كانت الساعة التاسعة مساءً حين دقّ جرس الباب.

لبرهة، حين نظر بليك من العين الباب تنفّس الصعداء.

إنه سورا.

فتح الباب بابتسامة خافتة:

"مرحبًا، سورا... تفضل بالدخول."

ابتسم سورا بدفء وهو يحمل حقيبته الصغيرة:

"مرحبًا بليك، شكرًا لك لدعوتي. الجو بالخارج بارد حقًا."

"آه... نعم، الليل هنا يشبه الثلاجة."

ضحكا بخفوت، وأغلق بليك الباب.

قاد صديقه إلى غرفة المعيشة، حيث كان قد حضّر بعض الوسائد والبطانيات على الأريكة، ورتّب طاولة صغيرة عليها دفاتر وعلبة شوكولاتة.

"اجلس براحتك... سأحضر شيئًا ساخنًا."

"تمام، سأخرج كتبي في هذه الأثناء."

بعد قليل، جلسا جنبًا إلى جنب، يراجعان بعض أوراق الرياضيات.

"سورا... أنت حقًا سريع في هذه المسائل."

قال بليك وهو يراقب صديقه يملأ الفراغات بسهولة.

هز سورا كتفيه مبتسمًا:

"الحقيقة أنني أحب الأرقام، هي على الأقل لا تخونك ولا تفاجئك."

"صحيح..."

شرد بليك قليلًا، ثم التقط قلمه وتظاهر بالتركيز.

مرّت ساعة من المراجعة الجادة، حتى قرر بليك أن يضع الدفاتر جانبًا.

"حسنًا... أعتقد أن هذا يكفي دراسة لليوم."

"وأنا أعتقد ذلك أيضًا."

تثاءب سورا وأرخى ظهره على الأريكة.

"هل أنت جائع؟"

"قليلًا..."

"حضّرت بعض الوجبات الخفيفة... سأحضرها."

ذهب بليك إلى المطبخ، وعاد بطبقين فيهما شرائح خبز وجبن وبعض الفواكه المجففة.

جلسا يأكلان بصمت لحظات، ثم تنهد سورا وقال بنبرة خافتة:

"بليك... هل أنت بخير؟ منذ حادثة هوتارو، تبدو... مختلفًا."

توقف بليك عن المضغ، خفض عينيه قليلًا، ثم قال بهدوء:

"أحاول أن أكون بخير... لكن الأمر صعب."

"أعرف. لو كنت مكانك، ربما لم أقدر حتى على مغادرة غرفتي."

"وأنا بالكاد أفعل."

ابتسم ابتسامة باهتة.

"إن احتجت أن تتكلم... أو حتى أن تصرخ... أنا هنا."

"أعرف ذلك... وأقدّر هذا أكثر مما تظن."

سكتا برهة، ثم أردف سورا ليخفف الجو:

"على فكرة... غرفتك مرتبة بشكل مريب الليلة. لا تقل لي أنك رتبتها خصيصًا لأنني ضيف."

ضحك بليك ضحكة قصيرة صادقة:

"طبعًا! لا أريدك أن تكتشف أنني أعيش في فوضى."

"أوه، ممتاز. كنت سأفقد احترامي لك لو وجدت جواربك على الطاولة."

"صدقني... الجواريب في الدرج، مع خططي الشريرة لغزو العالم."

"آه، هذا يفسر كل شيء."

قهقه سورا، وتبعه بليك بضحكة خفيفة.

جلسا بعدها صامتين لحظة، يحدقان في أضواء المصابيح الصغيرة المعلقة قرب النافذة.

"بليك..."

"همم؟"

"هل ستبقى هنا للأبد؟ أعني... في هذا البيت الكبير، وحدك؟"

"لا أعلم."

صوته كان منخفضًا.

"ربما... لكن في بعض الليالي مثلك يأتي ويجلس معي، لا أشعر أنني وحدي تمامًا."

ابتسم سورا وقال:

"حسنًا... سأحضر حقيبة نومي المرة القادمة."

"تأكد أن تضع اسمك عليها. لا أريد أن أخلطها مع خطط غزو العالم."

ضحكا مجددًا، وبدت الغرفة للحظة أقلّ برودة، أقلّ وحدة.

