{اليوم السادس من اللعنة}
استيقظ بليك على صوت منبهه المزعج، لكنه لم يشعر بأيّ رغبة في النهوض.
ظلّ مستلقيًا للحظات، عيناه تلمعان بنيران لا تعرف الانطفاء، نار عزيمة تتحدى كل الألم والخوف الذي عاشه.
كان قلبه ينبض بقوة، يحمل فكرة واحدة واضحة لا غبار عليها:
اليوم، سيذهب إلى المدرسة.
وسيبحث عن كوغامي، تلك الفتاة الغامضة التي قد تحمل مفتاح كل شيء.
تثاقل جسده للحظة، لكنه نهض بثبات.
في مرآته، رأى نظرة مختلفة في عينيه؛ نظرة تقول لا للاستسلام.
خرج من منزله، وعلى الطريق التقى بسورا.
ابتسم له سورا، وكأنّه يقرأ شيئًا جديدًا في صديقه.
تحدثا معًا عن المدرسة، والظلالهم التي تلاحقهم، والأمل الذي لم يمت.
وصولهما للمدرسة كان هادئًا مقارنة بعاصفة الأفكار داخل بليك،
دخل بليك الفصل وجلس في مقعده، محاولًا التركيز على الدروس، لكن عقله كان ينفجر من الافكار.
ومع نهاية اليوم الدراسي، توجه بليك نحو الندي.
دخل بليك إلى النادي بخطوات ثقيلة، يشعر بثقل الهواء وكأنه يثقل صدره أكثر مع كل خطوة.
لاحظ على الفور أن شينتو وهيمورا لم يكونا على طبيعتهما، كانا جالسين بهدوء قاتم، عيونهما تغص بالحزن وكأن عبء العالم استقر فوقهما.
عرف بليك السبب قبل أن يقول أحد كلمة، كان موت هوتارو يطوق المكان بسلسلة من الألم والصمت.
قالت هيمورا بصوتٍ حزين ومرتجف:
"مرحبًا بليك… سمعت الخبر."
أجابها بليك بحزنٍ عميق:
"نعم… سمعته. أنا آسف."
هزّت هيمورا رأسها بحزن وقالت:
"لا داعي للأسف… هذا هو القدر. في النهاية، كل البشر سيموتون يومًا ما."
لم يكن أحد يعرف أن بليك كان معها في يوم موتها، وأنه لم يخبر أحدًا خوفًا، خوفًا من مواجهة الألم والذنب.
قال شينتو بصوتٍ مكسور:
"هل ستذهبان إلى الجنازة اليوم؟"
ردت هيمورا بنبرة هادئة ولكنها حزينة:
"لن يسمحوا لنا بالدخول… الجنازة عائلية فقط."
زاد الحزن في عيونهما، كأنهما فقدا أبًا يحميهما.
قال شينتو بغضب مكتوم:
"تبًا… كنا معًا منذ سنة كاملة، ولا نقدر حتى نودعها."
تنهدت هيمورا وطلبت منه الهدوء بصوت هادئ:
"اهدأ يا شينتو… لا داعي للغضب. لدي فكرة."
وقامت بهدوء من مكانها، وأحضرت صورة لهوتارو، ووضعت أمامها بعض الشموع وأشعلتها، ثم وضعت صورة هيمورا أمام الصورة.
قالت بهدوء:
"فلندعُ لها بالرحمة في الآخرة."
جلس الجميع بهدوء، وبدأوا بالدعاء.
وبينما هم في صمتهم، لاحظ بليك دمعة تتساقط على خد هيمورا.
كانت تحاول كبح دموعها، لكنها لم تستطع، فمسح كم ثوبها على عينها كي لا تظهر دموعها على الملأ.
بالطبع! ها هي تكملة الفصل بأسلوب مشحون بالعاطفة والتشويق:
---
خرج بليك وشينتو وهيمورا من النادي مبكرًا، مثقلين بالحزن الذي غمر قلوبهم.
