حين انتهى نيمو وبليك وأكيهيكو من حديثهم، خيّم عليهم صمت ثقيل يشبه سكون ما قبل العاصفة.

كانوا على وشك الوقوف والمغادرة، حين قاطعتهم ميساكي بصوت خافت، لكنه حمل حزمًا لم يعتادوه منها:

"…أريد الذهاب لزيارة عائلتي."

تجمّد الجميع.

وفي اللحظة نفسها، خرجت منهم كلمة واحدة كأنها صدى مشترك:

"ماذا؟!"

نظر إليها بليك بعينين متسعتين، بينما ارتفع حاجبا أكيهيكو حتى غطيا نصف جبهته، أما نيمو فقد بدا عليه الذهول الحقيقي، كأنه سمع شيئًا مستحيلًا:

"ماذا… قلتِ؟"

رفعت ميساكي عينيها إلى السقف قليلًا، وكأنها تبحث عن شجاعة في فراغ الغرفة، ثم أعادت نظرها إليهم:

"قلت… أريد زيارة عائلتي."

ارتبك نيمو أكثر، وانحنى قليلًا للأمام:

"لكن… أنتِ… لا تتذكرين سوى شذرات بسيطة. كيف… كيف خطر لكِ هذا الآن؟"

وضعت ميساكي يدها على صدرها، وهمست بصوت بدا عليه ارتعاش خفيف:

"منذ أن بدأت ذاكرتي تعود… هناك شيء ينمو في قلبي… شوقٌ غريب… وحنين لا أعرف مصدره… شعرتُ أنني… يجب أن أراهم، ولو من بعيد."

نظر إليها بليك طويلًا.

ثم تنفس ببطء، وقال بهدوء تام، كأنه كان يتوقع منها طلبًا كهذا:

"حسنًا… لا مشكلة."

بدت الدهشة على وجه نيمو هذه المرة أوضح من أي مرة:

"انتظر، ماذا؟! ستأخذها هكذا فقط؟!"

حدق أكيهيكو ببليك بنفس الصدمة:

"أنت جاد؟!"

لكن بليك لم يرفع صوته، اكتفى بأن ينظر إلى ميساكي نظرة مطمئنة:

"إن كانت هذه رغبتكِ… فسأكون معك."

ساد صمت قصير.

ثم أغمضت ميساكي عينيها، وارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة هادئة، لم يرها منهم أحد بهذا الصفاء من قبل.

قالت بصوت واثق، خفيض:

"شكرًا… بليك."

تنهد نيمو، هز رأسه باستسلام:

"…حسنًا. ما دام بليك موافقًا، فلن أعارض. لكن تذكري… عائلتك لن تستطيع رؤيتكِ."

فتحت ميساكي عينيها ببطء، نظرت إلى طرف القاعة كأنها ترى شيئًا لا يراه أحد:

"لا بأس… لا أريد أن يروني… أريد فقط أن أراهم… ولو للحظة."

لم ينبس أحد بكلمة.

لم يكن في الغرفة أي صوت بعدها سوى تنفسهم المتداخل.

وفي تلك اللحظة، بدا أن القرار اتُّخذ.

خرج بليك وأكيهيكو وميساكي من المبنى، وتبادلوا نظرات قصيرة كأنهم يودعون شيئًا لن يعود كما كان.

تفرّق الثلاثة كلٌّ في طريقه، بينما انطلق بليك مع ميساكي بخطوات هادئة.

قطع الصمت صوتها المتسائل:

"لماذا وافقت بهذه السرعة…؟"

أجاب بليك من دون أن يلتفت:

"أنا مدين لكِ… أنقذتِ حياتي أكثر من مرة. هذا… لا شيء أقدّمه لكِ مقارنة بما فعلتِه."

ابتسمت ميساكي ابتسامة خافتة.

لكن بليك أكمل بصوتٍ خفيض:

"…لكن لا يمكنني أن أذهب اليوم. الوقت تأخر الآن."

أومأت برأسها بتفهم:

"لا بأس… غدًا إذاً."

---

{اليوم السابع من اللعنة}

في اليوم التالي، بدا الطقس وكأنه يتهيأ للبكاء.

