لفظت ستالك صرخة مكتومة، وقد سُحقت أطرافها العنكبوتية الثمانية بفعل قوة الانعكاس الكامل المضاعفة التي وجهها إليها ميليوداس. لم تمت المرتزقة الفضائية، بل تحطمت دفاعاتها الميكانيكية، وتحولت هياكلها إلى كتلة من المعدن الملتوي تحت ضغط القوة الهائلة. كانت الآن جسداً مشلولاً، مقيدة بأشلائها الميكانيكية التي لا تستطيع الحركة، لكنها لا تزال حية، وتتأوه بألم تحت حطامها.
كان ميليوداس قد تراجع عن الضربة النهائية، مكتفياً بضمان شللها الكامل، ثم عاد إلى إليزابيث ليضمد جراحها الطفيفة بقوة شفائية شيطانية خافتة، فيما بدا أن الغابة استعادت هدوءها الزائف.
"لا خوف عليكِ بعد اليوم، يا إليزابيث،" همس ميليوداس، وعيناه الخضراوان تراقبان المحيط بحذر.
لكن الهدوء كان هشاً، وسرعان ما اهتزت الأرض تحت أقدامهما ليس بزلزال طبيعي، بل بذبذبة كهرومغناطيسية مُنظمة، تبعها طنين متواصل وموحد لأجهزة قديمة تعمل بكامل طاقتها.
رفع ميليوداس رأسه ببطء، وتصلبت ملامحه.
"يا إلهي، ما هذا؟" همست إليزابيث، وهي تشاهد ظهور تشكيلات منتظمة من بين الأشجار.
لقد وصل سرب العساكر التلفزيونيين (The TV Corps). كانوا أكثر من ستين جندياً، يرتدون زياً عسكرياً قديماً، ورؤوسهم عبارة عن شاشات تلفزيون ضخمة (CRT)، تُصدر وميضاً أزرق بارداً يُضيء ظلال الغابة. حملوا قذائف معدنية فارغة على ظهورهم، مما أكد مهمتهم: إرجاع قبيلة الريف إلى الأسر.
شعر ميليوداس بعبء ضخم يضغط على كتفيه. كان عليه الاختيار بين واجبين متناقضين في آنٍ واحد:
* واجب التحالف والمصير: كان يعلم أن كل ثانية يمكثها هنا تزيد من خطورة مهمة بليك لإغلاق البوابات، وتُعطي كارول دانفرز فرصة للتعافي من تشتيت مونو ونيرو وتحديد موقع بانر. كان عليه أن يتحرك نحو مركز الصراع الأكبر.
* واجب الشرف وحماية الضعيف: كان الريف قد قاتل من أجله، وهم الآن يواجهون الإبادة الباردة. إن التخلي عنهم كان يعني التخلي عن شرف القائد.
"ماذا سنفعل؟" سألت إليزابيث، وهي ترى وجوه رجال القبيلة تُظلم باليأس.
لم يستطع ميليوداس الإجابة. كان الصراع الداخلي يستهلكه.
لم يُمهلهم شيخ القبيلة وقتاً للقرار. لقد رأى الأقفاص الفارغة، وتذكر سنوات الظلم. كانت هذه هي اللحظة الأخيرة للكرامة.
رفع الشيخ عصاه الخشبية التي كان يتكئ عليها، وصرخ بصوت يحمل ثقل السنين:
"يا أبناء الريف! هذا هو الثمن الأخير للحرية! لن نعود إلى الظلام! لندعهم يرون أن الروح لا يمكن سجنها!"
ودون تردد، اندفعت القبيلة بأكملها في هجوم يائس ومنظم نحو تشكيل الجنود المُتقدم. لم يكن لديهم أسلحة حقيقية؛ كانوا يحملون عصيًا شجرية سميكة، وصخورًا حادة، وأغصاناً مشتعلة. كانت هذه هي أقصى درجات المقاومة اليائسة ضد التكنولوجيا المبرمجة.
لم يبدُ على العساكر التلفزيونيين أي رد فعل عاطفي. شاشاتهم تُومض بلا مبالاة، ورفعوا بنادقهم دفعة واحدة، مطلقين "الجدار الضوئي" الساحق: وابل ثابت ومُركز من الأشعة الزرقاء القاتلة.
