأ خلف عمود صخري.
"ابقوا مكانكم ولا تتحركوا،" أمرت إليزابيث بهدوء مصطنع. ثم نهضت ببطء، ممسكة بقطعة خشبية سميكة عثرت عليها، وكأنها سيف. سارت نحو مدخل الكهف، ترفع القطعة الخشبية أمامها بحذر بالغ. قلبها ينبض بعنف، لكنها تذكرت وجه ميليوداس، وقررت أنها لن تتراجع.
تسللت إلى الخارج، وتوقفت عند حافة الغابة. كانت أشعة الشمس الخافتة تتسلل بصعوبة عبر أوراق الشجر الكثيفة. ثم سمعت الصوت مرة أخرى، أقرب هذه المرة، قادمًا من وسط الأشجار أمامها مباشرة.
أخيرًا، بدأت ترى الكيان الذي يصدر الصوت، يتحرك عبر الغطاء النباتي بخطوات محسوبة وغريبة. كان الكيان يقترب، وظهر بوضوح في المنطقة المفتوحة أمامها.
كان المنظر صادمًا ومروعًا، ولا ينتمي إلى أي شيء رأته في مملكة ليونس أو في العالم البشري. كانت تراهن على أنها مرتزقة، لكنها ليست مرتزقة عادية كما تصور ني يان.
الجزء العلوي كان لامرأة شقراء ذات مظهر فاتن وجذاب، ببشرة فاتحة جدًا تكاد تكون مضيئة. كانت عارية الصدر، وشعرها الأشقر الطويل الكثيف ينسدل خلف ظهرها، مختلطًا بأجزاء جسمها السفلية. لكن أكثر ما روع إليزابيث هو الستة عيون الصغيرة الإضافية التي كانت تقع أعلى جبهتها، مرتبة في قوس مروع، مما أعطاها مظهرًا عنكبوتيًا وشيطانيًا في آن واحد.
لكن الصدمة الحقيقية كانت في الجزء السفلي: بطن عنكبوت ضخم ذو لون وردي شاحب-بيج، يشبه صدر حشرة عملاقة. من هذا الجذع الضخم، كانت تخرج ثمانية أطراف غريبة: أربعة أرجل عنكبوتية طويلة ونحيلة تنتهي بمخالب حادة، تمنحها سرعة وحركة غريبة، وأربعة أطراف أخرى أقصر وأكثر سُمكًا، تبدو كأدوات حمل أو زحف، مما يجعلها تتحرك بوزن وثبات غير متوقعين. كانت المرأة ترتدي عباءة سوداء ممزقة تغطي ظهرها وبعض أرجلها، لكنها لم تنجح في إخفاء المنظر المرعب.
توقفت المرأة، ووجهها البشري يعلوه ابتسامة باردة وساخرة.
"يا له من منظر غريب... أميرة ليونس في حراسة الفئران الفضائية،" قالت المرأة بصوت عذب يحمل نبرة معدنية خفيفة، وكأنها تمزق الحرير.
"من أنتِ؟" سألت إليزابيث، والقطعة الخشبية تهتز قليلاً في يدها.
"اسمي ستالك،" أجابت المرأة، أو "المرتزقة العنكبوتية" كما تُلقب. عيونها الستة الإضافية ترمش ببطء، مما يزيد من رعُب المشهد. "وصلتني معلومات دقيقة جدًا من الثمانية عن مكان اختبائكم، يا صديقة قائد الشياطين. كان من السهل جدًا تتبع التوقيع الحراري لهؤلاء الكائنات الصغيرة."
ثم رفعت ستالك أحد أطرافها النحيلة المدببة نحو مدخل الكهف: "لا أريد الإضرار بكِ، أيتها الأميرة. مهمتي هي فقط الريف. أخرجيهم لي الآن، وسأترككِ تعودين إلى عشيقكِ بسلام. صدقيني، أنتِ لا تريدين أن تكوني عقبة في طريقي. أنا مُكلّفة بتسليم هذه الكائنات الفضائية إلى سادة هذا العالم."
