{اليوم الحادي عشر من اللعنة}

استيقظت على صوت المطر.

كان منتظمًا… ناعمًا… كأن السماء تهمس للأرض بأسرارها القديمة. قطراته تتراقص فوق الزجاج كأنها نوتات موسيقية حزينة، تتناثر فوق السطح والأرصفة وتترك خطوطًا متعرجة، تذيب الغبار وتغسل الهموم، أو هكذا أحب أن أصدق.

لم يكن المطر يخيفني كالأطفال، ولم يكن يزعجني كما يفعل بالراشدين… لطالما رأيته نوعًا من الرفقة.

خرجت من غرفتي بهدوء، أتنفس الهواء البارد المختلط برائحة الرطوبة التي أحبها، حتى لمحت نيمو جالسًا على الأريكة.

كان يحاول الوقوف بصعوبة، رأسه ملفوف بضمادات تعبر عرض جبهته وتغطي جزءًا من وجهه.

"صباح الخير، نيمو."

ردّ بصوت متعب، لكنه محتفظ ببروده المعتاد: "صباح الخير، بليك."

نيمو كان قد نام في منزلي منذ الليلة الماضية، بعد أن تدمر المبنى الذي كان يسكنه… ولم يكن له مكان آخر يذهب إليه.

سألته وأنا أتقدم نحوه: "هل استدعيت الآخرين؟"

"نعم، إنهم قادمون."

وقبل أن أرد، خرج صوت ناعم من خلفي: "صباح الخير."

قفز قلبي فجأة، واستدرت لأجد ميساكي تقف خلفي كعادتها، بابتسامتها الهادئة وشعرها الشاحب يتماوج بخفة.

وضعت يدي على صدري من الفزع وقلت بنبرة معاتبة: "صباح الخير، ميساكي… ألم أخبرك ألف مرة ألا تخرجي من العدم هكذا؟"

ضحكت بخفة، ثم قالت وهي تقترب: "آسفة."

لكن ابتسامتها بقيت كما هي… صباحية، دافئة بشكل غريب.

ميساكي تغيرت قليلًا منذ أن بدأت تسترجع بعض ذكرياتها. أصبحت أكثر هدوءًا… أكثر إنسانية. لم تعد تطفو في الهواء ككائن شاحب بلا ملامح، بل باتت تنظر إلينا بعينين تحملان شيئًا يشبه الحنين.

قالت وهي تنظر إلى نيمو: "شكرًا لأنك تركت نيمو يبيت عندك."

ثم أكمل نيمو بامتنان خافت: "أوه، أجل… شكرًا لك. لا أعلم ما كنت لأفعله بدونكم. وأيضًا، منزلك جميل جدًا."

ابتسمت وقلت وكأنني نسيت للحظة كل ما ينهشني من الداخل: "شكرًا، ولا مشكلة. كما ترى… لا أحد يسكن معي في هذا المنزل الواسع، لذا أنت لم تزعجني مطلقًا."

كانت لحظة هادئة بشكل غريب، تملأها أصوات المطر على النوافذ، وأنفاسنا التي تحاول البقاء دافئة في وسط برد العالم.

لكن الهدوء لم يدم طويلًا.

فجأة، فُتح الباب الرئيسي بقوة، فتطايرت قطرات المطر إلى الداخل، ووقف في الإطار شخصان.

بابادوك… ومعه أكيهيكو.

كان الأول يحمل مظلته السوداء كالعادة، ينفض عنها المطر وهو يخطو للداخل، أما الثاني فدخل وهو يجفف شعره من البلل، وعيناه تدوران في المكان.

قال بابادوك بنبرة متهكمة مألوفة وهو يغلق الباب خلفه: "حسنًا… حان وقت الاجتماع."

وقفنا جميعًا حول الطاولة الخشبية في غرفة المعيشة، كل واحد منا يشغل جانبًا كأننا نحاصر الحقيقة من أربع جهات.

نظرت إليهم، ثم قلت بنبرة حاولت أن تبدو ثابتة لكنها كانت مشبعة بالتعب: "حسنًا… لنحاول أن نستوعب ما حدث في الأيام الثلاثة الماضية."

نظراتهم التفتت نحوي، صامتة… متأهبة.

أخذت نفسًا عميقًا وأكملت، كأنني أقرأ تقريرًا عن جحيم لم ينتهِ: "كادت هانا أن تغرق في البحر… ثم، في اليوم التالي، فقد أستاذنا عقله في الصف، و… قتل هانا أمام أعيننا… ثم انتحر."

نظرت لأسفل، وصوتي تهدّج للحظة، قبل أن أواصل: "ثم شينتو… ذهب إلى مبنى نيمو. وهناك، تمت مهاجمة المبنى من قبل زومبي غامضين، قتلَتْهم ميساكي… لكن كان هناك واحدٌ منهم… أقوى… زومبي وحش في الطابق السفلي."

رمشت ببطء، وتذكرت وجه نيمو الملطخ بالدماء حين وجدتُه بعد انهيار المبنى.

"ذلك الوحش دمّر أعمدة المبنى… وانهار كل شيء فوق شينتو. مات هناك، بين الركام. ونيمو… كان الناجي الوحيد."

صمتٌ ثقيل خيّم فوق الطاولة، حتى قال بابادوك بنبرة مزاح غير مناسبة، كعادته: "كل هذا حدث في غيابي؟ تبا… لو كنت موجودًا، لحللت كل شيء بسهولة."

نظرت إليه بحدة، أردت أن أصرخ في وجهه، لكن صوت أكيهيكو الهادئ تدخل في اللحظة المناسبة: "لنبدأ بمسألة الأستاذ… لماذا فقد عقله فجأة؟"

أومأت، ثم قلت: "في الحقيقة… لدي نظرية."

نظرت إلى وجوههم… ميساكي كانت تحدق في الطاولة، نيمو يعبث بضماد رأسه، و بابادوك يضغط على قبضتيه في صمت.

