[منظور بليك]
تفرّقنا.
كلمةٌ بسيطة، لكنها حملتْ ثقلَ العالم كله في تلك اللحظة. أكيهيكو اندفع في اتجاه، وأنا في آخر، تاركًا خلفي صرخةً لم أكن أعلم إن كانت مني أو منه. كل ما كان يهمّني هو أن أضع مسافةً بيني وبين تلك الجثث.
ركضتُ.
لم أكن أركض، بل أطير. قدماي تضربان البلاط البارد للمستشفى، صوتُهما يرتدّ في الممرات المظلمة كطبلة حرب. أنفاسي كانت تحترق في صدري، كل شهيق وزفير كأنه يمزّق رئتيّ. الرائحة… رائحة الموت المتعفّن، ممزوجة برائحة المعقمات الباردة، كانت تملأ أنفي وتُشعرني بالغثيان.
لم أجرؤ على الالتفات.
كنتُ أسمعهم. خطواتهم اللزجة، صرير لحمهم المتهدّل على الأرض، وأصواتهم الخشنة التي لم تكن صرخات، بل همهمات جوفاء، كأنها قادمة من أعماق بئرٍ لا قاع له. كانوا قريبين جدًا، قريبين لدرجة أنني شعرت بحرارة أنفاسهم الباردة تضرب مؤخرة عنقي.
انعطفتُ فجأة إلى اليمين، إلى ممرٍّ أضيق، الأضواء فيه تومض بجنون، كأنها تحاول أن تحذّرني من شيء لا أراه. كانت الظلال ترقص على الجدران، تُشكّل وحوشًا وهمية تزيد من رعبي. شعرتُ أن الجدران تضيق، وأن الهواء يثقل، كأن المستشفى نفسه يحاول أن يبتلعني.
"يجب أن أجد مخرجًا… يجب أن أجد مخرجًا…"
كررتُها في رأسي كتعويذة، بينما يداي ترتجفان، وقلبي يقرع صدري بقوة كأنه يريد أن يكسر ضلوعي ويقفز خارجًا. لم أعد أرى شيئًا بوضوح، عيناي كانت تملؤهما الدموع من شدة الخوف والجهد.
لمحتُ بابًا مفتوحًا على مصراعيه، يؤدي إلى غرفة كبيرة يبدو أنها كانت صالة انتظار مهجورة. كانت مليئة بالكراسي المقلوبة، والأوراق المتناثرة، والغبار الذي يغطي كل شيء. اندفعتُ إليها، ثم دفعتُ الباب بقوة لأغلقه خلفي. سمعتُ صوت ارتطامه بالباب المقابل، ثم صوت قفلٍ قديم يصدر صريرًا وهو يُغلق.
أسندتُ ظهري إلى الباب، ألهث، أحاول أن أستعيد أنفاسي. الظلام كان شبه كامل، لا يكاد يقطعه إلا ضوء خافت قادم من نافذةٍ علوية مغطاة بالتراب.
ثم… الصوت.
خدش.
على الباب.
مرة… مرتين… ثم توقف.
صمتٌ ثقيل.
ثم… طرق.
ثلاث نقرات هادئة… منتظمة.
"افـتـح…"
الصوت لم يكن همسة، بل رنينٌ خفيف في رأسي، كأن أحدهم يهمس في أذني مباشرة. لم أصرخ. لم أبكِ. فقط تجمّدتُ في مكاني، أضغط على فمي بيديّ كي لا أُصدر أي صوت.
شعرتُ باليأس يزحف إلى قلبي. هل هذه هي النهاية؟ هل سأموت هنا، وحيدًا، مطاردًا من جثثٍ لا تعرف الرحمة؟
سمعتُ صوت صرير الباب يُفتح ببطء.
خطواتهم اللزجة بدأت تدخل الغرفة. واحدة… اثنتان… ثلاثة…
كانوا هنا.
تسللتُ بسرعة خلف كراسي الانتظار المقلوبة، أحاول أن أندمج مع الظلال. قلبي كان يضرب بقوة، كأنه يريد أن يمزّق صدري. حبستُ أنفاسي، وأغمضتُ عينيّ، متمنيًا أن أكون غير مرئي.
ثوانٍ مرت كأنها دهور.
سمعتُ صوتًا خفيفًا، كأن شيئًا يسقط على الأرض. ثم صوت جرٍّ بطيء، كأنهم يبحثون عني.
واحد منهم… يقترب.
أسمع أنفاسه الخشنة، الرطبة، قريبة جدًا.