سأل بليك وهو يرفع عينيه نحو سورا:

"وماذا عن عائلتك؟ كيف... كيف هي حياتك معهم؟"

ساد صمت قصير.

خفض سورا نظره إلى كوبه، كأنه يبحث عن كلمات مناسبة.

"في الواقع... أنا أعيش مع عمتي."

"آه..."

تردد بليك، ثم تمتم بخفوت:

"والداك...؟"

"توفيا عندما كنت صغيرًا جدًا. بالكاد أتذكر وجوههم."

حاول سورا أن يبتسم، لكنها خرجت ابتسامة شاحبة.

قال بليك بسرعة:

"أنا آسف... لم أكن أقصد إحراجك."

هز سورا رأسه بلطف.

"لا بأس... تعوّدت على الأمر. الحياة تمضي."

حل صمت قصير، تبادلا فيه نظرات خفيفة.

ثم بادر سورا بالسؤال:

"وأنت؟ كيف انتهى بك الحال تعيش هنا وحدك؟"

أبعد بليك عينيه عن سورا، حدّق في الظلال المتكسرة على الأرضية.

"الأمر معقد قليلاً..."

تنهد ببطء قبل أن يواصل:

"عائلتي... لم تكن تحبني كثيرًا. أو ربما... ربما صاروا يكرهونني فعلًا."

ظهرت الدهشة على وجه سورا.

"يكرهونك؟ لماذا بحق السماء؟"

"لأن جدي... ترك لي هذا المنزل بعد وفاته. و... لم يترك لهم شيئًا تقريبًا."

سكت لحظة، كأن الكلام يثقل صدره.

"ومنذ ذلك الوقت... لم يعد أحد منهم ينظر إلي بالطريقة نفسها."

تأمل سورا وجهه بصمت، ثم قال بصدق:

"حسنًا... ربما هم أغبياء فعلًا. أغبياء لأنهم يكرهون شخصًا جيدًا مثلك."

ابتسم بليك ابتسامة صغيرة.

"شكرًا، سورا... هذا يعني الكثير."

هز سورا كتفيه بخفة محاولًا تغيير الموضوع:

"أوه، بالمناسبة... كنت أفكر في شيء. ماذا تنوي أن تفعل عندما تكبر؟ أعني... أي خطط كبيرة للمستقبل؟"

رفع بليك رأسه ببطء.

"لا أدري حقًا..."

صمتت قليلًا، ثم زفرت

في الواقع... لا أهتم كثيرًا بمستقبلي هذه الأيام. كل ما يشغلني... هذا الشيء اللعين الذي قلب حياتي.

لا أرى أبعد من الغد أحيانًا.

سكت سورا، ثم ابتسم بهدوء.

"حسنًا... على الأقل أنت صادق مع نفسك."

رفع بليك عينيه إليه وقال بصوت أخف:

"وأنت؟ ماذا عنك؟ ما الذي تريده؟"

تردد سورا، ثم حرك كوبه على الطاولة بتوتر:

"أنا؟ في الواقع... عائلتي تعمل منذ أجيال في عمل معينة، ومن المتوقع أن أعمل فيها أيضًا."

"عمل؟ أي نوع؟"

رفع سورا عينيه إليه وقال بابتسامة غامضة:

"إنها... معقدة بعض الشيء. سأخبرك عنها لاحقًا. لا أحب الحديث عنهم كثيرًا."

هز بليك رأسه بتفهّم.

"حسناً... عندما تكون مستعدًا."

ساد بينهما صمت مريح، كأن كلاً منهما وجد في الآخر شيئًا ينقصه.

سأل سورا بنبرة هادئة كأنه يختبر فضول بليك:

"بليك… هل سمعت من قبل بقصة ساحرات الخطايا السبع؟"

رمش بليك ببطء، يفكر في الاسم.

"ساحرات الخطايا السبع… هل هي قصة شعبية؟"

"يمكنك تسميتها كذلك… لكنها أكثر من مجرد حكاية أطفال. إنها قصة منقولة في عائلتي منذ أجيال."

"حسناً…"

حرك بليك جسده مقتربًا قليلًا، وقد لمح في عيني سورا جدية لم يرها من قبل.

"احكها لي."

