{اليوم الثالث من اللعنة}

كنت أمشي بثقل، كل خطوة تسحب معها أنفاسي وكأن الأرض نفسها ترفضني.

لم أنم جيدًا الليلة الماضية.

بعد حادثة المطبخ… ، لم أستطع أن أغفو ولو للحظة.

لكن الآن، وأنا في طريقي إلى الثانوية، كانت تسير خلفي.

ميساكي.

ظلها لا يلامس الأرض، وصوت خطواتها لا يُسمع، لكنها هناك.

"ميساكي… ما بكِ اليوم؟ عادة لا تبقين معي لفترة طويلة."

أجابتني بنبرة باردة كعينيها:

"لقد قلت إنني سأحميك. ولأجل ذلك، يجب أن أبقى بجانبك طول الوقت."

"لا تعاملني كطفل … أنا شخص يستطيع الاعتناء بنفسه."

لكنني توقفت عن الكلام فجأة، حين أدركت نظرات الناس.

كلهم كانوا يحدقون بي كأنني فقدت عقلي.

طفل صغير سحب يد أمه وقال:

"ماما، ذاك الولد يصرخ على الهواء!"

وشابان من طلاب الثانوية مرّا بجانبي وهم يضحكان بصوت خافت.

أنزلت رأسي بسرعة.

خطواتي تسارعت.

الأرض صارت صديقتي الوحيدة في تلك اللحظة.

وهمست، من دون أن أحرك شفتي كثيرًا:

"لماذا تتحدثين معي في مكان مفتوح؟"

أجابتني بلا مبالاة:

"أنا لم أتكلم. أنت من بدأ المحادثة بسؤالك."

صمتّ لحظة ثم تمتمت:

"حسنًا… معك حق."

كان الشارع هادئًا نسبيًا، والشمس ترتفع خلف سحب داكنة لا تبشّر بيوم جيد.

لكن شيئًا في الهواء تغيّر فجأة.

رائحة صدأ.

صرير معدن.

ثم صوت تفكك، وكأن شيئًا ضخمًا انهار من أعلى.

رفعت رأسي.

ورأيت الكارثة.

واحدة من اللافتات المعدنية الكبيرة على مبنى محل مهجور، بدأت تنفصل، ثم سقط أحد الحروف العملاقة مباشرة نحوي.

قدماي لم تتحركا.

لم أستطع الصراخ.

كل شيء كان بطيئًا، كأن الوقت فقد معناه.

"هذه المرة لن أستطيع الهرب."

كان هذا آخر ما خطر في بالي.

لكن…

ظلّ مظلم قفز أمامي بسرعة خارقة.

ميساكي.

رفعت ساقها بكل رشاقة وقوة، وركلت اللافتة في الهواء!

ارتطمت قدمها المعدنية بالحرف المعدني، ليُدفَع جانبًا ويهوي بعيدًا عني، محطمًا زجاج نافذة متجر قريب.

وقفتُ مشدوهًا.

ميساكي، الشبح،... أو أيًّا تكن، أنقذتني. مرة أخرى.

نظرت إليّ من زاوية عينيها، بنظرة باردة ومرهقة في آنٍ معًا، وقالت بصوت لا يسمعه سواي:

"قلت لك، أنا هنا لأحميك. حتى لو كان عليك أن تتعلم كيف تكون هدفًا حيًا."

خرج صاحب المحل مذعورًا، وجهه شاحب وعيناه جاحظتان من الصدمة، ثم تنهد بارتياح حين لم يجدني ممددًا تحت اللافتة.

"الحمد لله... لم يصب أحد بأذى!"

ثم التفت نحوي: "آسف، يا بني! سأبلغ البلدية عن هذا فورًا!"

أومأت له، بلا رغبة في أي محادثة، ثم أكملت طريقي.

نظرت خلفي قليلاً.

ميساكي كانت تسير بخفة، لا تترك أثرًا، لكن وجودها كان أثقل من الظلال.

"شكرًا لكِ، ميساكي… هذه ثاني مرة تنقذينني فيها."

نظرت إلي بهدوء وأجابت:

"لا بأس."

ابتسمت، بصدق هذه المرة، وقلت:

"أنتِ قوية حقًا."

لكنها ردّت، بنبرة غريبة:

"أنا لست قوية… أنا فقط أتمشى مع الوضع."

توقفت للحظة عند الجملة، أحاول فهمها، لكن… لم أكن مهتمًا حقًا بالتفكير العميق.

