[منظور أكيهيكو]
تفرّقنا.
ركض بليك في الجهة اليمنى، وأنا… اليسرى.
لا أدري أين ذهب الآن، ولا إن كان ما يزال بخير.
كل ما أعرفه هو أنني وحدي…
وأن هذه الجثث تلاحقني.
---
أجري.
أجري بسرعة لم أظن أبدًا أنني أملكها.
قدماي ترتجفان تحت وزني، أنفاسي تحترق في صدري، وكل خطوة أسمعها خلفي تُنذر بنهاية قريبة.
زمجرت إحداها.
الصوت كان قريبًا جدًا، لدرجة أنني شعرت بحرارته خلف عنقي.
نظرت خلفي…
فرأيتهم.
ثلاثة منهم.
كل واحد منهم… كابوس مستقل.
الأول: جسده نحيل بشكل مرضي، عظمتا كتفيه بارزتان تحت جلد متهدل، كأن بشرته قد جُذبت للأسفل بأيدٍ خفية.
عيناه غائرتان، واسعتان، دون رمش أو حواجب، تطلّان بنظرة جامدة كأنه لا يرى… بل يشمّ.
وكان يركض مثل كلب، على أربع، بسرعة لا تُصدق.
الثاني: طويل جدًا، ظهره منحني وكأنه لا يعرف كيف يمشي منتصبًا بعد الآن.
في بطنه فتحة دائرية كُشفت منها أمعاء رمادية، تتدلّى مع كل خطوة.
صوت حركته كان مزيجًا من جرّ حديد وصرير جلد جاف، ورائحته… رائحة موت قديم، معتّق.
الثالث: أقصرهم، لكن وجهه…
وجهه لا يُنسى.
جلده مشقوق على شكل ابتسامة دموية واسعة، خداه مفتوحان حتى الأذنين.
عيناه مائلتان للأعلى كأن أحدهم سحبهما بالإبر.
وكان يمسك بيده شيئًا…
ساق بشرية.
---
استدرتُ فجأة إلى ممر ضيّق يقود نحو غرف التمريض.
الأضواء فيه تومض ببطء.
ركضتُ أكثر.
قدماي تنزلقان، صدري يلهث، ودماغي يصيح بي:
أين المخرج؟ أين المخرج؟!
دخلت غرفة جانبية صغيرة، كانت على الأغلب غرفة تبديل للممرضين.
قفلت الباب بسرعة، وأسندت ظهري إليه، أرتجف.
الظلام.
لم تكن هناك نافذة. فقط خزانة صغيرة، مغلقة، وطاولة مقلوبة.
أحاول تهدئة نفسي، أحاول تذكّر أي دعاء، أي كلمة.
لكن يديّ ترتعشان.
أشعر بوخز في معدتي، بارد… كأنني على وشك التقيؤ من الرعب.
…
ثم، الصوت.
خدش.
ببطء… شيء ما يخدش الباب من الخارج.
مرة… مرتين…
ثم صمت.
ثم… طرق.
ثلاث نقرات هادئة… منتظمة.
ثم همسة.
صوتٌ لا أعرف مصدره، لكنه واضح في أذني.
"فتـح…"
…
لم أصرخ.
لم أبكِ.
لكني تذكّرت وجه أمي للحظة… آخر مرة ضحكتُ أمامها.
وركضت.
فتحت باب الخزانة، ودخلت إليها بسرعة، سحبت الباب بصوت خفيف، ثم حبست أنفاسي.
سمعت صرير الباب يُفتح ببطء.
ثم خطوات.
ثلاثة أزواج من الأقدام العارية، تُصدر صوتًا لزجًا على الأرض، كأنها تنزف مع كل خطوة.
إنهم هنا.
---
ثوانٍ تمرّ كأنها دهور.
أشعر بأن قلبي سينفجر من شدّة دقاته.
لا أجرؤ على التنفس بعمق.
الظلام خانق، والغرفة مليئة برائحة الدم القديم والمعقّمات البائدة.
واحد منهم… يقترب من الخزانة.
أسمع أنفاسه، حادّة… رطبة.
ثم شيء يُقرع على باب الخزانة.
مرة… مرتين…
صمت.
أنا أرتجف، أضغط على فمي كي لا أُصدر أي صوت.
ثم… يبتعد.
الباب يُفتح ويُغلق مجددًا.
أقدامهم تغادر.