اتسعت عينا إليزابيث، وأدركت أن هذه المرأة، بجمالها المشوه وقوتها الواضحة، لا تمزح. إنها مجرد أداة، و"الثمانية" استغلوها للوصول إلى هذا الكهف.
"أنا أرفض،" قالت إليزابيث بثبات غير متوقع، على الرغم من ضعف صوتها. "لن أسمح لكِ بإيذاء أي منهم. لقد وعدت ميليوداس بحمايتهم، وسأفعل."
ضحكت ستالك بصوت أجش. "يا لكِ من ساذجة. هل تعتقدين حقًا أن قطعة الخشب هذه ستوقفني؟ أنا مرتزقة، وأنتِ مجرد فتاة ضعيفة تلعب دور البطلة."
"قوتي ليست في ما أحمله، بل في ما أحميه،" ردت إليزابيث، حاثة نفسها على الوقوف ثابتة.
"يا للروعة... كم هذا ممل!" تمتمت ستالك بتملل، ثم رفعت ذراعها البشرية اليمنى. "إذًا، دعينا نتخطى هذا المشهد الدرامي."
تحركت ستالك بسرعة مذهلة، وكأنها رصاصة انطلقت من قوس. وجهت ضربة خاطفة نحو إليزابيث باستخدام أحد أطرافها العنكبوتية السميكة. لم يكن لدى إليزابيث أي فرصة للرد أو حتى للتفكير.
كانت الضربة مباشرة، على الجانب الأيمن من صدرها، بقوة هائلة وغير متوقعة. شعرت إليزابيث بـ كسر حاد ومؤلم في أضلعها. تدحرج جسدها النحيل بلا قوة، واصطدمت بحدة بجذع شجرة بلوط عملاقة خلفها.
سقطت إليزابيث على الأرض، لاهثة ومشلولة من الألم. نظرت بصعوبة إلى الشجرة، ورأت أنها قد تشققت من قوة الاصطدام. تدفق الدم الدافئ على زاوية فمها، وعيناها بدأت تخونهما، لكنها تمسكت بالوعي.
وقفت ستالك فوقها، بابتسامة انتصار باردة.
"هذا هو الفرق بين المرتزقة والأميرات، أيتها الجميلة. لقد انتهى دوركِ الدرامي،" قالت ستالك، وهي تستعد لتوجيه ضربتها الثانية، هذه المرة نحو مدخل الكهف.
كان جسد إليزابيث ملقى على أرض الغابة الباردة، والدماء الساخنة تختلط بالتراب الرطب. حاولت أن تتنفس، لكن كل شهيق كان يمزق ضلوعها المصابة بألم حاد ومُميت. لم تكن قوتها الجسدية تسمح لها بالوقوف، لكن قوة إرادتها كانت ترفض الاستسلام. داخل الكهف، كانت ترى الكائنات الصغيرة من الريف يرتجفون، وعيونهم الفضية المذعورة تحدق بها.
"لا..." تمتمت إليزابيث، محاولة تحريك يدها والزحف نحو الأمام، محاولة سد الطريق. الكلمات خرجت بصعوبة، مختلطة بسعال مؤلم. "لن أدعكِ... تقتربين منهم."
ابتسمت ستالك تلك الابتسامة الباردة والمصطنعة، ورفعت طرفًا عنكبوتيًا آخر، مدببًا ولامعًا. اقتربت من إليزابيث ببطء، خطواتها موزونة وكأنها تستعرض قوتها.
"يا لليأس الجميل،" قالت ستالك بلهجة ساخرة خالية من أي مشاعر. "أنتِ ضعيفة، أيتها الأميرة. أنتِ كائن هش لا يصلح إلا للزينة أو ليكون سببًا في المعارك. قوتكِ الوحيدة هي في القيمة العاطفية التي تمثلينها للآخرين. أنتِ لستِ هنا للدفاع عنهم، بل أنتِ هنا لتنتظري من يأتي لإنقاذكِ. هل تظنين أن ميليوداس سيأتي حقًا؟ إن كان يهتم، لكان أتى قبل خمس ساعات."