تفرق الجميع في طرقه الخاصة، لكن بليك ظل واقفًا لوهلة، عاصفة الندم تعصره من الداخل.
لو لم أخرج معها… لو لم أكن هناك… لو لم أتصرف بشكل مختلف…
كانت هذه الأفكار تطوقه، تسحب روحه نحو دوامة لا تنتهي.
لكن فجأة، تذكر كلمات أكيهيكو التي قالها له قبل أيام، ذلك العزم الذي زرعه في قلبه:
"لن يمر موت هوتارو هكذا."
أشعل ذلك في داخله شعلة صغيرة من الشجاعة، وقال في سره:
"لن أدع هذا يحدث، لن أسمح للظلام أن يبتلعنا."
وبينما هو يتجه نحو بوابة المدرسة، لاحظ وجود شخصين واقفين هناك، ينتظرانه بصبر.
كانا أكيهيكو و… ميساكي.
لكن ما جذب انتباه بليك فورًا كان وجه أكيهيكو، الذي كان مليئًا بالكدمات والخدوش، وثوبه المدرسي المغبر، كما لو أنه تعرض لهجوم عنيف.
صرخ بليك بقلقٍ كبير:
"أكيهيكو! ماذا حدث لك؟!"
نظر أكيهيكو إليه بعيون متعبة، وصوت متهدج يملؤه التعب والحزن:
"حدث شيء… لم أكن أتوقعه أبداً…"
جلس على المقعد القريب ببطء، وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يبدأ في رواية ما جرى.
[قبل ساعتين]
كنتُ جالسًا مع بليك في الفصل، بينما كنا نرتب آخر تفاصيل خطتنا.
كان يأكل صندوق غذائه المتواضع—قطعة خبز وبعض الخضروات—لكن وجهه بدا حازمًا، وكأنه يلتهم هموم العالم مع كل لقمة.
"هل فهمت الآن؟" قال وهو ينظر إليّ بتركيز.
رفعتُ رأسي عن صندوق غدائي الفاخر، والذي كانت أمي قد أعدته بكل عناية، وقلت مطمئنًا:
"نعم، فهمت. سأذهب أنا وميساكي إلى الفصل الذي تدرس فيه كوغامي وندعوها للخروج إلى الساحة الخلفية… هناك سأتحدث معها عن ميساكي."
هزّ رأسه باقتناع، وأجاب بنبرة هادئة:
"نعم، هكذا تمامًا. كن حذرًا… ولا تجعل الأمر يبدو مريبًا."
حين انتهى وقت الاستراحة، ذهب هو إلى النادي، بينما بدأتُ أنا تنفيذ الجزء الأصعب.
اتجهتُ بخطوات مترددة نحو فصل كوغامي.
توقفتُ أمام الباب لحظة… يدي متعرقة على المقبض.
ثم تنفست بعمق، ودققت الباب بخفة.
"مرحبًا…"
دخلت، فتسمرت أنظاري للحظة.
كوغامي كانت هناك.
تجلس وسط طلابها، كأنها نجمة مضيئة بين كواكب صامتة.
شعرها الطويل ينسدل بانسيابية على كتفيها، وابتسامتها هادئة، وملامحها تملك تلك الهالة المدهشة التي تجعل أي شخص يشعر بصغر حجمه.
كانت أكثر فتاة مشهورة في الصف.
لطيفة، ذكية، بارعة في الرياضة، الفتاة التي يحلم بها معظم الأولاد هنا.
رغم ذلك، لم أندهش كثيرًا… كنت أتذكر وجهها جيدًا من أول مرة رأيتها فيها قرب بوابة المدرسة.
جمعت شجاعتي وصرخت قليلاً كي تسمعني:
"كوغامي! كوغامي… هل يمكنني الحديث معك لحظة؟"
لثوانٍ فقط… استدار الفصل بأكمله إليّ.