…
ظللت داخل الخزانة خمس دقائق أخرى… أو خمس ساعات، لا أدري.
ثم فتحت الباب ببطء شديد.
الممر فارغ.
ركضتُ مجددًا، هذه المرة بحذر.
بعض الممرات مغلقة، بعضها مملوء بأنقاض قديمة وأسلاك متدلية من السقف.
كل ركن أراه كعدو.
قلبي ما زال يدق كأنه سينفجر.
كنت أركض.
أحاول أن أجد مخرجًا. أنفاسي تتقطع، قلبي كأنّه يريد تمزيق ضلوعي من شدّة الطرق، والممرات تمتدّ أمامي كأمعاء متاهة بلا نهاية.
الأضواء في هذا الجناح كانت أكثر مرضًا… تومض ثم تنطفئ، ثم تعود لتكشف ظلالًا متكسّرة على الجدران، كأنها تنذرني بما هو قادم.
فجأة… لمحت أحدهم في نهاية الرواق.
كان واقفًا بهدوء، نصفه في الظلام، ونصفه مغمور بتلك الإضاءة الصفراء الباهتة.
ملامحه لم تكن واضحة… لكنني عرفت.
عرفت.
"بليك!"
صرخت بكل قوتي، وقدمي تقرع الأرض كأنني أهرب من موت مؤكد.
اقتربت منه.
كان لا يتحرك.
واقف، يحدّق نحوي، بنفس القامة، نفس عرض الكتفين… كل شيء.
لكن عندما اقتربت أكثر… عندما صرت على بُعد متر فقط…
تجمّدت.
هذا… ليس بليك.
إنه شيء آخر تمامًا.
كان رأسه مائلًا قليلًا، وعنقه مشدودًا كأن أحدهم حاول خنقه في حياته.
بشرته رمادية مائلة للأخضر، منتفخة في بعض المواضع، مشقّقة في أخرى.
عينيه واسعتان جدًا، كأن الجفون لا تعرف الإغلاق، تحدّقان بي بثبات ميّت… وملامح وجهه…
تشبه بليك بدرجة مؤلمة.
لكنها مشوّهة.
كأن أحدًا حاول إعادة رسم وجه بليك من ذاكرته… ثم نسي التفاصيل الأخيرة وتركها فارغة.
صرختُ بلا وعي، وارتدّت خطواتي إلى الوراء.
لكنه تحرّك.
في جزء من الثانية، كانت يده تمسك بكتفي، ثم جذبي نحوه بقوة مرعبة.
صرختُ وركلت الهواء، لكن قبضته لم تضعف.
كان يُصدر صوتًا… ليس كزئير، ولا أنين… بل شيء بينهما، كأن الغضب المتراكم في صدره منذ موته وجد مخرجًا.
زمجرة عميقة… جوفاء… قادمة من مكان سحيق داخل صدره المهترئ.
مدّ يده الأخرى نحو وجهي… أصابعه ملوّثة بالدم الجاف، أظافره مكسورة ومخلوعة جزئيًا… وأراد أن ينزع شيئًا منّي.
ربما جلدي، ربما بصري، لا أعلم… لكنّ نيتَه كانت واضحة.
سقطت.
سقطت على ظهري، وجررتُه معي دون قصد.
جثته وقعت فوقي، ثقيلة وباردة، وأنفاسه – إن صحّ تسميتها بذلك – تلامس وجهي.
بدأت أركل، أضرب، أتخبّط كمن غرق في البحر.
صوت مفاصلي يتكسر، صوت احتكاك جلده بملابسي، ثم…
شعرتُ بشيء بارد تحت ظهري.
بلاط مائل، زاوي، ثم لا شيء.
وصلتُ إلى حافة الدرج.
درج المستشفى الطويل، الملتفّ نزولًا إلى الطابق الأرضي… وربما أعمق.
نظرت إلى الظلام الذي يبتلعه.
لم أستطع رؤية القاع.
الظلام كان سميكًا، كثيفًا، كأن الأرض انتهت هناك.
إما أنا… أو هو.
استجمعت قوتي، غيظي، رعبي، وغريزة البقاء.
ضربتُ رأسه برأسي.
ألم حارق انطلق في جمجمتي… وسمعت صوتًا لزجًا – فكه انفجر.
ارتخى للحظة.
بسرعة، جمعت كل قوتي ودفعت الجثة عنّي، ثم حملتها.
