في سبعينيات أمريكا الصاخبة، حيث كانت ثقافة الطرق المفتوحة تتنفس من عادم الدراجات النارية، وُجد الشاب الذي أصبح أيقونة تلك الحقبة: جوني بليز. كان جوني يمتلك شعرًا أشقر طويلًا، كثيفًا، يتقلب كألسنة اللهب مع كل سرعة يكتسبها. كانت سترة الجلد الأسود البالية جزءًا لا يتجزأ من هويته، فهي تحمل ندوبًا وتاريخًا من التحديات التي خاضها على الأسفلت. لم يكن جوني بليز يمتطي دراجة نارية فحسب؛ بل كانت دراجته، المُعدَّلة والمُهيَّأة، هي قلب إيقاعه وروحه الثائرة.
كان جوني، بلا منازع، أشهر سائق استعراض في العالم. كان اسمه يرادف الجرأة المطلقة. لم تكن عروضه مجرد حركات بهلوانية، بل كانت مبارزات مباشرة مع الخوف. أي رجل سليم العقل قد يتراجع، لكن جوني كان يتقدم؛ يندفع بسرعة جنونية ليقفز فوق صفوف من عشرين حافلة مدرسية صدئة، متراصة بعناية في تحدٍ فني لمقاومة الجاذبية. وكان يقتحم حلقات النار العملاقة، لا يرتدعه لهيبها المُلتهب، وقلبه، على خلاف الجميع، لم يكن يعرف الوجل أو الرعدة، بل كان ينبض بوتيرة ثابتة، كدقات محرك قوي لا يلين.
لكن خلف هذا المجد البرّاق والغطاء الجلدي القاسي، كان جوني يحمل جرحًا قديمًا: كان يتيمًا. لم يعرف دفء العائلة التقليدية، بل نشأ في العالم المتنقل وغير المستقر للسيرك. لقد تبناه ورعاه رجل اسمه كراش سيمبسون، مالك وقائد سيرك "كوينتين" المتجول.
كراش سيمبسون، كان رجلًا يمكن قراءة تاريخه على ملامح وجهه المُتجعد بفعل الشمس والضحك والمغامرات. كان رجلًا يمتلك شجاعة تُحكى عنها الأساطير بين العاملين في السيرك، لكن هذه الشجاعة كانت مُرتبطة بتهور لا حدود له. كان كراش يؤمن بأن الحياة تُعاش على حافة الهاوية، وأن الاستعراض الأخير هو دائمًا أفضل استعراض.
في إحدى الليالي الهادئة التي أعقبت عرضًا ناجحًا، حيث كانت رائحة التراب المُبلل بالماء الممزوجة برائحة الفشار والسكر المحروق تملأ الهواء، كان جوني جالسًا في الكواليس، يمسح خوذته المصقولة بقطعة قماش ناعمة. اقترب كراش منه ببطء، وجلس بجانبه على صندوق خشبي قديم.
تنهد كراش تنهيدة عميقة، وبدأ صوته هادئًا على غير عادته: "أنت لا تزال الأفضل يا ولدي، الأفضل على الإطلاق. تلك القفزة التي أديتها الليلة... كادت أن تجعل قلبي يتوقف، وهذا ليس بالأمر الهين على رجل في سني رأى كل شيء."
ابتسم جوني ببرود، معتادًا على كلمات الإطراء، لكنه لاحظ ثقلًا غير مألوف في نبرة كراش. "ما الذي يشغل بالك يا كراش؟ تبدو كأنك تحمل على كتفيك وزن كل حافلة قفزت فوقها الليلة. هل هناك مشكلة في دفع رواتب العمال؟"
"ليس المال يا جوني، المال دائمًا يأتي ويذهب مع حركة العجلات. إنها... الحياة نفسها، وطريقة تعاملها معنا." نظر كراش إلى يديه الخشنتين، المُتعبتين من سنوات التشبث بالمقود والحبال. "عندما تبني حياتك كلها على التحدي، تنسى أن التحدي الأكبر يكمن في البقاء. أحيانًا أفكر في تهوري يا جوني. تهوري هو ما منحني إياك، ولكنه قد يكون أيضًا ما يسرقني منك يومًا ما."
شعر جوني ببرودة غريبة، نابعة من اعتراف كراش غير المباشر بالضعف. "لقد علمتني يا كراش أن الخوف مجرد خدعة، وأن الموت الحقيقي يكمن في التوقف عن المحاولة. أنا مدين لك بكل شيء، بكل ميل قطعته، وبكل مجد حققته."