تلك العيون الواسعة المحملة بالسخرية والتساؤل، وكأن صمتهم يقول:
"من هذا الفاشل الذي يظن نفسه مهمًا ليكلّم ملكتنا وحدها؟"
"ما هذا الوجه الأحمق؟"
"يا رجل… نظرة واحدة عليه تكشف أنه غبي."
لم أحاول الرد على نظراتهم. كنت أركز فقط على المهمة.
كوغامي رفعت رأسها إليّ، ثم وقفت بخفة وابتسمت.
كان صوتها رقيقًا وهي تقول:
"نعم… أنا كوغامي. ماذا هناك؟"
"هل يمكنني محدثتك في الساحة الخلفية للحظة؟"
قلتُها بنبرة حاولت أن أجعلها طبيعية قدر الإمكان، رغم أنّ قلبي كان يدقّ بعنف وكأنّه يريد الفرار من صدري.
كوغامي رفعت حاجبها بخفة، بدت متفاجئة للحظة، ثم تلاشى الاستغراب بسرعة لتتّسع ابتسامتها بروح حماسية.
"حسناً."
استدارت بخطوات واثقة نحو الباب، وبدأنا نسير معاً في الرواق الطويل.
كانت ميساكي تمشي وراءنا بصمت. منذ البداية كانت معنا، ترافقنا مثل ظلّ شفاف، أحيانًا تنظر عبر النوافذ إلى الممرّضات اللواتي يملأن العيادة الصغيرة بجانب الرواق. كان في عينيها حنين عميق، وكأن شيئًا في تلك الغرفة يذكّرها بماضٍ بعيد.
وأنا أسير إلى جانب كوغامي، أدركت شيئًا لم أنتبه له من قبل…
كلّما مررنا بأحد المعلمين، كانوا يحيّونها وكأنها صديقة مقرّبة:
"صباح الخير يا كوغامي."
"كيف حالك اليوم؟ هل ساعدتِ في النادي كعادتك؟"
وكانت تردّ بابتسامة مشرقة وصوتٍ رقيق:
"صباح الخير يا أستاذ… نعم، كل شيء بخير!"
ثم حين نمرّ قرب مجموعة من الطلاب، أرى الفتيات يلوّحن لها بحرارة ويتهامسن بإعجاب، بينما الفتيان يبتسمون بتوتّر وكأنّها حلم بعيد.
لم تكن تردّ عليهم بتلك اللامبالاة المتعالية التي يمتلكها المشاهير… بل تنظر إليهم وتجيب كل واحد وكأنه أخ صغير:
"لا تنسَ أن تحضر التدريب اليوم!"
"هل شفيتَ من الزكام؟"
"شكراً على المذكرة التي أعطيتني إياها!"
كانت شعبيتها في المدرسة شيئًا يتجاوز ما تصوّرته.
محبوبة بين التلاميذ والمعلمين بنفس القدر.
وبرغم ذلك… لم أستطع تجاهل التناقض الهائل بين هذه الصورة المشرقة وتلك اللحظة التي قابلناها فيها في الزقاق… تلك الهالة المتوحشة في عينيها حين أمسكتْ بليك من ياقة قميصه و اخبرته بعدم التكلم عنها.
نظرتُ إلى ظهرها وقلت في داخلي:
"هل هي فعلاً نفس الفتاة من الزقاق؟ جانحة قوية… أم ملاك اجتماعي؟"
"الآن فقط أفهم لماذا قالت ألا نذكر تلك الليلة… كي لا تهتز صورتها هنا."
أجل… صار كل شيء منطقيًا أكثر.
وصلنا أخيرًا إلى الساحة الخلفية.
كان المكان شبه مهجور، لا أحد هنا سوى بضع طيور على السور، وهواء صيفي ساكن يخنق الصمت. مكان مثالي للتحدّث.
استدارت إليّ وهي تحرّك خصلات شعرها الطويل خلف أذنها، ثم قالت بصوتها الجميل الهادئ:
"حسناً… ماذا هناك؟ لماذا دعوتني إلى هنا؟"
شعرت بحلقي يجفّ، لكني تمالكت نفسي وقلتُ محاولة ألا يبدو صوتي مهتزًّا:
"لقد أحضرتك هنا… لأتكلم معك قليلاً."