صمت سورا لحظة، ثم شبك أصابعه فوق ركبتيه، وصوته حين بدأ الحكاية كان أخفض من همس الريح:

"قبل أربعمائة عام…

كان هذا العالم على حافة الهاوية.

سبع ساحرات، كل واحدة تمثل خطيئة لا شفاء منها…

ساحرة الكسل.

ساحرة الشراهة.

ساحرة الكبرياء.

ساحرة الجشع.

ساحرة الغضب.

ساحرة الشهوة.

وأخيرًا… ساحرة الحسد."

هنا توقف سورا قليلًا، كأنه يستجمع شجاعته ليكمل.

"ساحرة الحسد… أقواهن.

.

ولو لم يقم قديس السيف والحكيمة والتنين الأسطوري بتوحيد قواهم…

لكان العالم انتهى منذ ذلك اليوم."

ترددت رعشة خفيفة في صوت بليك حين همس:

"و… قتلوهن جميعًا؟"

أومأ سورا ببطء:

"قتلوهن… أو ظنوا أنهم فعلوا.

من شدة قوة ساحرة الحسد لم يستطيعو قتلها بل ختموها في مكان غير معروف

وقيل… إن طائفة سرية تأسست بعد تلك الليلة.

طائفة هدفها الوحيد… جمع بقايا الساحرات وإحياءهن من جديد."

شعر بليك أن هواء الغرفة صار أثقل، كأن أحدهم استمع للحكاية معهم.

أطرق سورا قليلًا، ثم رفع عينيه وقال بابتسامة باهتة:

"هذه قصة لا تصدق… أليس كذلك؟"

تنفس بليك بعمق قبل أن يجيب:

"نعم… إنها تبدو كحكاية من حكايات الميثولوجيا، أو واحدة من تلك الأساطير السخيفة… مثل قراصنة الكاريبي… أو نظريات المؤامرة الغبية."

ضحك سورا ضحكة قصيرة، ثم عاد للصمت، وكأنه يختبر رد فعل بليك بجدية أكبر هذه المرة.

"لكن… لو افترضنا للحظة أنها حقيقية… وأن هناك فعلًا طائفة هدفها إحياء الساحرات… هل كنت ستنضم إليهم؟"

حدق بليك فيه بدهشة خفيفة، ثم زفر.

"لو كانت القصة حقيقية… أمممم… مستحيل. هؤلاء الساحرات… من الواضح أنهن أشرار. لا بد من إيقاف أي أحد يحاول إعادتهم."

بدت على سورا ملامح ارتياح خفي، وأومأ ببطء.

"أنا أيضًا… كنت سأختار مثلك تمامًا."

سكتا قليلًا، يراقبان ضوء المصابيح الصغيرة المتراقصة على الجدران.

تسلل بعض الهدوء إلى الغرفة، كأنها تنفست الصعداء بعد حكاية مرعبة.

ثم قطع سورا الصمت بصوته المرح المعتاد:

"حسنًا… نعود لموضوعنا. هل قررت إن كنت ستذهب معنا غدًا إلى البحر؟"

زفر بليك، وغطى وجهه بكفيه.

"ما زلت أفكر يا رجل… أنا فقط… لا أحب فكرة الذهاب مع أشخاص لا أعرفهم جيدًا."

رفع سورا حاجبًا بخفة.

"ماذا تعني لا تعرفهم؟ جميعهم من فصلنا… وأنا معك أيضًا."

"لكنني لا أحب البحر أصلًا."

ضحك سورا وربت على كتفه بخفة.

"يا لك من متحذلق. الأمر مجرد خيار… لنستمتع قليلًا ونخرج من جو الكآبة هذا."

تردد بليك لحظة، ثم تنهد كأنه يستسلم لمعركة خاسرة:

"حسناً…"

أشرقت ملامح سورا بابتسامة واسعة.

"رائع! سنعتبرها نزهة صغيرة… وربما تكتشف أنك تحب البحر أكثر مما تعتقد."

رفع بليك يده باستسلام مصطنع.

"حاضر… لكن لا تتوقع مني أن أسبح."

"لا يهم… سأرغمك على اللعب بالرمل على الأقل."

ضحكا معًا، وبدت الغرفة أخيرًا أقل وحدة، أقل بردًا… ولو للحظة قصيرة.