غيوم رمادية ثقيلة تكدست فوق المدينة، والهواء يحمل برودة خفيفة، كأن المطر يوشك أن يهطل لكنه متردد.

كنتُ أمشي أنا وميساكي في شارع طويل هادئ، خطواتنا تترك صدى خفيفًا بين البيوت.

كان منزل عائلتها بعيدًا قليلًا عن منزلي، واضطررنا للمشي وقتًا ليس قصيرًا حتى وصلنا.

كان بيتًا عاديًا من طابقين، يحيطه سور معدني بني اللون تتخلله بقع صدأ قديمة.

نافذتان واسعتان في الواجهة العلوية، وقد سُدلت عليهما ستائر بيضاء شاحبة.

أمام الباب شجيرة صغيرة ذابلة الأطراف، وبجانب المدخل صندوق بريد رمادي مائل كأنه لم يلمسه أحد منذ أشهر.

رغم بساطة المكان، خيّم عليه صمت ثقيل يشبه صمت مقبرة لا يزورها أحد.

تقدّمت خطوة، ورفعت يدي بتردد.

طرقت الباب برفق أول مرة… ثم ثانية… ثم ثالثة.

بعد لحظة، جاء صوت رجولي مجهد من الداخل:

"…لحظة."

سمعنا وقع أقدام ثقيلة تقترب ببطء.

ثم فتح الباب، وخرج رجل بدا في أوائل الخمسينات من عمره.

كان طويل القامة نسبيًا، كتفاه عريضتان لكن ظهره مائل قليلًا وكأنه يحمل أثقالًا لا ترى.

وجهه شاحب بلون رماد المطر، شقته التجاعيد حول عينيه وفمه، كأن كل سنة عاشها حفرت أثرها فيه.

شعره أسود غزاه الرمادي عند الجانبين، ولحيته خفيفة غير مرتبة.

يرتدي قميصًا رماديًا بأكمام مطوية وسروالًا أسود باهت اللون.

في عينيه بريق حزن غامض، يشبه نظرة رجل فقد شيئًا ثمينًا ولم يعثر عليه أبدًا.

حدق فيّ لحظة، ثم نظر حولي باستغراب خفيف:

"نعم؟ من… من أنت؟"

رفعت يدي بتحية قصيرة متوترة:

"آه… مرحبًا. آسف على الإزعاج… أنا…"

نظرتُ إلى ميساكي بجانبي.

كانت تحدق فيه بصمت، عيناها مفتوحتان كأنها تحاول أن تنتزع من داخله ذكرى لم تكتمل.

ملامحها لم تعكس شيئًا واضحًا، سوى ارتباك خفيف وحيرة عميقة.

لم تقل أي كلمة.

وأنا أيضًا، لم أجد كيف أشرح لماذا جئت.

حاولت التفكير بسرعة في أي سبب مقنع لمجيئي، لكن عقلي تجمد تمامًا.

شعرت بالعرق يبرد على ظهري.

لكن فجأة، همست ميساكي بصوت منخفض قرب أذني:

"قل له إنك صديق ساكاكيبارا."

أخذت نفسًا صغيرًا، ثم رفعت رأسي ونطقت:

"مرحبًا… أنا بليك إيثر… وأنا صديق ابنكم ساكاكيبارا."

تبدّل وجه الرجل للحظة، ارتخت قسماته قليلًا، ثم فتح الباب على اتساعه وقال:

"تفضل."

---

تغير المشهد.

جلستُ أنا وميساكي على أريكة في غرفة المعيشة.

كانت الغرفة دافئة بشكل غير متوقع، جدرانها بلون كريمي باهت، تتدلى منها لوحة قديمة لمنظر جبلي غائم.

في الزاوية اليمنى خزانة خشبية بداخلها أطباق خزفية مرتبة بعناية، وإلى جوارها رف صغير تكدست فيه صور عائلية بإطارات بسيطة.

على الأرضية سجادة خمرية نقشت عليها أزهار ذابلة الألوان من كثرة الاستعمال.

طاولة منخفضة تتوسط المكان، تعلوها مزهرية زجاجية بلا زهور.