كانت خفيفة بشكل مريب… كأن اللحم لا يعني شيئًا، وكأن الهواء داخلها أكثر من العظم.
صرخت:
"اذهب للجحيم!"
ورميته.
رميته بكل ما أملك من كراهية، من فزع، من إرادة للهرب.
---
الجثة تدحرجت على الدرج، أطرافها ترتطم بالدرجات الحديدية، تصرخ كأنها تعرف النهاية.
ثم… اختفت.
سقطت في الهاوية.
في قاع الظلام.
وغابت.
شعرت بشيء غريب.
ليس النصر.
بل… فراغ.
وقفت هناك، ألهث، أراقب السواد الممتد، وقلبي ينهار من شدة الطرق.
همست لنفسي:
"لقد كنت على بعد ثانية من نهايتي…"
ثم سمعت خطوة خلفي.
]
صوتُ خُطوةٍ حادة ارتدّ في الممرّ الصامت.
استدرتُ… فوقع نورُ مصباحٍ يدوي على وجهي.
كان حارس المستشفى.
ظهره عريض تحت سترةٍ رمادية باهتة، قبّعته مائلة جانبًا، وعيناه ضيّقتان خلف عدساتٍ مربّعة. لحيةٌ خفيفة، وعرقٌ يلمع على صدغه. في يده اليُمنى مسدّسٌ قديم الطراز، وفي اليسرى المصباح الذي يقطع الظلام كشعلة منجاة.
رفع السلاح قليلًا وهو يصرخ:
«مَن أنت؟! هل أنت سارق؟ ما الذي تفعله هنا، أيها الفتى؟»
لم أصدِّق عينَيّ؛ في ظرفٍ آخر لقلِقتُ من الوقوع في يد الشرطة، أمّا الآن فقد بدا لي كطوق نجاةٍ أخير.
ترنّحتُ نحوه، ألهث، رائحتي خليطٌ من العَرَق والدم والهلع.
همس بحنانٍ خشن وهو يضع يده الثقيلة على كتفي المرتعش:
«اهدأ… أنت بأمان معي.»
شهقتُ: «لا… لا أستطيع. عليَّ أن أجد بليك!»
قبل أن أُكمل، انتفض إحساسي بالخطر؛ الهواء من حولي صار أثقل.
صرخت بأعلى ما في صدري:
«احــتـــــرس!!»
لكن التحذير خرج متأخرًا.
من العتمة التي خلف الحارس اندفعت الجثة التي كانت أول من ظهرت لنا—الرجل السمين، الجلد المتهدّل، العينان الغائرتان. قفزتْ كحيوانٍ مسعور، وغرسَت أسنانها السوداء في عُنق الرجل.
صوتُ العضّة كان طقطقة عظمٍ رطبة.
اندفع الدمُ قوسًا أحمر على الجدار الأبيض، ولطّخ فكَّ المخلوق حتى الأذن.
تراجع الحارس خطوتين، حاول أن يرفع المسدس، لكن الجثة ضغطت بأظافرها المكسورة على فوهة السلاح، ودفعتها نحو الأرض.
صرخ الحارس ثانيةً… ثم انقطع الصوت فجأة، كأن أحدهم مزّق حباله الصوتية.
عيناه ظلّتا مفتوحتين، متجمّدتين على ذهولٍ أبديّ، والدم يقطر من ذقنه.
أنا… تجمّدت.
ركبتاي خذلتاني، فانهرت على الأرض.
حرارة الدموع حرقت وجنتَيّ، وصدري ارتفع وانخفض كسمكة تُسحب من الماء.
كلّ شيء فيّ يصرخ «اهرب»، لكن جسدي موثوقٌ بخيوط رعبٍ لا تُرى.
السمين أفلت الجسد… واعتدل.
وقف على قدمَين متقوّستَين، كتفاه تهتزان، وفمه الملطّخ بالدماء ينفرج في شبه ابتسامة مشوّهة.
خطا خطوة.
خطوة أخرى.
دم الحارس يسيل من ذقنه كشَرَفَةٍ حمراء.
صوت أنفاسه خشخشةٌ خفيضة؛ كأن صدرَه أجوفُ وفيه شظايا زجاج.
بين كل شهيقٍ وزفير… أتقدّم أنا ميلًا من الهلع.
كنتُ ملقى، أرتجف، دموعي تسيل بلا خجل، وقلبي يطرق جمجمتي.
