كانت صافرات سيارات الإسعاف تمزق صمت الغروب، وهي تبتلع هوتارو في جوفها المعدني وتفر بها نحو المستشفى.

بليك ظل واقفًا على الجسر، يراقب الأضواء الزرقاء والحمراء وهي تبتعد، وكل شيء داخله يفرغ من المعنى.

لم يذهب خلفها. لم يسأل أيَّ وجهة تقصدها السيارة.

لم يكن يملك الشجاعة أو القدرة على أن يكون هناك حين تفتح عينيها… أو تغلقهما للأبد.

حين خفتت الأصوات، تراجع خطوة، ثم أخرى، ثم استدار.

مشيتُ — هكذا حدث نفسه — لا أكثر. مجرد مشي انتهى بحادث.

لكنه كان يعلم أن هذا كذب.

عاد إلى منزله يجر قدميه وكأنه يعبر سنوات لا شوارع.

وحين أغلق الباب خلفه، انكفأ على أرضية الردهة يحدق في يديه المرتعشتين.

شعر أنه لو نظر في المرآة الآن، فلن يجد سوى شبح رجل صغير بعينين خاويتين.

ذلك الليل، لم يزر المستشفى.

ولم يغمض عينيه.

وحين بزغت شمس اليوم الخامس من اللعنة — صباح الغد .

مر نصف اليوم و مازال بليك في غرفته مصدوما غارقا في افكاره حتى طرق باب المنزل

قام بليك من مكانه و فتح الباب ليجد بابادوك و نيمو و ميساكي واقفين هناك

"مرحبا بليك" قلها نيمو

"مرحبا. تفضلو بالدخول" قال بليك بدون ان ينظرا اليهم

دخلو جميعا ثم قال بليك

كانت يده ترتعش حين أغلق الباب خلفهم.

لم يلتفت. جلس على طرف الأريكة وكأنه جندي مهزوم عاد من معركة خاسرة.

رفع عينيه إلى الأرض، لا إلى وجوههم.

"آسف، نيمو…" قال بصوت أجش متكسر.

"لم أستطع… لم أستطع جلب أي معلومات منها."

مرت لحظة صمت طويلة، تخللتها أنفاس ميساكي المضطربة.

ثم انحنى نيمو قليلًا للأمام، صوته هادئ على غير عادته:

"لا، أنت مخطئ يا بليك. لقد عاد إلى ميساكي بعض من ذاكرتها. نحن نعرف الآن شيئًا مهمًا. صار لدينا خيط يقود إلى من قتلها."

رفع بليك يده ببطء، كأنه يوقف عاصفة:

"لا… لا تقل هذا."

صوته خرج خافتًا، متشققًا بين الخوف والعار:

"أظن… أظن أنني سأ… سأنسحب."

أطبق صمت ثقيل على الغرفة.

ميساكي اقتربت منه خطوة، همست بصوت مرتجف:

"بليك… لا يمكنك… لقد وصلت إلى هذا الحد…"

رفع رأسه ببطء ونظر إليها.

كانت المرة الأولى التي يحدق فيها في وجهها منذ البارحة.

عيناها كانتا غارقتين في حزن يشبه حزنه.

قال بمرارة:

"أنا… لم أرَ في حياتي أحدًا يموت أمامي. لم أذهب حتى إلى جنازة من قبل… ولا أريد… لا أريد أن يحدث هذا مرة أخرى."

صمت ثانية، ثم تابع كأنه يلفظ وزرًا من صدره:

"لو لم أسأل… لو لم أذكر اسمك… لما ركضت… لما ماتت أو أصيبت أو… أو أي شيء."

مد بابادوك يده، وصفق ببطء، بابتسامة غريبة تنضح بالتهكم:

"ها قد عدنا للضعف الإنساني السخيف… اللوم، الشفقة على الذات، الهروب."

تجاهله بليك تمامًا.

نظر إلى نيمو:

"أنا… لن أستمر. هذه… ليست لعبتي. أنتم تبحثون عن أشباح وقصص قديمة… لكنني مجرد ولد عادي."

خفض رأسه، وصوته صار همسًا بالكاد يُسمع:

"مجرد ولد عادي… لا يحتمل رؤية الدم."

صرخ نيمو بصوته الغاضب، وهو يشد قبضته حتى ابيضّت مفاصله:

"ماذا تعني بأنك ولد عادي؟! أنت مالك شمس المعارف، أنت شخص مميز، أنت الوحيد الذي يستطيع مساعدتنا!"

لكن بليك رفع رأسه فجأة، وفي عينيه لمع شيء لم يره أحد فيه من قبل…

الغضب.

"أنا لم أرد هذا!"

انفجرت الكلمات منه كطلقة، ترددت أصداؤها في الجدران الصامتة.

تراجع نيمو خطوة، ذاهلًا، وهو يهمس:

"ماذا…؟"

"أنا لم أرد أن أكون مالك شمس المعارف!"

امتد صوته المرتجف في الغرفة وهو يلوّح بذراعيه المرتعشتين.

"أنا لم أرد أن أصبح وسيطًا بين البشر والأشباح! أنا فقط… فقط كنت أريد حياة عادية… هادئة… مثل كل الناس!"

تساقطت دموعه على وجنتيه وهو يواصل، صوته يزداد خنقًا:

"ذلك الكتاب… لعنة حلت عليّ… دمّر حياتي… كل من حولي يقول إنني مميز… مالك الكتاب… بطل… لكن مميز في ماذا بالضبط؟!"

شهق نفسًا يابسًا، وكأنه يبحث عن شجاعة أخيرة:

"أنا ضعيف… حتى لو امتلكت الكتاب… أنا لست ذكيًا كي أحل جريمة قتل… ولست بطلًا كي أنقذ أحدًا!"

صمت لحظة، ثم خرجت منه جملة أخيرة، مكسورة تمامًا:

"أنا… أنا مجرد فتى خائف… يهرب عندما يشعر بالخوف."

ثم انكمش على الأرض.

ضم ركبتيه إلى صدره وكأنهما آخر حصن يمكنه الاحتماء فيه من هذا العالم.

غطى وجهه بيديه المرتعشتين، وترك الدموع تنساب بلا مقاومة.

في تلك اللحظة، لم ينبس أحد بكلمة.