"أعتقد أن لعنتي… لم تعد مجرد خطر عليّ. لقد بدأت تؤثر على من حولي… نفسيًا. الناس الذين يقتربون مني كثيرًا… يصابون بشيء. جنون… موت… كأن وجودي نفسه بدأ يصبح سُمًّا."

في اللحظة التالية، دوّى صوت تصفيق خافت.

رفعت رأسي.

بابادوك، بابتسامته المعتادة وعينَيه الضيقتين، كان يصفق بهدوء. "لا أصدق أنك اكتشفت الأمر أخيرًا."

رمقته بدهشة، قلبي تسارعت دقاته. "ماذا؟ هل… هل هذا صحيح؟"

أومأ بثقل، وأجاب بصوت خالٍ من أي مزاح هذه المرة: "نعم. لعنتك وصلت إلى مستوى جديد. إنها… تتغذى من كتاب شمس المعارف، ومن الحاجز المرتبط بك، ومن كل ما عايشته مؤخرًا. أصبحت كثيفة بما يكفي لتتسرّب إلى العقول. أي شخص يدخل مجال تأثيرك لفترة طويلة… إما أن يصيبه الجنون، أو يقتله القدر… بطريقة ما."

تشنج فكاي، وشددت شفتيّ حتى شعرت بطعم الدم.

قلت داخليًا… أو لعلّها كانت همسة تسلّلت من بين أنفاسي: "أنا سبب موت هانا… أنا سبب جنون الأستاذ… أنا سبب كل شيء."

صمتُ الغرفة لم يكن صمت راحة… بل صمت قنبلة على وشك الانفجار.

لكن لم يقاطعني أحد.

ربما كانوا جميعًا يفكرون في السؤال نفسه:

من التالي؟

قال أكيهيكو فجأة، بصوته الجاد، وهو ينظر إليّ مباشرة: "تذكّر… أنت لست سبب موتهم، بليك. لا تدع موتهم يوقفك عن هدفك… ما إن نوقف اللعنة، سينتهي كل شيء."

كان في عينيه شيء… لم يكن شفقة، بل يقين. يقين أنني قادر على فعل شيء. وهذا وحده… منحني شعورًا غريبًا بالأمان.

نظرت إلى نيمو، الذي كان يبتسم ابتسامة خفيفة، تلك الابتسامة التي تقول دون كلمات: "أنا معك."

ثم التفتّ إلى ميساكي وبابادوك… ووجهيهما لم يكونا عاديين. لأول مرة، لم أرهما كأشباح أو كيانات من عالم آخر، بل كرفاق… يؤمنون بشيء.

بـي.

خرجت الأفكار السوداء من رأسي كأن المطر غسلها، فقلت بصوت ثابت:

"حسنًا… قريبًا، سنُطفئ هذه اللعنة. لا بدّ من ذلك."

قال نيمو بنبرة عملية: "إذاً، بالنسبة للزومبي…"

لكن قبل أن يكمل، قاطعه أكيهيكو وهو يرفع حاجبه بدهشة: "انتظر… زومبي؟ لحظة! أنتم تتكلمون وكأنهم شيء حقيقي؟!"

ابتسمت بخفوت، ثم نظرت إلى بابادوك وقلت: "هل لديك تفسير لهذا؟"

رد بابدوك بنبرة ساخرة وهو يضع يده على جبينه: "هل تراني موسوعة علمية أمامك؟! أنا لا أعلم شيئًا عن هؤلاء الوحوش أصلاً!"

سادنا شعور بالإحباط للحظة… لا أحد منا يملك إجابات.

لكن بابادوك استعاد جديته وقال: "في الواقع… ميساكي قتلت العديد منهم. ومع ذلك، لم نجد أي جثة واحدة تحت الأنقاض."

نظرت إليه ببطء، وأحسست أن شيئًا ما يتحرك في ذاكرتي.

ذلك الكلب… الكلب الممسوس الذي هاجمني. لم تكن له جثة أيضًا.

قلت بتردد: "ربما… ربما لم يكونوا زومبي بالمعنى التقليدي… ربما كانوا بشراً ممسوسين؟ وهاجموا نيمو لأنهم تحت تأثير شيء ما؟ ثم… بعدما قُتلوا، تبخروا أو… تلاشى في الهواء؟"

لكن بابادوك رفع إصبعه بسرعة ليوقفني: "مستحيل."

نظر إليّ بعينين جادتين: "لو كانوا ممسوسين… كنت سأعرف من النظرة الأولى. كنت سأشمّ ذلك… أشعر به. لكن هؤلاء… كانوا زومبي حقيقيين. ليس مجرد اسم."

شعرنا جميعًا بالدهشة.

زومبي… حقيقيون؟

توقّف أكيهيكو فجأة وهو يتأمّل الأرض، ثم نظر إلى بابادوك بنظرة جادة نادرة، وسأل:

"ما هو المسّ أصلًا؟"

بابادوك لم يُجِب مباشرة، بل أدار مظلته بين أصابعه، وكأنه يعصر الكلمات من الهواء، ثم قال بنبرة هادئة مدهشة:

"الممسوس… هو شخص حي، لكن روحه لم تعد ملكًا له بالكامل."

نظر إليه أكيهيكو بتركيز، فتابع:

"روحه تم تدنيسها، اختُرقت، احتلّها شيء ليس من هذا العالم. قد يكون جنّيًا… أو روحًا شريرة، أو حتى كيانًا وُلِد من كراهية شديدة. الجسد يبقى… لكن ما يتحرّك بداخله ليس هو."

قطّب أكيهيكو حاجبيه: "يعني… استحواذ؟"

هز بابادوك رأسه بإيجاب، ثم قال بنبرة أغمق: "نعم… لكن ليس كما تراه في الأفلام. أحيانًا، لا تتغير ملامحه، لا يمشي بالمقلوب، ولا يتكلم بلغة غريبة… فقط يتصرف وكأن نواة إنسانيته تم اقتلاعها."