اندفعت ستالك فجأة، ووجهت ضربة موجهة نحو كتف إليزابيث الآخر، ليس لقتلها، بل لتعذيبها وإضعافها. تلقت إليزابيث الضربة، وصدرت عنها صرخة مكتومة، وانقلبت على ظهرها، وهي تحدق بعيونها في الكائن المرعب الذي يقف فوقها.
"انظري إليّ،" أمرت ستالك بصوت هادئ ومُسيطر. "أنا مرتزقة، أتقاضى ثمنًا لتأمين أهداف محددة. أنتِ لستِ هدفًا، ولكنكِ عقبة تافهة. لماذا تصرين على تدمير نفسكِ؟ هل الحياة مع ذلك الشيطان تستحق كل هذا العناء والضعف؟"
"أنتِ لا تفهمين،" نطقت إليزابيث بصوت بالكاد يُسمع، وهي تتنفس بصعوبة. "أنتم... المرتزقة والمليارديرون... ترون القوة في التدمير والسيطرة، أما أنا... أنا أرى القوة في الحماية والتضحية. حتى لو كنت ضعيفة، فإن هذا الضعف هو ما يجعلني أتمسك بالصواب. لن تكوني قادرة على أخذهم، ما دمت أستطيع التنفس."
ردت ستالك بضربة ثالثة خفيفة على ساقها، مما جعلها ترتعش وتصرخ من الألم.
"أوه، يا له من كلام عظيم... لكن الكلام لا يوقف ضربة،" قالت ستالك بازدراء. "الواقع قاسٍ، أيتها الأميرة. في الواقع، الضعف يؤدي إلى الفناء. سأريكِ الآن كيف يكون الفناء."
بدأت ستالك تستعد لتوجيه ضربة قاضية نحو إليزابيث، ضربة تنهي مقاومتها وتجعلها عاجزة عن الحركة تمامًا. كانت إليزابيث مغمضة العينين، تستجمع آخر أنفاسها، ومستعدة لتلقي المصير المحتوم.
لكن في تلك اللحظة، حدث ما لم تتوقعه ستالك على الإطلاق.
تغير المشهد في مدخل الكهف.
فجأة، انطلقت الكائنات الصغيرة من قبيلة الريف، لا يرافقهم سوى اليأس المطلق والشجاعة المستمدة من رؤية منقذتهم تتعرض للضرب المبرح. كانت كائنات صغيرة الحجم وضعيفة للغاية، أقزام خضراء مضيئة لا تتجاوز أحجامها الكف، ولا تملك أي قوة قتالية حقيقية. لكن رؤية الأميرة التي وثقت بهم وأقسمت على حمايتهم تتعرض للتعذيب أيقظت فيهم غضبًا بدائيًا.
اندفع العشرات منهم، كـ موجة خضراء متلألئة من الغضب الصغير.
بدأوا يهاجمون ستالك في محاولة يائسة وغير مجدية:
* العض والخدش: حاول بعضهم عض الأطراف العنكبوتية لستالك، لكن جلدها كان قاسيًا، ولم يشعروا إلا بطعم غبار الغابة.
* الضرب بالحجارة: حمل آخرون الحصى الصغيرة وقطع الأغصان، وبدأوا يضربون بها جسد ستالك العنكبوتي ببطء وضعف، وكأنهم يرمون حبات الرمل على صخرة.
* التشويش: حاول بعضهم التعلق بأطرافها وأرجلها لتقييد حركتها، لكنهم كانوا ضعفاء جدًا، وتهاووا بمجرد أن حركت ستالك أطرافها.
تفاجأت ستالك للحظة، ليس بسبب الألم، بل بسبب الاستفزاز.