في الغد…

{اليوم الثامن من اللعنة}

كان البحر يلوح بلونه الرمادي الموحش تحت سماء ملبدة بالغيوم.

الريح الباردة جعلت الأمواج تتلاطم كأنها تعترض على فكرة قدومهم، لكن سورا بدا مصممًا على هذه النزهة.

وقف بليك على الشاطئ، يضم ذراعيه إلى صدره ووجهه شاحب.

"هذا أسوأ توقيت للبحر… الجو يبدو كأنه سيهطل علينا غضب الآلهة."

ضحك سورا وهو يربت على كتفه.

"اهدأ… لمجرد أننا لا نرى الشمس لا يعني أننا سنموت. فقط استرخي."

كان بليك يرتدي سروال سباحة أسود بسيطًا يصل إلى ركبتيه، مع قميص قطني خفيف بلون رمادي داكن، شعره يتطاير مع الهواء البارد.

أما سورا، فاختار سروال سباحة كحليًا مزركشًا بخطوط بيضاء، وكان يرتدي قميصًا مفتوح الأزرار يكشف صدره النحيل.

لم تمضِ دقائق حتى لمحا أربعة من زملائهما يقتربون.

لوّح سورا بيده بحماس.

"هاهم وصلوا!"

أول من تقدم كان يوتا، شاب متوسط الطول، له شعر بني قصير وعينان عسليتان.

يرتدي سروال سباحة أحمر وقميصًا أبيض فضفاضًا نصفه مبتلّ من رذاذ البحر.

كان يلوح لهم بابتسامة مرحة:

"يا أيها الكسالى! تأخرتم علينا!"

خلفه كان رين، أطول قليلًا، شعره أسود مربوط للأعلى بشكل ذيل حصان صغير، عيناه ضيقتان وفيهما لمحة حذر دائم.

يرتدي سروال سباحة أسود بخطوط رمادية وقميصًا رياضيًا بلا أكمام.

"قلت لكم… هذا الطقس غريب. سنصاب بالبرد جميعًا."

بين الاثنين تقدمت الفتاتان.

الأولى كانت آيومي، فتاة قصيرة القامة بشعر وردي فاتح يصل حتى كتفيها، ترتدي مايوهًا قطعة واحدة بلون أزرق داكن مع سترة خفيفة شفافة تغطي كتفيها.

كانت تضحك بخفة وهي تحمل حقيبة مبردة صغيرة:

"لا تتذمر يا رين… البحر جميل حتى لو كان غائمًا."

والثانية هانا، طويلة ونحيلة، شعرها بني غامق مربوط على شكل كعكة مرتخية، ترتدي مايوه قطعتين بلون بنفسجي باهت مع تنورة قصيرة خفيفة فوقه.

وجهها هادئ، لكن ابتسامتها كانت دافئة حين رفعت يدها لتلوح:

"مرحبًا بليك… لم أتوقع رؤيتك هنا."

حاول بليك أن يرد بابتسامة، لكنه لم يفلح إلا بابتسامة متوترة:

"مرحبًا… أجبروني على القدوم."

قهقه سورا وهو يصفق على ظهره بخفة:

"بل جئت بإرادتك… نوعًا ما."

قال يوتا وهو يفتح ذراعيه كأنه يستعرض البحر الرمادي:

"إذًا… ما رأيكم؟ من سيقفز أولًا؟"

رفع بليك حاجبيه ساخرًا:

"قفز؟ في هذا الجو؟ جرب أنت أولًا."

"سأجرب!"

قالت آيومي بحماس مفاجئ، وركضت بخطوات سريعة نحو حافة الماء.

صرخت حين لامست قدماها الأمواج الباردة:

"آآآه! بارد! بارد جدًا!"

انفجر الجميع ضحكًا، حتى بليك وجد نفسه يبتسم برغمًا عنه.

وقفوا جميعًا على الشاطئ لحظة يراقبون آيومي وهي تعود مسرعة وقد التصق شعرها بوجهها.

قال رين ببرود وهو يهز رأسه:

"الآن تأكدت… أنكم مجانين."

قال سورا وهو يخلع قميصه استعدادًا للدخول:

"على الأقل لن يكون يومًا مملًا."

تبادل بليك وهانا نظرة صامتة.