اصطدمت الصفوف الأمامية للريف بالموجة الطاقية المدمرة. سقطت الأجساد في اللحظة التي لمستها الأشعة، وتفحمت وتحولت إلى غبار في صمت مروع. كانت عملية إبادة منهجية؛ الجنود التلفزيونيون يتقدمون بخطوات منتظمة، لا يخطئون هدفاً.
في تلك اللحظة، تحرر ميليوداس من قيود واجبه الأكبر. إن ترك هؤلاء الأبرياء يُسحقون لم يكن ليُساعد بليك، بل كان ليُحطّم روحه.
زمجر ميليوداس بغضب رهيب هز أركان الغابة. "لن يحدث هذا على مرأى مني!"
لم يستخدم ميليوداس سيفه، ولم يطلق قوة شيطانية قاتلة خوفاً على إليزابيث. بل استخدم جسده وسرعته كأداة تكتيكية بحتة.
ضرب الأرض بقدمه بتركيز لا يُصدق، مُطلقاً موجة صدمة أرضية سوداء دقيقة التوجيه. لم تهدف للقتل، بل لكسر التشكيل.
اندفعت الموجة الأرضية نحو تشكيل العساكر. تحطمت التشكيلات الهندسية، واهتزت رؤوس التلفاز بعنف، وسقط عدد كبير منهم على الأرض في حالة من الفشل الكهرومغناطيسي؛ تكسرت شاشات بعضهم، وانطفأت تماماً.
لقد تكسر جدار الإطلاق الضوئي المميت.
انطلق ميليوداس كالصاعقة، تاركاً إليزابيث تحت حماية المتبقين. لم يكن يقاتل من أجل القتل؛ كان يقاتل من أجل تحطيم الرؤوس التلفزيونية.
كانت لكماته موجَّهة بدقة ميكانيكية فائقة، لا نحو الأجساد المدرعة، بل نحو شاشات التلفاز الهشة. كان يتفادى الأشعة الزرقاء المتناثرة بمناورات مستحيلة، ثم يوجه ضربة واحدة قاضية نحو الهدف الحساس.
تحطمت شاشة تلفزيون بعد أخرى تحت قبضتيه، مُصدرة أصوات تشويش ثم خفوتاً نهائياً.
أصبح ميليوداس درعاً بشرياً حياً، يفتح ثغرات واسعة للناجين من قبيلة الريف للاندفاع من خلالها ومواصلة مقاومتهم اليائسة.
كانت القبيلة الآن تقاتل بشجاعة أكبر. لقد انقضوا على العساكر الساقطين، يضربون رؤوسهم التلفزيونية بالحجارة والمعاول، يضمنون عدم عودتهم للحركة. كان ميليوداس يحوّل المذبحة إلى معركة، ببطء مؤلم، وبخسائر فادحة في صفوف الريف.
في هذه الفوضى، وبينما كان ميليوداس مُحاطاً بالعشرات من الأعداء المنهارين والمنتظمين على حد سواء، لم يلاحظ أي شيء آخر قادم من الأفق. كان تركيزه مُنحصراً بالكامل على حماية إليزابيث وقبيلة الريف التي وضعت حياتها بين يديه.
كان ميليوداس قد اخترق جدار الإطلاق الأولي للعساكر التلفزيونيين، لكنه أدرك بسرعة أن الفوضى التي أحدثها لم تكن سوى استراحة قصيرة. كانت قوات العدو تفوقهم عدداً بأضعاف مضاعفة، والجنود الذين سقطت شاشاتهم لم يكونوا سوى نسبة ضئيلة من السرب. كانت الآلات المبرمجة قد أعادت تنظيم صفوفها، وواصلت التقدم بخطوات منتظمة، متجاهلة الجثث المتفحمة والمحطمة لزملائها.
كان ميليوداس يقاتل في حالة من التركيز المطلق، محولاً جسده إلى آلة تكتيكية لا تُخطئ. كان يندفع في خطوط مستقيمة ومائلة، مستخدماً سرعته الشيطانية للوصول إلى العسكريين الأقرب إلى إليزابيث والناجين. كانت كل لكمة، كل ركلة، موجهة بدقة ميليمترية إلى الشاشة التي تُشكل رأس الجندي. كانت رؤوس التلفاز تنفجر في شرر وميض، تسقط كالدمى التي انقطع خيطها. لكنه لم يكن يقتل البشر، كان يوقف وظيفة الآلة القتالية، مما أضفى على قتاله طابعاً بارداً ومُحبطاً.