"ما هذا الهراء؟" صرخت ستالك بضجر. "هل فقدتم عقولكم أيها القوم التافه؟ أتبدؤون قتالًا تعلمون يقينًا أنه سينتهي بموتكم جميعًا؟"
ضحكت ستالك، وهذه المرة كانت ضحكة حقيقية تنم عن التسلية. بدأت تحرك أطرافها العنكبوتية الطويلة بسرعة هائلة، لا لقتلهم، بل لـ لعب كرة القدم بهم. كانت تتقاذف الكائنات الصغيرة من الريف يمينًا ويسارًا، دون أي مجهود، بينما هي تصرخ ضاحكة من منظرهم الساذج وهم يحاولون ضربها.
"انظري يا أميرة الضعف،" خاطبت ستالك إليزابيث بصوت عالٍ. "هذا هو مصير من يتبعونكِ. مصير الضعفاء هو أن يُسحقوا تحت أقدام الأقوياء. هل ما زلتِ ترين الشجاعة في هذا اليأس؟"
فتحت إليزابيث عينيها بصعوبة، وشاهدت المشهد المروع. دموع اليأس بدأت تتجمع في عينيها. كانت قد فشلت. فشلت في حماية من وثقوا بها. ارتجف جسدها، وتمنت لو كان لديها ذرة من قوة ميليوداس لإنقاذهم.
في تلك اللحظة الحرجة، وبينما كانت ستالك منشغلة بـ "اللعب" مع كائنات الريف الصغيرة، انقطع الهدوء المحيط بالغابة.
لم يكن الصوت قادمًا من الأشجار الكثيفة أو من الكهف. كان صوتًا مألوفًا جدًا، صوتًا يحمل في طياته القوة والتهديد المطلق، ولكنه بالنسبة لإليزابيث، كان صوت الأمان المطلق.
إنه صوت هزة أرضية عنيفة، تلاها صرخة غضب مُدوية جدًا، مزقت هدوء الغابة وموجة صوتية قوية ألقت ببعض كائنات الريف الصغيرة على الأرض.
الصوت كان واضحًا، لا لبس فيه، وكأنه نداء من عمق الجحيم:
"من الذي تجرأ على ضرب إليزابيث؟!"
كان الصوت، بكل غضبه وسلطته، صوت ميليوداس.
توقفت ستالك عن الحركة فجأة، وعيونها الستة الإضافية ووجهها البشري تحولوا إلى حالة من الدهشة الممزوجة بالذعر.
فتحت إليزابيث عينيها على وسعهما، وشعرت بموجة من الدفء والراحة تغمر جسدها بالكامل، رغم الألم. هذا الصوت هو ما عاشت من أجله.
كانت تلك هي اللحظة التي توقفت فيها ستالك عن الحركة، واللحظة التي استشعر فيها الجميع وصول قائد الشياطين.
توقف الزمن للحظة، لم يعد فيها صوت، ولا حركة، سوى الصدى المخيف لصرخة الغضب التي أطلقها ميليوداس. تجمدت ستالك في مكانها، وعيناها العنكبوتيتان الستة تحدقان في نقطة ما خلف الأشجار بكثير، حيث شعرت بالهالة الهائلة وغير المفهومة تقترب بسرعة جنونية. كانت خبرتها كمرتزقة تخبرها بأن هذا الكائن يتجاوز مستوى أي خصم واجهته في هذه البقعة من العالم.
دفعت إليزابيث نفسها بصعوبة إلى وضع الجلوس، وعيناها الزمرديتان تلمعان بالدموع، لكنها الآن دموع راحة لا دموع يأس. كانت تحدق في الاتجاه الذي أتى منه الصوت.
انشقت الأشجار، لا بسبب قوة ميكانيكية، بل بفعل طاقة مظلمة خام اجتاحت طريقها. هبط ميليوداس على الأرض بقوة، مما أحدث حفرة صغيرة في التراب. كان يبدو غاضبًا بشكل لم تره إليزابيث عليه منذ زمن طويل؛ شعره الأشقر يبدو أكثر اضطرابًا، وعيناه الخضراوان تشتعلان بوميض أسود خفيف.