مال كراش نحو جوني، وعيناه العجوزتان تحملان مزيجًا من الحب والأسف. "نعم، لقد علمتك أن تكون شجاعًا، وهذا هو إرثي الوحيد الذي أفخر به. لكنني أيضًا علمتك أن تكون متهورًا. لا يمكن فصل الاثنين في سيرك كوينتين. نحن نعيش ونموت بالسرعة يا جوني. والسرعة... هي ما يبقينا على قيد الحياة، ولكنه أيضًا ما يدفعنا نحو الهاوية."
صمت الاثنان، محاطان بأصوات السيرك النائمة. كان جوني يعلم أن كراش ليس مجرد أب بالتبني؛ بل هو سنده الوحيد في هذا العالم الفوضوي. رجل شجاع، نعم، لكن تهوره كان دائمًا سيفًا ذا حدين يلوح فوق مصيريهما.
أنتقل جوني بليز من عالم الشهرة السريعة إلى عالم خفي، عالم قلبه الذي نبض بشغف حقيقي ووحيد: روكسان سيمبسون. كانت روكسان، ابنة كراش سيمبسون، هي الجانب الآخر والمضاد تمامًا لعالم جوني المُشتعل والمليء بالمخاطر. هي لم تشارك الجنون، بل كانت تمثل الاستقرار والعمق، كانت مرساته في بحر الفوضى الذي يعيش فيه.
لم تكن روكسان مجرد فتاة نشأت في السيرك؛ كانت هي العقل المدبر وراء الكواليس، كانت تعمل كـمُعلِّقة للعروض ومُنظمة للمواعيد والتحركات اللوجستية، فكانت توازن بين تهور والدها واندفاع جوني بذكائها وحسها العملي المرهف. نشأت روكسان وجوني معًا، يتشاركان رائحة التبن وزيت المحرك والدخان، وشهدت علاقتهما تحولًا تدريجيًا من أخوة السيرك إلى رابط عميق لا يمكن فصمه.
لقد كان جوني يحب روكسان من كل قلبه، حُبًا كان بمنزلة الجمر تحت الرماد؛ حبًا متينًا صمد أمام كل قفزة متهورة قام بها جوني وكل نوبة قلق عاشتها روكسان عليه. كانت روكسان تدرك أن هذا الرجل الشاب، الذي يرتدي درعه الجلدي ويهزم الخوف في العلن، يحمل قلبًا رقيقًا ومُتصدعًا في الخفاء، قلبًا لم يكن أحد يراه غيرها.
في إحدى الليالي الساحرة في سيرك "كوينتين"، بعد أن انتهى العرض الأخير وتفرقت الحشود،
التقى جوني بروكسان خلف خيمة الطعام، حيث كانت الأضواء الخافتة للمصباح الوحيد ترسم ظلالًا طويلة حولهما. كانت روكسان تُراجع بعض الوثائق المتعلقة بالحجوزات الجديدة، وكانت على وجهها علامات التعب.
"هل ستقفين هنا طوال الليل تحسبين أرباحنا من ولاية أوهايو يا روكسان؟" سأل جوني بصوت هادئ، اقترب منها ووقف يده على الطاولة الخشبية المتهالكة.
رفعت روكسان عينيها الزمرديتين إليه، كانت نظرتها دائمًا مزيجًا من اللوم اللطيف والقلق الخفي. "لو كنت تولي اهتمامًا أقل للتحليق في الهواء، وأكثر لوثائق التأمين، لربما لم أكن مضطرة للسهر طوال الليل لإصلاح فواتير المستشفيات المُستقبلية. لقد قطعت هذه المرة على مسافة مليمتر واحد فقط من الاصطدام بالحافلة الأخيرة يا جوني."
مال جوني قليلًا، وقرب وجهه من وجهها، ورائحة زيت المحرك والتراب العالقة بملابسه اختلطت برائحة أوراقها القديمة. "هذا هو الفارق بين السائق الأفضل والسائق الجيد، أليس كذلك؟ المليمتر الواحد هو ما يصنع الأسطورة. ولو لم يكن الموقف محفوفًا بالخطر، لما كنت أديت العرض من الأساس."