كانت الرائحة تشبه خليطًا بين الشاي والكتب القديمة.

جلس الأب قبالتنا، وضع أمامي كوبًا بخارُه يتصاعد بخفة:

"تفضل الشاي الأخضر."

"شكرًا جزيلاً."

جلس مقابلي وهو يضم يديه معًا فوق ركبتيه وقال:

"أنا والد ساكاكيبارا… تشرفت بلقائك."

انحنيت قليلًا:

"لي الشرف…."

هز رأسه بتعجب خفيف:

"غريب… ساكاكيبارا لا يخبرنا عادةً إذا كان صديقه قادمًا… هل… هل أنتما تدرسان معًا؟"

تلعثمت لحظة، ثم قلت بسرعة:

"لا… في الواقع… لقد تعرفنا على بعضنا بالصدفة."

كمية الأكاذيب الهائلة التي قلتها في دقيقة واحدة كانت كافية لأشعر بأنني أتنفس صمغًا.

أخذ الأب رشفة شاي، ثم تنهد وقال بنبرة هادئة:

"آسف لأنك تنتظر… إن ساكاكيبارا ليس في المنزل الآن، لكنه سيعود قريبًا… لذا… خذ راحتك، واعتبر البيت بيتك."

"شكراً لك…"

رفعت عيني إلى ميساكي، كانت تجلس بصمت بجانبي، تنظر إلى الغرفة وكأنها تحاول تذكّر كل زاوية فيها.

لم تقل أي كلمة، لكن يديها كانت ترتعشان بخفة فوق ركبتيها.

أخذتُ رشفة صغيرة من الشاي الأخضر، شعرت بمرارته يلسع لساني، وتمتمت في داخلي:

"تبا… أنا أكره الشاي الأخضر."

وفجأة خرجت من المطبخ امرأة في نهاية الأربعينات من عمرها.

كان شعرها أسود قد بدأ يغزوه الشيب عند الجانبين، مربوطًا بخيوط قماشية رمادية.

وجهها هادئ، فيه تجاعيد خفيفة عند الفم والعينين، ترتدي مئزرًا بلون أزرق باهت فوق ثوب منزلي.

عيناها كانتا تحملان تعب السنين، لكن صوتهما ظل دافئًا حين قالت بابتسامة خفيفة:

"مرحبًا بك يا فتى."

وقفتُ قليلًا احترامًا:

"مرحبًا… على ما يبدو أنتم…."

قالت برقة وهي تقترب:

"أنا أم ساكاكيبارا."

"تشرفنا."

جلست بجانب الأب، وبدأت تصب لنفسها كوب شاي آخر، بينما تتبادل معي كلمات صغيرة لا أعرف كيف أجيب عنها كلها.

أسئلة عن المدرسة، عن عائلتي، وعن كيف تعرّفت على ساكاكيبارا…

كلما زادت الأسئلة، زادت الأكاذيب.

في تلك اللحظة، لاحظتُ ميساكي.

كانت تجوب الغرفة ببطء، تلمس أطراف الطاولة، تمرر يدها على إطارات الصور، ثم توقفت فجأة أمام شيء في الزاوية.

ظلت واقفة هناك دون حراك، عيناها متسعتان وهي تحدق.

نظرتُ إلى ما تنظر إليه، فرأيت ضريحًا صغيرًا موضوعًا بعناية على طاولة منخفضة مغطاة بقطعة قماش بيضاء.

فوق الضريح صورة لفتاة شابة، تشبه ميساكي تمامًا.

تحت الصورة مبخرة ما زال فيها رماد، وبجانبها زهرية وضعت فيها أزهار بيضاء ذابلة، وطبق صغير من الأرز اليابس.

وعلى اللوح الخشبي خلف الصورة كُتبت بخط جميل أحرف اسمها، بخط يعلن الحداد والذكرى.

حتى بعد سنتين من موت ابنتهم… يا لها من عائلة محبة.

شعرت بشيء يضغط صدري.

