{بعد 10 سنوات}
[الساعة 7:30 صباحًا]
استيقظت من النوم، غسلت وجهي، ونظّفت أسناني.
نظرت إلى هاتفي، لأتذكّر أن اليوم هو… عيد ميلادي.
وكأن أحدًا يهتم.
اسمي بليك إيثر.
أعرف، الاسم يبدو كأنه مستعار من رواية خيال علمي رخيصة،
لكن صدقني… حياتي أقل تشويقًا بكثير مما يوحي به اسمي.
أنا من ذلك النوع من الأشخاص الذين يُنسَون بسهولة.
لا أحد يصفني بالبطل، لا في القصص، ولا في الواقع.
في البيت؟ أنا "الغلط" — الكلمة التي قالتها أمي يوم ولادتي، ولم تتراجع عنها قط.
وفي المدرسة؟ مجرد ظل، يمشي بين الجدران. لا أحد يلاحظ وجودي، إلا إذا تعثّر بي أحدهم بالخطأ.
لدي أخٌ أكبر، جوليان — نجم العائلة،
يمتلك كل ما تمنّوا لو امتلكته أنا.
وأختان صغيرتان، لا يرون فيّ سوى ذلك الأخ الذي يلعب معهما.
الشخص الوحيد في عائلتي الذي عاملني يومًا وكأنني أستحق شيئًا من هذا العالم…
كان جدي.
كان يراني. يشعرني أنني لست عبئًا، أن لي قيمة، أنني موجود لسبب.
وفجأة، تذكّرت كلماته:
«في عيد ميلادك السادس عشر، تعال إليّ. سنحتفل معًا.»
رغم أنه رحل… شعرت بشيء من الحماس.
قليل، لكنه نادر… وهذا كافٍ.
نزلت إلى المطبخ لأتناول فطوري،
فوجدت عائلتي مجتمعة كعادتهم، ينتظرون الطعام.
جلست بصمت.
لا لأنني خجول، بل لأن هؤلاء… هم سبب تعاستي.
ماريلا — المرأة التي يُفترض أنها أمي.
وجه مليء بالتجاعيد، تخفيه بصبغات شعر رخيصة وألوان لا تُقنع حتى نفسها.
لم أدعُها "أمي" يومًا.
كل ما تتقنه هو الصراخ، والتذمر، وتكرار جملتها المفضلة:
"ندمت على إنجابك."
أخي جوليان، 23 سنة، طويل، وسيم نوعًا ما،
بشعر أسود متوسط الطول، وتصرفات مَن يعتقد أنه بطل فيلم حربي.
دخل الجيش، تخرّج، والآن يظن نفسه "رجل العائلة".
يتنمّر عليّ في كل فرصة، وعندما أرد… يضربني، ثم ينعتني بـ"الفاشل".
أختاي الصغيرتان،
ليلي – 11 سنة، بشعر ناعم، بشرة بيضاء، وجسد نحيل يشبهني.
وصوفي – 9 سنوات، بشعر طويل أسود، وبشرة تميل للسمرة، مع خدود ممتلئة.
هما في الأصل ابنتا خالتي، لكنهما دائمًا في منزلنا…
فأصبحتا جزءًا من العائلة، شئت أم أبيت.
أحيانًا يكونان لطيفتين،
وأحيانًا… تخرجان جانبهما الشيطاني وتتحوّلان إلى مصدر صداع لا يُحتمل.
أما أبي…
فلا أعرفه.
لم أره قط.
كل ما أعرفه هو ما تقوله ماريلا: "تركنا وسافر، ولا تسألني عنه مجددًا."
وضعت ماريلا الفطور على الطاولة.
بدأت أتناول طعامي بسرعة — كنت أريد أن أخرج من هذا البيت في أسرع وقت ممكن.
لكن طبعًا... لا يتركونني أتنفس.
قالت ماريلا، بنبرة مستفزة:
"همممم، بليك، يبدو أنك متحمّس اليوم، أليس كذلك؟"
لم أعلّق.
تدخّل جوليان، كالعادة:
"يبدو أن الطفل المدلل رايح لحضن جده اليوم!"
ضحك ساخرًا وكأنّه ألقى نكتة عبقرية.
ثم نظرت ماريلا إليّ، وعلّقت:
"هل هذا صحيح؟ ولماذا بحق الجحيم تذهب لذاك العجوز الخرف الآن؟"
توقّفت عن الأكل.
أخفضت رأسي للحظة، ثم وضعت الملعقة على الطاولة بهدوء.
لم أستطع تحمّلهم أكثر.
غادرت المنزل دون أن أكمل حتى نصف فنجان القهوة.
---
مشيت.
منزله في مدينة أخرى، على بُعد ساعات.
لكن لم أكن أهتم.
أفضل أن أقضي اليوم كله في الطريق،
على أن أبقى لحظة واحدة مع تلك الحثالة.
الجو تغيّر أثناء سيري.
الغروب بدأ يلون السماء، ونسيم خفيف لفح وجهي.
كل خطوة تقرّبني من الأمان… من الجد ثيودور.
---
أخيرًا، وصلت.
كنت على وشك طرق الباب،
لكن قبل أن أفعل، فتح فجأة…
وإذا بجدي يخرج مسرعًا، يعانقني ويقبّل خدي.
"هاهاهاه! حفيدي بليك! عرفت أنك ستأتي! مرحبًا بك في منزلك. كم اشتقت إليك!"