تغيرت نبرة روكسان فجأة، وألقت بالقلم بعيدًا. "وهذا هو الشيء الذي يخيفني حقًا يا جوني. تهورك! إنك تدرك، أليس كذلك، أن كل قفزة تقوم بها هي قفزة تبتعد بها عني؟ كل مرة أرى فيها النيران تحيط بك، أشعر أنني أفقدك، وأنا... لا أستطيع أن أتحمل فكرة أنني قد أستيقظ ذات صباح لأجدك مجرد اسم في إحدى الوثائق الممزقة هنا."
مد جوني يده، ولمس بلطف خصلة من شعرها الداكن التي كانت تسدل على خدها، كانت لمسته حانية بشكل لا يتناسب مع قوته الجسدية الهائلة.
"روكسان، لا يوجد شيء في هذا العالم يربطني بالحياة أكثر من وجودك. لو لم تكن عيناك تنتظرانني عند خط النهاية، لربما لم أكن لأهبط بسلام بعد الآن. إنني أفعل هذا لأجلك. لكي نتمكن من الحصول على المال الكافي، لكي نغادر هذا التراب ونبني حياتنا الخاصة يومًا ما، بعيدًا عن تهور كراش وعن المخاطر."
"لقد وعدتني بذلك منذ سنوات يا جوني،" همست روكسان، وكانت عيناها تلمعان بالدموع المُحتبسة. "لكننا دائمًا نعود إلى نقطة البداية. دائمًا إلى النيران."
"هذه المرة ستكون مختلفة. صدقيني،" قال جوني بصرامة، ثم أمسك بوجهها بين يديه، ونظر إليها نظرة عميقة تترجم كل ما يعجز اللسان عن قوله. "أنتِ، يا روكسان، لستِ مجرد فتاة أحبها. أنتِ سببي للبقاء حيًا. أنا أحبك من كل قلبي، وأعدك، لن أسمح لأي تهور أن يسرقني منك. لن يحدث ذلك أبدًا."
قبل أن تتمكن روكسان من الرد، سحبها جوني إليه وقبلها قبلة طويلة، كانت تحمل طعم زيت المحرك، والخوف، والوعد المشتعل بـمستقبل لن يكون فيه مكان للمخاطر المتهورة. كانت تلك القبلة هي اعترافهما الصامت بأن حبهما كان القوة الوحيدة التي تتفوق على قوانين الجاذبية وقوانين السيرك.
انقلبت حياة جوني بليز رأسًا على عقب في يوم واحد. لم تكن الصدمة ناتجة عن حادث سيئ في حلقة النار أو قفزة لم تكتمل؛ بل جاءت من نبأ هادئ ومُدمِّر زلزل عالمه كله. اكتشف جوني أن كراش سيمبسون، الرجل الذي منحه معنى للحياة بعد اليتم، والذي علمه كيف يواجه الموت بدراجة نارية، مصاب بسرطان عضال لا يمهل صاحبه. كانت الكلمات الطبية مُبهمة وقاسية، لكن الخلاصة كانت واضحة كضوء النهار: لم يتبقَ لكراش سوى أسابيع قليلة ليُصارع فيها المرض قبل أن يغلبه.
لأول مرة في حياته، شعر جوني بليز بشيء أقوى من قوة الدفع، شيء لا يمكن هزيمته بالسرعة أو بالقفز فوق العقبات: العجز. لقد كان جوني بليز قد تعامل مع الموت كخصم يمكن التغلب عليه في حلبة الاستعراض، لكنه الآن يواجه الموت المُطلق،
الموت الذي لا يعطيه فرصة للمناورة أو حتى لـلكمة أخيرة. هذا الشعور بالشلل، بأن كل قوته التي منحته إياه دراجته لا تساوي شيئًا أمام مرض صامت، كان أسوأ من أي كسر في العظام.
ترك جوني السيرك خلفه في تلك الليلة، تاركًا روكسان نائمة على قلقها، واندفع بدراجته النارية بعيدًا، مخترقًا رمال الصحراء القاحلة. كان هدير محركه هو الصوت الوحيد الذي يعكس صرخات روحه الداخلية. لم يوقف دراجته إلا عندما وصل إلى قلب العراء، إلى مكان تسود فيه الظلمة المطلقة، ونجوم السماء وحدها هي الشاهد.