ميساكي كانت تنظر إليه، عيناها تلمعان بألم لا يقل عن ألمه.

نيمو حدق فيه طويلًا، وقد خفتت نار غضبه شيئًا فشيئًا.

أما بابادوك، فكان صامتًا على غير عادته، يراقبه بنظرة عميقة، شاردة.

وغمر الصمت الغرفة كلها…

ظل بليك منكفئًا، وجهه مخفيًّا بين ذراعيه، وصوته يخرج متكسّرًا يتشقق مع كل كلمة:

"هوتارو… لقد تركتها… تركتها هناك وذهبت… لم أذهب إلى المستشفى… لم أساعدها… لقد… لقد خفت… وهربت… أنا مجرد جبان لعين…"

راح يعصر معصمه بأظافره حتى احمرّ الجلد وبدأ ينزف نقط دم صغيرة.

بابادوك كان يراقبه بلا شفقة. ثم قال بنبرة باردة، لا تحمل سوى فتات الملل:

"هذا صحيح."

رفع الجميع عيونهم إليه في صدمة.

تابع بنبرة هادئة كأنه يروي خبرا تافهًا:

"كل ما قلته صحيح. أنت مجرد جبان لا يستحق الكتاب. وللعلم… أنت أصلًا سبب موتها."

رفع بليك رأسه ببطء، عينيه متسعتين، والدموع تنهمر فوق وجنتيه المرتجفتين:

"ماذا…؟"

هزّ بابادوك رأسه قليلًا، تنهد وكأنه ضجر من غبائهم:

"إنها لعنتك. لقد أصبحت قوية بما يكفي لتؤثر على كل من حولك. الآن… كل من يقترب منك سيبدأ بالموت واحدًا تلو الآخر. هذا هو الثمن."

شعر بليك بشيء يتمزق داخله.

وقف دفعة واحدة وكأن صاعقة ضربته.

قبض على ملابس بابادوك بعنف، شدّه نحوه حتى التصقت وجوهما، وصاح بأعلى صوته، صرخة كسرت سكون الغرفة وجرحت حنجرته حتى صار صوته كخدش صدئ:

"لماذا لم تخبرني من البداية!!! لماذا!!!"

ظل بابادوك يحدق فيه بعينيه الواسعتين السوداوين دون أن يرمش:

"لأنك لو عرفت، لما ذهبت معها أصلًا. وكان من الضروري أن تخرج… أن تتحرك… أن ترى بعينيك ما يمكن أن يحدث."

ثم دفعه بابادوك ببطء عنه كأن إزاحة حشرة.

تراجع بليك خطوة، قلبه يدق بجنون، ذراعه ترتعش بعنف.

شَدّ قبضته، رفعها نحو وجه بابادوك…

لكنها ظلت معلقة في الهواء، عاجزة.

لم يستطع ضربه. لم يستطع حتى أن يكمل حركة يده.

شعر بالخزي يشلّ ساعده كما يشلّ قلبه.

أسدل ذراعه المرتعشة، ثم عاد إلى مكانه، وجلس على طرف الأريكة وهو يحدق في الأرض بعينين زجاجيتين.

دمعة أخيرة انزلقت على خده.

ولم ينبس بعدها بكلمة.

ظل بليك ساكنًا في مكانه.

لم يعد يلتفت لشيء.

لم يعد يسمع سوى جملة واحدة تدور وتدور كطاحونة لا تنكسر:

"أنا هو السبب في قتلها."

ترددت العبارة في رأسه عشرات المرات حتى صار الصدى يؤلمه جسديًا.

شعر وكأن جدران جمجمته تضيق عليه وتكاد تطحن عقله بينهما.

"أنا هو السبب في قتلها."

"أنا هو السبب."

"أنا… السبب…"

رفع نيمو نظره إلى بليك ببطء.

لم يكن في صوته تلك الحدة القديمة ولا الغضب الذي كان قبل دقائق.

لم يبق سوى شفقة ثقيلة، صامتة، تشبه حزن شخص يرى غريقًا يختنق في الوحل ولا يستطيع إنقاذه.

تنهد نيمو، وحرك رأسه كأنه لا يعرف ماذا يمكن أن يقول أكثر.

صوته خرج واهنًا، خافتًا:

"حسنًا… سأذهب الآن."

تلفت نحو ميساكي، التي كانت تحدق ببليك بعينين زائغتين، والذنب ينهش وجهها الشاحب.

"هيا، ميساكي."

ترددت لحظة، كأنها كانت تريد قول شيء، لكنها لم تجد الكلمات.

ثم استدارت بخطوات بطيئة، وخرجت مع نيمو، يغلقان الباب خلفهما في صمت.

لم يبقَ إلا بابادوك.

وقف عند العتبة يراقب بليك طويلًا بعينيه الغائمتين اللتين لا تفضحان شيئًا.

ثم هز رأسه هزة صغيرة ساخرة.

قال بصوته البارد، وفي ابتسامته ظل سخرية لا يرحم:

"مثير للشفقة."

فتح الباب وخرج.

أغلقه خلفه ببطء حتى استقر الصمت في المكان تمامًا.

صمت ثقيل…

كأن الغرفة صارت قبرًا يعيش فيه وحده.

مرت نصف ساعة منذ أن غادر الجميع.

بقي بليك في مكانه، يحدق في الأرض التي بللتها دموعه.

كان يشعر أن صدره جوف فارغ لا يسكنه إلا وخز الندم.

كل فكرة تنبت في رأسه تتحول إلى شوكة تؤذيه أكثر.

حين جاء الطرق الخفيف على الباب، ظن أول وهلة أنه بابادوك عاد ليزيده تحطيما.

تنفس ببطء ونهض.

فتح الباب بيد مرتعشة، ليجد وجهًا لم يكن يتوقعه أبدا.

سورا.

واقف هناك، يحمل بعض الأوراق، يبتسم ابتسامة صغيرة.

يرتدي الزي المدرسي وكأنه جاء للتو من المدرسة.

"مرحبًا، بليك."

حاول بليك أن يلملم حزنه بسرعة كمن يخبئ جرحًا مفتوحًا خلف ثوبه:

"مرحبًا… سورا."

أشار سورا إلى الداخل بنظرة فضولية:

"هل يمكنني الدخول؟"

تنحنح بليك ومسح خده بكم قميصه:

"تفضّل… أكيد."