لثانية، شعر بشيء غريب… وكأن شيئًا يراقبهم من البحر الرمادي البعيد.

لكنه طرد الفكرة بسرعة.

اليوم… قرر أن يحاول الاستمتاع. ولو قليلًا.

تردد بليك قليلًا على حافة الماء، شعر بالأمواج الباردة تلامس أصابع قدميه.

التفت نحو سورا الذي كان يخطو بثقة إلى الداخل، الماء يصل إلى ركبتيه.

"تعال يا جبان!" صرخ سورا وهو يلوح بيده.

"أقسم أن الأمر ليس بهذا السوء!"

"أنت لا تشعر بجسدي!" رد بليك بنبرة ساخط مترددة.

"الجو بارد لدرجة أني لا أحس بأقدامي!"

قهقه يوتا وهو يرش رين بالماء:

"لن تشعر بها أصلًا بعد دقيقة! ستتحول لتمثال ثلج!"

هانا، التي كانت قد خطت بضع خطوات إلى الداخل، التفتت إليه وقالت بابتسامة مطمئنة:

"صدقني… أول خمس ثوانٍ هي الأسوأ. بعدها يعتاد جسدك."

تنهد بليك، رفع يديه مستسلمًا، ثم تقدّم ببطء حتى غمر الماء ساقيه بالكامل.

"حسنًا… لو متُّ هنا، فأنتم المسؤولون."

"سنقيم لك جنازة رائعة." قال سورا وهو يصفق الماء ضاحكًا.

آيومي، التي كانت تسبح حولهم بخفة، اقتربت من بليك وأخرجت مسدس مياه صغير من جيب سترتها الشفافة.

"خذ!"

ضغطت الزناد ورشته بقطرات باردة على صدره.

"هييي!"

تراجع بليك خطوة للوراء، وهو يحدق فيها مصعوقًا.

"لم يكن هذا ضروريًا!"

ضحكت آيومي ضحكة عالية ملأت الجو بخفة:

"بل كان ضروريًا جدًا!"

قفز يوتا في الموجة التالية، ثم خرج وهو يمسح وجهه بيده:

"أوه… ماء البحر مالح أكثر مما ظننت!"

"حقًا؟! اكتشاف عظيم يا يوتا." رد رين بسخرية وهو يدفعه في الماء مجددًا.

انفجر الجميع ضحكًا، حتى بليك، الذي لم يتذكر متى ضحك بهذا الصدق آخر مرة.

بعد قليل، بدأت هانا وآيومي في جمع الأصداف الصغيرة قرب الشاطئ، بينما يوتا وسورا تنافسا في من يستطيع الغوص أكثر.

جلس بليك قرب الماء، يمد قدميه للأمام ويحركهما في الموج الخفيف، شعر بقلبه يهدأ، وكأنه يفرغ كل توتر الأيام الماضية.

اقتربت هانا وجلست بقربه، تريه صدفة صغيرة بلون أرجواني:

"أنظر… جميلة، أليس كذلك؟"

أمسكها بليك بين إصبعيه وتأملها:

"كأنها جوهرة صغيرة."

قالت هانا وهي تنظر نحو البحر الرمادي:

"أحيانًا… أبسط الأشياء هي الأجمل."

هز رأسه موافقًا، ابتسامة خفيفة على شفتيه.

عاد سورا ووجهه مبلل بالكامل، وهو يلهث:

"لقد فزت على يوتا… غصت أربع مرات أكثر منه!"

"كنت سأغوص أكثر لو لم تجرني للداخل كالأبله!" صرخ يوتا وهو يلوح بقبضته.

"آيومي… ساعديني! هم يتآمرون علي!"

ضحكت آيومي وهي تلوح بمسدس الماء في الهواء:

"أنا في صفي… من يدفع أكثر!"

"أنت مرتشية!" قال سورا وهو يشير إليها.

"أبدًا… أنا مجرد سيدة أعمال ناجحة."

ضحك بليك مجددًا، وشعر بشيء يشبه الامتنان.

في هذا اليوم، لم يكن هناك لعنة ولا خوف ولا وحوش.

كانوا مجرد شباب عاديين… يضحكون ويلعبون عند البحر.

لثانية، تمنى لو أن هذا الهدوء يدوم… ولو قليلًا.