رفعت حاجبها:
"حول ماذا؟"
استجمعتُ ما تبقّى من شجاعتي. كان عليّ قولها.
"سمعت… أنك كنتِ من أصدقاء… ميساكي."
على عكس كل ما توقّعته… لم تتبدّل ملامح وجهها اللطيف حين نطقتُ باسم ميساكي.
لم يبدُ عليها الخوف، ولا الحزن، ولا حتى التردّد… بل رفعت حاجبها بنظرة مستغربة صافية تمامًا، وكأنها سمعت اسماً لأول مرة في حياتها.
"من هي ميساكي أصلاً؟"
صوتها كان هادئًا، لكنه هذه المرة خالٍ من أي دفء.
"أنا لا أعرف أحداً بهذا الاسم."
رمشتُ بعينيّ عدة مرات، عاجزاً عن تصديق ما أسمعه.
"ماذا…؟"
شيء بداخلي كان يصرخ بأن هذه الفتاة تعرف ميساكي…
أنا متأكّد. بليك متأكّد. نيمو متأكد.ميساكي نفسها أكّدت ذلك.
لكن قبل أن أنطق بكلمة أخرى…
تغيّرت ملامح وجه كوغامي.
تلاشت الابتسامة، تلاشت اللطافة والبراءة…
لتظهر على ملامحها تلك الهالة المرعبة… هالة الجانحة التي رأيناها في الزقاق تلك الليلة.
أين تلك الفتاة "الكيوت" التي كانت تردّ بابتسامة على الجميع قبل دقائق؟
أين صوتها الرقيق الذي يشبه صوت ملاك؟
حدّقت بي بنظرة باردة حدّ التجمّد، ثم تكلّمت… وصوتها لم يكن يشبه ذلك الصوت أبداً.
كان صوتًا مغموسًا بالتهديد والاحتقار… وصوت زعيمة عصابة لا تطيق من يتجرأ على الاقتراب من حدودها:
"لقد تذكرتك."
عينها الضيقة اتسعت قليلًا وهي تحدّق في وجهي مباشرة.
"أنت الأشقر… ذلك اليوم في الزقاق. ألم أخبرك ألا تتكلم عني… أيها اللعين؟"
قبل أن أفهم إن كانت تهددني فعلاً أو فقط تحاول تخويفي…
صفعة
هوت يدها على وجهي بعنفٍ جعل الدنيا تدور حولي…
ضاعت ملامح العالم في عينيّ للحظة. ارتطمتُ بالأرض الرملية بجسدي كله، وخرج الهواء من صدري في زفير مؤلم.
رفعتُ رأسي محاولًا الوقوف… لكنها لم تمنحني فرصة.
ركلتني في وجهي بقوة جعلت طعم الدم يملأ فمي.
ركلتني في بطني حتى انثنيتُ كالورقة اليابسة.
ثم داست على ظهري بنعلها، تضغط عليّ وكأنني أقل من حيوان.
"هل ظننتَ… أنك ستأتي وتخرب سمعتي هنا؟"
صوتها صار منخفضًا… مليئًا بازدراء مسموم.
"هل تظن أنك ستجعلهم يعتقدون أنني جانحة منحطّة ؟"
زاد ضغط قدمها على عمودي الفقري حتى شعرت بعظامي تتصدع.
"مستحيل."
رفعتُ يدي أحاول صدّها… أتفادى ركلاتها… لا فائدة.
كنت وحدي هنا. لا شهود. لا أحد.
كانت هي فعلاً… زعيمة الجانحين في الحيّ.
الدم سال من أنفي وفمي معًا، أذاني طنين يشبه الريح العاصفة.
وأخيرًا… بعد ما بدا كأنه دهر، أبعدت قدمها عن ظهري.
ظننت أنها ستتركني… لكنها انحنت نحوي.