كانت قبيلة الريف تقاتل إلى جانبه بضراوة يائسة. لقد أيقظت صرخة شيخ القبيلة فيهم إرادة البقاء الأخيرة. لم يكونوا محاربين، بل مجرد فلاحين ومربي ماشية، لكنهم استخدموا أدواتهم البدائية بفعالية غريزية. اندفعوا بين الجنود الذين شتت ميليوداس انتباههم، مستغلين اللحظات التي تتوقف فيها شاشاتهم عن الوميض بسبب الضربة.
كان صبي صغير، بالكاد يبلغ العاشرة، يحمل صخرة أكبر من حجم رأسه، ويقذفها بقوة نحو ساق جندي تلفزيوني كان يوجه شعاعه نحو امرأة من القبيلة. لم تتضرر الساق، لكن حركة الجندي اهتزت، مما سمح لامرأة القبيلة بالاندفاع وضرب شاشته بعصا غليظة حتى تحطمت.
صرخت امرأة أخرى، وكانت تحمل طفلها على ظهرها، وهي تضرب جندياً ساقطاً بفأس قديم، وتواصل صراخها بصوتٍ مبحوح: "لن تأخذوه! لن يعود إلى الظلام!"
كانت هذه هي الواقعية البشعة للحرب غير المتكافئة. لم يكن قتالاً بطولياً؛ كان قتالاً يائساً، حيث يضحي العشرات من الأبرياء بحياتهم لإحداث ضرر بسيط في صفوف عدو لا يشعر ولا يتأثر.
تقدمت صفوف العساكر التلفزيونيين الثانية، وبدأت تُطلق وابلها الطاقي الجديد، مُشكلةً شبكة من الأشعة الزرقاء القاتلة. كان ميليوداس محاصراً في منتصف الاشتباك، يُضطر لاستخدام سرعته في حركة دوران مستمرة، مما جعله يواجه تحدياً جديداً: لم يعد قادراً على تركيز ضرباته في نقطة واحدة.
نظر ميليوداس إلى إليزابيث، التي كانت تحتمي خلف جذع شجرة ضخم، ترتعش وهي تشاهد المذبحة من حولها. لقد رأى الخوف في عينيها، ورأى الدماء على أيدي رجال الريف.
صرخ ميليوداس بصوت قوي، محاولاً أن يخترق ضجيج الطنين الكهرومغناطيسي: "يا أهل الريف! تراجعوا! لا يمكنكم تحمل هذا! تحركوا نحو الغابة العميقة!"
لكن الشيخ، الذي كان يقاتل بجانبه بعصا مكسورة، رفض التراجع. توقف للحظة، وعيناه العجوزتان كانتا تلمعان بدموع الغضب، وصرخ في وجه ميليوداس:
"أيها القائد! نحن نعرف ما ينتظرنا في الغابة العميقة! الجوع! الموت البطيء! هؤلاء... هؤلاء يمثلون اليأس الذي نعيشه منذ عقود! إن متنا هنا، فسنموت مقاتلين لأول مرة في حياتنا! لا تأمرنا بالخضوع ثانية!"
شعر ميليوداس بضربة قوية في كتفه، كانت لكمة من عسكري تلفزيوني تمكن من الإفلات من دائرة حركته. لم يتأذَّ جسده الشيطاني، لكنه شعر بالغضب يعتصر قلبه. لم يكن الغضب موجهاً للعساكر، بل للواقع الذي أجبر هؤلاء الأبرياء على هذا الخيار.
عاد ميليوداس للقتال، لكنه غيّر تكتيكه. لم يعد يهاجم نقاط ضعف الشاشات بشكل فردي. بل استخدم قوة اندفاعه الكاملة لتدمير تشكيلاتهم. كان يدفع الجنود بقوة هائلة نحو بعضهم البعض، فتحطمت أجسادهم المعدنية المتصلبة تحت الضغط، وتحولت إلى خردة مشتتة.