دخل سورا إلى المنزل ببطء، كانت عيناه تدوران في أرجائه وكأنه يكتشف عالمًا جديدًا.

مرر أصابعه على ظهر الأريكة وتفحص الرفوف المليئة بكتب قديمة وإطارات صور لم تُعلّق.

قال بابتسامة صادقة:

"منزلك جميل يا بليك."

رفع بليك عينيه قليلًا وغمغم:

"أوه… شكرًا لك."

توقف سورا قرب الطاولة ونظر حوله باستغراب:

"هل… تسكن وحدك؟"

"نعم… عائلتي في بلدة أخرى."

هز سورا رأسه ببطء، وصوته صار أهدأ:

"أوه… لا أصدق أن هذا المنزل كبير لك وحدك. ألا… تشعر بالوحدة؟"

لم يعرف بليك كيف يرد.

ابتلع ريقه وهمس:

"أحيانًا."

ثم انشغل سورا بوضع الأوراق بعناية فوق الطاولة.

نظر إليه وقال بنبرة مرحة تحاول أن تبدد ثقل الجو:

"لقد أحضرت لك دروس اليوم… فاتك الكثير. لكن لا تقلق، دوّنت كل شيء."

حدق بليك في الأوراق، شعر بوخز امتنان لا يشبه ذلك الألم الأسود في صدره.

رفع رأسه هامسًا:

"أوه… شكرًا لك. أنت… فعلًا صديق حقيقي."

ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجه سورا.

ثم جلس على طرف الكرسي وقال بفضول:

"لماذا تغيبت اليوم عن المدرسة؟"

تردد بليك لحظة، عينه تهرب من نظرة سورا، ثم اختار الكذب الوحيد الذي وجد فيه ملاذًا قصيرًا:

"أنا فقط… أشعر بالمرض قليلًا."

اتسعت عينا سورا بقلق صادق:

"هل أنت بخير؟ هل… اشتريت الدواء؟"

"نعم… لقد تحسنت… لا داعي للقلق."

ساد صمت قصير بينهما، لم يكن ثقيلًا كالسابق، بل صمت دافئ كأنه هدنة صغيرة من كل شيء سيئ.

قال سورا فجأة وهو يرفع يده قليلًا كمن تذكّر شيئًا مهمًا:

"آه… تذكرت. هل يمكن أن أذهب إلى حمامك؟"

أومأ بليك برأسه بخفوت:

"طبعًا… اذهب إلى الأمام ثم اتجه يمينًا، ستجده هناك."

ابتسم سورا بلطف، ثم سار عبر الرواق الضيق، عينيه تلتهمان تفاصيل المنزل في صمت:

الأرفف العالية التي لم ترتب منذ شهور.

اللوحة المؤطرة لصورة قديمة لرجل عجوز يشبه بليك في ملامحه.

والنافذة الصغيرة التي تخللها غبار أصفر يرقص في ضوء الغروب.

مرت لحظات هادئة، ثم عاد سورا وهو يجفف يديه في منديل صغير:

"شكرًا لك."

رد بليك وهو ينظر إلى الأرض:

"لا بأس…"

نظر سورا إلى ساعته، ثم إلى الباب بتردد:

"آه… آسف، يجب أن أذهب الآن. تأخرت عن العودة للبيت."

رفع بليك عينيه قليلًا، حاول أن يخفي انقباض صدره حين شعر أن الوحشة ستعود حالما يرحل سورا:

"حسنًا… يمكنك أن تأتي في أي وقت."

ابتسم سورا بصدق، ورفع يده يلوّح بها وهو يخطو إلى الخارج:

"سآتي بالتأكيد."

وقف بليك عند العتبة، يلوّح له بخفة.

تابعه وهو يمشي مبتعدًا في الشارع الخافت حتى ابتلعته زوايا المنازل.

ثم أغلق الباب ببطء، وأحكم المزلاج كأنه يغلق على قلبه أيضًا.

أسند ظهره على الخشب البارد، زفر نفسًا متعبًا، وشعر كيف تعود العتمة لتملأ صدره من جديد.

في حضرة سورا، استطاع أن يتظاهر بأن قلبه لا ينزف.

لكن الآن… لم يعد يحتاج إلى التظاهر.

عاد إلى الاكتئاب الذي كان يكممه طوال تلك الدقائق، وكأنه يعود إلى رداء قديم يعرفه جيدًا.

جلس على الأريكة، أسند وجهه بين يديه، وترك الصمت يلتهمه بلا مقاومة.

غفى بليك قليلًا.

للمرة الأولى منذ أيام، سكن الضجيج في رأسه.

تلاشى الصدى المريع لتلك العبارة التي طحنته منذ الأمس…

"أنا هو السبب."

في النوم، وجد ملاذًا صغيرًا لا يلاحقه فيه شيء.

لكن النوم لم يدم طويلًا.

استيقظ على صوت طرق متواصل على الباب، ففتح عينيه في ثقل، تمتم:

"من الآن…؟"

قام بخطوات بطيئة وفتح الباب.

هناك، يقف أكيهيكو، وجهه متوتر، عيناه تبحثان عن شيء في عيني بليك.

بدون أي مقدمات، قال بنبرة جادة:

"مرحبًا بليك. أيمكنني الدخول؟"

تنهد بليك، طرف عينه يرمش ببطء كأنه استنزف كل مشاعره:

"تفضل…"

دخل أكيهيكو وجلس على حافة الكرسي، وضع حقيبته الصغيرة أرضًا، ثم نظر إلى بليك طويلًا وقال:

"بليك… لقد سمعت خبرًا في المدرسة عن… عن موت… ميساكي."

أومأ بليك ببطء، صوته خرج بلا حياة:

"أجل… لقد ماتت."

شحب وجه أكيهيكو.

"آسف…"

لم يرفع بليك نظره إليه، حدق في الأرض، وقال بصوت خافت كأنه يعترف بجريمة:

"لا تتأسف… كل شيء حصل بسببي."

تجمد أكيهيكو في مكانه، لم يفهم.

"ماذا… تعني؟"

ابتسم بليك ابتسامة صغيرة يابسة، لا تشبه أي سعادة:

"بسبب غبائي… وثقتي الزائدة… تصورت أني أستطيع المساعدة… فانتهى بي الأمر أتسبب في قتل فتاة بريئة."

