[منظور ميساكي – في الفلاش باك]

كان ضوء الشمس يتسلّل من نوافذ الصف، يغمر الطاولات الخشبية ببقع ذهبية، بينما كانت كوغامي تجلس على الطاولة أمامي، تمضغ قطعة علكة بطريقتها المميزة، بعينين لامعتين كأنهما لا تعترفان بالملل أبدًا.

رفعتُ رأسي من وسألتها، بصوت خافت لكن صادق:

" بالمناسبة هل حقًا… تذهبين إلى نادي الكيندو كل يوم؟"

ضحكت كوغامي، تلك الضحكة القصيرة النابضة بالحياة، وقالت وهي تلوّح بعصا الكيندو الخشبية الصغيرة التي كانت تخرج نصفها من حقيبتها:

"كل يوم؟ لا يا فتاة، أنا أعيش هناك!"

رفعت حاجبي:

"لكن… ألا يُفترض أن الكيندو رياضة جدية؟ قتال بالسيوف، صراخ، تدريب صارم… وأنتِ، بصراحة، تبدين أكثر شخص يحب الجلوس والنوم على السطح."

اتكأت على الطاولة بكل جرأة وقالت:

"أجل، أحب السطح. وأحب النوم. وأحب الكيندو أيضًا! مزيج مثالي، صح؟"

ابتسمتُ رغم نفسي. تلك الطاقة الغريبة فيها كانت قادرة دائمًا على جعل الغيوم تُضحك.

سألتها بتردد:

"لكن… لماذا اخترتِ الكيندو؟ يعني، كان بإمكانك الانضمام لنادي الرسم… أو المسرح… أو حتى نادي الأفلام."

أخفضت نظرها للحظة، كأنها تذكّرت شيئًا قديمًا، ثم قالت بهدوء غير معتاد:

"لأنني أردت أن أضرب شيئًا… من دون أن يلومني أحد."

نظرتُ إليها بصمت. كنت أظنها تمزح. لكن عينيها تلك اللحظة لم تكن تمزح.

ثم ابتسمت مجددًا، وكأن السحابة عبرت دون أن تُمطر:

"وأيضًا… البدلة الواقية تجعلك تبدين مثل روبوت من المستقبل. ألا ترين أن هذا سبب كافٍ؟"

ضحكت، لا إراديًا.

قلت:

"روبوت من المستقبل… يضرب الناس بعصا من الخشب."

هزّت كتفيها وغمزت لي:

"نعم. وأنا الروبوت الذي سيحميك، ميساكي."

"ممن سوف تحميني ايتها الحمقاء"

رفعت بصري إليها.

تلك الجملة… لسبب ما، بقيت معلّقة في رأسي لوقت طويل، أطول مما ينبغي.

فتح باب الصف بهدوء، ودخل نيمو.

لكنّه لم يكن نيمو الذي أعرفه الآن.

كان نيمو مختلفًا... شعره مصفف بعناية، قميصه نظيف ومكوي، وحتى خطواته كانت خفيفة، فيها ثقة هادئة.

"صباح الخير، ميساكي. صباح الخير، كوغامي."

قالها بصوته المعتاد، لكن بنبرة أقل تعبًا… أقل كآبة.

"صباح الخير"، أجبنا بصوت واحد تقريبًا، أنا وكوغامي.

اقترب نيمو من طاولتي، وأخرج من حقيبته شيئًا صغيرًا… كتاب مغطى بجلد أسود، عليه بعض الزوايا المهترئة.

رواية الرعب المحبوبة على قلبي.

"خذي، شكرًا لإعارتك لي."

ناولني الكتاب بابتسامة خفيفة.

ابتسمت وأنا أضع أصابعي على الغلاف الذي حفظت ملمسه عن ظهر قلب.

"لا بأس… آمل أنك استمتعت بها."

هزّ رأسه وقال:

"من ناحية الاستمتاع، كانت ممتعة فعلاً. لكن… عندي بعض المشاكل مع النهاية."