"علينا أن نُحدث فوضى شاملة!" صرخ ميليوداس، وهو يدفع بخمسة جنود دفعة واحدة نحو صخرة ضخمة فتحطموا عليها. "استغلوا الفوضى للهرب! أين الأطفال! أخرجوا الأطفال أولاً!"
اندفعت امرأة شابة، ترتدي رداءً ممزقاً، نحو ميليوداس، وهي تنحني له باحترام بالغ في خضم القتال.
"يا قائدنا! الأطفال الآن في الممر السري الذي كنا نستخدمه! لا يمكننا الهرب، لكننا سنضمن حمايتك!"
كان هذا تصميماً مروعاً. لقد قررت القبيلة بأكملها أن تكون هي طعم الموت الأخير لضمان بقاء قائدهم، الذي يمثل أملهم في الحرية الأبدية.
اجتمع حوالي خمسة عشر جندياً تلفزيونياً، كانوا الأقوى والأكثر تنظيماً، وشكلوا حول ميليوداس دائرة نارية. بدأوا في إطلاق أشعة زرقاء متتالية نحو نقطة واحدة، محاولين اختراق دفاعاته.
استخدم ميليوداس آخر ما تبقى لديه من قوة، مشكلاً حوله درعاً شيطانياً أسود لم يكن قوياً كالدرع الكامل، بل كان مجرد غلاف طاقي خفيف لحماية نفسه من الاختراق المباشر.
في تلك اللحظة الحرجة، وبينما كان محاصراً، رأى ميليوداس الشيخ العجوز، الذي كان لا يزال يقاتل بعصاه، يندفع نحو حافة الدائرة النارية، ثم يلقي بنفسه على جندي كان على وشك إطلاق شعاع قاتل نحو رأس ميليوداس. اصطدم الشعاع بالشيخ بدلاً من ميليوداس، وتحول جسد الشيخ إلى رماد متفحم.
صرخ ميليوداس بغضب، كان غضباً إنسانياً يطغى على هدوئه الشيطاني. "لا!"
في لحظة انفجار الغضب هذه، تلاشت الدفاعات. اندفع ميليوداس بعنف لا مثيل له، وكسر الدائرة النارية بضربة واحدة شقت الأرض تحت أقدام الجنود.
تحولت المعركة إلى فوضى عارمة. كان ميليوداس يتحرك بسرعة مذهلة، يمزق صفوف الجنود، لكنه كان يدرك أن كل ضربة يوجهها تعني حياة ضاعت من الريف لتغطي تحركه.
استمر القتال، قتال يائس ومرير، حيث كانت أصوات تحطم الشاشات تمتزج بصرخات الألم الصامتة لقبيلة الريف. كان العدو كثيراً جداً، والأمل يتضاءل ببطء مؤلم.
كان ميليوداس قد اخترق خطوط الدفاع، يده اليسرى تحمل بقايا جندي تلفزيوني محطم، بينما كانت قبضة يده اليمنى موجهة لضرب جندي آخر. كان التنفس في صفوف قبيلة الريف بالكاد يُسمع، فقد خسروا الكثير، لكنهم لم يتراجعوا. كانت أصوات تحطم الشاشات تهيمن على الغابة.
فجأة، توقفت المعركة.
صدر صوتٌ حاد ومُتقطع، أشبه بتشويش راديو قديم يُحاول أن يجد تردده. لم يكن هذا صوت جندي عادي. توقفت جميع العساكر التلفزيونيين عن إطلاق النار وتصلبت في مكانها، بينما كان الوميض الأزرق على شاشاتهم يتحول إلى نمط هندسي ثابت.
ظهر من خلف صفوف الجنود عسكري يختلف عن البقية. كان أطول قامة، وزيه العسكري أكثر نظافة وتفصيلاً. كان رأسه عبارة عن شاشة عرض مسطحة (HD)، أكبر وأكثر وضوحاً من شاشات CRT القديمة التي يحملها الجنود العاديون. كانت شاشته تعرض نمطاً دقيقاً من الألوان الرصينة، لا تحمل أي تشويش أو غضب، بل هدوءاً بارداً.
"أيها القائد ميليوداس،" نطق الجندي الجديد بصوت إلكتروني واضح، مُحمل بلهجة رسمية وثقيلة. "أرجو أن تعذر هذا التدخل. لكن من غير المنطقي تدمير القوة النارية هكذا. يجب أن نتحدث."