ساد صمت ثقيل، قبل أن يتمتم أكيهيكو: "وهل يمكن إنقاذه؟"

قال بابادوك وهو يحدق فيه بابتسامة شاحبة: "يعتمد… على من الذي يمسّه."

نيمو عبس فجأة، وقال: "لكن… لماذا هاجموا مبناي تحديدًا؟ هل كانوا يريدون شمس المعارف أيضًا؟"

أجاب بابادوك ببطء: "على الأغلب… لم يهاجموا من تلقاء أنفسهم. كان هناك من يتحكم بهم. شخص… أو شيء… انتظر اللحظة المناسبة للهجوم."

نظرت إليه وأنا أشعر بقلبي يثقل في صدري: "هل تقصد أن…"

قاطعني بابادوك بصوت خفيض لكن واضح:

"نعم. نحن مراقَبون. منذ البداية."

سقط الصمت علينا كالصاعقة.

حتى المطر بدا وكأنه هدأ فجأة ليستمع معنا.

قلت بصوت مرتجف: "هل من الممكن أن الجثث… تبخروا؟"

هزّ بابادوك رأسه: "ليس تبخرًا. بل أُعيدوا. سُحبوا إلى حيث جاؤوا منه. هذا يعني شيئًا واحدًا…"

توقف لوهلة، ثم أكمل بنبرة أقرب إلى الهمس:

"ما نواجهه… ليس لعنة عشوائية. إنه شخص. كيان. قوة… تعرف ما تفعل."

سكتنا للحظة، نحاول استيعاب خطورة ما قاله بابادوك.

المطر في الخارج استمر في الانهمار، لكن بدا وكأنه انعكاس لصوت داخلنا… ارتباك… قلق.

قطع أكيهيكو الصمت بنبرة جادة: "إذا… ماذا سنفعل؟"

لكن قبل أن يجيب أحد، قفز صوت ميساكي فجأة، حادًا ومليئًا بالعزم: "شينتو… يجب عليّ لمس شينتو. فقط لمسة واحدة… وقد تعود إليّ المزيد من ذكرياتي."

رفعتُ رأسي نحوها، في عينيها لمعة غريبة… لمعة الحنين، وربما الألم.

وقف نيمو فجأة من مكانه، وكأن شرارة اشتعلت فيه: "صحيح! شينتو كان آخر من رأى ميساكي قبل أن يموت. لحظته الأخيرة ربما تركت صدىً… صدى سيكون النقطة الفاصلة في استعادة ذاكرتها!"

قلت بهدوء، وأنا أحاول ترتيب أفكاري وسط المفاجآت المتلاحقة: "لكن… كيف؟ كيف سنصل إليه؟ جثته الآن في المشرحة… داخل المستشفى."

صوت مظلة تُفتح فجأة قطع سؤالي.

استدارنا جميعًا نحو بابادوك، الذي ابتسم ابتسامته اللامبالية المعتادة وقال بنبرة ساخرة: "سهلة… اقتحِموا المستشفى."

صاحت الغرفة كلّها تقريبًا بصوت واحد: "ماذاااا؟!"

حتى أنا فقدت اتزاني: "كيف سنقتحم مستشفى كامل؟! هل جننت؟!"

رد بابادوك وكأنه يشرح خطة نزهة: "الأمر بسيط. الليلة، أنتما—بليك وأكيهيكو—تذهبان إلى المستشفى، مع منتصف الليل. تقتحمان بهدوء، تصلان إلى المشرحة… وميساكي تأتي لاحقًا لتلمس الجثة."

رمقته بنظرة نصف مصدومة، نصف مشمئزة: "…وعندها فقط، سنعرف من قتلها؟"

رفع كتفيه وقال بلا مبالاة: "على الأغلب، نعم."

بدا أن الجميع مصدوم، لكن أكيهيكو عبّر عن ذلك بصوت واضح: "لماذا أنا؟! لماذا دائمًا أنا؟!"

نظرت إليه بتنهيدة ثقيلة وقلت: "ولماذا الليلة تحديدًا؟"

استدار بابادوك وهو يفتح مظلته ويسير نحو الباب، ثم قال بصوت منخفض يحمل نبرة تحذير خفية: "أيها الغبي… لأن الليلة، هي آخر ليلة ستكون فيها جثة شينتو متاحة. غدًا… يُدفن."

ساد صمت ثقيل بيننا… هذه المرة لم يكن من التوتر فقط، بل من إدراك أن الساعة تدقّ… وأن أمامنا فرصة واحدة فقط.

ابتلعت ريقي، نظرت إلى أكيهيكو، ثم إلى ميساكي، وقلت بهدوء، لكن فيه نبرة خوف خفي: "حسنًا…"

أدار بابادوك رأسه نصف دورة، بعينه الشريرة تلك، وقال بابتسامة: "انتهى الاجتماع… انصرفوا."

ثم فتح الباب… وغادر إلى المطر، مظلته تدور بخفّة، كأنه لا يسير نحو الخطر… بل يسخر منه.

---

تفرّق الجميع بعد نهاية الاجتماع.

بابادوك… كالعادة، اختفى دون أي تفسير.

لا أعرف إن كان يختفي فعليًا… أم أنه فقط يذوب في الجو مثل بخار القهوة.

أما أكيهيكو، فودّعني بلطافة، وقال إنه سيعود في الليل. خرج تحت سماء لا تزال ملبّدة، لكنه بدا… واثقًا، أو مرعوبا على الاغلب.

ميساكي؟

قالت فقط "سأذهب قليلاً"، ثم اختفت كما تفعل دائمًا.

صرت معتادًا على هذا النمط منها… تظهر فجأة، تختفي فجأة… مثل إشعار في الهاتف لا تعرف إن كان حقيقيًا أم مجرد خطأ تقني.

