[مرّ أسبوع على موت ثيودور إيثر]
كانوا مجتمعين في غرفة المعيشة، والهدوء ثقيل، كأن أحدًا قد صبّ الإسمنت في الهواء. وكنت أعرف تمامًا سبب هذه الجلسة.
إنهم بانتظار الورث.
جلس المحامي العجوز ببدلته الرمادية، ونظارته التي تتدلّى على أرنبة أنفه. فتح ملفًا جلديًا ووضعه على الطاولة أمامه.
قال بصوت رتيب: "بحسب وصية السيد ثيودور إيثر، فإن جميع ممتلكاته — المنزل، المقتنيات، الحسابات البنكية، وحتى الأراضي المسجلة باسمه — قد آلت إلى حفيده... بليك إيثر."
ساد الصمت. للحظة، ظنّ بليك أنه لم يسمع جيدًا.
ثم جاءت العاصفة.
"مستحيل!" صرخت أمه، واقفة، وجهها محمّر من الغضب. "لابد أنك أخطأت، يا سيد هوفمان!" قالت ماريلا وهي تحاول انتزاع الملف. "أنا ابنته! ابنته!" "كيف يعقل أن يترك كل شيء لذلك الفاشل؟!" قال أخوه الأكبر بازدراء.
"فهو في النهاية سبب موت ذلك العجوز."
لم أستطع الاعتراض على كلام جوليان. فمهما حاولت الإنكار، تقرير الطب الشرعي يقول إن سبب الوفاة كان مضاعفات السكر، وكنت أنا من يشتري له الحلوى دائمًا...
نظر المحامي إليهم بهدوء، وقال: "السيد ثيودور كان واضحًا تمامًا. التوقيع والبصمة والتوثيق الرسمي موجود. لا مجال للتغيير."
وقفت أمي أمامي، تحدّق بي وكأنني طعنتها بخنجر.
"أيها اللعين، الآن وحالًا سوف تعطينا الورث."
قلت بهدوء:
"لا."
"ماذا قلت، أيها الداعر؟!"
نهض جوليان من مكانه، مستعدًا لضربي. لكنني لم أكن مهتمًا.
"طوال حياتكم لم تهتموا لذلك الرجل المسكين. لم أركم تزورونه أو تتصلون به للاطمئنان. لم تكونوا هناك حين كان في المستشفى. والآن... تريدون ممتلكاته؟! أنتم القمامة الحقيقية."
صرخت أمي، تمثّل دور الضحية: "ماذا قلت؟! اسمعوا يا ناس، ابني يسبّني بأبشع الشتائم! أرأيتم كم هو عاق؟! بعد كل ما فعلناه من أجله — أطعمنـاه، وأويناـه — هكذا يكافئنا؟!"
ضحكت، ضحكة مرّة: "نكتة جيدة. جدي هو من أطعمني، وأواني، وأحبّني. جدي هو من كان هناك دومًا، وأنتِ... لم ترفعي حتى الهاتف لتقولي له: كيف حالك يا أبي؟ والآن... أنا العاق؟!"
اندفع جوليان ولكمني في وجهي، بقوة، سقطت على الأرض، وكدمة مؤلمة بدأت تتشكّل تحت عيني اليمنى. نظرت إليه، نظرة مليئة بالحقد والغضب، وقلت ببرود:
"مهما ضربتني، لن أعطيكم أي شيء."
نظرت ماريلا إليّ باشمئزاز وقالت: "بما أن هذا رأيك فينا، فأنت لست منّا بعد الآن. خذ ما تركه لك... واخرج من حياتنا."
ثم بصقت بجانبي: "ولا تعُد إلى هنا ثانية. نحن نتبرّأ منك."
خرجت من الغرفة بهدوء، جمعت أغراضي القليلة، وغادرت ذلك المنزل اللعين دون حتى كلمة وداع.
لكن من الداخل... كنت أرقص.
سأبدأ حياة جديدة، في مدينة جديدة، وسأطوي هذه الصفحة من حياتي إلى الأبد.
صعدت إلى سيارة الأجرة، وانطلقتُ إلى منزلي الجديد.
---
وصلت السيارة إلى نهاية الطريق الترابي الطويل، وتوقّفت أمام منزل جدي.
ترجلت منها ببطء، نزلت ومعي حقيبة صغيرة، وقفت أتأمل المكان... وكأن الزمن قد توقّف هنا.
البيت كان كما هو: كبير، مبني بالحجر العتيق، يكسوه نبات اللبلاب من أحد الجوانب كأن الطبيعة تحاول احتضانه أو ابتلاعه. شُرفاته الخشبية تصدر صريرًا خفيفًا بفعل الرياح، والنوافذ العالية تعكس ضوء الشمس الغاربة، و اطلالته الرائعة علي البحيرة تجعله يبدو كقصر من زمن ميت.
صعدت درجات السلالم الخشبية، وأخرجت المفتاح الذي سلّمه لي المحامي. لحظة دخولي، اجتاحتني رائحة مألوفة... مزيج من الخشب القديم، أوراق الكتب، والعطر الخفيف الذي كان يضعه جدي.
دخلت.
البيت كان مظلمًا بعض الشيء، لكنه دافئ. الأرضيات الخشبية تصدر طقطقة خفيفة تحت قدميّ، والجدران مغطاة برفوف مليئة بالكتب، وخرائط معلقة، ولوحات زيتية قديمة، أغلبها لمدن لا أعرفها... أو ربما لا توجد أصلًا.