قال أكيهيكو بتوتر:

"ماذا… ماذا تعني؟ ألا يمكنك أن تشرح لي بتفصيل؟"

صرخ بليك فجأة، وارتعد صوته من حنق مكبوت:

"لعنتي!!! إنها لعنتي!!! تقتل كل من حولي… ليس أنا فقط! أنت أيضًا… لو بقيت معي… ستموت مثلي!"

سكت أكيهيكو قليلًا.

شاهد ارتعاش كتفي بليك، يده التي كانت تقبض على حافة الأريكة حتى ابيضّت.

ثم رفع رأسه وقال بنبرة هادئة بشكل غريب:

"…لا يهم."

رفع بليك نظره، عيناه متسعتان:

"ماذا؟"

كرر أكيهيكو بصوت أبطأ:

"قلت… لا يهم. أنت أخي. لقد وجدت أخيرًا أشخاصًا مثلي… والآن… لن أتخلى عنهم أبدًا. حتى لو كان الأمر مميتًا."

ضحك بليك ضحكة خاوية من القلب:

"هذا غباء… أتريد الموت؟! ابتعد عني… عش حياتك… أنا شخص ملعون… شخص خطر… لا يجب لأحد أن يقترب منه!"

قال أكيهيكو بعناد:

"لكن…"

صرخ بليك من جديد، دموعه تهتز على رموشه:

"لا أريد أن أخسر شخصًا آخر أيضًا!!!"

سكت أكيهيكو، خفض رأسه، صوت أنفاسه يعلو وينخفض.

ثم قال بصوت مرتعش:

"…إذاً… سوف تنسحب."

لم يرد بليك، فقط أغلق عينيه.

فتح بليك عينيه وحدق فيه شاحبًا، همس بنبرة بلا أي دفء:

لقد انسحبت بالفعل."

تشنج وجه أكيهيكو.

صرخ فجأة في وجهه، صرخة مجروحة تشبه عواء كلب طُعن:

"ماذا؟! بعد كل ما فعلناه؟ بعد كل ما خضناه؟!"

رفع بليك يده ومررها على وجهه المبلل، ثم قال بخفوت:

"لا… لا أهتم… لقد دخلت بالفعل في نقاش مع نيمو على هذا… ولا أريد أن أعيده… فقط… اتركني… واذهب."

صمت طويل.

شعر أكيهيكو أن قلبه يسقط شيئًا فشيئًا في فراغ لا نهاية له.

لكنه لم يجد ما يقوله بعد.

لم يجد أكيهيكو ما يقوله…

لكنه وجد ما يفعله.

وفي لحظة صمت مفاجئ، رفع قبضته، وبلا أي تحذير، ضرب بليك بلكمة قوية على خده.

ارتطم رأس بليك بحافة الأريكة، وسقط مترنحًا، يحدق فيه مذهولًا.

رفع يده ببطء إلى خده المتورم، همس بذهول:

"ما الذي… تفعله…؟"

قال أكيهيكو بصوت يهتز، لكن عينيه كانتا مشتعلتين بعناد حارق:

"أفعل ما يجب فعله."

"ماذا…؟"

اقترب أكيهيكو خطوة، صوته يرتفع مع كل كلمة:

"أتظن أنك الوحيد الذي يتألم هنا؟ أتظن أنك الوحيد الضعيف؟! أنا أيضًا… مجرد جبان! أنا لا أعرف كيف أقاتل! أنا لست ذكيًا لتلك الدرجة! لكنني… أحاول! لا أترك أصدقائي ليغرقوا وحدهم في مستنقعهم!"

حدق فيه بليك، تنفسه يتقطع.

أكمل أكيهيكو، ودمعة لامعة سالت على خده:

"أتظن أنك الوحيد الملعون؟! أنا ملعون طوال حياتي بهذه القدرة اللعينة التي جعلتني غريبًا عن الجميع!"

هز بليك رأسه ببطء، صوته يرتعش:

"لكنني… شخص خطير… وجودي نفسه خطر عليكم!"

رفع أكيهيكو ذقنه بعناد:

"سوف أتحمل هذه الخطورة! وسوف نخرج من هذا المأزق بنصر… شئت أم أبيت!"

"لِمَ…؟ لِمَ لا تفهم…؟ أنا لا أستطيع… أنا مجرد إنسان!"

أمسك أكيهيكو كتفيه بقوة حتى آلمه:

"وأنا أيضًا مجرد إنسان! نيمو أيضًا إنسان! كلنا بشر! البشر يخطئون… يخافون… ينهارون… ثم ينهضون!"

ارتجفت شفتا بليك:

"لقد تسببت في مقتلها… لم أستطع إنقاذها… هربت فحسب… أنا… أنا مجرد شخص خائف!"

رفع أكيهيكو صوته حتى كاد يصرخ:

"وما العيب أن تكون خائفًا… حتى مرعوبًا؟! أنا أيضًا خائف… أريد بشدة أن أهرب… لكني لا أريد! لأنني لو لم أساعد اليوم… فسوف أندم لبقية حياتي!"

هز كتفي بليك مرة أخرى حتى كاد يسقط دموعه على الأرض:

"والآن… قف يا بليك إيثر! نيمو معك! ميساكي معك! بابادوك معك! وأنا… أنا معك! وسنُنهي هذه اللعنة… إلى الأبد!"

نظر بليك في عينيه…

شيء ما غريب اشتعل في صدره…

كان الألم في رأسه يذوب تدريجيًا…

كأن غطاء ثقيل أزيح عن قلبه.

لأول مرة منذ أيام… شعر أن الصمت في صدره ليس فراغًا بل بداية.

نهض ببطء على قدميه.

نظر في عيني أكيهيكو، وصوته خرج أوضح من أي وقت مضى:

"…وماذا عن هوتارو؟ ما ذنبها؟"

قال أكيهيكو بخفوت، ويداه لا تزالان تشدان على كتفيه:

"سوف تتذكرها… نعم… لكن لا كذنبك… بل كأحد الأسباب التي ستحملك للأمام. نحن من أجبرناك على الخروج معها… لذلك… لا تحمله وحدك. سنحمله معك."

