{اليوم الرابع من اللعنة}

كان يوم أحد.

الصمت يلف شوارع الحي منذ الفجر.

في الصباح اجتمعنا أنا و أكيهيكو عند شقة نيمو.

جلستُ على كرسي خشبي يئن تحت وزني، بينما وقف أكيهيكو إلى جواري، عيناه لا تفارقان الأرض.

حكيت كل شيء لنيمو:

كيف التقيت بأكيهيكو، وكيف اكتشف أنه يستطيع رؤية الأرواح.

حين أنهيت كلامي، شعرت أن الهواء صار أثقل.

رفعت رأسي ونظرت إليه، وقلت ببطء:

"...وهذه هي الحكاية."

ساد صمت طويل قبل أن يرفع نيمو نظره إلينا.

حدّق في وجوهنا وكأنه يقيّم مدى صدقنا، ثم قال بصوت خافت:

"حسنًا… لقد سمعتُ من قبل عن شيء يُسمّى الحاسة السادسة."

ارتفع حاجبا أكيهيكو، وقد ظهر في عينيه بريق فضولٍ شاحب:

"حقًا؟ أأنت… لديك هذه القدرة أيضًا؟"

هزّ نيمو رأسه ببطء:

"لا. ولكني قضيتُ سنتين أبحث في كل ما يتعلق بالأشياء الخارقة للطبيعة… وخلال ذلك سمعتُ قصصًا كثيرة عن الحاسة السادسة. لكنني لم ألتقِ يومًا بشخص يملكها فعلاً."

سألته بصوت متهدج:

"هل… لديك معلومات واضحة عنها؟"

رفع نيمو كوب الشاي الدافئ، تأمّل سطحه للحظات، ثم قال ببرود:

"بحسب ما أعرف… الحاسة السادسة ليست موهبة خارقة كما يظن البعض. بل هي تشوّه خلقي."

تبادلنا النظرات في ذهول.

شعرتُ بأن قلبي هبط إلى معدتي.

حتى أكيهيكو بدا كأنه لم يفهم تمامًا ما يعنيه هذا الكلام:

"تشوّه خلقي…؟ كيف…؟"

رفع نيمو يده وأشار بإصبعه إلى عينيه:

"في العادة… يولد كل إنسان طبيعي بغشاء غير مرئي يغطي عينيه. هذا الغشاء لا يمكننا رؤيته أو الشعور به… لكنه يحجب عنّا رؤية الأرواح الساكنة في الأرض."

ترا صمت، بينما أنا وأكيهيكو بقينا نحدّق فيه وكأننا ننتظر تفسيرًا أبسط.

تابع نيمو بنبرة منخفضة:

"لكن… أحيانًا، نادرًا جدًا… تحدث طفرة جينية أو خلل في تكوين ذلك الغشاء أثناء الحمل. فيولد الطفل دون الستار الذي يغطي عينيه… فيرى ما لا يجب أن يراه."

امتقع وجه أكيهيكو.

ترددت شفاهه قليلًا قبل أن يتمتم:

لم أجد ما أقوله، فمددت يدي وربتّ على كتفه.

نظر أكيهيكو في عيني نيمو بثبات، ثم قال بنبرة ممتنة:

"شكرًا لك… على هذه المعلومات القيّمة."

ابتسم نيمو وأشار بيده إشارة خفيفة:

"لا بأس… لا بأس… هذا أقلّ ما يمكنني فعله."

لثوانٍ خيّم الصمت على الغرفة، قبل أن يشيح نيمو بوجهه إلى بليك فجأة، تتلوى ابتسامة ساخرة على شفتيه. ثم انفجر ضاحكًا بشكل غريب، حتى أنه اضطر إلى مسك معدته.

رفع بليك حاجبيه في حيرة، وقال ببطء:

"…ماذا؟"

لم يستطع نيمو التوقف عن الضحك وهو يلوّح بيده كأنه يبعد سؤال بليك:

"لا… لا شيء… فقط… تذكرت شيئًا مضحكًا… سمعت من ميساكي أنك ستذهب اليوم في موعد مع هوتارو."

تجمّد وجه بليك لحظة، قبل أن يحمرّ حتى أذنيه.