ترجل جوني من دراجته، وألقى بخوذته جانبًا، وشعر بالرمال الباردة تحت حذائه الجلدي. وقف في منتصف الصحراء ليلاً، محاطًا بالصمت الذي بدا له صمتًا أزليًا. تذكر جوني كل ما فعله كراش من أجله، كل المخاطر التي خاضها، وكل الضحكات التي شاركها إياه. هذا الرجل الشجاع الذي تحدى كل شيء سيموت الآن، مغلوبًا على أمره، دون أن يحظى بمعركة أخيرة.
لم يملك جوني، الذي لم يعرف في حياته غير السرعة والموت كـأخوين، أي سلاح ليواجه به هذا المصير الحتمي. رفع جوني رأسه إلى السماء المُرصعة بالنجوم، وترك كل خوف، وكل حياء، وكل منطق، ليتجسد في صرخة مدوية هزت صمت الصحراء، صرخة خرجت من أعمق نقطة في روحه المُتعبة واليائسة.
"أنا مستعد!" صاح جوني بأقصى قوة لديه، وارتد صوته على الجبال البعيدة. ثم انحنى قليلًا، وقبض على يديه بقوة، ثم رفع عينيه المُلتهبتين نحو الظلام الذي يحيط به، معلنًا تضحية لا عودة عنها:
"أنا مستعد أعطي روحي للشيطان لو شفى كراش!"
توقفت الصرخة، وبقي صوت جوني يتردد في الفضاء الصامت، كعرض أخير قُدِّم لقوة غامضة، عرض يائس بيع فيه جوني بليز روحه مقابل حياة والده بالتبني.
فجأةً، وكردٍّ كونيٍّ على النداء اليائس، هبَّت ريح حارة وجافة، أشبه بنَفَسِ فرن عملاق فُتح فجأةً في قلب الصحراء البارد. بدأت الرمال تلتف في دوامات ساخنة، وتغيرت الأجواء فجأة إلى ضغط لاهث وثقيل، يُنذر بقدوم كيان لا ينتمي إلى هذا العالم.
ومِن تحت الأرض المتشققة والمظلمة، ارتفع كيان ضخم ومرعب. لم يكن سوى ميفيستو نفسه، شيطان الميثولوجيا القديمة، في هيئته الحقيقية: ضخم، بلون أحمر قاني، تتلألأ عيناه بوهج ناري خبيث، وابتسامته كانت عريضة وشريرة، كفوهة كُهف مليئة بالجحيم. لم يكن ظهوره هادئًا؛ بل سُمعت ضحكة جهنمية عالية، ضحكة تهز الجبال الراكدة في الأفق، معلنةً عن حضوره المُطلق وسماعه للعرض المُقدَّم.
حدّق ميفيستو في جوني، الذي وقف جامدًا في مكانه، صدمة اليأس تحولت إلى صدمة المواجهة. ركّز الشيطان عينيه الحمراوين على الشاب، وتجسد صوته في صوت الرعد العميق الذي اخترق الصمت:
"صَفقة؟... لقد سمعتُك أيها الفتى اليائس. هذا طلبٌ جريء جدًا، ونادر جدًا. إنني أقبل. خلاص، كراش حتماً سيحيا. سيزول عنه المرض، وتعود إليه عافيته... ولكن، بالمقابل، روحك لي. إنها رهينة سأطالب بها عندما يحل الوقت المناسب، في اللحظة التي تظن فيها أنك قد نسيتني تمامًا."
وبلا أي طقوس إضافية، تبدّد وهج ميفيستو الأحمر، واندفعت موجة باردة خلف الموجة الحارة، وعاد الصمت المُطبق يخيم على الصحراء، تاركًا جوني بليز يواجه العقد الذي أُبرم في الظلام. كان يعلم أنه نال ما أراد، لكنه دفع الثمن الأغلى.
في اليوم التالي، عاد جوني إلى السيرك، ووجد كراش سيمبسون على غير ما تركه. لقد اختفى السرطان تمامًا من جسده. عاد كراش ليضحك بحرارة، ويتحرك بنشاط، وشعر وكأنه عاد إلى شبابه المتهور. كان الجميع في السيرك يصفون الأمر بـ"معجزة طبية"، أما جوني فكان يعلم الثمن الحقيقي لهذه المعجزة.
شعر جوني بابتهاج عارم، مزيج من الراحة التي لا توصف والقلق القاتل. كان كراش حيًا، وهذا هو كل ما يهم الآن. حاول جوني أن يستمتع بالفرحة، أن يغض الطرف عن العقد الروحي الذي وقعه، وأن يسترجع أيامه القديمة.