ربما لهذا السبب أرادت ميساكي المجيء…

استجمعت شجاعتي، رفعت نظري إلى والديها، وقلت بصوت حاولت جعله هادئًا:

"آ… هل مات لكم… شخص ما؟"

ساد الصمت.

نظرا إلى بعضهما، وكأن كل الكلمات تهرب منهما.

ثم قالت الأم بصوت ضعيف:

"نعم… ابنتنا… ميساكي… ماتت منذ سنتين."

خفض الأب رأسه وهو يضم يديه، ولم يضف شيئًا.

---

بدأت تعابير الحزن تغمر وجهيهما، عيونهما تلمع بشيء يشبه الدموع، شعرت بخنجر من الذنب يغرز في صدري.

توقفت عن الكلام، لم أجد كلمة مناسبة.

وفي تلك اللحظة، فتح الباب الأمامي.

دخل فتى يبدو في سن المراهقة، شعره بني داكن متوسط الطول، كثيف قليلًا ومصفف بعشوائية، غرة تغطي جزءًا من جبهته.

عيناه بلون بني داكن، حادتان رغم التعبير الهادئ، وجهه نحيف قليلًا ذو ملامح حادة بعض الشيء، بشرته فاتحة.

كان يرتدي زيًا مدرسيًا يابانيًا كحليًا بأزرار ذهبية وياقة واقفة.

كان بالتأكيد ساكاكيبارا.

شعرت بالعرق البارد يتسلل أسفل عنقي.

يا إلهي… ماذا أفعل الآن؟

هو لا يعرفني… ولا أنا أعرفه…

إن لم أقل شيئًا الآن، سيكتشف كذبتي في لحظة.

شعرت كأن الأرض تهتز تحت قدمي حين قالت والدته ببراءة قاتلة:

"ساكاكيبارا، صديقك كان ينتظرك منذ فترة."

حدّق بي باستغراب:

"…صديقي؟"

نظرت إليه وحاولت أن أبتسم، لكن شفتاي ارتجفتا.

ظل يحدق بي طويلًا… لحظة صمتٍ بدت لي وكأنها ساعة كاملة.

ثم أخذ شهيقًا صغيرًا وقال بصوت خالٍ من أي انفعال:

"نعم… هذا صديقي."

توجه ببطء نحو الباب وهو يقول دون أن ينظر إلي:

"فلنخرج للتحدث."

يا إلهي… أنقذني للتو… لكن لماذا؟

وقفتُ بسرعة، وانحنيت قليلًا احترامًا لوالديه، وخرجت خلفه، قلبي ينبض بقوة حتى خشيت أن يسمعاه.

وقفنا أمام المنزل، والارتباك يعصف بي كعاصفة.

كانت الأسئلة تتزاحم في رأسي بلا رحمة: كيف سأشرح له من أكون؟ كيف سأبرر كذبي؟ هل سينفضح أمري أمام والديه في اللحظة التالية؟

لكن قبل أن أنبس ببنت شفة، قطع ساكاكيبارا صمتي بصوت هادئ أربكني أكثر:

"إذن… أنت أيضًا ترى ميساكي."

حدّقت فيه مذهولًا، وكأن الأرض انسحبت من تحت قدمي.

"ماذا؟! أنت أيضًا تستطيع رؤيتها؟!"

أومأ بثبات، كأنه اعتاد على هذا السر منذ زمن.

"طبعًا. أراها منذ اليوم الذي ماتت فيه."

لم أصدق ما سمعته للتو.

"هذا… هذا مستحيل! كيف؟ لماذا لا يراها والداك؟! كيف…؟"

رفع كفّه يطالبني بالهدوء، وقال بنبرة أقرب للضجر:

"اهدأ. أعطني أسئلتك واحدًا تلو الآخر حتى أستطيع الرد. في الواقع… أنا من يفترض أن يسأل أولًا. من أنت؟ كيف تعرف ميساكي؟ ولماذا تراها أنت أيضًا؟"

تنهدتُ طويلًا، وأنا أشعر بثقل أكبر من أن أشرحه في كلمات.

"ربما علينا أن نجد مكانًا نجلس فيه. هناك الكثير لنقوله."