كان هناك سؤال آخر، سؤال علِق في رأسي منذ فترة ولم أجد له شجاعة الطرح إلا الآن:

"لماذا ترتدين رقعة العين؟"

قالت بدهشة خفيفة:

"ماذا؟"

"أعني... أنتِ لا تتأذين. لكنكِ ترتدين رقعة طبية. فلماذا؟"

صمتت قليلًا. ثم قالت بنبرة هادئة:

"في الواقع… هذه الرقعة كانت موجودة قبل موتي. يبدو أنني... مُت بها."

"لم أفهم."

"الأشباح لا تستطيع تغيير الأشياء التي ماتت بها.

لهذا أنا أرتدي دائمًا نفس الزي المدرسي، ونفس الرقعة… لكنها ليست جزءًا مني، أستطيع نزعها أحيانًا، لفترة قصيرة."

نظرت إليها باستغراب.

وهي نظرت إليّ فجأة وقالت:

"تريد أن ترى ما خلفها."

ارتجفت قليلاً، لكني أومأت برأسي دون تردد.

مدّت يدها الباهتة نحو رقعة العين، وأزالتها ببطء.

كان الهواء حولنا ساكنًا، كأن الزمن حبس أنفاسه.

ما رأيته لم يكن عينًا بشرية.

بل عين دمية خشبية، منحوتة بدقة غير طبيعية، ذات بؤبؤ داكن لا يرمش.

تراجعت خطوة، وقد أصابني الذهول.

"ما هذه…؟"

أجابت بهدوء:

"هذه… أداة صنعها لي نيمو، باستخدام كتاب شمس المعارف."

شهقت: "نيمو فعل هذا؟! لماذا؟"

"لكي أستطيع التفاعل أكثر مع العالم.

في السابق… كنت شبحًا غير مادي، لا أستطيع لمس شيء، لا أشعر بشيء، لا يمكنني حتى أن أدفع ورقة على الأرض."

أخفضت صوتها، وكأنها تستعيد ذكرى مؤلمة.

"لكن هذه العين… سمحت لي بلمس الأشياء، بالشعور بدفء الناس، بلمسك أنت… ولهذا استطعت أن أُبعد عنك اللافتة، وأن أسحبك بعيدًا عن النيران البارحة."

توسعت عيناي، وبدأت أفهم…

"يا إلهي… إنها تقنية مذهلة… لا أصدق أن نيمو استطاع صنع شيء كهذا."

قالت بابتسامة باهتة:

"نيمو عبقري، حتى لو لم يعرف الناس ذلك."

ثم أعادت رقعة العين إلى مكانها، وكأنها أعادت قناعًا تخفي به ألمًا لا يُقال.

واصلنا السير، صامتين… لكن هذه المرة، شعرت أنها أقرب لي من أي وقت مضى.

ليس لأنها شبح يحميني… بل لأنها شخص اختار أن يبقى.

أثناء اقترابنا من المدرسة، مررنا بجانب أحد الأزقة الضيقة.

شيء ما جعلني أبطئ خطواتي.

صوت.

صوت لم يُخطئه قلبي.

صوت التنمّر.

نظرت نحو الزقاق، ورأيتهم.

ثلاثة من الجانحين، يرتدون زي المدرسة – معدّلين طبعًا. أكمامهم ممزقة، والسراويل قصيرة أو متدلية. كل شيء في هيئتهم يصرخ "لا تعبث معنا".

وكانوا يحيطون بفتى نحيل يبدو أنه بالكاد في عمرنا، ذو شعر كثيف ومنفوش قليلاً بلونٍ أشقر مصفر، تتطاير بعض خصلاته من شدة الارتباك.

وجهه بيضاوي، بشرته فاتحة، وتحت عينيه خطّان أسودان من التعب وكأنه لم ينم منذ أسبوع.

يرتدي قلادة ذهبية بسيطة تتدلّى منها دائرة صغيرة، بدت لوهلة كأنها كل ما يملك من قيمة.

"أعطني كل مصروفك، أيها الأشقر"، قال أحدهم وهو يدفعه نحو الحائط.

ردّ الفتى بصوت خائف:

"لكن... أخبرتك… لا أملك أي مال…"

ضحك آخر باستهزاء وقال:

"ما هذا؟ لا مال؟ إذًا أعطنا القلادة، تبدو غالية الثمن."

"مستحيل!" صرخ الفتى، وكأن القلادة أغلى من روحه.

"ماذا؟ ترفض؟… أيها كلب!"

قالها ثالثهم، ورفع قبضته وهو يمسك الفتى من ياقة قميصه، يستعد لصفعه بينما الآخران يبتسمان بتشفٍ.

لم أتمالك نفسي.