رأيت يدها تخرج من جيب تنورتها قلمًا معدنيًا صغيرًا… حادًا… رأسه المدبّب يلمع تحت شمس الظهيرة.
اشارة القلم من عيني مباشرة، حتى شعرت بحدّ المعدن يلامس جفني المرتعش.
"أن أخبرت أي أحد بما حصل…"
صوتها كان هادئًا… باردًا…
"سوف تفقد عينك. واضح؟"
لم أعد أحتمل. كانت دموعي تنزل رغمًا عني، أنفي ينزف بلا توقف، صوتي مبحوح.
"حسناً… حسناً… فقط… اتركيني…"
أرجعت القلم ببطء إلى جيبها.
تراجعت خطوة للخلف، ونظرت إليّ بنظرة ازدراء أخيرة… ثم استدارت لتغادر.
قبل أن تختفي من الساحة، رفعت رأسي.
رأيت ميساكي.
كانت واقفة هناك، تحدق بي بعينيها الشاحبتين.
لم تكن نظرتها شفقة فحسب…
كانت نظرة حزن حقيقي، وكأنها ترى صديقًا يحتضر ولا تستطيع الاقتراب لإنقاذه.
لكن…
رأيت شيئًا آخر.
حين اقتربت ميساكي ببطء من كوغامي… مدت يدها الشفافة محاولة لمس كتفها…
كوغامي استدارت فجأة بحركة غريزية، وتجنبتها…
رغم أنها لا تستطيع رؤيتها.
هل هو حدس؟
هل هو شيء آخر…؟
لا أعرف.
ما أعرفه فقط…
أن خطتنا… قد فشلت تمامًا.
تفاجأتُ من كل كلمةٍ قالها أكيهيكو…
كانت يده ترتعش وهو يحكي كيف ضربته تلك الفتاة، وكيف هددته بقلمٍ في عينه.
أحسستُ بقلبي يضيق…
"يبدو أن هذه الفتاة خطيرة فعلاً…"
نظرت إليه بعزم:
"لنترك المدرسة الآن. سنذهب إلى مبنى نيمو… بالتأكيد سيساعدنا بوضع خطة بديلة."
هز رأسه ببطء، صوته لا يزال مرتجفًا:
"حسناً…"
راقبته وهو ينهض بجهد، يمسح الدم الجاف عن أنفه، يرفع ياقة قميصه ليغطي آثار الركل.
ثم تحركنا معًا.
مشينا صامتين، خطواتنا ثقيلة كأننا نجر أقدامنا وسط الطين.
كل واحد منا غارق في أفكاره:
أكيهيكو غارق في الندم والخوف، وأنا…
كنت أحاول تخيّل وجه كوغامي وهي تتبدل من اللطف إلى الوحشية.
بعد مدةٍ من المشي وسط الأزقة الهادئة، وصلنا إلى منتصف الطريق المؤدي إلى المبنى.
شعرت بأنفاسي تعود إلى هدوئها أخيرًا…
لولا أنني لمحـتُ وجه ميساكي.
كانت تمشي على جانبنا، تحدق بالأرض، وعيناها تلمعان باستغراب غريب.
رفعتُ حاجبي:
"ما بكِ يا ميساكي؟"
رفعت نظرها ببطء نحوي.
"أوه… لا… لا شيء…"
صوتها كان مرتبكًا أكثر من المعتاد.
لكنني كنت مرهقًا جدًّا لأحاول الضغط عليها.
تنهدتُ وتابعت السير.
ثانية واحدة…
ثانيتان…
ثم…
صوت ارتطام معدني عنيف
ارتعد جسدي كله.
رفعت رأسي بسرعة، قلبي يخفق كأنني على وشك السقوط من هاوية…
لأرى فوقنا…
سحابة من القضبان المعدنية الصغيرة تهوي كالمطر الأسود…
قضبان بناء كانت مكدسة على سطح مبنى مائل، وقد انهارت فجأة دفعة واحدة.
شعرت بظهري يتصلب.
لم أتمكن حتى من الصراخ.