لم يعارضني. سرنا معًا حتى وصلنا إلى حديقة صغيرة قريبة، وجلسنا على أحد المقاعد العامة.

شعرت للحظة أننا شريكان في ذنبٍ لا نفهمه تمامًا.

بدأت أروي قصتي: كيف ظهر كتاب شمس المعارف في حياتي، وكيف اجتذبتني اللعنة، وكيف دخلت عالم نيمو والوحوش والهلاوس، ثم كيف التقيت بميساكي.

حكيت كل شيء دون أن أحذف تفصيلة واحدة، وكأن الاعتراف هو الطريق الوحيد للخلاص.

حين انتهيت، أخذ ساكاكيبارا شهيقًا طويلًا وقال بنبرة تجمع بين السخرية والذهول:

"يا رجل… قصتك تصلح لرواية رعب كاملة."

ابتسمت ابتسامة باهتة، ولم أعلق.

مرّت لحظة صمت، ثم قال وهو يشبك يديه:

"حسنًا… الآن دوري. سأحكي لك من البداية كيف أراها."

منذ كنتُ طفلًا، كانت أختي دائمًا إلى جانبي.

كانت تهتم بي عندما أمرض، تمسح جبيني وتقول لي بصوتها الدافئ أنني سأكون بخير.

وعندما أحزن لأي سبب سخيف، كانت أول من يجلس بقربي لتواسيني.

وعندما أفرح، كانت تفرح معي كأن سعادتي أكبر هدية يمكن أن تتلقاها.

في عيد ميلادي، كانت تحضر لي الهدايا بنفسها—هدايا تعرف تمامًا أنها ستجعلني أبتسم.

ساعدتني في الدراسة، في ترتيب غرفتي، في فهم العالم الذي لم يكن سهلًا عليّ.

كانت… مثل أمٍّ ثانية.

أقول هذا بلا مبالغة، فقد كان والديّ منشغلَين دائمًا في العمل، وكنتُ أقضي معظم وقتي معها.

ثم جاء ذلك اليوم.

يوم موتها.

أذكر جيدًا كيف شعرتُ وكأن شيئًا في داخلي تحطّم.

حزنٌ لم أختبره من قبل، وكأنه ألف طعنة في قلبي دفعةً واحدة.

كنتُ أنهض كل صباح لأذهب إلى قبرها، أبكي كالمجنون، بكاءً أشدّ مما فعلته أمّي وأبي معًا.

لم أكن أعرف كيف أتابع حياتي بدونها.

ثم، بعد أيام، رأيتها.

كانت واقفةً أمام المنزل، ترتدي زيها المدرسي، تنظر إليّ بلا كلمة واحدة.

لم تبتسم، لم تتحرّك، فقط… كانت هناك.

ظننتُ أنّني فقدتُ عقلي.

ربما صرتُ أهلوس من شدة حزني.

لكن الأيام مرّت… وكنتُ أراها كل ليلة وكل صباح.

واقفةً في نفس المكان، لا تدخل المنزل، لا تختفي.

أحيانًا كانت تنظر لي، وكأنها تحاول قول شيء، لكنها لا تستطيع.

لماذا أراها أنا من بين الجميع؟

لماذا لم يرها أبي أو أمي؟

لا أعرف.

لكن ما أعرفه هو أنّ رؤيتها، مهما كانت غامضة، كانت الشيء الوحيد الذي جعلني أتحمّل تلك الأيام.

كنتُ أعتقد أن كل هذا سيزول يومًا، أو أنني سأفهمه في النهاية… إلى أن ظهرت أنت.

كنتُ أصغي إلى ساكاكيبارا في صمتٍ ثقيل، صوته يتهدج بين الذكريات والحنين، حتى شعرت بظلٍ يقترب خلفنا.

التفتنا معًا، وإذا بميساكي واقفة هناك.

بدت أشعة الشمس تتسلل من بين الغيوم الداكنة، لتضيء الحديقة الصغيرة كأنها لحظة اختارها القدر بعناية.

هبت ريحٌ دافئة بعثرت خصلات شعرها، ورفرفت أطراف سترتها المدرسية التي بدت فجأة أقلَّ شحوبًا.