بعد نصف ساعة، جلسوا جميعًا على الشاطئ يلتقطون أنفاسهم بعد اللعب.

تمدّد يوتا على منشفة كبيرة، فيما جلس سورا يراقب البحر بعين نصف مغمضة.

آيومي كانت تحاول إزالة الرمل العالق بين أصابع قدميها، وتتمتم ساخطًة.

أما هانا… فقد بقيت وحدها تسبح على مسافة قريبة، تحرّك ذراعيها بخفة وثقة وسط الموج الرمادي.

قال سورا وهو ينظر إليها مبتسمًا:

"يبدو أن هانا تحب البحر فعلًا."

رد يوتا وهو يمد ذراعيه فوق رأسه بتكاسل:

"إنها في نادي السباحة… طبيعي أن تكون في عنصرها هنا."

أطرق بليك يفكر، شعر بدفقة خجولة من الحماس:

"ربما… سأطلب منها أن تعلمني السباحة لاحقًا…"

نهض ببطء، نفض الرمل عن ساقيه، واستدار ليناديها.

لكن البحر كان خاليًا.

تجمد في مكانه.

"هانا؟"

نظر الجميع نحوه حين سمعوا نبرة صوته.

"يا رفاق… أين هانا؟"

رفع سورا رأسه فورًا، ثم جلس معتدلًا.

"لقد… كانت هنا قبل لحظة…"

قالت آيومي وهي تتلفت بقلق:

"لا يمكن… لقد كانت تسبح بقربنا."

وقف يوتا وحدّق بعيدًا:

"ربما ابتعدت قليلًا…"

تقدّم سورا خطوتين داخل الماء، يحدق في الأمواج.

وفجأة شهق، ورفع يده يشير بإصبعه المرتعش:

"ه… هناك! هل هذه… هي؟"

استدار الجميع دفعة واحدة.

رأوها.

في قلب الموج الهائج، كانت هانا تلوّح بذراعيها في يأس، رأسها يختفي ويظهر بين اللحظة والأخرى.

شعر بليك بشيء يلتف حول صدره ويعصر قلبه حتى كاد يتقيأ.

لكن ما جعل الرعب يتسلل لعظامه… هو أنها لم تكن تصرخ.

لم تكن حتى تطلب المساعدة.

كانت تفتح فمها وتغلقه في صمت، وكأن شيئًا يسحب صوتها… أو يغمره.

هرع رين خطوة للأمام.

"يجب أن نخرجها! لنذهب!"

أمسكه يوتا بقوة من ذراعه وهو يصرخ:

"توقف! البحر هائج وهي بعيدة جدًا! لو ذهبت إليها ستغرق معها!"

"لكن—!"

"اصمت! فكر قليلًا!"

انفجرت آيومي بصوت حاد، وجهها يشحب بسرعة:

"النجدة! أحدكم ساعدنا! صديقتنا تغرق! ها هي هناك!"

تجمّع بعض الناس بسرعة قرب الشاطئ، وركض أحدهم ليبحث عن المنقذ.

بينما ظلت هانا تلوّح بلا صوت، رأسها يختفي أكثر فأكثر.

شعر بليك أن الدماء تغادر أطرافه.

لم يعد يسمع شيئًا بوضوح سوى خفقات قلبه.

"هذا… هذا مستحيل… هانا تجيد السباحة… هذا ليس طبيعيًا… إنها… بسبب لعنتي…"

ترددت كلمة في رأسه مثل طعنة:

لعنتي.

أغمض عينيه لثانية، يتمنى أن يفتحها ويجدها وهمًا.

لكن حين نظر ثانية… كانت هانا ما تزال تتخبط، كأن يدي شيء خفي تغمرها إلى القاع.

شهق، وتذكّر شيئًا في نفس اللحظة.

ميساكي.

استدار بسرعة وصاح:

"ميساكي!"

ظهر طيفها فجأة خلفه، يلامس كتفه ببرودة شبحية جعلته ينتفض.

"لقد أفزعتني…"

قالت ميساكي بصوت هادئ لا تشوبه أي انفعال:

"لماذا ناديتني؟"

نظر نحو البحر، ثم صوب عينيها مباشرة.

"ميساكي… أرجوك… أنقذي تلك الفتاة!"