لكن هذه الفرحة لم تدم طويلًا.
بعد أسبوعين فقط من تلك "المعجزة"، كان السيرك يقدم استعراضًا كبيرًا في حشد ضخم. كان كراش يعود إلى حلبته ليعلن عن "عودته المظفرة" بقيادة دراجته النارية في قفزة متهورة جديدة، ليثبت أنه ما زال الأفضل. كان جوني وروكسان يقفان في الكواليس، يراقبان كراش وهو يندفع بالسرعة القصوى،
يبتسم لجمهوره.
وفي لحظة مفاجئة ومروعة، بينما كانت دراجة كراش تحلق في الهواء، حدث عطل كارثي وغير متوقع.
انفجرت دراجة كراش في الجو انفجارًا هائلًا، وتحولت إلى كرة من اللهب والحديد المتطاير. سقط كراش سيمبسون من ارتفاع شاهق، مُحترقًا ومُحطَّمًا، ومات في لحظتها. مات أمام عيون الجمهور المُذعور، ومات تحديدًا أمام عيني جوني بليز وروكسان.
لقد نجا كراش من الموت البطيء، لكنه لم ينجُ من الموت المتهور والسريع الذي كان جزءًا من طبيعته. لقد نفذ الشيطان وعده: شُفي كراش من السرطان، لكن روحه كانت مُباعة بالفعل، وتُرك جوني ليواجه العواقب المزدوجة لصفقته الملعونة: خسارة الرجل الذي أحبه، والتحول إلى عبد لقوى الظلام.
في تلك الليلة المظلمة التي تلت المأساة، وبعد أن هدأ صراخ الجمهور وغادر رجال الشرطة والإسعاف، كان جوني بليز يجلس وحيدًا بجوار حطام السيرك، محاولًا استيعاب الخسارة المزدوجة والمؤلمة. لم يكن حزنه عاديًا؛ بل كان ممزوجًا بالشعور المريع بأنه المسؤول عن هذا المصير، وأن الصفقة التي عقدها هي التي قتلت كراش، بطريقة أكثر قسوة.
وبينما كان جوني غارقًا في عذابه، عاد ذلك الشعور بالحرارة الخانقة الذي لا يخطئه؛ عاد حضور ميفيستو.
ظهر الشيطان، هذه المرة لم يأتِ من تحت الأرض، بل تجسد في الهواء أمامه كظل أحمر يتكثف، يرتدي ابتسامة خبيثة ومُنتصرة، وكأن مشهد موت كراش كان أفضل عرض شاهده منذ قرون.
"يا له من عرض نهائي، أليس كذلك؟" قال ميفيستو، وصوته يشبه احتكاك الفحم المشتعل، "لقد كان موتًا يستحق بطلًا متهورًا. والآن، أيها الفتى، حان وقت تسديد الدين."
نظر جوني إلى الشيطان بعينين ملؤهما الغضب والدموع، وكان صوته أشبه بصرير الحديد المكسور: "لقد خدعتني! لقد وعدتني أن تشفيه، لكنك قتلته! أنت من فعلت هذا! أنت من جعل دراجته تنفجر!"
زادت ابتسامة ميفيستو الخبيثة اتساعًا، ومال برأسه نحو جوني في لفتة سخرية فجة.
"أيها الأحمق الساذج. أنا شفيته من السرطان. لقد زال السرطان من جسده تمامًا بلمسة واحدة مني. ألم تلاحظ كم كان يتمتع بالصحة في الأسبوعين الماضيين؟ لقد نفذت وعدي بكل دقة، يا جوني بليز. ولكني لم أقل لك قط أنني سأحميه من الحوادث. وتهوره كان ولا يزال جزءًا من مصيره. أنا لا أقتل، أيها الفتى. أنا فقط أُعيد ترتيب الظروف. لقد مات الرجل كما كان مقدرًا له أن يموت: في قفزة متهورة. والآن، كما اتفقنا، الروح مقابل الروح."
مد ميفيستو يده الشيطانية الضخمة، كانت يده تشتعل بضوء أحمر، استعدادًا لسحب روح جوني منه. شعر جوني بالبرودة تجتاح جسده، كأن روحه بدأت تنفصل عن أضلاعه. كان على وشك الاستسلام، مدركًا أن لا مهرب من سيد الجحيم.