لا أفهم كيف يمكن لرجل في الثمانين من عمره أن يركض بهذه الخفّة...
لكن جدي كان استثناء لكل شيء.
دخلت معه.
رائحة المنزل وحدها تكفي لأعيد شريط طفولتي من البداية.
الهواء دافئ، والجدران ما زالت تهمس بذكرياتنا القديمة.
الموقع؟ خرافي. يطل مباشرةً على البحيرة... حيث اعتدنا الجلوس معًا عند الغروب.
جلست على الأريكة.
بعد لحظات، عاد جدي يحمل كعكة ضخمة.
كعكة حقيقية، فاخرة، عليها ست عشرة شمعة.
"جدي... كم دفعت ثمنها؟"
ضحك وقال:
"لا تهتم بالسعر، فقط تذوّق."
قضمة واحدة... كانت بنكهة الشوكولاتة. نكهتي المفضلة.
بعد أن أنهينا الكعكة، أخرج من جيبه هدية ملفوفة بعناية.
ناولني إياها بابتسامته المعتادة، وعيناه الضبابيتان تلمعان بحنوّ.
فتحت العلبة…
كان عطرًا، فخمًا، واضح أنه باهظ الثمن.
قلت له:
"جدي... لم يكن عليك فعل هذا. وجودك بجانبي وحده هدية."
ثم عانقته… عناقًا لا يُنسى.
---
حلّ الليل، ولم أستطع العودة إلى مدينتي.
قررت أن أبقى عنده.
نمت في احد الغرف… ويا لها من نومة.
أشعر أنني نمت لأول مرة منذ سنين.
---
استيقظت بنشاط غير معتاد.
غسلت وجهي، وجهّزت حقيبتي، ثم ذهبت لإلقاء تحية الصباح على جدي.
لكن...
كان لا يزال نائمًا.
هذا غريب.
جدي لا ينام بعد الخامسة صباحًا أبدًا.
يستيقظ دائمًا ليسقي الأزهار… فماذا يحدث؟
اقتربت منه.
ناديت عليه… هززته بخفّة… لم يتحرك.
ناديت بصوت أعلى…
"جدي؟"
لا إجابة.
بدأ قلبي يخفق بسرعة…
حاولت مرارًا… لا شيء.
في تلك اللحظة… عرفت.
جدي قد رحل.
غادر هذا العالم… بعد أن أعطاني آخر لحظاته، كأنّه كان ينتظرني فقط.
[بعد ثلاث ايام من موت ثييودور]
---
كانت الشمس قد اختفت خلف الغيوم،
وكأن السماء قررت أن تحزن معنا.
وقفنا جميعًا أمام القبر المفتوح،
والتراب بجانبه ينتظر أن يُلقى فوق جسد رجل...
رجل لم يكن مجرد جد.
بل كان وطنًا.
أنا لم أبكِ أمام أحد.
لكن داخلي كان ينهار.
وجهي جامد، لكن صدري كان يضجّ بالألم.
أنفاسي ثقيلة، ويدي لا تتوقف عن الارتعاش.
ماريلا كانت تمسك منديلًا قرب أنفها، تتظاهر بالحزن.
لكنني كنت أعلم… هي لم تحبه يومًا، بل سخرت منه حتى بعد موته.
أنا متأكد انها تقول بصوتها الداخلي الا:
"العجوز المجنون أخيرًا ارتاح..."
التفتّ نحوها، نظرتُ في عينيها، ولم أقل شيئًا.
الصمت كان كافيًا ليفضح كل شيء.
جوليان وقف متيبّسًا، مرتديًا بدلته العسكرية،
وكأنّها مناسبة رسمية أخرى لاستعراض نفسه.
همس لصديقه:
"كان مختل عقليًا، المفروض يدخل دار مسنين من زمان..."
كلماتهم كانت طعنات،
لكني لم أسمح لها أن تُسقطني.
لأني كنت أعرف من هو جدي... أكثر منهم جميعًا.
---
وضع القسّ التربة على التابوت الخشبي،
ثم بدأ يتلو كلمات الوداع.
"ثيودور إيثر، وُلِدَ في زمن صعب، وعاش رجلًا نبيلاً... ترك خلفه أثرًا في كل من عرفه."
نظرت إلى القبر...
كأن روحي قد دُفنت معه.
هو الوحيد الذي نطق باسمي دون استهزاء.
الوحيد الذي جعلني أشعر أنني لست عبئًا...
بل شخصًا يستحق أن يُحَب.
---
انتهت المراسم.
بدأ الناس يتفرّقون... كأن شيئًا لم يكن.
لكنني بقيت هناك.
وقفت وحدي أمام قبره.
حاولت أن أقول شيئًا، لكن الحروف خانتني.
فجلست على ركبتي، ولمست الحجر البارد،
وهمست:
"وداعًا يا جدي…
شكرًا لأنك كنت النور الوحيد في عالمي المظلم.
ماذا سوف أفعل من دونك الان
في الظالام الحالك
---
رفعت رأسي نحو السماء.
قطرة مطر سقطت على خدي… أو ربما دمعة.
ثم وقفت…
وغادرت ببطء، وأنا أحمل في صدري فراغًا لا يملؤه أحد.
لكنني لم أكن أعلم…
أن موت جدي، لم يكن نهاية قصتي.
بل بدايتها.