الشيء الأول الذي فعله، قبل أن يلتفت إلى ستالك أو إلى كائنات الريف، هو الاندفاع نحو إليزابيث. انحنى ميليوداس بسرعة فائقة بجوارها، متجاهلاً ألم جسده المستنزف من قتال كارول دانفرز. وضع كفه على ظهرها حيث كانت الضربة، وأغمض عينيه.
توهجت هالة خضراء خافتة حول كف ميليوداس، وهي قوة الشفاء الأثيرية المتبقية لديه. لم تكن قوة شفاء كاملة، لكنها كانت كافية لتهدئة الألم وتثبيت الضلوع المكسورة، مانعًا إياها من التسبب في نزيف داخلي.
"إليزابيث..." همس ميليوداس بصوت خشن ومليء بالعاطفة، وعيناه لا تريان شيئًا سواها. "هل أنتِ بخير؟ من فعل هذا؟"
بمجرد أن أحسّت إليزابيث بالدفء يتدفق من كفه، انهارت جميع حواجزها. مدت ذراعيها، واحتضنت رقبته بقوة رغم ألمها، ودفنت وجهها في كتفه، وبدأت تبكي بمرارة عميقة، ليس بسبب الألم الجسدي، بل بسبب الخوف والوحدة التي عانت منهما خلال الساعات الماضية.
"ميليوداس... ميليوداس... لقد اشتقت إليك،" قالت بصوت مخنوق بالبكاء. "لقد ظننت أنك لن تأتي... لقد خفت كثيرًا..."
"أنا آسف،" قال ميليوداس بهدوء، يشد على احتضانها بحذر. "لقد تأخرت. لن أترككِ مرة أخرى."
انسحبت إليزابيث قليلاً، وجهها الملطخ بالبكاء يضيئه الخجل المعتاد عندما تكون قريبة منه. إنها لا تستطيع أن تخفي مشاعرها تجاهه أبدًا.
هنا، ووسط هذه اللحظة العاطفية، سمح ميليوداس لجانبه الآخر بالتحرر، الجانب الذي تستريح فيه نفسه عندما يشعر بالأمان، جانب قائد الشياطين المنحرف.
ابتعد قليلاً، لكن يده لم تبتعد. بدلًا من ذلك، وضع كفه على صدرها، ثم بدأ يداعب المنطقة بلطف بالغ، يرتسم على وجهه ابتسامة شقية. كانت إليزابيث تخجل وتتلون وجنتاها باللون الأحمر القاني، متناقضة مع الأجواء المتوترة المحيطة بهما.
"آه،" قال ميليوداس بتنهيدة عميقة وساخرة، يغمض عينيه وكأنه يتذوق شرابًا لذيذًا. "كم اشتقت لهذين الصدرين! هل تعلمين يا إليزابيث، القتال ضد كارول لم يكن صعبًا بقدر ما كان صعبًا تحمل فراق هذه النعومة."
زاد خجل إليزابيث، فغطت وجهها بيديها. "ميليوداس! توقف! يوجد غرباء يشاهدون!"
لكن ميليوداس لم يتوقف عند هذا الحد. انزلق إصبعه بجرأة نحو أسفل بطنها، يلمس منطقتها السفلية فوق ثيابها، لمسة سريعة لكنها ذات مغزى. تشنجت إليزابيث، وشعرت بحرارة شديدة تجتاح جسدها.
"أوه، لمسة سريعة للتحقق من أنكِ بخير تمامًا،" قال ميليوداس ببرود مصطنع، لكن ضحكته كانت خبيثة. "أنا قائد الشياطين، أنا لا أخجل من أن أكون منحرفًا. هذا يريح أعصابي بعد كل تلك المعارك."
كانت إليزابيث على وشك أن تغرق في سيل من الخجل وأن توبخه على انحرافه، عندما انكسر هذا المشهد الكوميدي العاطفي بصوت ستالك الذي كان يغلي بالغضب والاستفزاز.