تراجع ميليوداس خطوة للوراء، يسقط بقايا الجندي المحطم من يده، ويلقي نظرة سريعة على إليزابيث، التي كانت تراقب المشهد بخوف، ومن ثم على جنود الريف الذين التقطوا أنفاسهم.
"من أنت؟" سأل ميليوداس، صوته يحمل تهديداً مكبوتاً. "وما هذه المهزلة؟ إذا كنت تريد التفاوض على الأسر، فلتوفر على نفسك الوقت."
تقدم النائب خطوة للأمام. "اسمي هو المرتبة السابعة فيلق ألفا، وأنا نائب القائد لهذا السرب. وقبل أن تطلق عليّ لقب روبوت، يجب أن تفهم طبيعتنا. انظر إلينا يا ميليوداس، نحن لسنا مجرد آلات. هذا الاعتقاد هو ما يجعلك تفقد فرصتك الوحيرة للتفوق في هذه الحرب الأزلية."
توقفت شاشة النائب لثوانٍ، ثم ظهر عليها رمز توضيحي هندسي معقد.
"نحن كائنات عضوية-ميكانيكية، تنتمي إلى ما يُعرف بـ مملكة الروبوتات. أجسادنا حية، وعقولنا بيولوجية، لكنها مُدعمة بتركيبات ميكانيكية متطورة. ورأسنا هذا، الشاشة التي تراها، ليست غطاءً؛ إنها امتداد مباشر لعقلنا الواعي. هي مرآة لا تكذب أبداً لحالتنا النفسية. نحن نحب ونغضب ونخاف وننهار، لكن كل ذلك يُترجم بصرياً."
نظر النائب إلى ميليوداس، وكانت شاشته تعرض الآن خريطة نجوم معقدة جداً.
"لقد جئنا إليك لأنك تقاتل في الظلام، ولا تفهم سياق هذا النزاع. هذا الصراع الدائر حولك ليس مجرد خلاف بسيط بين الفصائل. إنه حرب كونية عمرها آلاف السنين، حرب بلا نهاية، وهي السبب الحقيقي وراء وجود هذه الكيانات التي تُسمى قبيلة الريف هنا."
اتسعت عينا ميليوداس قليلاً، لكنه لم يغير تعابيره. "تكلم بوضوح. ما علاقة هؤلاء الأبرياء بحربك الكونية؟"
بدأ النائب يشرح، وصوته هادئ ومُفصل، بينما كانت شاشته تعرض صوراً بيانية ثلاثية الأبعاد متحركة:
"هناك فصيلان رئيسيان في هذه الحرب التي أصبحت لا نهائية: كوكب لاندفول (Landfall)، الذي يسكنه قوم متطورون يمتلكون أجنحة ويدعمون التكنولوجيا. وفي المقابل، هناك قمر وريث (Wreath)، الذي يسكنه قوم بقرون، يعتمدون على السحر والفطرة بدلاً من التكنولوجيا، وهؤلاء الذين تسميهم قبيلة الريف هم من سكان هذا القمر."
"في البداية، كان الصراع محلياً، يدور بين لاندفول وقمره، لكن الطرفين أدركا أن استمرار القتال سيدمر موطنهما المشترك بشكل كامل، فهما يدوران في نظام مرتبط. فكان القرار: نقل الحرب إلى مجرات أخرى. تحولت المعركة إلى حرب بالوكالة عبر مئات الكواكب والشعوب، تدمير بيوت الآخرين بدلاً من بيوتنا. والآن، يا ميليوداس، كوكب الأرض متحالف مع لاندفول. هذا هو سبب تجارتهم بـ أبناء وريث، واستخدامهم كوقود أو كعمال عبيد."
شعر ميليوداس بنبضات قلبه تتسارع. لم يكن يقاتل من أجل إنقاذ مجموعة من العبيد، بل كان يقاتل في حرب كونية لا يفهم أطرافها.
"لكن هذا ليس الجزء الأهم يا قائد الشياطين،" تابع النائب، وكانت شاشته تعرض صوراً متتالية لشركات وأبراج إعلامية وحشود من السياسيين. "الأهم هو أن هذه الحرب تحولت إلى صناعة مُربحة. شركات السلاح، الإعلام، السياسيون، الملوك، وحتى بعض المؤسسات الدينية؛ جميعهم لديهم مصلحة في بقاء هذا الصراع مُشتعلاً. إنها ليست قتالاً بين الخير والشر، بل هي نظام كامل يقوم على الدم. ونحن، مملكة الروبوتات، نحن أدواتهم الأكثر فعالية."