خطوت إلى الأمام، وقلت بصوت أعلى مما توقعت:

"توقفوا! ما الذي تفعلونه؟!"

كل الرؤوس التفتت إليّ.

قال أحدهم:

"من أنت أيها اللعين؟!"

وأضاف الآخر بتهديد:

"يبدو أنك تائه. يجب أن تكمل طريقك قبل أن تتعرض للضرب."

لكني لم أتحرك.

"تمسكون بشخص ضعيف في زقاق؟ يا لكم من جبناء."

وجوههم تغيرت فجأة.

لم يكن ذلك التهديد العشوائي المعتاد… بل غضب.

"ماذا قلت أيها اللعين؟!!!"

تقدم أحدهم نحوي بخطوات ثقيلة. قبضته ترتجف غضبًا.

لكن قبل أن يقترب مني…

"توقفوا أيها الحمقى!"

جاء الصوت من عمق الزقاق.

صوت قوي. حاد. لا يقبل الجدل.

ثم خرجت فتاة.

طويلة القامة، رغم نحافتها إلا أن بنيتها تنبض بالقوة.

شعرها أشقر يميل إلى البرتقالي، وأطرافه مصبوغة بالأحمر، يتطاير مع كل خطوة.

في يدها اليسرى كانت تمسك مضرب بيسبول خشبي، وكأنها خرجت من مشهد عصابات يابانية.

نظراتها حادة، مستقيمة كالسيف، وثقتها بالنفس... خنقت المكان.

قالت وهي تتقدّم كملكة غاضبة:

"ألم أخبركم أن تتركوا طلاب السنة الأولى وشأنهم؟"

تجمّد الثلاثة في أماكنهم.

تبادلوا نظرات مذعورة، ثم قالوا بصوت واحد تقريبًا:

"آسفون يا زعيمة! لن نعيدها مجددًا!"

صرخت:

"غادروا من أمامي حالًا!!"

"حاضر!"

قالوها بصوت واحد، قبل أن يركضوا وكأن الشيطان يطاردهم.

صمتٌ دام ثانية.

ثم التفتت الفتاة نحونا، رفعت حاجبًا، وقالت:

"أنتم بخير؟"

كانت تلك الفتاة غريبة بحق.

جميلة، نعم… لكن فيها شيء جامح، شيء لا يهتم كثيرًا بما يدور حوله.

لم تنظر حتى للفتى المسكين الذي كان لا يزال على الأرض، عينيه دامعتان ويداه ترتجفان.

اقتربت منّا بثقة وقالت بنبرة حاسمة:

"انسوا أنكم رأيتموني هنا."

كانت نبرتها أقرب إلى أمر عسكري.

أومأت برأسي وقلت ببساطة:

"حسنًا."

لم أكن مهتمًا بمناقشتها، لكنها… أنقذتنا.

لو لم تظهر في تلك اللحظة، لكنت الآن على الأرض مكان ذلك الفتى… أو أسوأ.

تابعتُها بنظري وهي تدير ظهرها وتمشي مبتعدة عن الزقاق، خطواتها ثابتة ومضرب البيسبول يتأرجح في يدها بثقل.

ثم التفتُ إلى الفتى، ومددت له يدي.

"هل أنت بخير؟"

سألته بلطف.

ردّ بصوت متردد، وعيناه لا تزال تتهربان من عيني:

"نعم… أنا بخير. هذا… هذا يحصل دائمًا."

رفعت حاجبي بدهشة.

"ماذا، تأكل ضربًا هكذا كل يوم؟"

هز رأسه سريعًا:

"لا، ليس كل يوم… فقط ثلاث مرات في الأسبوع."

"هذا… شيء مرعب، يا رجل."

قلت ذلك بتقزز من أولئك الحثالة الذين يظنون أن ضرب الناس هواية.

ثم سألته بجدية:

"لماذا لم تدافع عن نفسك؟"

خفض نظره نحو الأرض، وكأنها فجأة أصبحت مرآة لخيباته.

"أنا… أنا ضعيف. وجبان. لا أستطيع القتال."

شعرت بشيء يشد صدري.

كلماته… لم تكن غريبة.

في الحقيقة، كانت مألوفة أكثر مما أود الاعتراف به.

ذكّرني بنفسي في أيام الإعدادية.

كنت غريبًا في حيّ لم أنتمِ إليه.

مدرستي كانت بعيدة عن منزلي، وبالنسبة لأولاد تلك المنطقة، كنت "الغريب" الذي يمكن ضربه دون سبب.

مراهقون جانحون، تافهون… لكنهم أقوياء بالكثرة.