شعر وكأن حرارة خجلة تغلي تحت جلده. رفع صوته بتوتر:

"لأنه… لأنه مجرد موعد زائف! لكي أجمع المعلومات! وأيضًا… ميساكي هي التي أجبرتني…!"

قال نيمو وهو يمسح دموع الضحك من عينيه:

"اهدأ، اهدأ… إذا كان موعدًا زائفًا، لماذا أنت متوتر هكذا إذن؟"

أنزل بليك عينيه إلى الأرض، صوته خرج خافتًا مهزوزًا:

"ف… في الواقع… لم أذهب في موعد من قبل… لا أعرف ماذا يفترض بي أن أفعل… ماذا أرتدي… ماذا أقول…"

ساد صمت قصير.

ثم أطلق نيمو تنهيدة شفقة مفتعلة وهو يربت على كتف بليك:

"يا لك من مسكين، بليك… لا تقلق. سأساعدك لتبدو رائعًا… وجذابًا جدًا أيضًا."

لكن قبل أن يرد بليك أو يشكره، انفتح باب الغرفة دون أي مقدمات، وظهر بابادوك واقفًا هناك، عاقدًا ذراعيه ووجهه يحمل ابتسامته المعتادة

حدّق فيهم جميعًا لحظة، ثم قال بصوته العميق الرخيم:

"…مالذي تتحدثون عنه يا رفاق؟"

رفع نيمو يده بتحية غير رسمية:

"مرحبًا، بابادوك. كنا… نناقش كيف نجعل بليك يبدو كالأمير في موعده الأول."

نظر بابادوك إلى بليك ببطء، ثم إلى أكيهيكو و، ثم عاد إليه مرة أخرى، وكأنه لم يصدق ما يسمعه.

قال أخيرًا بنبرة خالية تمامًا من الحماس:

"…موعد؟"

أخفى بليك وجهه بين يديه، هامسًا في يأس:

"يا إلهي… هل يجب أن يعرف الجميع؟"

ضحك نيمو بصوت مرتفع مرة أخرى، بينما اكتفى بابادوك بتنهيدة طويلة جدًا وكأنه نادم على انخراطه في هذا الجمع الغريب.

نظر بليك مباشرة إلى بابادوك بعينين جادتين، كأنه يود التعلق بأي أمل:

"إذًا… هل اكتشفت مكان الكتاب؟"

هزّ بابادوك رأسه ببطء، تعبير البرود المعتاد لا يفارقه:

"للأسف… لا. يبدو أن السارق بارع جدًا في كبت الآثار الهالة. كلما ظننت أني اقتربت، اختفى الأثر."

أغلق بليك قبضته بشدة حتى ابيضت أصابعه، ثم تمتم بغضب مكتوم:

"تبا…"

لم يلبث الصمت طويلًا حتى مسح بابادوك نظره على الجمع، ثم أشار بذقنه إلى أكيهيكو وسأل بنبرة ساخرة مسترخية:

"إذًا يا بليك… من هذا صاحب الوجه الغبي؟"

اتسعت عينا أكيهيكو في صدمة، ثم عبس وقد انتفض واقفًا:

"ماذا قلت؟!"

قبل أن يندلع شجار حقيقي، وضع بليك يده على صدر أكيهيكو ليمنعه من التقدم، وتنهّد وهو ينظر لعين بابادوك بنفاد صبر:

"هذا حليفنا الجديد… أكيهيكو. يمتلك الحاسة السادسة… يستطيع رؤية الأرواح."

تغير وجه أكيهيكو قليلًا من الغضب إلى الفضول، وحدق في بابادوك بتركيز:

"…ومن هذا؟"

رفع بليك يده مشيرًا إلى بابادوك:

"اوه… إنه بابادوك. من الجن."

توسعت عينا أكيهيكو قليلًا بدهشة صادقة، ثم قال ببطء:

"…الجن؟؟؟ آه… تذكرت… هذا الذي حدثتني عنه سابقًا. لم أظن أبدًا أن مظهره سيكون… إنسانيًا هكذا… وليس هذا فقط، بل حتى وسيم… هذا يغيظني."