تقدّم… حتى صار فوق رأسي.
ظلُّه حجب نور المصباح الذي تدحرج على البلاط، فغاص وجهي في شِبه ظلمة.
رفعتُ بصري فرأيتُ الموت—رجلًا ميتًا، بدماء حيّة، يمدّ يدًا ترتعش نحوي.
كان المخلوق السمين يقترب ببطء…
زفراته الخشنة تحرّك شعري، وعيناه الجامدتان تلمعان ببرودة الحيوان الذي وجد فريسة لا تقاوم.
لكنه أخطأ.
أنا لستُ فريسة.
ولستُ مستعدًا للموت اليوم.
---
بسرعة، امتدت يدي إلى الخلف، حيث كنت قد دسست المسدس الذي انتزعته من تحت جسد الحارس عندما سقط.
لا أدري كيف تجرأتُ… ولا متى فعلتُ ذلك بالضبط. ربما كان ذلك غريزة نجاة صرف.
كل ما أعرفه الآن هو أن قبضتي شدّت على الزناد كأنها آخر ما أملكه من إرادة.
رفعتُ السلاح.
بيدٍ ترتجف، وعينين دامعتين، لكن إصبعي لم يتردّد.
أطلقت.
الرصاصة اخترقت عينه اليمنى.
فأنفجرت نصف وجهه .
و سقط بعض من دماغه المفروم على الارض.
قطعة من الجمجمة تطايرت، وشيء أشبه بكتلة رمادية سقطت على البلاط.
العين… لم تنزف. كانت جافة، متصلّبة، مثل زجاجة مكسورة لا تفرغ شيئًا.
اهتز جسده لحظة… ثم سقط بثقلٍ غريب.
كأنه لم يكن حيًا قط.
عاد كما بدأ… جثة.
---
وقفتُ هناك، أرتجف، أتنفّس عبر فمي بصوت عالٍ.
الرصاصة الأولى.
سمعت صوت أذني يصفر…
صوت الطلق كان مرعبًا. أعلى بكثير مما توقعت.
كأن الرصاصة اخترقت طبلة أذني قبل الجثة.
ظننتُ لوهلة أنني أصبت بالصمم، لكن الطنين بدأ يخفّ تدريجيًا.
مسحت جبيني من العرق، وحاولت تنظيم تنفّسي.
تبقّى خمس طلقات. فقط.
لا مجال للخطأ… لا مجال للهدر.
---
لكني لم أُكمل تفكيري…
زمجرة.
أولى، ثم ثانية… ثم أربعة.
مختلفة عن الأولى.
أكثر جوعًا. أكثر غضبًا.
استدرت.
رأيتهم.
أربع جثث أخرى، تخرج من الظلال…
تمشي على غير نظام، تتحرّك كأن أجسادهم لا تفهم قوانين الحياة بعد الآن، لكنها تعرف شيئًا واحدًا:
أنا.
أنا هدفها.
قلبي قفز إلى حلقي.
زمجرت واحدة منها بصوتٍ عالٍ جعل الأرض تهتز تحتي.
رجل بلا عينَين، وجهه محترق من جهة واحدة، يحمل في يده مضرب بيسبول صدئ… ويسحبه على الأرض بخطوطٍ معدنية تقشعرّ لها الروح.
ركضت.
أقسم أني لم أركض يومًا بهذه السرعة.
قدماي ضربتا الأرض كأنها تحترق تحتي، والممرّات أمامي تتشابك، والأبواب تتلوى كأنها تحاول منعي من المرور.
صوت أنفاسي أعلى من الطلق نفسه.
الرعب في صدري صار مادة ثقيلة.
"يجب أن أجد بليك…"
ردّدتُها في نفسي مثل ترنيمة نجاة.
"يجب أن أجد بليك…"
وراء كل زاوية، أبحث.
بين كل غرفة، أنظر.
أحيانًا أرى ظلًا، أحيانًا أسمع همسة… لكن لا أثر له.
---
"لا تمت قبل أن تراه…"
همستُ لنفسي وأنا أركض في ممر جديد، أنفاسي تختلط بصوت العجلات الطبية المهجورة التي تتحرك بفعل الهواء.
"لا تمت قبل أن تراه."
[منظور ميساكي – فلاش باك]
كان الجوُّ مغيّمًا، والرياح تعوي كذئابٍ ضائعة.