"يا له من تافه حقير! أي نوع من القتال هذا؟ وأي نوع من التقدير هذا لوضعكِ الخطر، أيتها الأميرة؟" صرخت ستالك، وقد استعادت توازنها.
نهض ميليوداس ببطء، متجاهلاً ستالك تمامًا للحظة. ساعد إليزابيث على النهوض، واتكأها على الشجرة المتصدعة، ثم التفت نحو ستالك، والتي كانت تتوقف على بعد خطوات قليلة.
"انتظري لحظة،" قال ميليوداس بجدية مفاجئة، وهي الجدية التي تسبق أي قتال حقيقي له. نظر إلى إليزابيث. "من هذه؟ لم أركِ من قبل. هل هي صديقة؟"
"إنها ستالك،" قالت إليزابيث وهي تحاول استجماع قواها. "إنها مرتزقة من قبل الثمانية. وقد جاءت لـ... لأخذ قوم الريف."
نظر ميليوداس إلى الكائنات الصغيرة الهاربة المرتعشة التي تختبئ داخل الكهف. "الريف؟" سأل باستغراب، "من هؤلاء؟"
شرحت إليزابيث بسرعة وبصوت خافت قصة قبيلة الريف، وأن ماركو هو الذي تركهم هنا لحمايتهم، وأنهم كائنات مسالمة وبحاجة إلى المساعدة.
أومأ ميليوداس برأسه ببطء، وفهم الموقف كاملاً. ثم التفت إلى ستالك، وعيناه تشتعلان بغضب هادئ لكنه مميت.
"إذًا أنتِ من أذيت إليزابيث،" قال ميليوداس. كلماته لم تكن سؤالاً، بل كانت إعلانًا للحكم.
"أجل،" ردت ستالك بتحدٍ، وقد بدأت تستشعر الخطر. "هي من وقفت في طريقي. لكنها الآن مجرد حطام. أنا هنا لأخذ الهدف. وتدخلُك، أيها الشيطان القصير، هو مجرد عقبة ثانوية."
ضحك ميليوداس ضحكة مكتومة، ولكنه لم يتحدث عن قوته أو عن نفسه. بدلاً من ذلك، نظر إلى جسد ستالك الغريب والمركب.
"همم،" قال ميليوداس وهو يدقق النظر في الجزء العلوي من ستالك، الذي كان عاريًا وجميلاً. "سأعترف، شكلك غريب للغاية. أطراف عنكبوتية، وعيون إضافية، وجزء علوي عارٍ تمامًا. ألا تشعرين بأي حياء؟"
غضبت ستالك بشدة من هذه السخرية الوقحة: "ما شأنك أيها الشيطان التافه بملابسي؟ أنا لستُ من هذا العالم، وهذا جزء من ثقافتنا الفضائية، حيث القوة هي الحياء، والضعف هو العار! وهذا ليس وقتًا للمزاح!"
"ثقافة فضائية، إذن،" كرر ميليوداس بابتسامة خبيثة. "جميل. لأنني أجدُكِ مثيرة للفضول، لكونكِ تقتربين من درجة انحرافي. سأخبركِ بشيء عن الثقافة: لا تضربي الفتاة التي يحبها قائد الشياطين أبدًا."
سحب ميليوداس سيفه، لوستفاين، من غمده المتدلي من ظهره. هذه المرة لم يكن هناك مجال للعب. تحولت تعابير وجهه إلى الجدية المطلقة، مع هالة مظلمة خفيفة بدأت تحيط به.
"وداعًا، أيتها المرتزقة ذات الثقافة الفضائية،" قال ميليوداس، وعيناه لا ترمشان. "لن أتعامل معكِ ببطء أو برفق. إنها مسألة كرامة وإيذاء حبيبتي."