"هل أنتم مجرد أدوات؟" سأل ميليوداس بسخرية، "ما الدافع وراء قتالكم؟"
تجمدت شاشة النائب على صورة درع ملكي فخم. "نحن، كما قلت، مملكة ملكية بالكامل، لها ملكها وأمراؤها ونبلاؤها. نحن تحالفنا مع لاندفول لأنهم وعدونا بالنفوذ والتكنولوجيا. نحن نتمتع بأقوى جيش وتقنية متفوقة، ونُستخدم كقوة هجومية أولى. نحن نمثل الفصيل الذي يقاتل دون أن يفهم لماذا، عالقون داخل نظام لا يمكننا الخروج منه. الجنود الذين تراهم، بشاشاتهم القديمة، هم الطبقة الدنيا، لا يفهمون شيئاً سوى الأوامر."
رفع ميليوداس حاجبه. "إذا كنتم كائنات عاطفية كما تزعم، لماذا لا تستطيعون الخروج من هذه الدائرة؟ أين مشاعركم تجاه هذه المذبحة؟"
ظهر على شاشة النائب صورة لوجه طفل يبكي، كانت صورة فوتوغرافية واضحة ومؤثرة، ثم اختفت بسرعة. "نحن نشعر يا ميليوداس. لكن إظهار المشاعر يعني الضعف، والضعف يعني الموت في هذا النظام الملكي القاسي. إنني الآن أحاول أن أُظهر لك العواطف، لكي تفهم الوضع بوضوح، لا لكي تُشفق عليّ."
أومأ ميليوداس ببطء، فهمه لتعقيدات المشهد اتسع بشكل مروع. ثم سأل: "ماذا تريد مني تحديداً بعد كل هذا الشرح المفصل؟"
تحولت شاشة النائب إلى صورة لعملة معدنية متلألئة، ترمز للثراء والنفوذ. "أريد منك أن تنضم إلينا يا قائد الشياطين. انظر إلى قوتك، إنها هائلة. لا تضعها في خدمة قضية خاسرة أو فصيل جاهل. انضم إلى مملكة الروبوتات. سنمنحك العيش الذي تحلم به، قوة لا حدود لها، وسلطة على عوالم بأكملها. حياتك ستكون حلماً، خالياً من العوز والقتال المُنكر. كل ما عليك فعله... هو أن تقبض على قبيلة الريف فوراً، وتُنهي هذا الاشتباك."
نظر ميليوداس خلفه، إلى وجوه رجال الريف المليئة بالدم والإصرار، ثم إلى إليزابيث التي كانت تراقبه بصمت.
"ما عرضك هذا سوى قفص أكبر،" قال ميليوداس، صوته يعكس رفضاً مطلقاً وبارداً. "أنا لا أُتاجر بحرية الأبرياء من أجل السلطة. حياتي ليست للبيع، ولا شرفي. سأبقى على الجانب الذي أُدافع عنه."
اختفت صورة العملة الذهبية من شاشة النائب، وحل محلها رمز هندسي أحمر متقطع، رمز للغضب والاستياء الشديد.
"إذن... هذا هو قرارك،" قال النائب، وصوته أصبح خالياً من أي محاولة للتفاوض، يتحول إلى أمر إلكتروني صارم. "أنت لا تفهم طبيعة هذه القوة التي ترفضها. إذا كنت لن تكون حليفاً، فسوف تكون عقبة."
أومأ ميليوداس وهو يستعد للقتال. "كنت أعلم أن هذا هو المصير الوحيد بيننا."
تحولت شاشة النائب إلى صورة لمقطع فيديو قتالي مُتسارع، دلالة على الاستعداد الأقصى للمعركة، ثم صرخ النائب بصوت إلكتروني حاد: "استعملوا القوة المفرطة! لا تراجع!"