لكن في تلك اللحظة الحرجة، وصل الخلاص على هيئة روكسان سيمبسون.
اندفعت روكسان من الظلام، ووصلت في اللحظة الأخيرة، كانت عيناها مُحمَّرتين من البكاء على أبيها، لكنهما تشتعلان الآن بقوة غريبة وإرادة لا تلين. وقفت بين جوني وميفيستو دون تردد، وكأنها درع بشري مصنوع من الحب.
وضعت روكسان يدها على صدر جوني بقوة، وقالت بصوت عالٍ، نبرته تحمل ثقة وقوة غير معهودتين، كأنها تستدعي قوة قديمة ومقدسة:
"أنا أحب جوني بليز! وأي عقد بينه وبين الشيطان يبطل بحبي! لن تأخذه مني!"
وبمجرد أن نطقت روكسان بهذه الكلمات، انبعث منها وهج خافت، قوة سحرية قديمة وغير متوقعة تدفقت من حُبّها الطاهر والمطلق. ارتجف ميفيستو وتراجع خطوة للخلف، وكانت الصدمة تظهر بوضوح على ملامحه الشيطانية. لم يتوقع أن قوة الحب الإنساني يمكن أن تكون حاجزًا فعليًا أمام سلطته المطلقة.
"ما هذا؟" زمجر ميفيستو بغضب، "ما هذه القوة السخيفة؟ لا يمكن لعاطفة ضعيفة أن تبطل عقدًا دمويًا!"
لكن القوة السحرية المُبعثة من روكسان كانت أقوى مما ظن، ونتيجة لهذا التدخل القوي، لم يستطع ميفيستو أن يستولي على روح جوني بليز كاملةً كما كان يخطط. لقد أُعيق سحبه للروح.
لم يكن ميفيستو ليقبل الهزيمة. إذا لم يستطع امتلاك روحه، فسيجعلها سلاحًا في خدمته. وبعينين تشتعلان شرًا مُكثفًا، قرر الشيطان أن يُنفذ شيئًا أسوأ بكثير من سحب الروح المباشر:
"حسنًا، أيها الفتى، قد لا تكون ملكي بالكامل الآن بسبب هذه... الرومانسية السخيفة. لكنك ستظل جنديًا لي. وإذا لم تكن روحك قوية بما فيه الكفاية لتكون لي، سأربطك بروح أقوى وأكثر دمارًا!"
اندفع ميفيستو نحو جوني بسرعة خاطفة، لمسة واحدة من يده الشيطانية أصابت روح جوني بالصدمة، وقام ميفيستو فورًا بربط روح جوني بكيان شيطاني آخر، كيان هُزم قديمًا في معارك الجحيم وصار الآن عبدًا لميفيستو: زاراثوس، أقوى روح انتقام في الكون.
شعر جوني بألم مُبرح يتغلغل في كل خلية من خلاياه، كأن روحه تُقسم وتُدمج بقوة غريبة ومُعذبة. لقد حوله ميفيستو إلى سجن حي، يضم داخله روحًا شيطانية مُشتعلة، جاهزة للانطلاق عند الطلب.
اختفى ميفيستو بضحكة عالية ومُرعبة، تاركًا جوني بليز ينهار بين يدي روكسان، وقد صار ملعونًا، جسده أصبح الآن مُرتبطًا بأقوى روح انتقام، بانتظار اليوم الذي يستدعي فيه ميفيستو عبده الجديد لاستخدامه.
منذ تلك الليلة الملعونة التي ربط فيها ميفيستو روح جوني بليز بكيان زاراثوس القديم، لم يعد جوني يمتلك حياته بالكامل. لقد صار جسده وعاءً لقوة شيطانية لا تُقهر، لا يمكن السيطرة عليها.
التحول كان مرتبطًا بظروف محددة، شروط أصبحت هي لعنة جوني بليز الجديدة: كلما غابت شمس النهار، وحلَّ ظلام الليل الدامس، أو كلما شمَّ جوني في الهواء رائحة دم بريء مسفوك أو خطر يتهدد حياة إنسان بريء، كانت اللعنة تنشط.
في اللحظة التي تتوفر فيها هذه الشروط، يبدأ التحول المُرعب.