وهكذا…

بقيت أنا ونيمو.

جلست على الأريكة بينما هو ظل يحدّق في لا شيء. الجو في الغرفة كان غريبًا… هدوء بعد العاصفة.

نظرت من النافذة.

المطر قد توقّف.

السماء ما زالت مُعتمة، لكنها الآن بلا دموع.

"على الأقل الغسيل هيجف" قلت لنفسي، رغم أني لم أغسل شيئًا.

فجأة، تحرّك نيمو من مكانه، نفض ملابسه، عدّل ياقة قميصه، ثم مشى بثقة غريبة نحو الباب.

ناديته، مستغربًا: "نيمو؟ إلى أين أنت ذاهب؟"

توقّف عند الباب للحظة، ثم… نزع الضمادة عن جبهته بهدوء.

كانت آثار الكدمات لا تزال ظاهرة، لكن نظرته كانت مختلفة… أكثر تصميمًا.

قال بنبرة خفيفة، لكنه لم ينظر إلي: "لدي بعض الأشياء لأفعلها… اعذرني."

ثم فتح الباب… وخرج.

أغلقه خلفه بلطف، وتركني وحدي.

حدّقت في الباب المغلق، ثم نظرت إلى سقف المنزل…

ثم تنهدت.

"...هل أنا الوحيد الغير مشغول هنا؟"

انتهت الجملة وأنا أمدد جسدي على الأريكة وكأنني الوحيد في العالم الذي لا يمتلك جدول أعمال.

ثم…

رنّ بطني.

"أوه، عظيم… حتى معدتي عندها أجندة، وأنا لأ."

قلت ذلك، ثم نهضت بتثاقل لأبحث عن شيء يؤكل في المطبخ، قبل أن تجرّني الليلة إلى مغامرة جديدة…

أو كارثة جديدة.

[منظور نيمو]

كنتُ أمشي في الشارع، أراقب انعكاسات الأضواء على الأرض المبتلة.

السماء كانت لا تزال ملبّدة بالغيوم الرمادية، لكنها الآن هادئة، كما لو أن المطر قد قال كلمته وغادر.

الماء غطّى الأرصفة، مكوّنًا بِركًا صغيرة تعكس نوافذ المحلات، إشارات المرور، ووجوه المارّة المتعجّبة.

رائحة المطر على الإسفلت... كانت تشبه شيئًا من الماضي.

ذكّرتني بلحظة ما قبل النهاية... ما قبل السقوط.

كانت ساقي لا تزال تؤلمني، لكني كنتُ قادرًا على المشي باستقامة.

ورغم الألم، كنت أعرف تمامًا إلى أين أذهب.

مررت بجانب بعض المارة…

بعضهم لم يُعرني أي اهتمام، لكن… الأغلب، لم يفعلوا مثله.

بدأت الهمسات.

هم يظنون أنفسهم خفيّين… لكن أصواتهم كانت واضحة، مؤلمة كالسكاكين:

"أليس هذا…؟"

"لا مستحيل."

"أليس ذاك ابن مارلين؟"

"انظر إلى هذا المشرد المقزز."

"أشمّ رائحته المقززة من هنا."

"غريب أطوار."

"إنه بائع الدمى المختل."

"ذاك المجنون."

"المهووس بصديقته."

"عاد المجنون للظهور…"

كانوا يتهامسون، يضحكون، يحدقون، يسخرون…

بعضهم غيّر طريقه حين رآني، وبعضهم خفض عينيه بعدما كان يحدّق بي كأنني مخلوق خرج من كابوس.

قبل سنتين… كنت سأنهار.

كنت سأتمنى لو أختفي.

كنت سأهرب، أو أصرخ، أو حتى… أبكي.

لكن الآن؟

صرت صامتًا. لا مباليًا.

لقد كبرت بما فيه الكفاية لأفهم أن بعض البشر يرفضون تصديق الألم إن لم يروا الدم.

أنا غريب الأطوار؟

حسنًا.

لكنّي على الأقل، لست كاذبًا مثلهم.

تابعت طريقي، والريح تعبث بطرف قميصي، والشارع خلفي يتلاشى مع كل خطوة.

وأخيرًا… وصلت.

كان المنزل عادياً.

منزل ياباني بسيط من طابقين.

السقف قرميدي داكن، والجدران بيضاء باهتة قليلاً من قِدَمها.

نافذة صغيرة في الطابق العلوي ما زالت تضع ستائر وردية باهتة… كانت تخصها.

لم تكن هناك سيارة. ولا حركات خلف النوافذ.

فقط… الصمت.

منزل والدي… مارلين.

وقفت أمام المنزل لبرهة…

ذاك المنزل العادي جدًا، بجدرانه البيضاء القديمة وسياجه الخشبي المائل قليلًا، وحديقته التي لم تتغير.

كانت الحديقة كما عهدتها، مليئة بأنواع مختلفة من النباتات… زهور، أعشاب، شجيرات صغيرة، وأصيص كبير لنبتة الصبّار التي كانت المفضلة لدى أمي.

نظرتُ إليها طويلًا، وابتسمت ابتسامة باهتة.

"لا يزال أبي يحب النباتات، ها…"

لقد ورث هذا الشغف من أمي.

كانت تحب النباتات، خصوصًا الورود… أما هو، فكان يحبها فقط لأنها كانت تحبها.

ومنذ رحيلها في حادث المرور، أصبحت النباتات رابطًا صامتًا بينه وبين ذكراها.

مددت يدي نحو الباب… ثم تراجعت.

كنت خائفًا.

ليس من الرفض… بل من اللقاء نفسه.

خائف من رؤية وجه أبي بعد سنتين من الغياب،

من أن تكون نظراته كما تركتها في آخر مرة — باردة، قاسية، لا تصدّقني.