مع كل خطوةٍ أخطوها نحو المدرسة، كانت الغضب يغلي داخلي.
ساكاكيبارا.
أخي الصغير، النور الوحيد في عالمي…
عاد إلى المنزل وعينه متورّمة، كأن أحدهم حفر فيها حقدًا.
قال لي بخوف: « لقد قالوا إنهم يعرفونك…»
أنا أعرف هذا النوع من التهديدات.
أنا أعرف هذا النوع من الوجع.
صعدتُ إلى السطح، في الوقت المتّفق عليه عبر الرسالة المجهولة.
الريح كانت تضربني كأنها تحاول إعادتي إلى الخلف، لكنني لم أتراجع.
---
ما إن فتحت الباب المعدني للسطح، حتى تجمّدت في مكاني.
كان المشهد أمامي كابوسًا.
كوغامي تقف وسط مجموعة من الجانحين.
خمسة أو ستة، وجوههم مغطاة بالأوشام، أعينهم تلمع كالزجاج المكسور، بعضهم يحمل عصيًا أو سلاسل.
وأمامهم… شينتو.
ملقى على الأرض، ينزف من زاوية فمه، ويحاول النهوض.
شعري كان يتطاير كأوراق ممزقة في مهبّ الريح، بينما قلبي يسقط في صدري كحجر.
قلتُ، بثباتٍ مصطنع:
«إذن أنتم من آذيتم أخي الصغير؟»
ضحك أحد الجانحين، بصوت أجوف:
«أوه، يبدو أننا لا نحتاج للشرح إذاً.»
تقدّمت خطوة، وصرخت:
«ما الذي تريدونه؟ مال؟ انتقام؟ هذا وضاعة. إن كانت لكم مشكلة معي، فلتأتو إليّ، لا تتعرضوا لأفراد عائلتي.»
لكن قبل أن يُكمل، فاجأتني كوغامي…
قالتها ببرودٍ قاتل، وصوتٍ جارح كالسكاكين:
«اصمتي، أيتها العاهرة.»
الريح توقّفت.
كل شيء توقف.
كوغامي…
صديقة الطفولة…
الفتاة التي وعدتني أن تحميني…
تصفني بكلمة مثل هذه؟
همستُ، بصوت مكسور:
«كوغامي… ما بكِ؟ هل… فعلت شيئًا أزعجك؟»
ضحكت.
ضحكت كأنها لم تعرفني يومًا.
وعندها صرخ شينتو، بضعف:
«ميساكي! اهربي! ليسوا طبيعيين!»
لكن صرخته قُطعت بركلةٍ في البطن.
روكو، أحدهم، رفعه كالدمية، وصفعه بقوة جعلت جسده يتهالك على البلاط.
«اصمت، أيها الداعر، ولا تتكلم!»
كوغامي ضربته على مؤخرة عنقه:
«يا غبي! لا تضربه بشدة، نحتاجه حيًا!»
«آسف… آسف، الزعيمة!»
قالها وهو ينحني لها كأنها ملكة جحيم.
كوغامي زعيمة؟
كوغامي من تأكل معي الأونِغيري؟
كوغامي التي تصرخ "مِن!" في قاعة الكيندو؟
قلتُ بصوتٍ مشوّه بالدهشة:
«ما الذي يجري هنا بحق السماء؟ هل أنتِ… زعيمة هؤلاء الحثالة؟ لماذا فعلتِ هذا بأخي؟ ماذا فعلتُ لكِ؟!»
ابتسمت.
ابتسامة شرّ لا تعرف الرحمة.
وقالت، بصوتٍ مليء بالسخرية:
«أتريدين الحقيقة؟ حسنًا… سأخبركِ، يا بطلة روايات الرعب.»
كوغامي قالت بحدة، :
— "بدون كلام كثير. ابتعدي عن شينتو."
— "ماذا…؟"
عدت أنظر إلى كوغامي. كانت تحدّق في وجهي كما لو كانت تنتظر هذه اللحظة منذ دهور. ثم، بصوت هادئ، لكنها تمضغه كما تمضغ علكتها الدائمة، بدأت تتحدث:
---
— "تعرفين، أحيانًا أُفكر كيف وصلتِ إلى هنا أصلاً… فتاة مثلِك. صامتة. بلا حضور. تمشين في الممرات وكأنك غير مرئية، وتظنين أن أحدًا يهتم بما تقرأينه أو ما تكتبينه في دفترك المهترئ."