هذه هي النهاية.
مستحيل أن أتحرك في الوقت المناسب.
رأيت أكيهيكو يرفع يديه ليحمي رأسه عبثًا…
وفي اللحظة التالية…
صرير الهواء وهو يتمزق حولنا
رأيت ميساكي.
لم تكن تتحرك مثل الشبح الهادئ الذي عهدته…
كانت كالريح.
في ثانيةٍ خاطفة، لوحت بكلتا يديها الشفافتين بضربة واسعة، واندفعت القضبان كلها بعيدًا، تتطاير في الجهات الأربعة وترتطم بالجدران.
حتى الغبار تراجع عن وجهنا بفعل تلك الضربة غير المرئية.
تجمدت في مكاني.
لو تأخرت ثانية واحدة…
كنا الآن جثتين.
تلعثمتُ، عيني تغرقان في الدموع:
"شـ… شكـــــــــــراً… شكراً يا ميساكي… شكراً…!"
استدارت نحوي ببطء، تبتسم، وملامحها أخيراً تسترخي:
"لا بأس… لا بأس…"
لكن قبل أن تنهي جملتها…
ضوء أبيض مبهر اجتاح عينيّ.
أحسست بحرارة الهواء تهتز حولي.
سمعت هدير محرك شاحنة يقترب بسرعة جنونية من الزاوية الخلفية.
أدرت رأسي مذعوراً…
شاحنة بيضاء عملاقة تندفع نحونا بلا توقف، عجلاتها تحتك بالإسفلت وتطلق شرارات.
لم أملك حتى وقتًا للصراخ.
لكن ميساكي…
استدارت بسرعة خارقة، وقفت أمامنا كحاجز.
رفعت يدها…
كوّنت قبضتها…
وفي اللحظة التي لامست فيها مقدمة الشاحنة جسدها الشبح…
دوّى صوت ارتطام يفوق أي شيء سمعته بحياتي.
ارتجت الأرض تحت أقدامنا.
يديها غرستا في هيكل الشاحنة المعدني…
انثقبت مقدمتها كأنها علبة صفيح رخيصة.
توقف الوحش الأبيض العملاق في ثانية واحدة، عجلاته ترتفع عن الأرض من شدة الصدمة.
تجمدت أنفاسي في صدري.
كل شيء صار صامتًا…
إلا خفقان قلبي المجنون.
مرت لحظاتٌ قبل أن أستوعب ما حدث.
الشاحنة توقفت، يد ميساكي ما زالت غارزةً في مقدمتها كوتد فولاذي، والشرر يتطاير من محركها.
كان السائق يئن داخل المقصورة.
فتحنا الباب المرتجف لنجد أن قضيبًا معدنيًا قد اخترق الزجاج الأمامي…
وغرس طرفه في كتفه، ينزف بشدة، وجهه شاحب مثل الطباشير.
تبادلنا نظرة مذعورة، أنا وأكيهيكو.
أدركنا الحقيقة بسرعة:
هذا القضيب… واحد من تلك القضبان التي أبعدتها ميساكي قبل قليل.
حين ضربتها لتبعدها عنا، لم تكن تهتم تمامًا أين ستهبط.
لم تكن تراعي البشر الآخرين في تلك اللحظة…
كأنها كانت ترى العالم كله مجرد ساحة شطرنج، والقطع الوحيدة التي تستحق حمايتها… نحن.
ابتلعت ريقي، وقلبي يخفق بالذنب والارتياب في الوقت نفسه.
هل هذه هي "ميساكي" الحقيقية؟
أم أن الموت… حوّلها إلى شيء آخر؟
حاول السائق أن يقول شيئًا…
لكن صوته خرج متحشرجًا وانهار فاقدًا للوعي.
حدقت في جسده المثبت إلى المقعد بالقضيب الدموي، ثم رفعت بصري إلى أكيهيكو.
لم ينطق بكلمة واحدة.