تذكرت ذلك اليوم… عندما طردني من المنزل بعد أن أخبرته أن ميساكي، التي ماتت، كانت تزورني.

قال حينها إنني مجنون.

قال إنني وصمة.

وكنت مقتنعًا أنني لن أعود أبدًا.

لكن... زيارة ميساكي لعائلتها غيّرت شيئًا فيّ.

جعلتني أتساءل:

هل يمكنني أنا أيضًا، أن اعود؟

تنفّست بعمق… وطرقت الباب.

انتظرت ثوانٍ.

ثم فُتح الباب ببطء.

ظهر أبي.

رجل في أواخر الأربعينات، وجهه مجعّد من التعب أكثر من الزمن، وشعره المختلط بين الأسود والرمادي يزداد شحوبًا.

كان يرتدي مئزرًا ملطخًا بالتراب، في يده قفاز زراعي، ورائحته تحمل أثر الأعشاب الطازجة.

نظر إليّ مباشرة…

عيناه لم تتغيرا.

نفس النظرة.

نفس الصمت.

نفس الحيرة.

"...نيمو؟" قالها بصوت خافت، لكنه ثابت.

أومأت برأسي، ولم أجد الكلمات.

مرّت لحظة ثقيلة بيننا.

ثم تنهد، وحدّق بعيدًا عني:

"لماذا أتيت؟"

كلماته لم تكن غاضبة، بل مُتعبة.

كأنها خرجت من شخصٍ لم يعد يعرف إن كان يملك طاقة للغضب.

تمالكت نفسي، وقلت بهدوء:

"أردت فقط… أن أراك."

ضحك بسخرية خفيفة، لم تدم أكثر من ثانية:

"بعد سنتين من الهروب؟ بعد أن جعلتنا أضحوكة البلدة بحديثك عن الأشباح والدمى؟"

شعرت بقبضتي تنشدّ، لكنني لم أسمح للغضب أن يتحكم بي.

لست ذلك الصبي الذي طُرد.

أنا عدت… لا للقتال، بل للشفاء.

قلت:

"أعرف أني سببت لك ألمًا كبيرًا، وأنك خجلت مني… لكني لست هنا لإثبات شيء. أردت فقط أن أراك، ولو لمرة."

سكت.

حدّق بي مرة أخرى، طويلاً… وكأنه يرى شيئًا جديدًا.

ثم تنهد… وفتح الباب أكثر قليلًا.

"...ادخل."

كادت ركبتاي أن تضعف، لكني تماسكت.

دخلت.

وكانت رائحة البيت كما هي:

خشب قديم، أوراق شاي، وتلك الرائحة التي لا يعرفها إلا من فقد أمه… رائحة الذكرى.

صورة أمي لا تزال معلقة في المدخل.

كرسيها الهزّاز لا يزال في مكانه، والنبتة التي زرعتها لا تزال حية.

جلست على الأرض كما كنت أفعل وأنا طفل، بينما ذهب أبي نحو المطبخ، يعد الشاي — كما كان يفعل كل مرة أعود فيها من المدرسة.

كان هذا صعبًا…

لكنني عرفت في تلك اللحظة:

أن بعض الأبواب لا تفتح بالمفتاح، بل بالشجاعة.

جلستُ على طرف الأريكة بصمت، وظهري مائل قليلًا، كما لو أني أحاول ألا أحتل مساحة لا أستحقها.

الغرفة لم تتغير كثيرًا. نفس الرفوف، نفس الطاولة الخشبية التي نحتتُ عليها أول دمية في حياتي، حتى الصمت… كان مألوفًا.

دخل أبي حاملًا كوبين من الشاي، وضع أحدهما أمامي دون أن ينظر إليّ، ثم جلس على المقعد المقابل.

أمسك بالكوب، أخذ رشفة صغيرة، ثم قال دون مقدمات:

"هل ما زلتَ... ترى أشياءً؟"

شعرت بقلبي ينقبض.

لم يكن صوته غاضبًا، لكنه أيضًا لم يكن متعاطفًا.

كان صوت رجلٍ يحاول فهم شيء لا يريده أن يكون حقيقيًا.

نظرت للأسفل، إلى بخار الشاي وهو يتصاعد ببطء:

"...نعم."

لم يعلّق. اكتفى بالنظر من النافذة، وعيناه متصلبتان في شيء بعيد.

قلت بعد لحظة:

"أنا آسف."

"آسف؟"

ضحك… لكنها لم تكن ضحكة حقيقية. كانت مريرة، مثل شهيق مرّ عبر جرح.

"تأتي بعد سنتين، هائمًا في الشوارع، بعد أن جعلت الناس تتهامس خلف ظهري كل يوم… وتقول آسف؟"

أردت أن أقول له إنني كنت مكسورًا، إنني كنت وحيدًا، لكن الكلمات لم تخرج.

اكتفيت بالهمس:

"لم أكن أعرف كيف أشرح ما أمرّ به…"

ضرب الطاولة بقبضته فجأة.

اهتز كوب الشاي، وقفز قلبي معه.

"لم يكن عليك أن تشرح! كل ما أردته منك أن تكون طبيعيًا! أن تتوقف عن هذا الجنون! كنت تُحدث الدمى كأنها بشر! تصرخ في الليل! تبكي لشبح غير موجود! ماذا كنت تريدني أن أفعل؟ أصفق لك؟"

أخفضت رأسي.

لم أرد أن أبكي… ليس أمامه.

لكني شعرت بالدمعة تحترق تحت جفني.

"...كنت أحتاجك فقط أن تصدقني."

صمت.

أخيرًا، نظرتُ إليه… وقلت:

"كنت وحيدًا… بعد ميساكي، بعد أمي… كنت أحتاج أحدًا يقول لي إنني لست مجنونًا.

لكنك نظرت إليّ كأني شيء يجب التخلص منه."

بدت على وجهه لحظة تردد.