تجولت في البيت.
غرفة المعيشة ما زالت كما أتذكرها — الأرائك الجلدية العتيقة، المدفأة الحجرية، وصندوق الشطرنج المفتوح بجانب الكرسي الهزّاز حيث كان يجلس جدي كل مساء.
توقفت أمام الطاولة الصغيرة قرب المدفأة، وأخرجت من حقيبتي صورة مؤطرة له... صورته ، كان يبتسم وكأن لا شيء يمكن أن يؤذيه. وضعتها هناك، قرب الشمعدان النحاسي، ووقفت لحظة صامتًا.
"أنا هنا، جدي..."
صعدت إلى الطابق العلوي، مررت بغرفة نومه — لم أفتحها بعد. بعدها وجدت الممر الضيق المؤدي إلى الجزء الخلفي من المنزل. هناك باب صغير لم يُفتح من زمن بعيد، باب مصنوع من خشب داكن، عليه نقوش تشبه جذور شجرة ملتوية.
فتحت الباب.
كان هناك درج ينزل إلى الأسفل — إلى القبو.
أمسكت بمصباح صغير وبدأت النزول. كل درجة كانت تصدر صريرًا أعمق من التي قبلها، حتى وصلت إلى الأسفل، إلى قبو منسي.
القبو كان واسعًا على غير المتوقع، أكثر مما يفترض أن يكون تحت الأرض. الجدران من الحجر الخام، والعناكب تنسج شبكاتها بين الزوايا، والغبار يكسو كل شيء كأن أحدًا لم يطأه منذ سنوات.
في الزاوية، كانت هناك طاولة خشبية عريضة، فوقها مجموعة أشياء غريبة: ساعة شمسية مكسورة، خريطة بنقوش غير مفهومة، جهاز صغير يشبه التلسكوب لكنه معدني ويبدو معقّدًا أكثر من اللازم، وكأن من صنعه لم يكن إنسانًا.
---
كان الصندوق مغطى بطبقة كثيفة من الغبار، وحين مسحتها، ظهر غطاء خشبي مزخرف بنقوش دائرية معقدة وأحرف لم أرَ مثلها من قبل.
فتحته ببطء.
في الداخل، وُضع بعناية كتاب واحد فقط... كتاب ضخم، لونه ذهبيّ قاتم، يشعّ كأنه مصنوع من معدن حي، له ملمس خشن لكنه ناعم في الوقت ذاته — كأن الجلد يغطيه لا يزال حيًا.
وعلى الغلاف، نُقِشت عبارة واحدة، بخطّ غامق يشبه لهبًا متجمّدًا:
"شمس المعارف".
لا عنوان فرعي. لا اسم مؤلف. فقط... تلك العبارة، التي بدت أخطر مما توحي به بساطتها.
"بابا الاشياء الغريبة التي تمتلكها يا جدي"
احسست ان شيء ما يسحبني لكي إفتح الكتاب و اتصفحه ربما فضولي
حين فتحت الكتاب، بدأت الصفحات تصدر طنينًا خافتًا، كأنها تهمس أو تهتزّ بلغة لا أستطيع سماعها بالأذن... بل بالعقل.
الصفحات كانت مكتوبة بالكامل بلغة غير مفهومة. حروفها ليست عربية، وليست لاتينية، بل أشكال معقدة كأنها طُبعت بنمط فكري لا أرضي. لا شيء فيها يطيع قوانين القراءة العادية.
لكن الأغرب لم يكن الكتابة.
بل الرسومات.
كل صفحة تقريبًا احتوت على كائنات غريبة الشكل:
بعضها يشبه البشر، لكن بوجوه مقلوبة، وعيون تتكرّر بلا منطق على الجبهة والخدين والرقبة.
وبعضها كائنات هلامية بأذرع طويلة، لا يبدو أن لها وزنًا أو شكلًا ثابتًا.
وهناك ما هو أبعد من التصنيف... كائنات عميقة، كأنها مرسومة من كوابيس آلهة منسية. بينها من له أكثر من قلب، أو بدون جلد، أو يحمل داخله أنفاقًا من الظلام.
وقفت مشدوهًا، أُقلّب الصفحات واحدة تلو الأخرى، حتى وصلت إلى صفحة واحدة فقط...
كانت مختلفة.
لا كتابة غريبة هنا.
بل جملة واحدة مفهومة، بخط عربيّ واضح:
"الخيالُ ليس هروبًا من الواقع... بل هو بوّابة لخلق واقعٍ آخر."
توقفت عندها طويلًا.
وكأن الكتاب نفسه يتنفّس في يديّ.
وفجأة...
برد الهواء، وانطفأ المصباح بين يدي دون إنذار.
غمر القبو صمت مروّع.
ثم، في أقصى الزاوية، بدأ السواد يتجمّع... ليس كظلّ، بل كوجود. شيء لا يحتويه العقل، يمتد ويبتلع الضوء، الجدران، وربما الصفحة التي كنت أقرأها.
ومن داخل هذا السواد، ظهرت عينان...
عينان حمراوان تشعّان في العدم.
لم تتحرّك، لم ترمش... فقط حدّقت، حدّقت داخلي، كأنها تعرفني.
كأنها كانت تنتظرني.