قالت ميساكي بنبرة لم يسمعها منها من قبل، نبرة يختلط فيها الأسف بالعجز:

"آسفة… لا أستطيع."

شهق بليك، كأن قلبه سقط من صدره:

"أنا أترجاك… أنقذيها!"

هزّت رأسها ببطء، شعرها الشاحب يرفرف حول وجهها الخالي من الدماء:

"لا أستطيع… أنا مجرد شبح. أقدر على إنقاذك أنت… لأنك تراني وتسمعني… لكن هي… لا تستطيع رؤيتي ولا لمس يدي… لا أستطيع حرفيًا أن أصل إليها."

تراجع بليك خطوة إلى الوراء، تهاوت قدماه، سقط على ركبتيه.

اغرورقت عيناه بدموع حارّة… لم يعرف حتى متى بدأت تنهمر.

"أنا… لا أريد أن يموت شخص آخر… بسببي…"

نظرت إليه ميساكي بنظرة حزينة، ورفعت يدها كأنها تلمس كتفه، لكن كفها مرت خلاله.

همست:

"أنا آسفة…"

انحنى بليك، وضع رأسه على الرمل البارد، وهو يسمع صوت قلبه يخبط في صدره كأنه يريد الهروب:

لو لم آتِ معهم… لو لم أكن هنا… لما حدث هذا…

أنا سبب كل شيء… أنا خطر على الجميع… لا يجب أن أتعلق بأي أحد… لا أستحق أن أضحك أو أستمتع…

تسارعت أنفاسه حتى شعر بالدوار.

وفجأة… قاطع صوته الداخلي صراخ آيومي:

"هناك! إنه المنقذ!"

رفع بليك عينيه المبللتين بالدموع.

رأى رجلًا طويل القامة، أسمر البشرة، يرتدي زيّ الإنقاذ البرتقالي المميز، صدره العريض يلمع من الرذاذ، وعيناه مركزتان على هانا في الماء.

كان يحمل طوق النجاة بيد، ويشق الأمواج بخطوات حازمة.

في لحظات، وصل إليها.

لف ذراعه القوية حول خصرها، ورفع رأسها فوق الماء.

ثم جذبها ببطء نحو الشاطئ، والناس يفسحون الطريق في صمت مشحون.

حين وصلوا، كانت هانا تلهث بأنفاس متقطعة، عيناها زائغتان، خصلات شعرها الطويل ملتصقة بوجهها.

تجمع زملاؤها حولها بسرعة.

آيومي أمسكت بيدها تبكي.

رين نزع سترته وغطاها بها.

يوتا ضغط على كتفها يطمئنها.

حتى سورا ركع بجانبها يربت على ظهرها.

أما بليك…

فلم يتحرك.

ظل واقفًا يراقبهم بعينين غارقتين بالألم.

همس لنفسه بصوت لا يسمعه أحد:

"بسببي…"

لاحظ سورا تجهم وجهه، فالتفت إليه بقلق:

"بليك… ما بك؟ لماذا تبدو هكذا؟"

أدار بليك رأسه ببطء نحوه.

صوته خرج واهنًا كأن خيطًا واحدًا كان يشده ليبقى واقفًا:

"لا شيء… أنا فقط… سأغادر."

"ماذا؟"

رفع سورا رأسه، تلاقى نظرهما لثانية، ثم نظر الجميع إليه.

قالت آيومي وهي تمسح دموعها:

"ماذا تعني؟ هانا بخير… لا تقلق… لن تدخل البحر مرة أخرى!"

لم يجبهم.

مدّ يده والتقط حقيبته ومنشفته.

عيناه لا تجرؤان على النظر إليهم مرة أخرى.

قال بصوت خفيض، بالكاد يُسمع وسط الموج:

"آسف… أظن… أنكم لا يجب أن تقتربوا مني."

استدار… وبدأ يمشي مبتعدًا عنهم.

حافي القدمين، يترك آثار خطاه على الرمل المبلل.

ولم يلتفت.

ظل الجميع ينظرون إليه بصمت، عيونهم تختلط فيها الحيرة والشفقة والندم.

ورغم أن البحر صار هادئًا من جديد…

كان قلب بليك قد غرق بالفعل.

2025/07/07 · 16 مشاهدة · 2857 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025