ربما شعر بوخز ما في صدره… لكنه قال، بصوت أكثر هدوءًا، لكن لا يخلو من الحدة:

"لستُ طبيبًا نفسيًا، نيمو. أنا والدك. كنت أريد حمايتك، لكنك كنت تصرّ على الغرق في هذا الوهم. كل من حولي قالوا إنك تحتاج مصحة. حتى المدرسة لم تعرف كيف تتعامل معك."

نظرت إليه بمرارة، ابتسمت ابتسامة لا تحمل فرحًا:

"وأنت؟ ماذا قلت لنفسك؟ أني لعنة؟ أني عار؟"

نظر إلي مطولًا… ثم قال:

"قلت إني فشلت في تربيتك."

كلماته طعنتني في مكان قديم.

كأن الباب الذي فتحته للتو... كان عليّ أن أتركه مغلقًا.

قمت من مكاني، بهدوء.

"كنت أعرف أنني لا أجب أن آتي."

استدار إليّ وهو ينهض بدوره.

"نيمو—"

لكنني قاطعته، بصوت مرتجف:

"كنت أبحث عن والد، لا عن قاضٍ."

توجهت نحو الباب.

قبضتي مشدودة، قلبي ينبض بسرعة، والغصة في حلقي كأنها حجر.

قبل أن أخرج، سمعته يقول:

"...أنت تشبه أمك كثيرًا."

توقفت.

لم ألتفت، لكنني تمتمت:

"ليتني كنت أشبهها أكثر."

كنت على وشك فتح الباب والمغادرة، لكن شيئًا ما شدّني للحظة.

استدرت، نظرت إلى والدي، وقلت بهدوء:

"كيف حال إخوتي؟… هل هم بخير؟"

نظر إلي بجمود لحظة، ثم تنهد بصوت ثقيل، وقال دون أن يلتقي نظراتي:

"دوري… تذهب لطبيب نفسي. أصيبت بصدمة بعد حادث غامض.

جورغيل… في الجامعة، بالكاد يزور البيت.

دارلا في آخر سنة من الإعدادية،

وبلوت… موظف الآن، يعمل أغلب الوقت."

ابتلعت ريقي، نظرت إلى الأرض، وقلت بنبرة حاولت أن تبدو ثابتة:

"فهمت… يبدو أنهم بخير…

كنت أتمنى أن أراهم."

لكنني لم أكمل الجملة…

لأن صوته لم يكن ما سبق يرد.

بل كانت صفعة.

لم أرها قادمة.

يده ارتطمت بخدي بقسوة مباغتة.

صوت الصفعة دوّى في أذني، ليس بسبب الألم الجسدي، بل بسبب الرسالة التي حملتها.

تجمدت مكاني، ووجهي انحرف قليلاً من قوة الضربة.

لكنني لم أبكِ. لم أصرخ. لم أتراجع حتى.

أحسست بحرارة خدي ترتفع… ومعها قلبي يغلي.

سمعت صوته المتشنج من خلفي:

"إياك… أن تقترب منهم.

لا أريدك أن تفسد حياتهم كما أفسدت حياتك."

ظللت واقفًا للحظة، رأسي منحني قليلاً…

ثم عدّلت وقفتي، دون أن أنظر إليه.

فتحت الباب.

خرجت.

أغلقته خلفي، بصمت.

لم أقل شيئًا.

لم يكن هناك شيء يُقال.

خطوت خطواتي الأولى بعيدًا عن البيت الذي كان بيتي يومًا…

وفي كل خطوة، شعرت كأن جزءًا من قلبي يُترك هناك، محطمًا تحت عتبة الباب.

السماء كانت لا تزال ملبدة بالغيوم، ولكن المطر لم يعد يهطل.

ربما لأنني أنا من أصبحت المطر.

بدأ المطر يهطل مجددًا… ببطء أولًا، ثم بغزارة كأن السماء قررت أن تبكي عني.

كنت أمشي في الطريق، بلا وجهة، بلا شغف…

خطاي ثقيلة، وظهري مُنحنٍ، كأن شيئًا أكبر من جسدي يضغط على قلبي.

لم أعد أستطيع حبس دموعي.

انهمرت بهدوء… بصمت… بدون صوت.

تمامًا كما يفعل الأشخاص الذين تعلّموا أن لا أحد يهتم لصراخهم.

وجهي للأسفل… أخفيه عن كل العابرين.

لا أريد لأحد أن يراني في هذه الحالة. لا أريد للشفقة أن تلمسني.

وجدت كرسيًا عامًا صدئًا في منتصف الشارع المبتل،

وجلست عليه دون تفكير.

المطر بلّل شعري وملابسي، لكنني لم أتحرك. لم أرتجف. لم أهتم.

بقيت هناك… أسمع صوت المطر،

وكأنه نغمة حزينة تعزف على وتر داخلي مكسور.

همست لنفسي، بصوت بالكاد يُسمع:

"لا يهم…

كل ما يهمني الآن هو ميساكي.

سوف أحررها… مهما كلف الأمر."

لكن… بعد لحظات، فكرة مرّت في عقلي كطعنة خفيفة…

"وبعد تحريرها؟

ماذا سأفعل؟

ما الذي سيكون هدفي بعد ذلك؟

هل سأعود لصنع الدمى؟

هل سأمشي في الطرقات مجددًا كغريبٍ منبوذ؟

هل… سأكون وحيدًا… إلى الأبد؟"

غرست أصابعي في شعري المبلل، ضغطت على رأسي كأنني أحاول إخراج هذه الأفكار منه بالقوة.

لكنها بقيت.

تأكلني من الداخل.

لم أعد أعرف من أنا…

أنا فقط شخص فقد كل شيء… ويحاول التشبث بشبح… كي لا ينهار تمامًا.

جلست تحت المطر، كأنني أنتمي له.

كأنني قطعة منه.

شخص مثلي… لا يناسبه الضوء.