عاد الطنين الكهرومغناطيسي، لكنه هذه المرة كان أعلى وأكثر قوة. استأنف الجنود التلفزيونيون إطلاق وابلهم الناري، لكن هذه المرة كان الإطلاق أكثر كثافة، وترافق مع اندفاع النائب نحو ميليوداس بسرعة فائقة، مستخدماً جسده الميكانيكي كسلاح.
انطلق النائب التلفزيوني ذو الشاشة المسطحة (HD) نحو ميليوداس باندفاعة ميكانيكية حاسمة، مقتنعاً بأن قوة قائد الشياطين تكمن في الخداع أو السحر، وليس في القوة الخام التي يمكن حسابها مسبقاً. كان هدفه واضحاً: الإمساك بميليوداس وإخضاعه، لإثبات تفوق نظام مملكة الروبوتات على الفطرة والفوضى.
رفع النائب ذراعه الآلية، وأطلق شعاعاً ضخماً ومركزاً بلون بنفسجي حاد من راحة يده، موجهاً الضربة مباشرة نحو صدر ميليوداس. في الوقت نفسه، استأنف جنود الصفوف الأمامية إطلاق وابلهم الناري، مُشكلين جداراً كثيفاً من الأشعة الزرقاء خلف النائب، لضمان ألا يتمكن ميليوداس من الالتفاف أو الهرب.
لكن ميليوداس، الذي كان قد أنهى صراعه الداخلي، لم يكن يقاتل الآن كقائد حائر، بل كقوة طبيعية لا يمكن إيقافها. أدرك أن النائب يمثل قمة التكنولوجيا التي تعتمد عليها مملكة الروبوتات، وأن تحطيمه يعني انهيار معنويات الجيوش التلفزيونية بالكامل.
في جزء من الثانية، وبدون أي إيماءة أو صرخة، اختفى ميليوداس من موقعه.
اخترق شعاع النائب البنفسجي الهواء حيث كان ميليوداس واقفاً، وانفجر في صخرة خلفه، محولاً إياها إلى غبار متوهج. لم يكن ميليوداس قد هرب، بل تحرك بسرعة شيطانية فاقت قدرة أجهزة الاستشعار لدى النائب.
ظهر ميليوداس فجأة خلف النائب مباشرة. لم يهاجم بالسيف، بل استخدم قبضته المكسوة بالمانا السوداء المركزة. لم تكن لكمة شاملة، بل كانت ضربة دقيقة وموجهة نحو مفصل الكتف الأيمن للنائب، وهو النقطة التي تتدفق منها الطاقة الميكانيكية التي تشغل ذراعه.
دوي مدوٍ!
لم يكن صوتاً لانفجار، بل صوتاً لاصطدام مادتين متصلبتين بقوة لا تُصدق. تمزق المفصل الميكانيكي للنائب فوراً، واندفعت يده الآلية بعيداً، لتسقط على الأرض وتستمر في إطلاق الشعاع البنفسجي بشكل عشوائي ومجنون.
توقف النائب عن الحركة، وظهرت على شاشته المسطحة رسالة خطأ حمراء تُغطي نصف الشاشة، تليها صور متداخلة ومُشوشة. لقد أُصيبت منظومة إحساسه بالتوجيه الميكانيكي بضرر لا يمكن إصلاحه.
"قوتك قابلة للحساب،" قال ميليوداس، واقفاً بثبات خلف النائب. "قوة الإرادة التي تتحدث عنها تنهار أمام ضربة واحدة لا يمكنك التنبؤ بها."
حاول النائب أن يستدير، لكن ميليوداس سبقه بلكمة أخرى، هذه المرة كانت موجهة نحو أسفل ظهره، حيث كان نظام الطاقة المركزي يقع.
تحطم آخر!
سقط النائب على ركبتيه، وارتجف جسده الآلي بعنف، وتحولت شاشته بالكامل إلى شاشة زرقاء ضخمة، وهي رمز الانهيار الكلي الذي تحدث عنه النائب بنفسه.
عند رؤية قائدهم المتفوق ينهار في صمت مطلق، اهتزت صفوف العساكر التلفزيونيين بالكامل. كانت شاشاتهم تتحول إلى تشويش عشوائي متسارع، دلالة على الخوف والارتباك والفشل في فهم الموقف. لم يعد هناك صوت قيادة، ولا يوجد نظام يتحكم بالصفوف.