شعر بليك ببريق غريب يتوهج في صدره…

شعور خافت يشبه القوة… يشبه الشجاعة التي ظن أنه لن يعرفها أبدًا.

رفع رأسه، وتنفس بعمق، وعادت ملامح وجهه تتصلب وتصير صافية.

صوته خرج واثقًا، ممتلئًا بإصرار لم يعرفه من قبل:

"…أنا لن أستسلم."

نظر في عيني أكيهيكو، ورفع قبضته ببطء:

"لن أخاف… ولن أهرب بعد الآن. أنا بليك إيثر… مالك كتاب شمس المعارف… ومع الجميع… سننقذ الموقف."

أمسك بليك بيد أكيهيكو فجأة، وصوته مليء بعزيمة جديدة:

"هيّا!"

شدّه للخارج وهو يركض دون حتى أن يلتقط أنفاسه.

قال أكيهيكو وهو يحاول مجاراته:

"أين… أين سنذهب؟!"

رد بليك بسرعة دون أن يلتفت:

"إلى نيمو!"

ارتسمت ابتسامة واسعة على وجه أكيهيكو، وبدأ يجري معه، كأنهما طفلان يركضان نحو مغامرة جديدة.

بعد ركض طويل، كانا يلهثان كأن رئتيهما ستنفجران.

وقفا أخيرًا أمام المبنى القديم المتهالك.

استند أكيهيكو إلى الجدار، وقال وهو يلهث:

"لم… لم أعرف… أن منزلك بعيد لهذه الدرجة… عن المبنى…"

لم يرد بليك، بل دفع الباب بسرعة، وصعد الدرجات وكأن النار تلاحقهما.

فتح باب الطابق العلوي، فوجد نيمو جالسًا وسط أكوام الدمى القديمة، يرتّب شيئًا بين يديه.

رفع نيمو رأسه ببطء، وقد اتسعت عيناه بدهشة:

"…بليك؟!!!"

تقدم بليك بخطوات بطيئة، يده ترتعش قليلاً، وقف أمام نيمو مباشرة.

كانت نظراته تقول كل شيء قبل أن ينطق بكلمة.

تنفس بعمق، خفض رأسه، ثم قال بصوت واضح:

"…آسف يا نيمو… على كل ما قلته… وعلى… الطريقة التي تركتك بها."

تسمرت نظرات نيمو عليه، كأنه لا يصدق ما يسمع.

هز رأسه ببطء، وصوته خرج خافتًا:

"لا… لا تعتذر أنت وحدك… أنا أيضًا… قلت كلامًا قاسيًا… وكنت عنيدًا… آسف."

رفع بليك عينيه، وقال بنبرة صادقة، كأنه يسلّم قلبه بين يديه:

"كنت خائفًا جدًا… خائفًا لدرجة أنني ظننت أن الهرب هو الحل الوحيد… لكنني فهمت الآن… أنني لست وحدي."

تنفس نيمو ببطء، وضع الدمية الخشبية من يده جانبًا، وحدق في بليك طويلًا، ثم قال بنبرة هادئة:

"وأنا… كنت أحمق لأنني ظننت أن شجاعتك ستظل موجودة حتى لو حملتك كل المسؤولية وحدك… أنت لست بطل قصة… أنت فتى عادي يحاول… وأنا لم أحترم ذلك."

ابتسم بليك بخفة، رغم الدموع التي ظلت تتلألأ في عينيه:

"ربما أنا لست بطل قصة… لكني سأكون شخصًا لا يهرب بعد الآن."

مد نيمو يده إلى بليك.

تردد لحظة… ثم صافحه بقوة.

قال نيمو بصوت جاد يملؤه الصدق:

"معًا… سننهي هذه القصة… لا يهم كم ستؤذينا."

شد بليك على يده، ثم تركها ببطء:

"معًا."

وقف أكيهيكو يراقبهما من الباب، وابتسامة دافئة ارتسمت على وجهه.

وللحظة… شعروا جميعًا أن هذا المكان المليء بالغبار صار أرحب وأكثر أمانًا من أي مكان آخر في العالم.

بعد لحظة الصمت الهادئ بينه وبين نيمو، شعر بليك بشيء يقترب بسرعة…

وفجأة، قفزت ميساكي عليه من الخلف، عانقته من تحت ذراعيه بقوة، حتى كادت تسقطه على وجهه.

تجمد في مكانه، قلبه يطرق صدره بجنون.

لم يتوقع منها أن تفعل شيئًا كهذا…

بل لم يتوقع من نفسه أن يشعر بهذا القدر من الخجل.

لم يستطع حتى الالتفات إليها، اكتفى بأن يحدق في نيمو بتعبير محرج وصوت مرتعش:

"نـ… نـ… نيمو… هل كانت ميساكي… بهذه… العاطفة من قبل…؟"

قالها وهو يزدرد ريقه، وحرارة وجنتيه لا تخفى على أحد.

رد نيمو بابتسامة خفيفة، عينيه تلمعان بشيء يشبه المزاح:

"آه… في الواقع، منذ أن استعادت بعض ذكرياتها… نقص برودها كثيرًا. يمكن القول إنها… عادت أقرب قليلًا لما كانت عليه."

"حقًا…؟"

أومأ نيمو.

وبينما لا تزال ميساكي تحتضنه، رفع يده ببطء وربت على ذراعها بخجل شديد.

ثم أبعدت ذراعيها عنه، وتقدمت خطوتين لتقف أمامه مباشرة.

كانت تبتسم… ابتسامة صغيرة هادئة، لكنها صادقة على نحو أربكه أكثر من العناق ذاته.

قالت بصوت شفاف يلمس قلبه:

"مرحبًا بعودتك."

رفع بليك رأسه إليها، ولم يستطع منع ابتسامته من التسلل أخيرًا إلى وجهه:

"…أجل. لقد عدت."

بدا للحظة أن الدموع ستغلبه مرة أخرى، لكنه هذه المرة لم يبكِ.

هذه المرة شعر بشيء يشبه الامتنان.

تدخل نيمو، صوته عاد إلى جديته المعتادة:

"حسنًا… والآن، بعد أن استعدت شجاعتك… سنعود إلى الجدّ."

نظر إليه بليك بتركيز:

"الجد…؟"

هز نيمو رأسه ببطء، عينيه تضيئان بالحزم:

"أعني أننا الآن نمتلك خيطًا مهمًا… يقربنا من القاتل."