رمقه بابادوك بنظرة جانبية متكاسلة، قبل أن يرفع أحد حاجبيه وقال بنبرة سخرية لاذعة:

"رائع… المزيد من الحمقى في الفريق… ألا يمكنك جلب شخص قوي فعلًا؟ دائمًا ما تحضر إليّ عديمي النفع."

تضرج وجه بليك بالغضب وهو يصرخ فيه:

"اصمت!"

بينما اكتفى أكيهيكو بشد قبضة يده وهو يتمتم:

"سأريك من هو عديم النفع…"

تدخل نيمو أخيرًا، يصفق يديه بقوة ليقاطع توتر اللحظة:

"حسنًا… حسنًا! كفاكما جدالًا! لقد حان وقت ذهابك إلى موعدك، بليك."

استدار ببطء نحو بليك الذي شحب وجهه وكأنه تذكّر فجأة مصيره القريب.

ابتسم نيمو بمكر وقال:

"علينا أن نختار لك لباسًا فخمًا… ونعطيك التعليمات اللازمة… لا أريدك أن تذهب كأنك خارج من جنازة!"

رفع بليك يده محتجًا:

"انتظر… انتظر لحظة—"

لكن نيمو أمسكه من كتفه ودفعه بخطوات محسوبة نحو الباب الداخلي، وقال بنبرة حماسية:

"لا مجال للهرب… موعدك الزائف سيصبح عرضًا رسميًا إن لم تبدُ بمظهر لائق!"

رمق أكيهيكو وبابادوك بعضهما للحظة.

قال أكيهيكو ببرود:

"…هل يحدث هذا حقًا الآن؟"

رفع بابادوك يده وسوى خصلات شعره بلا مبالاة، وهو يجيب ببرود لاذع:

"صدقني… مع هذا الأحمق… يحدث كل شيء."

الساعة الثانية ظهرًا

كان بليك واقفًا في أحد جوانب الشارع تحت ظل شجرة عتيقة، يتحاشى أشعة الشمس التي تلتمع على الأسفلت. بدا مختلفًا قليلًا عن نفسه المعتادة… فقد كان يرتدي سترة سوداء أنيقة بخطوط فضية رفيعة تعطي مظهرًا راقيًا يليق برجل أعمال شاب، وقميصًا رماديًا باهتًا يفوح منه عطر خفيف لا يثير انتباهًا مبالغًا فيه، مع سروال قاتم مستقيم القصة، وحذاء جلدي لامع. خصلات شعره البنية بدا أنها رتبت بعناية لأول مرة منذ شهور، وكان هناك دبوس فضي صغير على الياقة أعطاه نيمو وقال إنه "لمسة ترف".

رغم كل ذلك، كان واضحًا أنه لا يملك ملامح جذابة بشكل خاص. مجرد فتى عادي، وجهه لا يثير الانتباه، مهما حاولت هذه الملابس إخفاء حقيقة بساطته.

بينما وقف هناك، مرت بخاطره ذكريات ما جرى قبل خروجه. تذكر كيف أصر نيمو أن يرتدي هذه الملابس:

"لو خرجت بملابسك القديمة سأدفنك حيًا، هل فهمت؟"

ثم تذكر ذلك الحديث الأخير مع بابادوك عند باب المنزل:

"احذر… وتذكّر… هذا هو اليوم الرابع، واللعنة تزداد قوة."

رفع بليك بصره حينها وقال بنبرة ثابتة:

"لا تقلق. معي ميساكي لتحميني."

حدق فيه بابادوك طويلًا قبل أن يهز رأسه ببطء ويهمس بصوت منخفض كأنما يوشوشه سرًا ثقيلًا:

"فقط… احذر."

عاد بليك إلى الحاضر مع وخزة توتر في صدره. التفت قليلًا إلى الوراء، حيث كانت ميساكي تقف كالعادة، شبحًا لا يراها أحد سواه، تحدق فيه بهدوء.

قال لها بصوت خافت:

"ميساكي… هل ذهبتِ إلى موعد من قبل؟"

أمالت رأسها قليلاً، ثم هزته نفيًا:

"لا… على حد علمي… ومما قاله نيمو عني، لم أكن مشهورة كثيرًا بين الفتيان. كنت فتاة لا تختلط مع الجنس الآخر إلا نادرًا."