ضحكت بخفة: "أوه؟ كأنك أول من يشتكي من نهاية أعمال الرعب. دائمًا ما تكون محبطة، أليس كذلك؟"

امتدت يد كوغامي لتخطف الرواية من بين يديّ بسرعة قطة، وهي ترفع حاجبيها بفضول مبالغ فيه:

"أوه، يبدو أن هذه الرواية مثيرة للاهتمام فعلاً. هل يمكنني استعارتها؟"

رفعت عيني نحوها، متفاجئة:

"منذ متى وأنتِ تقرئين، كوغامي؟"

نظرت إليّ بنظرة جانبية طفيفة، ثم تمتمت:

"في الواقع… أحسست بالغيرة. أنني الوحيدة التي لم أقرأها بينما أنتما…"

انفجرتُ بالضحك دون قصد، ومعي نيمو.

ضحكة صافية في قلب صباح صافٍ.

كوغامي رمقتنا بنظرة مصطنعة من الغضب، ووضعت يديها على خصرها:

"تضحكان عليّ؟! أنتما أسوأ ثنائي قرّاء يمكن أن يُرافقني!"

لكننا لم نتوقف. ضحكنا أكثر.

وللحظة… شعرت بشيء لا يوصف.

دفء.

أمان.

وكأن هذا المشهد سيبقى للأبد.

في الفسحة، كنت أجلس أنا وكوغامي على السطح، نأكل وجباتنا بجانب بعضنا البعض.

الريح كانت تداعب شعرها البرتقالي، وكانت تحاول عبثًا أن تبعده عن عينيها بينما تفتح عبوة العصير.

"في يوم ما، سأسحب كل هذا الشعر وأربطه في كعكة واحدة!" قالت وهي تضحك.

"ستبدين كأنك كرة صوف." قلت وأنا أتناول قطمة من الأونِغيري.

ضحكت، ثم أخرجت من حقيبتها قطعة حلوى ودفعتها في فمي قبل أن أحتج.

نحن نذهب إلى المدرسة سويًا كل صباح، نغادر معًا في نهاية الدوام، وحتى في العطلات، كنا نلتقي في الحديقة أو نتمشى بلا هدف سوى أن نكون معًا.

كنت أزورها أحيانًا في قاعة الكيندو بعد المدرسة.

تقف هناك بثبات، ببدلتها الواقية، تمسك السيف الخشبي كأنها محاربة قديمة.

عندما تهاجم خصمها، تصرخ بصوت حاد "مِن!" وتركض بثبات، كأن العالم كله يُختزل في تلك اللحظة.

بعد انتهاء التمرين، كانت تخلع خوذتها وتبتسم لي بتعب:

"كنتِ تراقبينني، أليس كذلك؟"

"دائمًا." أجيب ببساطة، وهي تضحك وتناولني منشفة لأمسح العرق عن جبينها.

في المساء، حين عدتُ إلى منزلي، شعرت بشيء لم أفهمه حينها.

شيء يشبه الامتنان… أو الهدوء الذي يسبق العاصفة.

فتحت الباب، وعلى غير العادة، كانت أمي في المطبخ، تضع المريول المنقّط بالزهور وتعد شيئًا تفوح منه رائحة الكاري.

"أهلاً ميساكي!" قالت وهي تلتفت إليّ بابتسامة دافئة.

"جعلتُ اليوم الكاري المفضّل لديكِ! تعالي، ساعديني في ترتيب الأطباق."

"حاضر!" قلتُ وأنا أخلع حذائي بسرعة وأجري نحو المطبخ.

أبي كان في غرفة المعيشة، يقرأ جريدة لكن بوضوح لا يهتم بما فيها.

حين رآني قال بنبرة مرحة:

"ها قد عادت نينجا الكيندو! هل هزمتِ الأشرار اليوم أيضًا؟"

"أبي!!" قلت وأنا أضحك، "أنا لا أمارس الكيندو، كوغامي تفعل!"

"آه، صح! أنتِ مَن تقرأين كتب الرعب… الأكثر خطورة!" قال وهو يغمز لي، فأخرجت لساني له بمرح.

ثم جاء أخي الصغير، "ساكاكيبارا"، ووجهه مشرق وهو يلوّح بدفتره.

"أختي! أختي! لقد حصلت على العامة الكاملة في الاختبار اليوم !! المعلمة قالت إني ذكي جدا!"

.

"رائع كعادتك ساكاكيبارا،انت لا تخيب امالي ابدا؟"

جلست العائلة حول الطاولة.