كانت عيناه تقولان كل شيء:
"لو بقينا هنا… الشرطة ستأتي… سيسألوننا أسئلة… لن نخرج منها سالمين."
و… رغم أن جزءًا مني أراد المساعدة، أردت الاتصال بالإسعاف…
الجزء الآخر، الجزء المذعور، انتصر.
هززت رأسي بخفة، وأنا أبتعد خطوة إلى الوراء.
"يجب أن نرحل الآن… لا يمكننا المخاطرة…"
تراجعت ميساكي بهدوء عن الشاحنة، يدها الشفافة تنسحب من الحديد المشوه.
نظرت إليّ بلا تعبير، لم تقل كلمة عتاب، ولا حتى أسف.
استدار أكيهيكو أولاً، وبدأ يركض مبتعدًا.
لحقت به بخطوات ثقيلة…
لم ألتفت خلفي.
لم أجرؤ أن أنظر مجددًا إلى السائق النازف…
أو إلى الشاحنة المثقوبة…
أو إلى القضيب المعدني الذي ربما قتل إنسانًا آخر بدلًا عنا.
كل ما أردته… أن أصل إلى مبنى نيمو بأسرع ما أستطيع.
أن أنسى هذا اليوم.
أن أجد خطة أخرى… خطة لا يختلط فيها الدم بالخلاص.
وفي داخلي…
كنت أسمع همسًا خافتًا:
"هل هذه اللعنة… تجعلنا جميعًا وحوشًا ببطء؟"
وصلنا الي مبنى نيمو،دخلنا و استقبالنا نيمو بحرارة .
جلسنا في اماكننا و عندها تكلم نيمو بلهفة
"حسنا،ماذا فعلتم اليوم،هل من تطورات"
"حسنا........................"
ساد صمت ثقيل في غرفة نيمو بعد أن انتهينا من رواية ما جرى. بدا وكأن الهواء ذاته تحوّل إلى حجاب شفاف يفصل بيننا وبين أي يقين.
رفع نيمو يده ببطء ومسح على وجهه بملامح جمعت بين الإحباط والتفكير العميق، قبل أن يترك يده تتدلى ويقول بصوت خفيض:
"هذا واضح… كوغامي تكذب. أنا واثق تمامًا. كنت أراها كثيرًا مع ميساكي… لا يمكن أن تدّعي الآن أنها لا تعرفها."
تنهد أكيهيكو وهو يضغط أصابعه على ضلوعه التي ما زالت تؤلمه:
"نفس الشعور انتابني. عينيها كان فيهما شيء… كأنها تحاول إخفاء أمر أكبر من مجرد صداقة قديمة."
لكن ميساكي قطعت التردد بصوت ثابت، خالٍ من الارتباك:
"إنها… كانت تستطيع أن تراني."
تبادلنا جميعًا نظرات سريعة مشوبة بالدهشة. حتى نيمو، الذي قلما يرفع حاجبيه، اتسعت عيناه قليلًا.
قلت ببطء، وكأنني أختبر عقلها:
"ترينها…؟ مستحيل… لو رأت شبحك لانهارت."
أكيهيكو زفر بحدة وقال:
"بصراحة… لا أحد يمكنه البقاء متماسكًا لو واجه صديقه الميت وجهًا لوجه."
لكن ميساكي لم تترك مجالًا للشك. رفعت يدها كأنها تشير إلى نقطة بعيدة واستطردت:
"كنت أسير إلى جانبكما في الممر. وفي كل مرة تظنون أنها تحدق في شيء وراءكم… كانت تنظر إلي مباشرة. نظرات قصيرة… لكنها كانت تعرف تمامًا أين أقف. وحتى أثناء كلامها مع أكيهيكو، أكثر من مرة حولت بصرها نحوي وكأنها… تتحاشى الاعتراف."
ارتجف كتفا أكيهيكو قليلًا وهو يتذكر، ثم قال ببطء:
"فعلا… عندما حاولتِ لمسها، تراجعت كوغامي خطوة للوراء وكأنها… شعرت بكِ."