"أوه… حقًا…"

ساد صمت قصير، ثم رفعت ميساكي عينيها إليه وسألت بنبرة خفيفة:

"وأنت… لماذا أنت متوتر هكذا؟ إنه مجرد موعد زائف."

زفر بليك تنهيدة ثقيلة، ورفع بصره نحو السماء كأنه يبحث عن إجابة لا يعرفها أحد:

"إنه… أمر صعب… أن تكون برفقة فتاة وحدكما. يجب أن تتحدث عن أشياء مختلفة حتى لا تفقد اهتمامها، ويجب أن تزورا أماكن متنوعة، وتبدو كأنك تعرف ما تفعله… كل ذلك، بينما في الحقيقة أنت فقط… خائف. إنه شيء محزن. شيء مخيف أيضًا… فأنا لم أكن ذا شعبية بين الفتيات أبدًا."

شعرت ميساكي بشيء غريب في صدرها، يشبه وخزة تعاطف لم تعرفها منذ زمن، وقالت بهدوء:

"…آسفة حقًا… لأنني أجبرتك على هذا."

هز رأسه ببطء، وصوته خرج متعبًا لكنه عازم:

"لا بأس… إنه لأجل المهمة. سأحاول… بكل ما بوسعي."

رفع رأسه قليلًا ينظر إلى نهاية الشارع، يترقب وصول هوتارو… بينما قلبه يخفق كأنه على وشك السقوط.

و عندها

لمح بليك هوتارو تقترب من بعيد بخطوات هادئة واثقة، كأنها لا تعبأ بالزمن أصلًا. كلما اقتربت، ازدادت ملامحها وضوحًا؛ شعرها الطويل الاسود الفاتح يتهادى على كتفيها مع نسمة خفيفة، وعينها تلمع بلون بنية باردة لا يشي بشيء من التوتر.

كانت ترتدي قميصًا أبيض بأكمام قصيرة تُظهر سوارًا أسود بسيطًا على معصمها، وتنورة زرقاء داكنة تصل حتى ركبتيها، وجوارب طويلة سوداء، وصندل جلدي أنيق يليق ببساطتها الرصينة. حقيبة صغيرة علقتها على كتفها، مزينة بقلادة صغيرة معدنية تشبه شارة مدرسة قديمة. لا زينة إضافية، ولا محاولة واضحة للتأنق… ومع ذلك، بدا حضورها ثابتًا لا يزحزحه شيء.

حين وقفت أمامه، رفعت بصرها وقالت بنبرة خفيفة كعادتها:

"آسفة على تأخري."

"ل…لا بأس!" قالها بليك بسرعة، محاولًا تثبيت صوته المرتعش.

بدأ الموعد.

دخلا معًا مقهى صغيرًا هادئًا على زاوية الشارع، كان نيمو قد أوصى به. جلسا قرب النافذة الزجاجية.

لم يعرف بليك كيف يبدأ الكلام، فظل يحدق إلى قائمة المشروبات وهو يشعر أن قلبه يخبط في صدره.

قالت هوتارو ببرود:

"ما رأيك أن تختار أولًا؟"

"آه… نعم… شاي مثلج… من فضلك."

"وأنا أيضًا."

حين حضر النادل، حاول بليك فتح حوار:

"إذًا… هل…هل تأتين إلى هنا كثيرًا؟"

رفعت حاجبها قليلًا وقالت ببساطة:

"هذه أول مرة."

شعر أن العرق يتصبب من رقبته. بحث بيأس عن أي موضوع آخر، لكنه لم يجد. ظل يطرق أصابعه على الطاولة حتى جاء الشاي.

بعدها قررت هوتارو الدخول إلى متجر كتب قريب.

بقي بليك واقفًا خلفها كظل صامت بينما هي تتصفح رفوف الروايات بتركيز تام.

حاول بليك كسر الصمت وقال:

"هل…تحبين القراءة؟"

"نعم."

"آه…هذا جيد."

ثم عاد الصمت.

بعد دقائق طويلة، التفتت نحوه وقالت بنبرة هادئة:

"لماذا تتصرف كأنك ستموت؟"

"لأنني… تقريبًا… أشعر أنني سأموت فعلًا." قلتله في قلبي

خرجا يتمشيان بمحاذاة النهر. نسمة باردة حركت شعر هوتارو وخصلات بليك المبعثرة.