تقدم أكيهيكو خطوة للأمام، وقد عاد هو الآخر إلى صرامته:

"ما هو هذا الخيط؟"

تبادلوا النظرات الصامتة…

شعر بليك أن قلبه يطرق صدره مجددًا، هذه المرة ليس خوفًا… بل لأن الحقيقة تقترب.

ساد صمت مشحون.

ثم قالت ميساكي بصوت خافت، كأنها تنبش ذاكرتها ببطء:

"…لقد تذكرت شيئًا… فتاة… كانت دائمًا تتحدث معي قبل أن… أموت."

انعقد حاجبا بليك، خطا خطوة نحوها:

"ومن هي؟"

رفعت عينيها إليه، وصوتها خرج أهدأ مما توقع:

"فتاة… تُدعى كوغامي."

"كوغامي…؟"

أومأت بخفة.

قالت بنبرة متماسكة رغم الذكريات التي تعبر وجهها:

"إنها الفتاة الجانحة… تلك التي رأيناها أول مرة… يوم قابلنا أكيهيكو."

في اللحظة نفسها، صرخ بليك وأكيهيكو معًا:

"ماذاااااا؟!"

تبادل نظرة مذهولة مع أكيهيكو.

تذكرها جيدًا… تلك النظرة المتحدية، الضحكة الساخرة، العصا الخشبية التي كانت تلوّح بها.

لم يخطر بباله أبدًا… أن تكون تلك الفتاة نفسها قد عرفَت ميساكي.

تمتم أكيهيكو وهو يضع يده على رأسه:

"يا إلهي… لم أتوقع هذا أبدًا…"

ظل بليك ساكتًا لحظة، يحاول تجميع قطع الصورة التي بدأت تكتمل في ذهنه.

قال ببطء، وكأنه يقنع نفسه:

"لكن… هل نحن متأكدون أنها تملك معلومات مهمة؟… خصوصًا أن هوتارو نفسها لم تكن تعرف أي شيء عن سبب موت ميساكي…"

قال نيمو بصوت منخفض، لكنه حازم:

"نحن متأكدون."

"…كيف؟"

لم يجب نيمو بالكلام أولًا.

مد يده إلى جيب معطفه الرمادي، وأخرج ورقة مطوية بعناية.

ناولهما إياها دون أن يشرح.

تبادل بليك وأكيهيكو نظرة قصيرة، ثم فتحا الورقة ببطء…

تجمّدت أنفاسهما.

كان إعلانًا صغيرًا…

إعلان وفاة غامضة لجانحين اثنين.

لكن الأشد غرابة…

أنهما كانا نفس الصبيين اللذين كانا دائمًا مع تلك الفتاة.

قال نيمو بنبرة باردة، عينيه تلمعان بقلق حقيقي:

"حسب معلومات بابادوك… سبب موت هذين الجانحين هو وحش اللعنة."

شهق أكيهيكو:

"ماذا…اذن ان هؤلاء الجانحين كانو سبب في موت ميساكي سابقا؟"

أومأ نيمو ببطء:

"نعم… لقد بدأ يتحرك بالفعل. إن لم نسارع… سيموت المزيد من الناس."

شعر بليك بشيء يضغط صدره.

نظر إلى الورقة مرة أخرى، ثم رفع رأسه ببطء نحو نيمو، وقال بنبرة عميقة:

"هل هذه الفتاة… كوغامي… تدرس معنا في نفس المدرسة؟"

أجاب نيمو بسرعة:

"نعم… إنها تعيش حياة مزدوجة. حياة جانحين… وحياة طالبة مؤدبة."

حك أكيهيكو رأسه بعصبية:

"هذا… هذا غريب بحق…"

تدخل بليك، وصوته هذه المرة لا يشبه صوت الفتى المنهار بالأمس:

"إذًا… لا خيار أمامنا. يجب أن نجدها… قبل أن يفعل الوحش ذلك."

رفع نيمو عينيه إليه.

ولأول مرة منذ بداية هذا الكابوس…

رأى في عيني بليك شرارة قائدٍ لا ينوي الاستسلام

الليلُ كان يلتهم المدينة قطعةً قطعة.

الشارعُ ضيق، تتراقص فوقه أضواء النيون الباهتة، وتذوب مع ضباب بارد يكسو الأرصفة.

كان آخر الجانحين يترنح بين الظلال، خطواته تفضحه أكثر من أي صرخة:

قدمٌ تخبط الأرض، أخرى تتعثر، وقلبه يخبط صدره وكأنه يريد الفرار وحده.

كان خائفًا… خائفًا حدّ الجنون.

كل من عرفهم ماتوا.

واحد… تلو الآخر…

صرخاتهم ما زالت تحفر أذنيه.

نظر يمينًا…

يسارًا…

خلفه…

أمامه…

ثم عاد يلتفت بجنون كأن الظلال كلها تنقضّ عليه.

لكن حين استدار تمامًا للخلف…

توقف قلبه قبل قدميه.

هناك… في آخر الزقاق…

شيء خرج من العتمة.

وحش بلا ملامح.

لم يكن له جسد واضح…

بل كتلة هولامية عملاقة، كأنها سلايم بشري بلون أرجواني غامق داكن، يبتلع الضوء حوله.

تدلّت على جانبيه شُرَطٌ هلامية سميكة…

ومن منتصف رأسه الكروي، انبثقت عينان ضخمتان…

بلا بياض، بلا بؤبؤ…

فقط وهجٌ أصفر باهت…

لكنه بدا حادًا كخنجر، يشقّ الظلام لينغرس في صدر فريسته.

تراجع الجانح، كأن قدميه انفصلتا عن إرادته.

همس بفمٍ جافّ:

"…يا…يا رب…"

قبل أن يستطيع حتى أن يصرخ…

زمجرة.

زمجرة لا تصدر من فم، بل من الفراغ نفسه…

كأن الهواء صار شبحًا يهدد بخلعه من مكانه.

وبلمح البصر…

هوت واحدة من تلك المجسات الهلامية، بسرعة خاطفة…

تشقّ رقبته من اليمين.

خرجت نافورة دماء هائلة، ارتفعت في الهواء كعرض شيطاني.