كنت أُضرب كثيرًا.

وكان حليفي الوحيد في ذلك الوقت هو الهروب.

ثلاث سنوات من الجحيم.

نظرت إلى الفتى أمامي، وعرفت أنني لا أريد لأحد أن يمر بما مررت به.

"لا يبدو لي أنك جبان على الإطلاق."

قلت ذلك بصدق… أو على الأقل حاولت.

"أي أحد آخر كان سيعطيهم القلادة فورًا… لكنك تمسكت بها."

كنت أعلم في داخلي أنني كاذب.

لو كنت مكانه… لربما منحتهم القلادة دون أن يطلبوها حتى.

لكن كلامي بدا وكأنه أشعل شيئًا فيه.

رفع رأسه، وببطء وقف على قدميه.

"شكرًا لك. يبدو أنك من نفس الثانوية… أنا اسمي أكيهيكو، من السنة الأولى."

مددت يدي له بابتسامة خفيفة.

"أنا بليك إيثر. من السنة الأولى أيضًا."

ثم فجأة… نظر خلفي باستغراب، وأشار بعينيه.

"ومن هذه الفتاة؟"

التفتُ بسرعة.

ميساكي كانت واقفة بهدوء، لا تبعد عيناها عنّا.،

"ماذا... ما الذي تعنيه؟ أتستطيع رؤيتها؟!"

قلتُها بخوفٍ، وأنا أرتدّ خطوتين إلى الوراء دون وعي.

حتى ميساكي، التي نادرًا ما يظهر على وجهها أي شيء غير البرود أو اللامبالاة…

تبدلت ملامحها، نظرة ذهول عابرة ظهرت في عينيها.

لكن الفتى، أكيهيكو، قالها كأنها أمرٌ عادي:

"بالطبع أستطيع رؤيتها… لماذا لا أستطيع؟"

شعرت بشيء يجمد أطرافي.

تذكرت كلمات نيمو.

> "الأشخاص الذين يستطيعون رؤية ميساكي… هم فقط أولئك الذين كانوا سببًا في موتها."

شعرت بانقباض في صدري.

نظرت إلى أكيهيكو، وتملكني غضب مفاجئ.

"هل تعرفها؟!"

قلتُها بصوت عالٍ، غضبي لم أعد أتحكم فيه.

حدّق في وجهي بدهشة.

"لا… هذه أول مرة أراها فيها… لكن، لماذا أصبحت غاضبًا هكذا فجأة؟"

نظرت إلى ميساكي.

نظرت إليّ.

كلانا في صدمة.

إنه يراها… لكنه لا يعرفها… فكيف؟

هل هناك خطأ في قاعدة نيمو؟

أم أن هناك شيئًا ناقصًا؟

شيء لم يُكشف بعد؟

لكن قبل أن أقول شيئًا، رأيت التغيير في وجه أكيهيكو.

تراجع خطوة، نظراته صارت أكثر توترًا، وقال بصوت مرتجف:

"مهلًا… هل هي شبح؟"

ثم نظر إليّ مباشرة، وكأن شيئًا انقلب بداخله:

"كيف… أنت يا بليك… تراها؟"

تجمدت الكلمات على لساني.

لم أجد ردًا.

ميساكي كذلك بدت عاجزة عن التفسير.

كان كل شيء خاطئًا.

كأن قاعدة العالم الذي بدأنا بفهمه… انهارت بلحظة.

تبادلنا نظرات الصدمة، أنا وهي، وهو كذلك كان يحدق فينا بنفس الدهشة.

وفي رأسي…

أسئلة.

صراخ.

غرابة.

كيف يعرف عن الأشباح؟

لماذا يراها؟

ما علاقته بكل هذا؟

هل نيمو أخطأ؟

هل ميساكي تخفي شيئًا؟

نظرت إليه مجددًا، وشعرت أن النبض في صدري يتسارع.

شعرت بشيء غريب في عينيه… شيء غير الذي كان منذ دقائق.

وقلتها بعفوية، دون تفكير:

"من أنت… بحق الجحيم؟"

وقف أكيهيكو في مكانه، نظراته ما زالت مشوشة، وصوته يحمل مزيجًا من الحيرة والفضول:

"لكن... كيف أنت تستطيع رؤيتها؟"

لم أجب.

لم أستطع.

رأسي كان يعجّ بالأسئلة، كما لو أن كل شيء حولي يتداعى من جديد.

لماذا يراها؟

هل نيمو كان مخطئًا؟

هل أكيهيكو خطر؟

هل كذب علينا؟

لكن قبل أن أستسلم لدوامة شكوكي، تقدّمت ميساكي.