[بعد ساعات]

[منظور بليك]

[منتصف الليل – أمام المستشفى البلدي]

السماء ما زالت تئن بغيوم رمادية، والقمر خجول يختبئ خلفها، كأنه لا يريد أن يرى ما نحن على وشك فعله.

وقفت أنا وأكيهيكو أمام بوابة المستشفى الصدئة، نرتجف ليس من البرد فقط، بل من التوتر الذي يسري في عروقنا كتيار كهربائي بارد.

وراءنا... لم نسمع أي صوت، لكننا كنا نعلم أن ميساكي تتبعنا كظل، لا تترك أثرًا، لكنها هناك… تنظر… تنتظر اللحظة.

همست لأكيهيكو:

"حان الوقت."

أومأ برأسه بصمت، ملامحه جامدة، وعيناه تدوران كأنهما تراقبان كل حركة في الظلام.

تقدمت نحو الباب الجانبي للمستشفى—ذلك الباب القديم الذي كنا نعرف من خريطة بابادوك أنه لا يحتوي على نظام إنذار حديث.

أخرج أكيهيكو أداة معدنية صغيرة كان قد استعارها من والده. انحنى قرب القفل، وبدأ يحرك الأداة بسرعة ودقة.

ثوانٍ مرت كأنها دقائق، أنفاسي محبوسة، وعيني على الشارع الخالي.

ثم… طقطقة ناعمة.

الباب انفتح ببطء، صرير خافت صاحبه، كأن المستشفى نفسها تعترض.

دخلنا.

رائحة المعقمات القديمة والغبار استقبلتنا.

الأضواء مطفأة، والسكون يخيّم على المكان ككفن.

لم يكن هناك سوى صوت خطواتنا الخفيفة، ونبضاتنا المرتبكة.

كنا نعرف الطريق إلى المشرحة:

ممران طويلان، ثم درج صغير يؤدي إلى الطابق السفلي، حيث برودة الموتى.

مشينا بخطى متقنة، نحرص ألا نلمس شيئًا أو نثير أي حركة.

كلما مررنا بجانب غرفة مظلمة، كنت أشعر كأن عيونًا تراقبنا من داخلها.

وصلنا إلى نهاية الممر، وكان هناك الدرج الحديدي.

نزلناه ببطء، وكنت أشعر أن كل خطوة تصدر صدىً يكبر في رأسي أكثر من المكان.

حين وصلنا إلى الطابق السفلي، أصبح الهواء أثقل… وأبرد.

أخرجت مصباحًا صغيرًا من جيبي وأشعلته… لم يكن قويًا، لكنه كافٍ لرؤية الطريق أمامنا.

باب المشرحة كان في نهاية الممر.

باب رمادي معدني، عليه لوحة صغيرة مكتوب عليها بخط باهت:

"الطب الشرعي – الحفظ المؤقت"

نظرت لأكيهيكو، وكان يتنفس بصعوبة.

"أأنت بخير؟" همست.

"لا. لكن لن أتراجع." قالها بعينين واسعتين مليئتين بالخوف… والإصرار.

دفعت الباب ببطء.

أصدر صريرًا خفيفًا… ثم انفتح.

رائحة الحديد البارد والموت طغت على الهواء.

دخلنا.

الغرفة كانت مستطيلة، باردة جدًا، ذات جدران رمادية، وسقف منخفض.

في منتصفها صفوف من الأدراج المعدنية التي تحفظ فيها الجثث.

مربعٌ مظلمٌ… صامتٌ… كأن الوقت توقف داخله.

دخلت ميساكي من خلفنا… لا صوت… لا ظل… فقط حضور غريب يتسلل إلى الغرفة، وكأنها تعرف هذا المكان أكثر منّا.

تقدّمت بخطى بطيئة، ثم توقفت أمام أحد الأدراج.

كان عليه بطاقة: شينتو– رقم 006.

نظرت إليّ.

هززت رأسي بالموافقة.

ببطء… وبكل توتر العالم، سحبت ميساكي الدرج المعدني من الحائط…

صوت احتكاك المعدن بالمعدن…

ثم… توقفنا جميعًا.

كان شينتو ممددًا هناك، وجهه مغطى، جسده ساكن.

ميساكي مدت يدها… بتردد… ثم لمسته بأطراف أصابعها…

اجتاح "ميساكي" إحساس مألوف… إحساسٌ موحش، بارد، مألوف كصفعة ذاكرة قديمة.

كان شبيهًا بما شعرت به حين لمست "هوتارو" سابقًا—لكنه الآن أقوى، أعمق، وكأنّ شيئًا منها يُنتزع.

تيار جليدي بدأ من أطراف أصابعها، تسلل عبر جسدها اللامادي، ثم ارتدّ نحو رأسها كصدى موجع، كأنّ روحًا أخرى تصرخ بداخلها.

ترنّحت للحظة، كادت أن تسقط…

لكنها تماسكت.

يداها ترتجفان، عيناها شاردتان، أنفاسها متقطعة…

كأن جسدها حاضر، أما روحها، فكانت تُسحب نحو أعماق ماضٍ لا يُرحم.

ناديتُها بقلق: "ميساكي!"

لكنها لم تجب.

عيناها لم ترفّا.

كأنها لم تعد معنا… بل مع نفسها، في مكانٍ آخر.

وانسحب المشهد من حولها، كأن أحدهم أطفأ نور الواقع فجأة…

وامتد أمام وعيها ضباب ناعم، خافت، يذوب فيه الزمن.

وتداعى الماضي.

---

[الراوي: لا أحد – فلاش باك – قبل سنتين]

كانت الشمس تتسلل من نافذة الفصل، تُلقي بوهج ذهبي على طاولة خشبية قرب الزجاج.

هناك، جلست فتاة تبدو كأنها مقطوعة من لوحة مائية…

بشرة بيضاء خالية من أي زينة، وشعر أسود قصير يحيط بوجهها كستارٍ يحفظ أسراره.