حاول التظاهر بالثبات، لكن قلبه ظل يتقافز كلما اقتربت منه بخطواتها الهادئة.

حين تعثرت قدمه بحجر صغير، حاول حفظ توازنه لكنه كاد يسقط في الماء. مدت هوتارو يدها وأمسكته بثبات، ثم قالت ببرود:

"انتبه."

"شكرًا…آسف…آه…"

"لا بأس."

جلسا في ركن مطعم بسيط. لم يطل الحديث بينهما. كل جملة منه كانت تنتهي برد مقتضب من هوتارو، وكل محاولة منه للتسلية كانت تتحطم على صخرتها الهادئة.

لكنه شعر أنها لا تسخر منه… فقط لا تتكلف كلامًا لا يلزمها.

في لحظة صمت طويلة، شعر بليك أن التوتر بدأ يهدأ قليلًا.

مع غروب الشمس

حين انتهى الموعد، وجدا نفسيهما على جسر قديم يعلو سطح الماء الذي تلون بلون برتقالي ذهبي ساحر.

وقفا جنبًا إلى جنب بصمت، الريح تداعب شعرهما.

قال بليك بخفوت وهو ينظر للغروب:

"كان يومًا طويلًا…"

"نعم."

تردد قليلًا ثم التفت نحوها:

"أنا…آسف إن كنت تصرفت بغباء. لم أذهب في موعد من قبل."

هزت رأسها نفيًا، وقالت وهي تتابع الشمس تغيب وراء الأفق:

"لا بأس. كنت… طبيعيًا. وهذا أفضل، و أنا ايضا هذا كان أول موعد لي."

تفجأ بليك بذالك

ساد صمت خفيف، غريب… لكنه لم يكن مزعجًا.

شعر بليك لأول مرة منذ الصباح أن صدره لم يعد يضيق.

نظرت هوتارو مباشرة في عينيه بعينها البنية. لم تكن نظرتها قاسية، لكنها كانت ثابتة، تخترق دفاعاته الواهية.

قالت ببرود لا يشي بأي انفعال:

"إذن… لماذا دعوتني إلى هذا الموعد؟"

شعر بليك بقشعريرة في صدره، وكأنها أمسكت بخيط دقيق يربط قلبه ولسانه.

"م… ماذا؟ لأنني أردت… أردت الخروج معك…"

رمشت مرة واحدة ببطء، ثم قالت وهي لا تحيد بنظرها عنه:

"أنا لا أحبك يا بليك."

سقطت الجملة على أذنيه ثقيلة، مع أنه يعلم في أعماقه أنها الحقيقة. ومع أنه لم يحبها أيضًا، شعر بشيء غريب ينكمش في صدره… فراغ موجع لا يفسره عقل.

وقف بليك على قدميه، يشيح بنظره نحو الماء الذي بدأ يزداد عتمة. يداه ترتعشان قليلًا. ضاقت أنفاسه من جديد.

"لماذا… يؤلم هذا… حتى لو لم أكن أحبها…؟"

رأت هوتارو كل شيء. حزنه الذي لم يحاول إخفاءه، ارتباكه، وانطفاء بريق التظاهر في عينيه.

أكملت بصوتها الهادئ المقطر بالوضوح:

"وأنت أيضًا لا تحبني يا بليك. في كامل هذا الموعد كنت تتصنع فقط… تتظاهر بشيء لا تشعر به. تريد مني شيئًا… أليس كذلك؟"

انقبض حلقه. حاول فتح فمه لينكر، لكن صوته لم يخرج.

"ه…هذا ليس… صحيحًا…"

"أخبرني الحقيقة."

رفع عينيه أخيرًا لينظر في عينيها. للحظة، شعر أن كذبه الصغير ينهار، وأن كل قناع ارتداه في هذا اليوم يسقط في مياه النهر تحته.

كان صوته خافتًا، متعبًا، حين قال ببطء:

"هوتارو… مالذي تعرفينه عن… ميساكي؟"

لم تتحرك هوتارو من مكانها، ولا رمشت حتى. فقط بقيت تحدق فيه بأستغراب .