عمّ الصمت. بدا أن الجميع استوعب حجم ما يعنيه هذا.
ثم تكوّنت ابتسامة على فم نيمو، ابتسامة غامضة يختلط فيها الانزعاج مع لمحة أمل:
"هذا يؤكد كل شيء… كوغامي ليست شاهدة عادية. إنها… حلقة مرتبطة مباشرة بما حدث. ربما هي التي ستقودنا أخيرًا إلى القاتل."
تغيّر المشهد
كان الليل قد ألقى عباءته السوداء على البلدة، وتسلل البرد بين الأزقة التي خلت إلا من خطوات متفرقة.
في تلك اللحظة، كانت كوغامي تسير وحدها، معطفها يهتز مع هبات الريح، ووجهها مائل قليلًا إلى الأرض.
لم تكن تلك الخطوات المرتابة تشبه شهرتها في المدرسة ولا مظهر الفتاة التي يحبها الجميع.
اليوم، بدت كظلّ شخص آخر.
بعد دقائق من المشي، توقفت أمام متجر صغير بدا وكأنه يُخفي نفسه عمدًا بين مبنى مقهى قديم ومتجر التحف.
لو لم تنتبه للوحة الخشبية المعلقة فوق الباب، لظننته مخزنًا مهجورًا.
دفعت الباب برفق فأصدر طقطقة خفيفة قبل أن ينفتح.
رائحة خشب قديم وأوراق صفراء استقبلتها، مع ضوء خافت يسكب ظلالًا طويلة على الجدران المزدحمة برفوف الكتب والصناديق.
رفع الرجل العجوز رأسه من خلف الطاولة.
ابتسم وهو يُعدل نظارته ذات الإطار الداكن، وقال بنبرة هادئة:
"أهلاً وسهلاً بكِ… كوغامي."
ردّت بصوت خفيض وقد بدت على وجهها ملامح حذر غريب:
"مرحبًا… ميتسو. هناك أخبار عاجلة."
أمال رأسه قليلًا، وعيناه الغائرتان تلمعان خلف العدسات:
"ما هي؟"
تنفست بعمق ثم قالت بجدية:
"هناك أشخاص بدأوا يرونها… وأنا متأكدة أن أحدهم صاحب كتاب شمس المعارف. إن لم نتحرك الآن، سيتعقّبوننا. علينا إيقافهم."
ظل ميتسو صامتًا للحظة. يداه المغطّيتان ببقايا حبرٍ قديم تقبضان على طرف طاولة خشبية مثلمة.
ثم ارتسمت ابتسامة باردة على شفتيه:
"لا تقلقي يا فتاة. ما دام الكتاب ضائعًا الآن… لا يمكنهم فعل شيء. ما علينا سوى الانتظار. حين يظهر مجددًا… سنهجم بلا تردّد."
رفعت بصرها إليه، وبدا الارتباك في عينيها الواسعتين:
"بالمناسبة… لماذا تغيّر شكلك بهذه الدرجة خلال أسبوع واحد؟"
لثوانٍ، لم يجبها. فقط حرّك رأسه ببطء كأنه يراجع عمرًا طويلًا.
تأملته بفضول حذر:
لحيته وشاربه صارا كثيفين رماديّين، يغطيان نصف وجهه تقريبًا.
قبعته الداكنة عريضة الحواف جعلت رأسه يبدو أكبر، تُلقي ظلًا على عينيه الغائرتين.
نظارته المستديرة ذات الإطار السميك، تضيف إلى هيئته وقارًا غريبًا يخلطه شيء غير مريح.
المعطف بنيّ محمر ذو ياقة عالية طوى كتفيه في هيئةٍ أشبه برداء مسرحي.
تحت الضوء الخافت، بدت تجاعيد جبهته ووجنتيه كخرائط لأحزانٍ قديمة.
رفع يده ببطء وأشار إلى صدره، ثم قال بنبرة عميقة:
"منذ أن لمستُ شمس المعارف… تغيرت حياتي بالكامل."