صرخته قطعت سكون الليل، ارتطمت بجدران الأبنية ثم انكسرت إلى ألف شظية رعب.

رفع يده المرتعشة يمسك جرحه، لكن أصابعه غاصت في اللحم المفتوح…

لا وقت حتى ليستوعب الألم.

امتدت مجسات مسننة أخرى من قلب الوحش…

تلتمع كالمنشار، تغرق بلون الدم القاني.

ثانية واحدة فقط…

ثم اخترقت جمجمته من جانبيها، وصوت عظامه وهي تتحطم دوى في الشارع كطرق باب جهنم.

تجمد صراخه في حلقه.

ارتعشت عيناه للحظة…

ثم خمدت للأبد.

ترك الوحش جسده ينهار ببطء على الرصيف، تاركًا على الجدار المقابل قوسًا واسعًا من الدم…

كأن شخصًا ما رسم لوحة موت مقصودة.

عاد الهدوء.

لم يبقَ سوى مجسات ترتعش في الهواء، تبحث عن رائحة دم جديدة.

وفي ظلال الأبنية…

تقلصت العينان الصفراء قليلاً…

وكأن الوحش يبتسم.

قبل أن ينزلق الوحش بعيدًا، شقّ سكون الليل صوت بارد ساخر:

"إذًا… أنت وحش الكتاب؟"

توقّف الوحش، التفت ببطء.

ذلك الصوت كان يقطّر ازدراءً خالصًا.

"ظننت أن شكلك سيكون… أفخم قليلًا."

خرج من الظلال رجل بملابس سوداء فاخرة، معطف طويل تتلاعب أطرافه بالريح، وقبعة عريضة الحواف تظلل عينيه تمامًا.

في يديه، حمل مظلة مغلقة بإحكام، أطول من ذراعه، وكأنها عصا سيرك مسحورة.

بابادوك.

ارتسمت على شفتيه ابتسامة خبيثة باردة وهو يرفع ذقنه قليلًا:

"وأخيرًا وجدتك… ظننت أنني سأظل أطارد ظلالك للأبد… لكن حُسن الحظ أنني قررت تتبع هذا الجانح الصغير."

زمجر الوحش بصوت أجوف يتردّد كارتعاش معدني.

وفي اللحظة التالية، اندفع مجس مدبب نحو وجه بابادوك بسرعة تخرق الهواء.

لكن بابادوك لم يحرّك سوى عنقه، مال به بزاوية طفيفة، لتمرّ الضربة على بُعد شعرة.

لم يختفِ ابتسامته حتى لحظة.

بهدوء غير طبيعي، رفع المظلة…

ثم بضربة سريعة خاطفة قطع المجس من منتصفه.

تراجع الجزء المقطوع يرتعش على الإسفلت… لكن الوحش لم يتأثر.

على العكس، زمجر بقوة أكبر.

انبثقت ثلاثة مجسات إضافية، أطول وأثخن، واتجهت كلها لتخترق صدر بابادوك معًا.

لكنه في اللحظة التالية…

اختفى.

كأنه لم يكن موجودًا أصلًا.

انغرست المجسات الثلاثة في الحائط المقابل، فتصدع كلوح زجاجي مهشم.

ظهر بابادوك فجأة فوق عمود إنارة، يوازن جسده بخفة:

"أتعرف… أنت تذكّرني ببركة المجارير خلف مسرح الأوبرا…"

وفي غمضة عين…

اندفع من فوق العمود مباشرة نحو الوحش، وهو يلوّح بالمظلة بقوس واسع.

ضرب جسد الوحش ضربةً عنيفة اخترقته تمامًا حتى خرج طرف المظلة من الجهة الأخرى.

لكن السلايم المائع انشقّ ثم عاد ينغلق بلا أثر دم أو ألم.

هبط بابادوك على ركبته، وهو يتأمل الوحش باهتمام وكأنه يدرس لوحة:

"ممم… لا هيكل عظمي… لا أعضاء… لا نقطة ضعف واضحة… ممتع."

زمجر الوحش ثانية، ثم انطلقت مجسات لا تُحصى، عشرات المجسات الرهيبة، انفتحت كلها في وقت واحد…

امتدّت في كل اتجاه، لتسحقه تمامًا.

لكن بابادوك لم يرمش حتى.

رفع المظلة أمام وجهه، وصوته بارد قاتل:

"…لكن للأسف… لا وقت عندي للعب."

فتح المظلة فجأة.

خرج منها وهج أرجواني قاتم، كأنها هاوية مفتوحة.

ابتلعت المجسات كلها في لحظة، تقطّعت وهي تصرخ وكأنها مخلوقات حيّة.

ثم أغلق المظلة بحركة بطيئة.

نظر إلى الوحش، وصوته صار أكثر برودًا:

"لن أسمح لك بالهرب الليلة… حتى لو اضطررت إلى تمزيق كل خلية في جسدك الهلامي هذا."

تراجع الوحش خطوة، عيونه تومض بضوء شاحب غاضب.

كانت الزقاق كله ينبض بتوتر قاتل، صدى خطى بابادوك يقطع قلب الظلام.

وبصوته الواثق العميق، قال:

"هيّا… أرني كل ما لديك."

---

قفز الوحش فوق سطح بناية، كتلة هلامية عملاقة تتأرجح في الهواء كشبح لزج.

حطّ على السقف المعدني بقوة جعلته يئن، ثم وثب إلى المبنى المقابل بخفة صادمة لحجمه.

قفز مرةً ثالثة، حتى ابتعد عن الزقاق الذي شهد بداية الصدام.

لثانية، خيّل إليه أنه نجا.

لكن فوق السطح الذي استقر عليه…

هبط بابادوك بخطوة هادئة.

تصدّع البلاط تحته، صوت وقفته أشبه بختم قدر.

تراجع الوحش خطوة، لكن عينيه الصفراء التمع فيهما ضوء مميت.

أطلق زمجرة مريعة، ترددت بين الجدران كصدى جحيم.

وفي اللحظة التالية…

انفجر جسده.

عشرات المجسات المسننة خرجت من كل جهة:

من أعلى رأسه، من جانبيه، من أسفل جسده الهلامي…

كلها اندفعت مرة واحدة نحو بابادوك، بسرعة تشبه سقوط صواعق.