انفجعت هوتارو تمامًا حين سمعت ذلك الاسم يخرج من فم بليك، وكأن صاعقة قد ضربتها.

اتسعت عيناها لأول مرة منذ التقيا، واهتزت شفتاها بتعبير لم يكن برودًا ولا هدوءًا… بل مزيج غريب من الغضب والحيرة والخوف.

"م… من أين تعرف هذا الاسم بالضبط؟!"

صوتها ارتفع عن عادته، حتى ارتد صداه فوق صفحة الماء.

لم يجبها بليك على الفور. قلبه كان يخفق بعنف.

"ماذا… ماذا تعرفين عنها…؟"

تراجعت خطوة للخلف، ترتجف أنفاسها، وصرخت وقد تكسرت نبرة صوتها:

"كيف تعرفها أصلًا؟! من أنت؟!"

"أنا فقط… أريد إجابات!"

"اذهب إلى الجحيم!"

أدارت ظهرها بقوة، وبدأت تركض على طول الجسر الخشبي، وصوت كعب حذائها يقرع فوق الألواح الرطبة.

وقف بليك مصدومًا، يراقب جسدها يبتعد بسرعة.

وخلفه… كانت ميساكي واقفة، يكسو وجهها شحوب متوتر. طوال الوقت، كانت ترافقهما من بعيد، تسمع كل كلمة، كل زيف وكل حقيقة.

"إن كانت نظرية نيمو صحيحة… فإنها الآن تستطيع رؤيتي…"

لم تنتظر أكثر. اتسعت عيناها بعزم، وبدأت هي الأخرى تركض في إثر هوتارو. شعر بليك بشيء يشبه الذعر حين رآها تبتعد.

"ميساكي! مالذي تفعلينه؟!"

لكنها لم تلتفت. لم تتوقف.

ركضت حتى صارت خلف هوتارو مباشرة، رفعت يدها بتردد… ثم وضعت أصابعها على معصم هوتارو الهارب.

تجمد جسد هوتارو فجأة.

فتحت عينيها ببطء شديد، كما لو أنها استيقظت من حلم ثقيل، ونظرت إلى يدها… إلى حيث كانت أصابع ميساكي تلامس جلدها مباشرة.

عند تلك اللحظة… شعرت ميساكي بقشعريرة تزلزل أطرافها.

"هل… هل تراني…؟"

بقيت ميساكي تمسك معصمها، وعيناها تترقبان أي ردة فعل…

والصمت الثقيل بينهما، كان أعلى من كل الأصوات.

ما إن لامست أصابع ميساكي معصم هوتارو… حتى اجتاحها إحساس غريب لا يشبه أي شيء شعرت به في وجودها كروح.

كان تيارًا جليديًا، يتسرب من جلد هوتارو إلى جسدها اللامادي، ثم ارتد كصدى موجع في رأسها.

"آ…آآآه…!"

صرخة ميساكي مزقت صمت الغروب.

تشنجت على الفور، ووضعت كلتا يديها على رأسها، تكاد تسقط على ركبتيها من شدة الألم.

كانت هذه أول مرة يرى بليك وجهها هكذا، وجهها الذي لم يفقد هدوءه أبدًا… صار الآن يتلوى بتعبير الألم الخالص.

"ميساكي!"

لكنها لم تجبه.

وانسحب المشهد…

وامتد أمام وعيها ضباب خافت، تداعت فيه الذكريات كسلسلة صور قديمة…

صوت ضحكة خافتة…

فتاتان تجلسان على مقعد خشبي تحت شجرة كرز…

هوتارو تضحك وهي تغطي فمها بيدها، عيناها تلمعان بسعادة صافية.

ميساكي ترتدي زي المدرسة، عيناها خجولتان وهي تقضم قطعة حلوى قدمتها لها هوتارو…

"قلتُ لكِ إنها لذيذة!"

"حقًا… إنها كذلك…"

لقطة أخرى…

كلاهما في مكتبة المدرسة، تجلسان كتفًا إلى كتف، تتبادلان دفتر الملاحظات، تتهامسان وتضحكان وهمسًا يتآمر على العالم…

لقطة ثالثة…

هوتارو تبكي، رأسها مستند إلى كتف ميساكي.