خطوتها كانت هادئة، ثابتة… لكنها هذه المرة، مختلفة.

وقفت أمام أكيهيكو مباشرة.

ثم نظرت في عينيه… لا، في بؤبؤ عينيه، نظرة عميقة وثابتة، كأنها تسبر أغوار روحه.

شعرت بقشعريرة تمر في ظهري.

بعد لحظة من الصمت المشحون، التفتت إليّ وقالت:

"لا تقلق يا بليك. هذا الفتى… ليس خطرًا. وليس له دخل بمقتلي."

لم أرتح.

"كيف يمكنكِ أن تكوني متأكدة من ذلك؟ لماذا يراكِ إذًا؟!"

سألتها بعصبية، والغضب يسيطر عليّ.

لكنها أجابتني بصوت هادئ، كأنها كانت تنتظر السؤال:

"لأن هذا الفتى يمتلك... الحاسة السادسة."

تجمد لساني.

"الحاسة السادسة…؟!"

قلت الكلمة وكأنها نكتة لم أفهمها.

"ما هي هذه أصلاً؟"

سألتها بعينين متسعتين وذهن مشتعل.

ميساكي صمتت قليلاً، ثم قالت:

"الحاسة السادسة... هي القدرة النادرة على إدراك ما هو غير مرئي.

هي ليست قوة سحرية ولا موهبة خارقة.

بل لعنة… ترافق بعض الناس منذ ولادتهم.

أناسٌ يستطيعون رؤية ما لا يُرَى…

وسماع ما لا يُقال…

ولمس ما لا يمكن لمسه."

نظرتُ نحو أكيهيكو، وقد بدا عليه الارتباك كأنه يسمع كل هذا لأول مرة، أو ربما... يُجبر على تذكّره.

"لحظة..."

همستُ، وكأنني بدأت أربط الخيوط.

"هل يعني هذا... أنه كان يرى الأشباح منذ زمن؟"

أجابتني ميساكي دون أن تنظر إليه:

"ربما. لكن الأغلب أنه لم يكن يعرف أن من يراهم… ليسوا من الأحياء."

لكن قبل أن تشرح ميساكي أكثر،

أوقفها أكيهيكو برفع يده وقال بهدوء:

"في الواقع… كنت أعرف أنهم أموات."

ساد الصمت.

حتى ميساكي تجمّدت لحظة، وعبست حاجباها.

أما أنا… فشعرت بشيء ثقيل يسقط في قلبي.

أكمل أكيهيكو، وصوته هذه المرة لم يكن مهزوزًا، بل ثابتًا، نابعًا من مكان عميق في ذاكرته:

"منذ بداية حياتي… وأنا أراهم. الأشباح. الكيانات الغريبة. لكن لا أحد صدّقني. ظنّوا أنني مجنون أو كاذب… أو طفل يبحث عن اهتمام.

صرت أحتفظ بالأمر سرًا… وعدت نفسي أن لا أتكلم عنه مع أحد، أبدًا…

لكن اليوم… وأخيرًا… وجدت شخصًا مثلي.

شخصًا يرى ما أراه.

أخيرًا…"

كان يتحدث وكأن صدره أخيرًا تنفّس بعد سنوات من الضيق.

في عينيه فرح خافت، أشبه بنور خافت في نفق طويل من الوحدة.

لكنني رفعت يدي فجأة وقلت:

"مهلًا، مهلًا… أنا لست مثلك."

نظر إليّ، فزعًا بعض الشيء.

"ماذا؟ إذا لم تكن مثلي… فكيف تراها؟"

فتحت فمي لأجيب، لكن…

نظرت إلى ساعتي.

انصدمت.

"اللعنة! لقد تأخر الوقت!"

كانت دقائق فقط على بداية الدوام… ونحن لا نزال في الزقاق.

التفت إلى أكيهيكو وقلت بسرعة:

"سوف نكمل حديثنا لاحقًا!"

ثم جريت نحو المدرسة، حقيبتي تتمايل على ظهري، وصوت قدميّ يضرب الأرض بسرعة.

"مهلًا! انتظرني!"

صرخ أكيهيكو من خلفي، وبدأ بالجري خلفي.

سأكمل الفصل الآن بأسلوب بليك الراوي، محافظًا على نبرة الصدق والعاطفة، وأضيف لمسة خفيفة من العمق حتى تكون نهاية الفصل مرضية ومتوازنة.

---

بعد الحصة الرابعة، وبينما كنت مستغرقًا في محاولة إبقاء رأسي مستيقظًا من قلة النوم، دخل أكيهيكو إلى فصلي.