ردت ستالك بسحب عباءتها السوداء، وكشفت عن أطرافها الثمانية بالكامل، وهي تقف في وضع استعداد هجومي، وقد أدركت أن هذا القتال سيكون قتال حياتها.
"سأجعلك تندم على هذه الوقاحة أيها الشيطان!" صرخت ستالك، وهي تستعد للانقضاض عليه.
وفي تلك اللحظة، بدأ القتال.
بمجرد أن أعلن ميليوداس بدء القتال، لم تمنحه ستالك أي فرصة. لم تكن المرتزقة تملك رفاهية التقييم البطيء، فاندفعت نحوه بأطرافها الثمانية في حَراك شبيه بالعاصفة. كان تحركها ميكانيكيًا وغريبًا؛ حيث كانت الأرجل الطويلة النحيلة تدفعها للأمام بسرعة هائلة، بينما كانت الأطراف السميكة تُستخدم كدروع واقية وكمخالب تمزيق.
"سأقطع رأسك أيها القصير!" صرخت ستالك، وحركة يديها البشرية كانت تُنسق مع حركات أطرافها العنكبوتية، مما جعل هجومها يبدو وكأنه موجة من السيوف المدببة التي تقترب من ميليوداس في لمح البصر.
وقف ميليوداس في مكانه، صامتًا، ولم يظهر على وجهه أي تعبير يوحي بالخوف أو حتى بالجهد. كان يراقب الهجوم، ولكن ببطء شديد، كأن الزمن تباطأ حوله. كانت هالته المظلمة الخفيفة تتكثف، ولوستفاين (سيفه) في يده يلمع بوميض خافت.
عندما وصلت ستالك إلى مدى بوصات قليلة، وشعر ميليوداس بحرارة هجومها الفضائي، تحرك.
لم تكن حركته مجرد سرعة، بل كانت تجسيدًا لـ "الغياب". لم يرَ أحد ميليوداس يتحرك، بل رآه فقط قد انتقل من مكانه إلى الجانب الأيمن من ستالك، متجنبًا جميع الأطراف الثمانية والمخالب التي كانت تستهدف جسده.
"بطيئة..." تمتم ميليوداس بنبرة محايدة، كانت كفيلة بإهانة ستالك بعمق.
أدركت ستالك في لحظة الرعب تلك أن قوتها الهائلة وسرعتها الفائقة بالنسبة للمعايير البشرية والبيولوجية لم تعنِ شيئًا أمام قائد الشياطين. كان الأمر أشبه بالدفاع ضد ظل أكثر منه ضد جسد مادي.
حاولت ستالك تعديل هجومها على الفور، واستخدمت طرفين سميكين للدوران حول محورها ومحاولة سحق ميليوداس. في هذه الأثناء، كان ميليوداس قد رفع لوستفاين.
لم يضرب ميليوداس جسدها. بل وجه ضربة أفقية سريعة جدًا، لم تكن تستهدف اللحم أو الهيكل، بل استهدفت المانا أو الطاقة الكامنة في جسد المرتزقة.
"انعكاس كامل! (Full Counter)"
بالرغم من أن ستالك لم تطلق هجومًا سحريًا أو طاقيًا مباشرًا، فإن الضربة التي وجهها ميليوداس بسيفه امتصت القوة الحركية الهائلة التي كانت ستالك تولدها للدوران والسحق، وضاعفتها مائة ضعف، ثم أعادت توجيهها إلى ستالك نفسها كقوة ضغط داخلية.
كانت النتيجة مدوية.
صرخت ستالك صرخة ليست من صرعات الغضب، بل من الألم النقي، شعرت وكأن عظامها الداخلية تتفتت تحت ضغط غير مرئي. دفعها الانفجار الطاقي المرتد بقوة هائلة. لم تسقط نحو الوراء، بل انغمست في الأرض حيث هبطت، ثم انزلقت عدة أمتار، تاركة أخدودًا عميقًا في تراب الغابة.