أبي يسكب لي الأرز، أمي تصبّ لنا الشاي، رين لا يتوقف عن الحديث عن مغامرته في ساحة اللعب.

جلست هناك، وسط الضحكات… أفكر في اللحظات التي لا نُقدّرها إلا حين تختفي.

لو كنت أعرف…

لو كنت أعرف أن هذا العشاء سيكون من الذكريات القليلة التي ستبقى بلا ظلال…

لكنتُ تمسكتُ به أكثر.

في فسحة ذلك اليوم، كنتُ أسير وحدي بين أروقة الحديقة الصغيرة في ساحة المدرسة، وفي يدي روايتي المفضّلة، أقرأ دون أن أرفع بصري.

كانت "الزراعة الميتة" هي رفيقتي، رواية غريبة ومخيفة لكاتب أقل شهرة مما يستحق… أيا دائري.

كثيرون سخروا مني لأني أحب هذا النوع من القصص. لكنني لم أهتم.

كان الهواء لطيفًا، والسماء مغطاة بغيوم رمادية تمنحني شعورًا بالطمأنينة.

وفجأة، وأنا غارقة في عالم المقابر المغمورة بالطين والصرخات الصامتة، اصطدمتُ بكتف أحدهم دون قصد.

"أوه… هل هذه رواية الزراعة الميتة؟!"

قالها صوتٌ مألوف، لكني لم أستطع ربطه بوجه أعرفه.

رفعتُ رأسي، لأجد أمامي فتى لم أره من قبل، أو على الأقل… ليس بهذا القرب.

كان أنيقًا بشكل لافت.

يرتدي سترة داكنة راقية، تتدلّى من عنقه كاميرا رقمية احترافية، وشعره الأسود مصفف بعناية.

أما عيناه… فكانتا زرقاوين بشكل غريب، تلمعان بالحيوية.

ترددتُ قليلًا، ثم قلت:

"كيف عرفت الرواية؟ إنها ليست مشهورة على الإطلاق… بل لا يعرفها أحد تقريبًا."

ابتسم بثقة قائلاً:

"لقد قرأت جميع روايات أيا دائري. العشرين كاملة."

اتسعت عيناي بدهشة:

"حقًّا؟ حتى القصص القديمة التي حُذفت من الموقع؟"

قال بفخر:

"بل حتى تلك التي لم تُترجم بعد. كنت أبحث عنها في المنتديات الأجنبية."

نظرتُ إلى الغلاف بين يديّ، ثم إليه.

"لكن معظم الناس يقولون إن هذه الرواية من أضعف أعماله."

ابتسم ابتسامة عريضة وقال:

"بل على العكس، هذه الرواية هي الأكثر عمقًا. الروايات الثلاثة المشهورة تتحدث عن الرعب الخارجي… عن العالم والمخلوقات. أما الزراعة الميتة، فهي عن الرعب الذي يسكن داخلنا نحن."

شعرتُ بشيء غريب في قلبي، كأنه قرأ أفكاري دون إذن.

تمتمت:

"لطالما فكرتُ بذلك… لكني لم أجد أحدًا يُشاركني الرأي."

جلس بجانبي على السور الحجري بكل بساطة، وكأن بيننا صداقة قديمة، ثم قال:

"أخيرًا… وجدت من يقدّر هذا النوع من الفن. معظم الناس لا ترى في الرعب سوى الدماء والموت… أما أنتِ، فتقرئين ما بين السطور."

تأملت الكاميرا المعلقة في عنقه، وسألته:

"هل تصوّر الكتب؟"

ضحك وقال:

"بل أصوّر وجوه الناس حين يقرأون الكتب الغريبة… وأظن أن وجهك يستحق أن يُخلّد."

لم أعرف هل كان يمزح أم لا، لكنني ابتسمت رغم ذلك.

ثم مدّ يده إليّ وقال:

"اسمي شينتو."

صافحته، وقلت بابتسامة خجولة:

"ميساكي."

نظر إليّ طويلًا، ثم قال:

"اسم يليق ببطلة رواية رعب عظيمة."