يشعر جوني بحرارة لا تُطاق تتغلغل في جلده، حرارة ليست كحرارة النيران العادية التي كان يقفز خلالها، بل هي حرارة الجحيم الأزلية. يبدأ لحمه في الذوبان والتفسخ بسرعة مروعة، يتساقط كالشمع المشتعل، وتتحول ملامحه الإنسانية إلى هيكل عظمي صارخ.
يستقر هذا التحول المروع على جمجمة مشتعلة بنار جهنم متوهجة، نار لا تأكل ولا تُطفأ، تلتهم الشعر والجلد وتترك جمجمة نقية تتلألأ بلهيب مُرعب. أما عيناه، فتبدلان إلى وهجين من اللهب الأخضر الحاد، لهب يُنذر بالانتقام ويحرق النظرات.
دراجته النارية، التي كانت مجرد أداة فولاذية عادية يستخدمها في الاستعراض، تشهد تحولًا مماثلًا؛ تكتسي بالظلام والصدأ الأبدي، وتتحول إلى وحش حديدي هائل، عجلاته تئن من ثقل القوة الجديدة، ومحركها ينفث نارًا جهنمية بدلًا من الدخان.
لقد اختفى جوني بليز سائق الاستعراض الشاب، ليحل محله كيان مُرعب، حاملًا اسمًا جديدًا يُلهم الرعب في قلوب الأشرار: جوست رايدر... روح الانتقام.
لقد صار جوني أداة حية للعدالة الانتقامية، جنديًا لميفيستو لا يملك السيطرة على تحولاته، مُجبرًا على مطاردة الأرواح الشريرة وتطبيق العقاب بلهيب الجحيم، وبدراجته التي لا تتوقف.
طالت السنون، وامتدت الليالي المظلمة التي تحول فيها جوني بليز إلى جوست رايدر. عاش جوني حياة مزدوجة ومُعذبة، يقضي نهاره في محاولة العيش كإنسان عادي يطارده القلق، وليله ككيان شيطاني مُرغم على تطبيق عدالة الجحيم. لقد كان مجرد أداة، دمية في يد ميفيستو، يُطارد المجرمين والقتلة والشياطين عبر الأراضي الأمريكية الشاسعة، لا يجد راحة ولا استقرارًا. كانت كل مدينة يزورها وكل ظلام يحل عليها بمثابة إعلان عن تحوله الأبدي إلى روح الانتقام.
لم يكن جوست رايدر يقاتل بالأسلحة التقليدية، بل كانت قوته كامنة في جوهر اللعنة الشيطانية. كان سلاحه الأقوى والأكثر تدميرًا هو "نظرة التوبة" (Penance Stare).
كانت هذه النظرة عملية روحية مرعبة؛ عندما يقرر جوست رايدر تطبيقها، يثبِّت عينيه المشتعلتين باللهب الأخضر في عيني الضحية الذي ارتكب شرًا أو إثمًا. في تلك اللحظة، يتمكن زاراثوس، الكيان المُرتبط بروحه، من إجبار الضحية على رؤية كل الألم، وكل المعاناة، وكل الخوف الذي تسبب فيه للآخرين طوال حياته. يرى المجرم كل تفاصيل جرائمه من منظور ضحاياه، يشعر بكل جرح، وكل دمعة، وكل صرخة ألم أطلقها من آذاهم.
كانت هذه التجربة أشد وطأة من أي عذاب جسدي. لا يمكن للعقل البشري أن يتحمل هذا الفيضان من الشعور بالذنب والألم المُتبادل. تحت وطأة هذه النظرة، كان الضحية ينهار نفسيًا وجسديًا، وكثير منهم كان يموت على الفور من فرط الوجع النفسي والعقلي الذي لا يُحتمل.
استمر جوست رايدر في هذا المسار العنيف والمُتعِب لسنوات طويلة، تنقله الدراجة النارية المشتعلة بين الطرق النائية والمدن الكبيرة. لقد سئم هذه الدورة اللانهائية من الانتقام، محاولًا دائمًا إيجاد وسيلة لكسر العقد وتحرير روحه من زاراثوس وميفيستو.
استمرت به الطرق، شرقًا وغربًا، عابرًا القارات والمحيطات، في رحلة لا نهاية لها للهروب من مصيره، حتى أخذته الطرق في نهاية المطاف ووصل إلى تلك المدينة التي تختلط فيها الأضواء الخافتة برائحة المجهول: هنا إلى شنغهاي