صاح ميليوداس بصوتٍ رعدي، مستغلاً لحظة الذعر التي ضربت صفوف العدو: "تراجعوا! عودوا إلى الأقفاص التي أتيتم منها! انقذوا أنفسكم قبل أن أدمر هذا الغباء بالكامل!"
انكسر التشكيل العسكري تماماً. لم يعد هناك أي معنى للقتال. تراجع الجنود التلفزيونيون بسرعة، يتدافعون ويطلقون النار بشكل عشوائي، بينما كانت شاشاتهم تعرض صوراً إباحية وأفلام قتالية متقطعة، انعكاساً للفوضى النفسية التي ضربت عقولهم البيولوجية. كانت مملكة الروبوتات قد مُنيت بهزيمة نكراء وفوضوية، لا بسبب نقص القوة، بل بسبب انهيار النظام القيادي الذي تعتمد عليه.
توقف ميليوداس عن الحركة، وسمح للجيش المنهزم بالانسحاب من الغابة بسرعة. كانت الغابة الآن مُحطمة، لكنها هادئة.
نظر ميليوداس إلى ساحة المعركة. كانت الدماء مختلطة بالزيت الأسود والأشلاء الميكانيكية. تقدم نحو النائب الساقط، ووجه إليه سؤالاً أخيراً.
"أخبرني أيها النائب. بعد كل هذا الشرح الطويل... هل كانت خسارتكم لنا أم لخسارتكم لنظامكم؟"
لم يستطع النائب الإجابة، كانت شاشته تعرض وميضاً أزرق ميتاً.
التفت ميليوداس إلى قبيلة الريف. كانت الوجوه مُلطخة بالدماء، والعيون كانت تلمع بدموع ممزوجة بالانتصار والخسارة. فقدوا العديد من أفرادهم، لكنهم نالوا حريتهم.
تقدمت إليه إليزابيث، وهي تحتضنه بقوة، وبدأت تبكي بحرارة. "لقد نجحنا يا ميليوداس! لقد نجحت!"
نظر ميليوداس إليها، ثم إلى وجوه الأطفال والناجين. لقد أدى واجبه هنا. الآن، يجب أن يعود إلى الواجب الذي تجاهله.
"اسمعيني جيداً يا إليزابيث،" قال ميليوداس، وهو يمسك وجهها بين يديه. "يجب أن أذهب الآن. هناك معركة أكبر تدور، معركة قد تحدد ما إذا كنا سنحصل على الوقت الكافي لنبقى أحراراً أم لا. يجب أن أساعد بليك ورفاقي في القتال ضد كابتن مارفل، قبل أن تنهي هي اللعبة."
"لكن... ألن تكون وحيداً؟" سألت إليزابيث، ودموعها تجري على خديها. "ألا أستطيع أن أذهب معك؟"
هز ميليوداس رأسه بهدوء. "لا. يجب أن تبقي هنا. هؤلاء الناس... قبيلة الريف، يحتاجونكِ. أنتِ الآن الأمل الذي سيحميهم وينظم صفوفهم. أنا أستطيع القتال، لكنكِ أنتِ وحدكِ من يستطيع أن يمنحهم الإيمان بالنظام الجديد. ستبقي هنا، وسأعود إليكِ. لا تخافي أبداً ما دمتِ تحملين هذا الشرف في قلبك."
نظر إلى رجال الريف المتبقين، ثم إلى مكان سقوط شيخ القبيلة. "يا رجال الريف! لقد أثبتم أنكم لستم عبيداً، بل مقاتلون. احموا إليزابيث، واحموها جيداً. إنها الآن كنزكم، وأملكم في الغد."
أومأ الناجون برؤوسهم في صمت، يضعون أيديهم على قلوبهم كعلامة على الولاء الأبدي.
وضع ميليوداس قبلة سريعة على جبهة إليزابيث، ثم استدار دون تردد. في غمضة عين، ودون انتظار، تحولت المانا السوداء حول جسده إلى قوة دفع هائلة.
انطلق ميليوداس عبر الغابة، صاعداً نحو السماء كصاعقة شيطانية، تاركاً خلفه قبيلة الريف في هدوء حزين، ومتجهاً نحو ضوضاء المعركة التي تشتد بعيداً، حيث كان يطمح إلى التدخل في قتال كابتن مارفل ومساعدة حلفائه