يد ميساكي تربت على ظهرها بهدوء يشبه طمأنينة أم…

"أنا هنا… لن أتركك أبداً…"

انطفأت الذكريات كما بدأت، تاركة فراغًا موجعًا في صدر ميساكي.

فتحت عينيها ببطء، وعيناها ممتلئتان بشيء يشبه الحنين الموجوع…

تخلت عن قبضتها، وانسحبت يدها من معصم هوتارو المرتجف.

حينها وصل بليك، يلهث، يحدق بوجه ميساكي الذي ما زالت تعابيره مزيجًا من الألم والحيرة والاشتياق.

لكن ما أثار قلبه حقًا… لم يكن وجه ميساكي.

بل وجه هوتارو.

كانت تنظر مباشرة إلى ميساكي… تنظر إليها وكأنها تراها حقًا.

عينان متسعتان حتى آخرهما، شفتان ترتعشان، وجهها شاحب كأن الدم قد انسحب منه تمامًا.

الرعب… الفجعة… الرهبة… الصدمة…

كل أنواع المفاجأة التي يمكن أن توجد على وجه إنسان… اجتمعت في ملامحها.

وبصوت مبحوح، خرجت الكلمات من فمها المرتعش:

"…مـ…مـيـسـاكي…؟"

.

صرخت هوتارو صرخة العمر.

صرخة خرجت من أعماق قلبها المذعور، كأنها رأت وحشًا…

وربما كان ذلك طبيعيًا، فمن الذي يمكنه أن يحتمل رؤية صديقه الميت يقف حيًا أمامه بعد سنتين من موته؟

"آآآآااااااه!!!"

كانت تصرخ بعينين متسعتين، ووجه شاحب تمامًا، تحدق في ميساكي بذهول وجنون.

ثم استدارت وهربت…

هربت بكل ما في جسدها من قوة، وكأن الشيطان نفسه يطاردها.

ركضت وهي ما تزال تصرخ، لا تلتفت، لا تتوقف، لا تفكر…

فقط تركض.

"شبح… شبح… شبح!!!"

عبرت هوتارو طرف الجسر كأنها لا ترى العالم حولها، تدفع الناس بعيدًا، دموعها تنهمر من عينيها.

أصوات المارة تتعالى:

"ما بها؟"

"هل هي مجنونة؟"

"من هذه؟"

لكن هوتارو لم تكن تسمع شيئًا.

من فوق الجسر، وقف بليك يتابع المشهد، نظراته متكسرة بين حزن وشفقة.

حزن على ميساكي، التي انكمشت ملامحها من الألم والمرارة…

وشفقة على هوتارو، التي مزقها الرعب.

في داخله تمتم بمرارة:

"تبا… لم أخرج بأي معلومة منها…"

أدار رأسه ببطء نحو ميساكي، محاولًا أن يجد كلمات يواسيها بها.

لكن ما رآه على وجهها جعله يتجمد.

كانت ميساكي تنظر إليه بذهول، عيناها أوسع مما رآهما يومًا.

"أنا… أنا أتذكر…"

"ماذا؟!!"

قبل أن يتمكن بليك من سؤالها أكثر، عاد المشهد إلى هوتارو.

كانت تهرول بين السيارات والناس في الشارع، لا تبالي بشيء سوى الهروب…

أنفاسها متقطعة، وجهها يقطر دموعًا، شفتاها تتمتمان:

"مستحيل… ميساكي… ميتة… كانت ميتة…!"

اندفعت إلى عرض الطريق.

الإشارة حمراء.

هدير المحركات يعلو.

السيارات تنطلق بسرعة.

لكن هوتارو لم تر شيئًا.

وفي لحظة واحدة…

صرير فرامل…

صرخة أخرى… لكنها مقطوعة.

دوي ارتطام.

ثم صمت.

سقط جسد هوتارو على الأسفلت، والدم ينسكب حولها بسرعة مخيفة.

عيون المارة اتسعت بالرعب.

توقف الزمن.

ومن فوق الجسر، تجمد بليك في مكانه، وجهه يتحول للون الرماد…

كانت هوتارو قد ماتت.

2025/07/02 · 35 مشاهدة · 2862 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025