تسمرت عينا ساكاكيبارا عليها، مزيجٌ غريب من الدهشة والفرح يملأ وجهه.

همس بصوتٍ مبحوح:

— "أتذكر… عندما رأيتك كشبح لأول مرة… كنتِ باردة، باهتة، شفافة…"

رفع يده نحوها وكأنه يريد لمسها:

— "والآن… انظري… كم تغيرتِ… أصبحتِ أقرب إلى الحياة…"

ابتسمت ميساكي ابتسامة هادئة، عيناها تلمعان كأنهما تعكسان ذلك الضوء.

قالت بصوت دافئ يملؤه حنين السنين:

— "لقد كبرتَ يا ساكاكيبارا… أصبحتَ رجلًا الآن…"

في تلك اللحظة، لم يستطع مقاومة دموعه أكثر.

تسللت أول دمعة على وجنته، ثم أخرى، ثم انهار صوته وهو يهمس:

— "أختي…"

اقتربت منه بخطوات بطيئة، وفتحت ذراعيها.

لم يتردد.

ارتمى في حضنها بكل ما تبقى في قلبه من شوق ووجع وطفولة، يدفن وجهه في كتفها وكأنه خائف أن تختفي إذا أبعد نظره.

راح صوته يتكسر بين شهقات البكاء:

— "لقد افتقدتُكِ يا أختي… افتقدتُ كل شيء… أريد… أريد أن تعود تلك الأيام… عندما كنا عائلة… عندما كنا سعداء…"

أغمضت ميساكي عينيها، كأنها تحاول حفظ رائحته ودفئه في قلبها للأبد.

ربتت على شعره وقالت برقة:

— "آسفة… يا ساكاكيبارا… لكن هذا… هذا شيء لن أستطيع فعله…"

راح يبكي بصوتٍ مكتوم في حضنها، حتى هدأ شيئًا فشيئًا.

رفع رأسه وعيناه حمراوان، وهمس:

— "أمي… أتمنى لو تستطيع رؤيتكِ أيضًا…"

لمعت دمعة في عين ميساكي، وهزت رأسها بخفة:

— "وأنا أيضًا… أتمنى أن تريانني… أمي وأبي…"

ساد صمتٌ عميق.

لم يعد هناك ما يقال.

كان الوداع يقترب، ثقيلًا لا مهرب منه.

ابتعدت عنه بخطوة صغيرة، وأخذت نفسًا عميقًا.

قالت بصوتٍ هادئ ثابت:

— "يبدو أن هذه… آخر مرة سنلتقي فيها… لذا… كن قويًا. كن رجل العائلة. أمّي وأبي يعتمدان عليك."

أطبق ساكاكيبارا شفتيه، لكن عينيه لم تستطيعا الكذب.

امتلأتا بالدموع مرة أخرى وهو يهز رأسه:

— "لا تقلقي… سأكون رجلًا… بحق."

ابتسمت ميساكي تلك الابتسامة التي تشبه الربيع، وقالت:

— "أعرف… أنك ستفعل."

استدارت بخطوات بطيئة، والتحقت بي.

بدأنا نسير بعيدًا عن الحديقة، فيما ظل ساكاكيبارا واقفًا في مكانه يراقب ظهرها يبتعد.

قبل أن نفترق تمامًا، لوّح بيده ونادى بصوت مرتعش:

— "سأترك أختي عندك… لا تخيّب أملي!"

استدرت نحوه، صرخت كي يصل صوتي بوضوح:

— "لن أفعل!"

ومضت تلك اللحظة…

لحظة وداعٍ لا تُنسى، غمرها ضوء شمسٍ متأخرة وريحٍ تلاعبت بدموع الجميع، وكأن العالم نفسه انحنى احترامًا للذكرى الأخيرة.

وغادرنا.

بالطبع! إليك تكملة الفصل بأسلوب سينمائي مشوّق ومظلم:

تغيّر المشهد.

الليل كان يلتهم البلدة في صمتٍ ثقيل.

عند الثانية بعد منتصف الليل، كانت المقبرة غارقةً في ضبابٍ رماديٍّ خفيف يزحف بين شواهد القبور وكأنه أرواحُ من رحلوا لم تهدأ بعد.