توقفت ستالك عن الحركة، وهي لاهثة، ووجهها البشري الشاحب يعلوه تعبير الصدمة المطلقة. الأطراف العنكبوتية ارتجفت، وقد تحطمت عدة مفاصل منها بالفعل من قوة الانعكاس.
أما ميليوداس، فظل واقفًا في نفس النقطة التي كان بها، وكأن شيئًا لم يحدث، يعيد لوستفاين إلى وضعه المائل بجوار جسده.
"قلت لكِ، لن أتعامل معكِ بلطف،" قال ميليوداس، وعيناه لا تزالان تشعان بوميض أسود خفيف. "أنا مستنزف من القتال، وليس لديّ وقت أضيعه في اختبار قوتكِ التافهة."
نهضت ستالك بصعوبة، متجاهلة الألم المبرح. الدم بدأ يتسرب من فمها، وهي الآن تدرك الفارق الهائل في القوة. هذا ليس قتالًا، إنه إعدام بطيء ومذل.
"لا يمكن... أن تكون بهذه القوة!" تمتمت ستالك، ثم بدأت تحول اليأس إلى غضب جامح. "أنت تستهزئ بي! أنا مرتزقة فضائية مدربة على قتل الكيانات القوية!"
جمعت ستالك قواها، وركزت طاقتها البيولوجية والفضائية المتبقية. انفجرت المنطقة المحيطة بها في ضوء وردي باهت، وبدأت تُطلق قذائف طاقة مكثفة من أطرافها السميكة نحو ميليوداس، قذائف سريعة وقادرة على إذابة الصخور.
لم يتحرك ميليوداس. ظل واقفًا، ورفع سيفه.
تلقى ميليوداس القذائف الطاقية بصدر رحب. عندما لامست القذائف سيف لوستفاين، لم تنفجر، بل انطفأت على الفور، ثم عادت إلى ستالك كـ أشعة ظلام نقية ضُوعفت قوتها بعنف جنوني.
كان هذا هو هجوم "التدمير المعكوس" المطلق.
اجتاحت أشعة الظلام ستالك، فصرخت صرخة أخيرة مجنونة. لكن هذه المرة، لم يكن الارتداد طاقيًا، بل كان تدميرًا للمادة نفسها. تفكك جزء من بطنها العنكبوتي، وتناثرت بقايا درعها وعباءتها السوداء في الهواء.
سقطت ستالك على ركبتيها، جسدها ينزف من كل نقطة. كانت عيناها الستة تبرقان بالخوف والندم.
توقف ميليوداس عن استخدام انعكاس كامل. مشى ببطء نحو المرتزقة المنهارة، ولوستفاين في يده يعكس ضوء الشمس.
"أنتِ ضعيفة،" قال ميليوداس ببرود غير مسبوق، وكأنه يتحدث عن حالة الطقس. "ضعفكِ ليس في بنيتكِ، بل في غروركِ، وفي اعتمادكِ على القوة السهلة دون فهم للروح. أنتِ لا تعرفين معنى الحماية، لذلك لا يمكنكِ الفوز أبدًا على من يقاتلون من أجلها."
نظر ميليوداس إلى إليزابيث الواقفة متكئة على الشجرة، والتي كانت تراقبه بصمت وإعجاب مطلقين.
"هذه الفتاة، التي ضربتها بوقاحة، قوتها الحقيقية هي قدرتها على جعل الآخرين أقوياء. لكن أنتِ،" قال ميليوداس، مشيرًا بإصبعه نحو ستالك، "ستبقين مرتزقة ذليلة تخدم الأقوياء، لأنكِ لا تملكين شيئًا لتحميه حقًا."
كانت ستالك تحاول أن تتكلم، أن تتوسل، لكن الكلمات لم تخرج سوى كهمسات متقطعة.
"الآن، أخبريني بكل ما تعرفينه عن الثمانية، ومن أرسلكِ تحديدًا، قبل أن أُنهي هذه المحادثة،" أمر ميليوداس. "إليزابيث مصابة، وأنا لستُ في مزاج لانتظار الرد."