لم يكن معنا في نفس الصف، لكن يبدو أنه وجد طريقة للتسلل أثناء الاستراحة.

اقترب مني، يحمل علبة غذائه المعدنية بيد، ويقول بنبرة جدية متحمسة:

"الآن أخبرني بكل شيء."

تنهدت، ثم نظرت حولي سريعًا.

الحمد لله، لا أحد يستمع.

ففتحت فمي، وسردت عليه قصتي.

كل شيء.

الكتاب… "شمس المعارف"،

ميساكي…

بابادوك،

الأيام الـ13…

الحاجز…

الوحوش…

اللعنة…

كل تفصيلة مجنونة عشتها خلال هذا الشهر القصير.

وحين انتهيت، كان أكيهيكو ينظر إليّ وكأنني قرأت له رواية من خمس مجلدات.

"واو… هل حدث لك كل هذا في شهر واحد فقط؟"

أومأت.

"نعم… إنه الجنون بعينيه."

ثم نظرت إليه وقلت بابتسامة نصف متعبة:

"لكن صدقًا؟ ما عشته لا يُقارن بما مررت به أنت.

أنا كنت على وشك فقدان عقلي عندما رأيتهم لأول مرة،

أما أنت… رأيتهم طوال حياتك وما زالت صحتك العقلية متماسكة.

هذا مذهل بحق."

ضحك بهدوء، وهز رأسه:

"أنا فقط… أراهم. لا أتفاعل معهم إلا نادرًا.

تعودت على وجودهم في الخلفية مثل ضوضاء المدينة.

لكن اليوم… كان الأمر مختلفًا."

صمتت لحظة، ثم قلت بتردد:

"أكيهيكو… هل لي أن أطلب منك طلبًا أنانيًا؟"

رفع حاجبه قليلًا وقال:

"تفضل."

أخفضت رأسي، ثم نظرت إلى يديّ.

ترددت… لكن الكلمات خرجت أخيرًا:

"أرجوك… ساعدني.

في تحرير ميساكي…

وفي استعادة الكتاب."

حدّق بي، مدهوشًا قليلًا.

"ماذا؟ تطلب مساعدتي أنا؟

أنا شخص ضعيف… لا حول له ولا قوة…"

وقف من مكانه فجأة، وكأن اعترافه بالضعف أثقل عليه أكثر مما توقع.

نظرت إليه مباشرة:

"أعلم.

وأعلم أنني أقحمك في دوامة جنون…

لكنني أحتاج لكل قوة أستطيع جمعها حاليًا.

ليس لأني بطل… بل لأنني… لا أريد أن أخسرها."

أمسك أكيهيكو شعره بيده، كأنه يحاول إخراج القرار من بين خصلاته.

تنهد.

ثم قال ، بابتسامة خفيفة:

"حسنًا…

بما أنني… أخيرًا وجدت شخصًا يشبهني،

فبالطبع… سأساعده."

شعرت بشيء دافئ يشتعل في صدري.

فرحت.

بصدق.

مددت يدي نحوه، وقلت:

"شكرًا جزيلاً لك يا أخي…

هل لا بأس أن أناديك أخي؟"

ضحك، ثم مد يده وصافحني بقوة:

"لا بأس.

أحب ذلك."

---

بعد انتهاء الدوام، توجهت مباشرة إلى نادي الغرائب.

من واجباتي كعضو جديد أن أزوره كل يوم بعد المدرسة،

ورغم إرهاقي، كنت أتطلع إلى القليل من الهدوء… أو الجنون المعتاد هناك.

فتحت الباب بخفة، ودخلت.

هيمورا كانت جالسة على الأريكة، ساقاها مرفوعتان للأعلى بطريقة فوضوية،

بين يديها رواية ذات غلاف ياباني قاتم، مملوء برسوم الدم والخوف.

"أوه! مرحبًا أيها العضو الجديد، بليك!"

قالتها بابتسامتها المعتادة المفعمة بالحيوية، ولوّحت لي بالرواية وكأنها كنز.

"مرحبًا… ما الذي تقرئينه يا هيمورا-سان؟"

أجابتني بحماس:

"إنها رواية رعب يابانية! عن طلاب يموتون بشكل غامض واحدًا تلو الآخر…

أريد أن أُفاجئك بالنهاية، ففي النهاية يتبيّن أن السّر هو—"

لم أتحمل.

مددت يدي بسرعة وأغلقت فمها براحة يدي.