تقدّم الحرّاسي بخطواتٍ بطيئة، مصباحه يبعث ضوءًا شاحبًا على النقوش الحجرية.

لم تكن تلك دوريته الأولى، لكن الليلة كان الهواء مختلفًا… أكثر برودةً… وأكثر ثقلاً.

راح يمرر شعاع المصباح على الأسماء حتى توقف فجأة عند قبرٍ مألوف:

"ميساكي."

كاد يهمّ بإلقاء تحيّة صامتة اعتاد أن يهمسها للأموات، حين لاحظ شيئًا غريبًا أمام شاهد القبر.

كتلة هلامية صغيرة، ذات لون أرجواني داكن، تنبض وكأن فيها حياةً سوداء.

تجمّد في مكانه.

اقترب خطوةً بلا وعي، حدّق فيها…

ثم بدأ الرعب الحقيقي.

أمام عينيه، راحت الكتلة الهلامية ترتعش… تتطاول… تنتفخ…

تتشكّل.

ظهرت يدٌ، ثم أخرى.

امتدّت ساقان، صدر، رأس.

تشابكت خيوطها اللزجة وهي تصوغ شعراً يتدلّى، أسناناً تنبت حادةً كالسكاكين، عيوناً تتفتح وتلمع بلمحة شيطانٍ نائم.

وفي النهاية، اكتمل الشكل.

كانت فتاةً.

ميساكي…

لكنها لم تكن هي.

كانت نسخةً مشوّهة، مقلّدة على نحو يثير الغثيان:

وجهها يكتمل ببطء، لكن العين اليسرى لم تكن إلا فجوةً سوداء دامية، تلتفّ أطرافها بقشرة دمٍ متيبس.

شفتاها امتدّتا في ابتسامة ميتة، لا شيء فيها من حنان الإنسان.

الحرّاسي حاول أن يصرخ.

لكن صوته لم يخرج.

في اللحظة التالية، شعر بشيءٍ باردٍ يلامس عنقه.

لم يشعر بالألم.

لم يفهم.

فقط رأى السماء تدور فوقه فجأة.

ثم أدرك، بعد فوات الأوان، أن رأسه قد قُطع.

رآه يسقط أرضًا في صمتٍ ثقيل.

ثم كل شيء تحوّل إلى ظلام.

تقدّمت النسخة الهلامية، تنحني برأسها جانبًا وهي تراقب الجثة، أسنانها المدببة تلمع كخناجر في ضوء القمر.

ابتسمت ابتسامةً مرعبة… ابتسامة كائنٍ خُلق للقتل لا أكثر.

وفي تلك اللحظة، انفتح فراغٌ داكن أمام القبر.

خرجت منه أقدامٌ بطيئة.

رجلٌ كبير في العمر مع لحية رمادية و رداء فخم .

ميتسو.

وراءه، في ظلال المقبرة، تحرّكت مئات العيون البشرية، تلمع بالصُفرة وسط العتمة.

كائنات لا يمكن تمييز ملامحها… كأن الظلام نفسه أعطاها حياة.

وقف إلى جواره فتاة آخر، كوغامي، يحمل في يدها حقيبة سوداء

قال ميتسو بصوت منخفضٍ تكسوه نبرة سُخرية:

— "هذه هي ورقتنا الرابحة يا كوغامي…"

رفع يده نحو الكائن الذي اتخذ شكل ميساكي:

— "بفضل هذا الوحش… وبفضل الطرف الثالث الذي يراقب من بعيد… سنسقط صاحب الكتاب وكل من يتحالف معه… بسهولة تامة. لا ينقصنا سوى الصبر… ألا توافقني، أيها الوحش؟"

تقدّمت الهلامية بخطوة، رفعت رأسها نحو السماء، فتحت فمها…

كشفت عن أسنانٍ كأنها أسنان قرش.

ثم ابتسمت تلك الابتسامة الشيطانية…

ابتسامة مخلوق خُلق ليكون الدمار فقط.

2025/07/06 · 12 مشاهدة · 2730 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025