رفع بابادوك مظلته بيد واحدة، وفردها أمامه في حركة هادئة بدت لأول وهلة غير كافية.

لكن عندما اصطدمت أولى المجسات…

تكسرت على حواف المظلة المفتوحة وكأنها تضرب جدارًا فولاذيًا غير مرئي.

لم تمنح الوحش وقتًا للدهشة.

المجسات التي حاولت الالتفاف خلفه باغتته، لكن بابادوك أدار جسده في حركة انسيابية مذهلة، وأغلق المظلة بسرعة مروعة.

وفي لحظة خاطفة، صار جسده كله في حالة حركة:

ضربة قاطعة للمجس الأول.

لفّة خاطفة يتفادى بها الثاني.

قفزة نصف متر في الهواء لتجنب ثالث اندفع أسفل ساقيه.

ثم هبوط رشيق، ليقطع أربعة مجسات بضربة واحدة، وكأنه يرسم إشارة صليب على جسد الوحش.

المجسات كانت تحاصره من كل اتجاه:

تندفع نحوه دفعاتٍ دفعات، بعضها يأتي من الأعلى وبعضها يضرب من الخلف.

لكنه بدا وكأنه يرقص.

كل خطوة محسوبة.

كل انحناءة تكشف نصف سنتيمتر تفصله عن الموت.

وكل مرة يرفع فيها المظلة، كانت تتحول إلى نصلٍ مريع يجزّ المجسات كأنها أعشاب رطبة.

زمجرة الوحش ارتفعت أكثر… خليط من الألم والحنق.

استمر هذا الطوفان المجنون دقائق كاملة.

كل مرة يحاول الوحش إغراقه بالعدد، كان بابادوك يحوله إلى ميزة:

كل مجس يقطع، يجعله ثغرة جديدة.

كل ضربةٍ يتفاداها، يفتح طريقًا أوسع.

في لحظة قصيرة توقف فيها الهجوم، وقف بابادوك وسط عشرات المجسات المقطوعة المرتعشة على الإسفلت.

أنفاسه هادئة تمامًا.

ابتسم، ورفع المظلة أمام وجهه حتى كادت تغطي عينيه.

"…انتهيت."

ثم بخطوة للأمام…

اندفع بكامل جسده، رمى المظلة وكأنها رمح حرب أسود.

المظلة انطلقت بسرعة هائلة.

شقّت الهواء صريرًا، دارت حول محورها كدوامة سوداء، واخترقت صدر الوحش في صدمة عنيفة.

في اللحظة التي لامسته فيها…

تصلّب جسد الوحش كقطعة زجاج أرجواني.

ثم…

انفجــــــــر.

تطايرت شظايا هلامية سوداء في كل اتجاه، ارتطم بعضها بالجدران وعلق مثل الوحل.

سقطت أجزاء من المجسات المسننة على الأسطح المجاورة.

ارتدّ صدى الانفجار بين الأبنية، كأنه إعلان موتٍ محتوم.

وقف بابادوك بلا حركة، يراقب كيف تنطفئ العيون الصفراء الأخيرة ببطء…

ثم خبا وهجها تمامًا.

مد يده ببطء، والتقط مظلته الملوثة ببقايا سائلة، ومسحها بحافة معطفه السوداء.

نظر إلى حيث كان الوحش، وصوته خرج أكثر برودًا من العتمة:

تلاشى الدخان الهلامي الذي خلفه الانفجار، وعم الصمت الموحش.

كان بابادوك يراقب الشظايا اللزجة الأرجوانية المتناثرة على الأسطح والشارع.

لم يتحرك خطوة.

أنزل مظلته ببطء وهو يراقبها…

لكن فجأة…

خيوط رفيعة شفافة امتدت من كل قطعة.

خيوط كأنها خيوط عنكبوتية شفافة، راح كل منها يزحف على الإسفلت وجدران المباني، تشق طريقها في صمت كريه، وتشد البقايا بعضها نحو بعض.

قطرة… قطرتان… قطعة… ثم قطعة أخرى…

في ثوانٍ، تجمعت الشظايا كلها في بقعة واحدة وسط الشارع، تتحرك وتلتحم وتتماوج كأنها قلب ينبض.

ثم ارتفعت تلك الكتلة، واستطال شكلها تدريجيًا ليعيد تكوين الجسد الهلامي المخيف.

انبثقت العينان الصفراوان ثانيةً…

وومضت في الظلام.

قال بابادوك بصوت منخفض، بلا انفعال لكن بنبرة كأنها حجر يطحن:

"يا لك من مخلوق مزعج…"

لم ينتظر الوحش أن يتم كلامه.

تقلصت كتلة جسده فجأة…

ثم انطلقت بسرعة مرعبة!

قفز بخفة مطلقة إلى أعلى مبنى في طرف الشارع، التصق بجدرانه الرطبة ككتلة زئبقية.

ثم دحرج نفسه مثل موجة لزجة على طول السطح.

بقفزة واحدة أخرى، تدفق جسده عبر حافة السطح لينزلق مثل شلال أرجواني إلى الزقاق المقابل.

لثانية واحدة فقط، ومضت عيونه من فوق السطح الأخير كأنه يحدق في بابادوك.

ثم…

ذاب جسده في الفجوات بين المباني.

كأن الشارع ابتلعه في جوفه، وراح ينسحب مثل بقعة ح墨 على الإسفلت… حتى اختفى الأثر كله.

وقف بابادوك بلا حراك.

رمش مرة واحدة.

ثم انحنى قليلًا للأمام، وحدّق في الفراغ حيث تبخر الوحش للتو.

ثانية… ثانيتان…

ثم قبض على مقبض مظلته بقوة، ورفعها عاليًا…

وووووش!!

هوت المظلة على الأرض بكل غضبه، فصدّعت البلاط تحت قدميه، وانبعث غبار كثيف من شدة الضربة.

ترددت صدى طرقته في الصمت، حتى بدت كصرخة قهر مكتومة.

همس ببرود قاتل، وصوته يُطبع في ظلال الشارع:

"سوف نلتقي مجددًا…"

ثم التقط مظلته، ودار ببطء نحو الظلام، مع خطوات بطيئة تختفي في العتمة كظل لن يغفر

2025/07/03 · 16 مشاهدة · 4973 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025