"حسنا، حسنا، لو كنت أريد معرفة النهاية، لكنت قرأتها بنفسي!"

ابتعدت عنها بخفة، وبدأت أمسح يدي في بنطالي.

ضحكت وقالت بمكر:

"أوه، ألا تخاف من لمس الفتيات هكذا يا بليك؟

أنت حقًا… منحرف!"

شعرت وجهي يسخن.

تجمدت مكاني،

ثم بدأت أشرح بعشوائية:

"لم أكن أقصد… أعني… كان الأمر فقط لأنك كنتِ—"

لكنني لم أُكمل.

دخل شينتو فجأة، حاملًا الكاميرا خاصته ومزاجه المعتاد الواثق.

"أوه! أنت هنا، بليك. مرحبًا!"

"مرحبًا، مرحبًا!"

قلناها أنا وهيمورا في نفس اللحظة، وكأننا في مسرحية مدرسيّة رديئة الإعداد.

من خلفه، كان هناك صوت صراخ فتيات في الممر.

الظاهر أنه شخص مشهور جدًا في المدرسة، ولا أفهم كيف.

وضع شينتو الكاميرا على الطاولة، وبدأ بإخراج بعض الصور.

"أنظروا! لقد صوّرت اليوم مباني مهجورة جدًا!

يقال إنها مسكونة بالأشباح!"

نشر الصور على الطاولة، وبدأ يتأملها كما لو كانت لوحات فنيّة من متحف.

بالنسبة لي…

بدت الصور عادية جدًا.

مجرد مبانٍ متصدعة، مكسورة النوافذ، جدرانها متآكلة.

لكن…

توقفت.

في إحدى الصور،

رأيت مبنى نيمو.

تجمدت يدي، وسحبت الصورة ببطء.

"هل أنت متأكد أن هذا المبنى… مسكون بالأشباح؟"

سألت، أحاول أن أبدو طبيعيًا.

أجاب شينتو بحماس:

"أكيد!

يقول السكان إنهم يسمعون أصواتًا غريبة تصدر منه ليلًا،

ويرون ظلالًا غامضة تتحرك داخله!

إنه من أغرب الأماكن في المدينة!"

نظرت إلى الصورة جيدًا.

نفس النوافذ.

نفس الباب الخشبي القديم.

نفس الصدأ… ونفس الوحشة.

مبنى نيمو.

لكني تمتمت في داخلي:

"أنا متأكد… لا أحد يعلم أن نيمو هو من يسكن هناك."

كنت شبه متيقّن أن نيمو يتعمّد إخافة الناس القاطنين حول مبناه.

على الأرجح، كان يجد في ذلك نوعًا من التسلية الغريبة.

لكن الأكثر سخرية… هو الولد الذي التقط الصورة.

واحد من اوسم فتيان في المدرسة يلتقط صور مبانٍ مهجورة؟

هذا هو الغريب الحقيقي هنا، لا الأشباح.

وبينما كنت أفكر بذلك، انفتح باب الغرفة ودخلت هوتارو.

"مرحبًا."

قالتها بنبرة خافتة كعادتها، وكأنها خرجت تواً من حلم.

أجبنا نحن الثلاثة، في تناغم غريب:

"مرحبًا."

جلست بهدوء في مقعدها، مستندة بذقنها إلى كفها، كأن النعاس يوشك أن يسحبها من جديد.

كانت هادئة... جدًا.

صمتها ثقيل، لكنّه لا يخيف، بل يدفعك للتفكير.

عندها، تذكرت كلمات نيمو:

> "اقترب من هوتارو… قد تكون المفتاح."

"يجب أن أفعلها..."

قلت في داخلي.

استجمعت شجاعتي وتقدّمت بخطوتين خجولتين نحوها.

"أم… هوتارو، لماذا انضممتِ لنادي الغرائب؟"

رفعت عينيها ببطء نحوي، ثم أجابت دون أن ترمش:

"بلا سبب."

"...أوه، حسنًا."

تراجعت خطوة للخلف، مرتبكًا، وكأنني اصطدمت بجدار من الجليد.

هذه الفتاة… صعبة. فعلاً صعبة.

قررت تأجيل محاولة الاقتراب ليوم آخر.

لكن قبل أن أستدير،

جاءني الصوت المعتاد من خلفي، بصوت ناعم لا يسمعه غيري:

"هيا… قل لها شيئًا. ابدأ حديثًا على الأقل."

كانت ميساكي، واقفة وراء ظهري تمامًا.

لم أجب. لم أجرؤ حتى على تحريك شفتاي، حتى لا أبدو كالأحمق الذي يتحدث مع الهواء.