كانت تحدّق خارج النافذة، إلى شجرة الكرز التي بدأت تطرح أولى براعمها…

عيناها تائهتان، لكنهما دافئتان.

إنها ميساكي.

لم يكن أحدٌ يزعجها حين تسرح، فقد كانت تحب الصمت… وتحب الجلوس بجانب الضوء.

حتى قاطعها صوت مألوف، جريء، يحمل نغمة الحياة:

"أيتها الحالمة... نسيتِ أن العالم ما زال يدور؟"

استدارت "ميساكي"، والابتسامة ارتسمت على شفتيها بشكل تلقائي…

كانت تقف هناك فتاة طويلة، رغم نحافتها تنبض بالطاقة،

شعرها البرتقالي الأشقر يتطاير مع كل حركة، وأطرافه الحمراء تُشبه شُعلة لا تنطفئ.

كوغامي.

ابتسمت ميساكي بهدوء: "لم أنسَ… فقط لا أريد أن أدور معه اليوم."

ضحكت كوغامي واقتربت، وألقت بحقيبتها بجوار المقعد: "إذًا، يوم آخر من التهرب من الحصص، آنسة 'المنطق الهادئ'؟"

أجابت ميساكي وهي تسند خدها إلى راحة يدها: "أنا لا أتهرّب… أنا أتأمل."

جلست كوغامي وقالت بابتسامة عريضة: "تأمل؟ أتأمل ماذا؟ الأشجار؟ الغيوم؟ أم أحلام اليقظة التي لا تخبريني عنها؟"

ردّت ميساكي بنظرة مشاكسة نادرة: "سرّ من أسرار الحياة."

تبادلت الفتاتان الضحك… ذلك النوع من الضحك الذي لا يحتاج إلى مبرر، ولا يخشى الأحكام.

كانت بينهما رابطة لم تُكسر حينها… رابطة لا تُصاغ بالكلمات، بل بنظراتٍ وذكريات وأحاديث صغيرة تكبر في القلب.

كوغامي نظرت إليها بجدية مفاجئة: "ميساكي… لا تنسي، إذا سقطتِ يومًا، أنا من سيلتقطك."

توقفت ميساكي عن الابتسام للحظة، ثم همست: "وأنتِ… إن ضعتِ، سأكون البوصلة."

ثم… عادت الابتسامة.

بالطبع، إليك استكمال الفصل بأسلوب سينمائي مشوّق وغريب كما طلبت، مع الحفاظ على الراوي بليك والتصعيد الدرامي المتدرّج:

---

[عودة إلى الحاضر]

كنا أنا و"أكيهيكو" نحدّق في "ميساكي" بصمتٍ مشدود، وهي واقفة أمام جثة "شينتو"، تمسك بيده الميتة، وعيناها مغلقتان كأنها تقرأ الزمن بملامستها.

لم تكن تتنفس… لكنها لم تكن ميتة.

وكأنّ روحها علقت في مكانٍ بين، في الفراغ الذي لا يزوره سوى الموتى والعائدين منهم.

انتظرناها بصبرٍ مشوب بالتوتر…

حتى—

"طنـــن!"

صوت معدني أجوف فجّر السكون.

استدرنا معًا دفعة واحدة.

نبض قلبي كاد يتوقف…

صوت ضرب، قوي، وقصير.

"ما… ما هذا؟" همس أكيهيكو، ونظراته ترتجف.

فجأة، بدأت أنوار المشرحة في الوميض العنيف…

إضاءةٌ متقطّعة سريعة، كأن المكان يُعاني من ذبحة كهربائية.

كل ومضة تُشعل الوجوه بلون بارد، ثم تُطفئه في لحظة،

وجوهنا بدت بيضاء… ثم سوداء… ثم بيضاء…

وهكذا، حتى بدا الأمر وكأنّنا نُشاهد أنفسنا في فيلم رعب بتقنية مكسورة.

ثم…

"تشششااااااك!!"

أحد المصابيح في السقف انفجر دون إنذار.

زجاجه تناثر في كل اتجاه، وسقطت قطعة حادة أمام قدمي.

تراجع أكيهيكو وهو يصرخ همسًا:

"بليك… بليك هذا ليس طبيعيًا!!"

لكن لم أجب.

كنت أحدق في المصباح المتحطم كأنه رسالة، كأنه إعلان…

ثم…

"كاااااااانك!"

دُرجٌ معدنيّ ضخم، من الأدراج التي تحفظ فيها الجثث…

انفتح لوحده.

صوت احتكاك المعدن بالمعدن زلزل صدري.

نظرت نحوه…

مستحيل… مستحيل!

الأدراج تغلق بقوة، تحتاج إلى يدين ورجل وساعد لتفتحها، لكن هذا—

انفتح كأنه يُستدعى.

ثم، أمام أعيننا، وبدون صوت تحذير،

خرج شيء.

يد.

ثم كتف.

ثم—ببطء متقزز—وقفت جثة.

عارية من الغطاء، بلون رمادي يميل إلى الأخضر…

جلدها متمدد كأنها غطست في الماء أيّامًا، وعيناها مفتوحتان كأنها استيقظت للتو من حلمٍ سيء… أو من جحيم.

وقفت الجثة أمامنا…

صامتة.

لم تتكلم.

لكن وجودها وحده كان كافيًا ليدمّر أي منطق بقي في رأسي.

أحسست بالبرد يخترق عظامي، وبرأسي يدور…

عيناي تجمدتا على الجثة التي بدأت تحرّك رقبتها ببطء…

صرير عظامها كان مسموعًا.

أكيهيكو التصق بالحائط، ويداه على فمه، لا يستطيع حتى الصراخ.

أما أنا…

فلم أتمكن من قول شيء سوى:

"لقد... متنا!!!."

2025/07/11 · 9 مشاهدة · 4536 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025