بالطبع، إليك متابعة الفصل من منظور بليك، حيث يعود السرد إلى الحاضر مباشرة بعد ذكريات ميساكي، ليغمرنا من جديد في أجواء الرعب الحي داخل المستشفى، وتصاعد التهديد من الجثث المتحركة:

---

[منظور بليك – الحاضر]

لم أعد أؤمن بعينيّ.

كنتُ أراه أمامي، ذلك المخلوق الذي لا ينبغي أن يوجد.

جثة تتحرّك… واقفة على قدميها، تنظر نحونا بعينين مفتوحتين حتى الحافة، وكأن الموت قرر أن يتظاهر بالحياة.

بشرتُه كانت شاحبة إلى حدّ المرض، تميل إلى الرمادي المصفر، متشققة في بعض المواضع كأرضٍ عطشى لم تعرف المطر منذ قرون.

جسده ضخم، بدين، بطنه يتدلّى، ويداه ترتعشان بلا نظام.

أما وجهه…

يا إلهي.

عظام خدّيه بارزة، وجفناه مفتوحان أكثر مما ينبغي.

كانت عيناه واسعتين، مملوءتين بالبياض، بينما القزحية بالكاد مرئية… وكأنها عيون غريق لم تُغلق أبدًا.

شعره الأسود الكثيف يتدلّى بفوضى حول وجهه، مبلل، لزج، كأن أحدًا أخرجه من حوض معتمٍ قبل قليل.

ومع كل هذا، كان فمه مفتوحًا قليلًا، كأن شيئًا يستعدّ للخروج من بين شفتيه… شيئًا ليس صوتًا.

نظرت إلى أكيهيكو، وعيونه تصرخ بما لا يقوله لسانه.

كأنه يقول: "أين المفر؟"

وفجأة...

صرخ.

المخلوق، أو الجثة، أو أيًّا يكن… أطلق صرخة لم أسمع مثلها من قبل.

ليست صوتًا بشريًّا.

بل موجة، زئير، ضربة رعد داخليّة خرجت من أعماقه، جعلت زجاج المصابيح يهتزّ، وقلبي يكاد يتوقف.

دون تفكير، التفتُّ وصرخت:

"أكيهيكو! اهرب!!"

ركضنا خارج غرفة المشرحة، إلى الرواق المعتم، أنفاسنا تقطع الهواء كأنها نار.

لكننا لم نكن مستعدّين لما ينتظرنا.

في الرواق…

كانوا يقفون.

أجساد، عارية تمامًا، بعضها نحيل كالعظام، وبعضها منتفخ بطريقة غير بشرية.

جلودهم تتدلّى، وجلودهم مشققة ومخدوشة، وعيونهم مفتوحة بنفس الطريقة الفارغة التي رأيناها في الأولى.

أحدهم كان بلا ذراعين، والآخر يجرّ قدمه كأنها منفصلة عن جسده، وثالث يحمل شيئًا يشبه رأسه في يده، يمسك به وكأنه لا يعرف أنه ميت.

عددهم لا يقل عن سبعة… وربما أكثر، تتحرّك كأن شيئًا ما يُوجّههم.

رائحة المستشفى... امتزجت فجأة برائحة حارقة، كأن اللحم الفاسد غمر الممرّات.

أحسست أن الجدران تقترب… أن الهواء نفسه يغلق علينا.

نظرت إلى أكيهيكو بسرعة، وصرخت:

"يجب أن نفترق! لا يجب أن نظلّ معًا وإلا وجدونا بسهولة!"

هزّ رأسه بقوة:

"لكن—"

"لا وقت! اهرب!!"

صرختُ دون أن أنتظر، واندفعت في الجهة اليمنى من الممرّ، بينما اندفع هو في الجهة الأخرى.

في لحظة، انقسمت الجثث.

بعضها ركض خلفي…

أجل، ركض.

رغم شكلهم الميت، رغم ثقل حركتهم… إلا أنهم أسرع مما ينبغي، كأن الموت أعطاهم رغبة في الصيد.

قلبي يضرب صدري بقوة، قدماي تنزلقان على البلاط البارد، ألهث، أتعثر، ولا أجرؤ على الالتفات.

خطوة.

ثم أخرى.

ثم صوتٌ من خلفي، صرير لحم يحتك بالأرض.

2025/07/12 · 4 مشاهدة · 1609 كلمة
TOD18
نادي الروايات - 2025