لكن ميساكي لم تنتظر.

دفعتني إلى الأمام دفعة خفيفة، لكنها مفاجئة.

صرخ شينتو من الطاولة:

"أأنت بخير؟ لقد تحركت بشكل غريب الآن."

"ماذا؟! أ—أنا؟ لا، لا، أنا بخير!"

قلت ذلك بسرعة، محاولًا التظاهر بالبراءة، رغم أن قلبي كان يطرق على ضلوعي.

ثم همست ميساكي في أذني:

"اطلب منها الخروج في موعد."

"...ماذاااااااااا؟!"

كلمة واحدة… جعلت العالم يتوقف.

أحسست بدمي كله يتجه إلى وجهي، وقلبي يوشك أن يقفز من حلقي.

لكن ميساكي لم تكن تمزح:

"إذا لم تفعل الآن، سأدفعك عليها حرفيًا."

همستُ لها بأعلى صوت أستطيع أن أخفيه:

"حسناً، حسناً!"

في تلك اللحظة… كنت مستعدًا لمصارعة أسد، حرفيًا،

أفضل من قول تلك الجملة المحرجة.

لكنني جمعت شجاعتي.

استرجل يا بليك.

إنها مجرد كلمات.

اقتربت منها، شعرت أن خطواتي ثقيلة كأنني أغوص في بحر من القلق.

وقفت أمامها، ملامحها ساكنة، تنتظر.

قلت بصوت مكسور، متلعثم:

"هوتارو… ما رأيك… أن نذهب… في… موعد…؟"

رفعت عينيها إليّ.

حدقت لثوانٍ شعرت أنها ساعات.

ثم قالت، بنفس النبرة الهادئة، دون تردد:

"حسنًا."

---

تجمّدت.

لم أدرِ ما الذي يجب أن أفعله.

هل أضحك؟ هل أصرخ؟ هل أهرب؟ هل أُخبر ميساكي أننا في حلم؟

"حسناً؟!"

هل قالتها حقًا؟

نظرت إليها… لم تكن تمزح.

ثم إلى ميساكي… كانت تبتسم بانتصار.

أنا… فعلتها.

لم أُرفض.

ولم أُضحك.

ولم أمت من الإحراج.

رغم أنني كنت على وشك.

جلست على أقرب كرسي، أحاول استيعاب ما حدث.

ومع كل هذا الارتباك…

كنت سعيدًا.

---

الساعة الثامنة مساءً.

في حديقة أطفال صغيرة،

جلس أحد الجانحين الثلاثة الذين تنمّروا على أكيهيكو في الصباح،

على الأرجوحة التي تصدر صريرًا مع كل تأرجحٍ بطيء له.

كانت يداه منشغلتين في لعبةٍ منحرفة اخترعها للتو.

قطة صغيرة، بيضاء وبنية،

مدفونة في الرمل حتى رقبتها.

عينها نصف مغلقة، وفمها مفتوح بخفوت كأنها تئنّ بصمت.

كل بضع ث

وانٍ، كان الجانح يلتقط حصى صغيرة من جانبه،

ويرميها نحو رأس القطة.

"إذا أصبتُها… نقطة لي."

هكذا تمتم وهو يضحك ضحكة صغيرة متقطعة.

كان يستمتع.

لكن المتعة انقطعت فجأة.

زمجرة.

زمجرة منخفضة… عميقة… غير بشرية.

جاءت من خلفه، من اتجاه الظلّ الذي لا يصل إليه ضوء عمود الإنارة الوحيد.

توقف الجانح.

حملق في الظلام.

"من هناك؟"

لا جواب.

لكن الزمجرة استمرت…

تقترب…

تزداد حدةً كلما تقدّم خطوة.

اقترب، يجرّ قدميه على التراب الجاف،

نصف خائف، نصف متحدٍ.

ثم حدث الأمر.

من الظلام…

انطلق مجسّ أسود، كأنّه ذراع أخطبوط حاد من الامام مغطاة بالرماد المتحرك،

اخترقت صدره من الأمام إلى الخلف.

صرخ الجانح.

لم يفهم ما حدث.

لم يرَ ما ضربه.

كل ما رآه هو دمه،

ينفجر من صدره كنافورة حمراء،

ويتساقط على وجه القطة المدفونة التي فتحت عينيها فجأة،

ولم تصدر أي صوت.

ارتدّ جسده إلى الخلف وسقط أرضًا.

تقلّب لبضع ثوانٍ، ثم توقف.

اختفى الكائن من الظلام.

2025/06/26 · 28 مشاهدة · 3459 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025