تقدمت خطوة. الرياح صرخت في أذني. لكن صوتها ظلّ واضحًا، كأنه يخرج من داخل جمجمتي:
— "كنتِ مجرد ظل. مجرد واحدة من الخلفية. من أولئك الذين نراهم ثم ننساهم بعد ثانية. لكن فجأة، بدأتِ تسرقين الأضواء… ببراءتك الكاذبة. بهدوئك المصطنع. بنظراتك التي تتظاهر بأنها لا تعرف، لكنها تفهم كل شيء."
وقفت أمامي الآن. عينها ترتجف بغضب قديم. صوتها بدأ يعلو.
— "هل تعلمين أكثر ما يثير أعصابي؟ أنك تصدّقين فعلًا أنك مختلفة. كأنك نوعٌ خاص من البشر. لكن في الحقيقة؟ أنتِ مجرد لعبة حظ قذرة. اصطدمتِ بفتى مشهور، وابتسم لكِ، فظننتِ أنك تستحقين أن تكوني البطلة."
رفعت ذقنها بشموخ، وكأنها على مسرح تستعرض فوزها:
— "أنا كوغامي. الجميع يعرف من أكون. رئيسة النادي الرياضي. وجه المدرسة في كل فعالية. صداقاتي، شعبيتي، جمالي، جسدي، طاقتي… كلها أمور عملتُ لأجلها، سهرْت لأجلها، صنعتُ نفسي بها."
نظرت إلى شينتو بسرعة خاطفة، ثم عادت إليّ، وعيناها تتوهّجان حقدًا ناعمًا:
— "كنتُ سأحصل عليه. ليس لأنه وسيم، بل لأنه يليق بي. يليق بمكانتي. نحن الثنائي الذي تُكتب عنه القصص."
أغمضت عينيها للحظة، ثم فتحتها:
— "ثم… دخلتِ أنتِ."
---
توقفت الرياح للحظة. أو ربما كان قلبي هو الذي توقف.
واصلت:
— "شينتو لم ينظر إليّ كما نظر إليكِ. لم يضحك على نكاتي كما يضحك على تفاهاتك. لم يقرأ الكتب التي أهديته إياها، لكنه حفظ جملتك الغبية عن الرعب الوجودي."
صوتها بدأ يتشقق. لم تكن تبكي. لكنها بدت على وشك أن تنهار دون أن تسمح لنفسها بذلك.
— "كل شيء تملكينه الآن… كان يجب أن يكون لي."
أشارت إليّ بإصبعها وكأنها توجه لي حكمًا أبديًا:
— "ولهذا، قررت أن أُعيد التوازن. قررت أن أذكّرك بمكانك. لأنني، مهما كنتِ تظنين، كنتُ وما زلتُ… أفضل منك."
أخذت نفسًا، ثم قالت:
— "أنا لم أخسركِ كصديقة يا ميساكي… بل خسرتُ نفسي كلما رأيتكِ تربحين دون أن تبذلي مجهودًا."
---
سكتت.
كل من حولها سكت.
حتى شينتو، نظر إليها للحظة، بعينين شبه مفتوحتين، كأن شيئًا داخله بدأ يُكسر.
أما أنا… فلم أعد أعرف كيف أتنفس.
نظرتُ إلى كوغامي، وكأنني أراها للمرة الأولى.
ذلك الوجه… تلك العينان اللتان ضحكتا معي ألف مرة… أصبحتا الآن غريبتين. متجمّدتين. باردتين.
لم أكن أعلم.
لم أكن أعلم أنها تكرهني كل هذا الكره.
لم أكن أعلم أنها تحمل في قلبها هذا الحقد الأسود، هذه الرغبة المريضة في سحقي فقط… لأني كنت أنا.
أحسست بأن شيئًا داخلي انكسر.
لكن شيئًا آخر اشتعل.
صرخت، بصوتٍ خرج من أعماق معدتي، أكثر مما خرج من حنجرتي:
— "هل يعني أن كل هذا… فقط لأنك تريدين أن تصبحي حبيبة شينتو؟!!!"
الصوت ارتدّ في السطح، الرياح حملته إلى السماء، الطيور فزعت من الأشجار.
لكنها… لم ترتجف.
قالت ببرود، دون رمشة واحدة:
— "نعم."
نظرت إليها بذهول. الدم يغلي في عروقي. الدموع تحترق خلف عينيّ، لكني لن أسمح لها أن تنزل.
— "يا لكِ من تافهة… لعينة… تصطفّين مع مجموعة من الجانحين وتهدّدين صديقاتك وتؤذِينَ طفلاً بريئًا فقط… لأنك تريدين أن تفرضي حبك على شينتو؟!! هل أنتِ مجنونة؟ هل لديك عقل أصلًا؟ لا أظن أن شخصًا بكامل قواه العقلية يُفكر بهذه الطريقة المريضة!"
كوغامي لم تبتسم. لم تغضب. بل زادت برودًا.
قالت، وكأنها تعلن عقيدة حياتها:
— "سأفعل أي شيء… لكي أصبح نجمة هذه المدرسة."
نظرتُ إليها طويلاً. كأنني أبحث عن بقايا الإنسانة التي كنت أعرفها. عن الطفلة التي كنت أضحك معها على سطح بيتنا. التي شاركتني أول سرّ، وأول بكاء، وأول محاولة فاشلة لرسم شخصية أنمي.
لكنّ تلك الفتاة ماتت.
فجأة، شعرت بالحزن ينهشني من الداخل. صوتي خرج هشًا، كمن يحاول أن يوقظ ذكرى من قبرها:
— "هل يعني أن حتى صداقتنا كانت مزيفة…؟"
نظرت إليّ، للمرة الأولى بشيء من الصدق. لكنه لم يكن صدقًا طيبًا. بل صدقًا قاسيًا، قبيحًا.
قالت:
— "في الواقع… لقد استمتعتُ بصداقتك. واعتبرتكِ صديقة رائعة… دائمًا ما كنتِ في ظلي. تملئين الخلفية، تتبعين خطواتي، تضحكين لنكاتي. لكن عندما بدأتِ تتكبرين… تخرجين من الظل… تحاولين الوقوف في الضوء… لم أعد أتحمّلك. لن أسمح لك بالعبور بسلام."
سقطت كلماتها على قلبي كصخور ثقيلة.
ظللت أستمع إليها، وشيء في داخلي ينكسر.
تذكّرت كل لحظة معها…
– ضحكاتنا في الساحة الخلفية للمدرسة. – ألعابنا الورقية القديمة في الفصول الفارغة. – جلساتنا عند غروب الشمس على سطح البيت. – تلك المرات التي أمسكت بيدي عندما كنت أبكي على موت شخصية خيالية. – كعكتها المحروقة التي أكلناها كلها رغم طعمها. – نظراتها الأولى لي في الفصل الجديد، عندما كنتُ الطفلة الجديدة والخجولة، وهي أول من قال لي: "هل تريدين الجلوس معي؟"
كل تلك الذكريات اجتاحتني كعاصفة حنين…
ثم انفجرت.
لم أعد قادرة على تذكّر كل هذا، بينما وجه أخي أمامي، بكدمته الزرقاء، وصوته المرتعش، ودموعه التي جفّت على كتفي.
رفعت رأسي.
احترق الحزن في داخلي وتحول إلى غضبٍ نقي.
قلتُ، بنبرة لم أسمعها من نفسي من قبل:
— "لا أهتم بمخكِ التمريضي. ولا بخطابكِ المليء بالحقد. أنا لن أسمع كلام شخص خانني… وأذى عائلتي… وضرب صديقي."
نظرتُ نحو شينتو، ثم عدتُ إلى عينيها:
— "أنا… لن أبتعد عن شينتو."
الصمت.
الصمت الكامل.
حتى الهواء توقف عن الصفير.
الجانحون تبادلوا نظرات مذهولة.
شينتو فتح عينيه أخيرًا… وارتجف.
أما كوغامي…
فقد تغير وجهها.
تلك الجمجمة المصقولة بالكبرياء بدأت تتشقق.
ظهر الغضب. الغضب الحقيقي. المتفجر. البدائي.
زمجرت، بعينين لا تحملان عقلًا:
— "هكذا إذن؟ روكو! الآخرون! أمسكوها!!!!"
---
في لحظة واحدة، تحوّل المشهد إلى عاصفة.
الجانحون اندفعوا نحوي مثل ذئاب جائعة، بينما أنا أقف وسط السطح، الرياح تضرب ثيابي، وقلبي ينبض بعنف.
لكنني لم أهرب.
بل وقفتُ بثبات.
هذه المرة… لن أكون الفتاة التي تسكت