ثم… يتوقف.
صمت.
ثم يبتعد.
خطواتهم تغادر الغرفة.
ظللتُ مختبئًا لدقائق طويلة، أو ربما ساعات، لا أدري. ثم فتحتُ عينيّ ببطء.
الممر كان فارغًا.
زحفتُ على ركبتيّ، ثم وقفتُ ببطء، أرتجف.
يجب أن أجد أكيهيكو. يجب أن أجد ميساكي.
"لا تمت قبل أن تراه…"
همستُ لنفسي وأنا أركض مجددًا، هذه المرة بحذر أكبر، في ممرٍّ جديد، أنفاسي تختلط بصوت عجلات طبية مهجورة تتحرك بفعل الهواء.
"لا تمت قبل أن تراه."
لم أكن قد قطعتُ سوى بضع خطوات في ذلك الممرّ الشاحب، قبل أن أشعر بشيءٍ بارد ولزج يمسكني من ظهري. يدٌ قوية، أصابعها قاسية كالمخالب، اخترقت ملابسي وامسكتني بشدة.
تجمدتُ في مكاني. الرعبُ جمد كلَّ خلية في جسدي. لم تكن مجرد لمسة، بل قبضةٌ عنيفة لم تدعني أتحرك. حاولتُ الركض، دفعتُ للأمام بكل قوتي، لكن الجثة كانت أقوى. كانت تمسك بي بإحكامٍ مخيف، وفي أذني سمعتُ صرخةً مكتومة، جوفاء، كأنها تأتي من بئرٍ عميق.
"اتركني!" صرختُ، الكلماتُ خرجت مشوّهةً من حلقي.
استجمعتُ كلّ ما تبقى لي من شجاعة ويأس. لا وقتَ للخوف. هذه ليست لعبة. رفعتُ قدمي وركلتُ بقوةٍ هائلة باتجاه بطن الجثة، ركلةً كان من المفترض أن تسقط أيّ كائن حيّ.
لكن ما حدث كان أكثر رعبًا مما تخيلت.
قدمي غاصت داخل بطنها.
لم يكن هناك لحمٌ صلب، ولا عظامٌ مقاومة. كان جلدهم رقيقًا بشكلٍ مقزز، كأنه ورقٌ رطب. شعرتُ بشيءٍ لزج، بارد، ومثيرٍ للغثيان يلتف حول قدمي. لم تكن دماء، لا قطرة واحدة. فقط هذا السائل اللزج، مع رائحةٍ حامضة كريهة.
سحبتُ قدمي بسرعة، وكأنها لدغتني أفعى. رأيتُ فتحةً كبيرة، سوداء، قذرة في بطن الجثة. امعاءٌ سوداء متدلية، متعرّجة، كأنها كوابيس خرجت للتو من كائنٍ ميت. لكن الجثة… لم تتأثر. لم تصرخ، لم تتراجع، لم تظهر أيّ علامة على الألم. كانت تقف هناك، تمسكني، وبطنها مفتوحٌ وكأن شيئًا لم يحدث.
كان هذا أكثر رعبًا من أيّ دمٍ أو صراخ. اللا مبالاة المطلقة بالموت. اللا مبالاة بالإصابة.
انهارَ جسدي. سقطتُ على البلاط البارد، لا أصدق ما رأته عيناي، ولا ما شعرت به قدمي. الجثة لم تفلتني، بل ضيقت قبضتها عليّ، وتلك الصرخة الجوفاء عادت لتتردد في أذنيّ.
كنتُ أُجرّ على الأرض، صوتُ احتكاك ظهري بالبلاط كان مؤلمًا، لكن الألم الأكبر كان في رأسي. هذا ليس طبيعيًا. هذه ليست زومبي عادية. إنها… شيء آخر.
شيءٌ يريدني.
بقبضة من الرعب، تمكنتُ بطريقة ما من التملص من تلك الجثة اللزجة. انطلقتُ كالسهم، محاولًا إبعاد نفسي عن هذا الكابوس المتجسد. كانت الجثث سريعة، وأعدادها تزايدت، كأن المستشفى كله قد أُيقظ. كنتُ أركض، أسرع منهم، لكن هذا لن يستمر. السرعة المؤقتة لن تنقذني من التعب الحتمي الذي سيشل حركتي، وحينها… سيمسكون بي.
بدأتُ أشعر بالوهن يتسلل إلى عضلاتي، أنفاسي تضيق، وقلبي يكاد يخرج من ضلوعي. كانت أصواتهم أقرب، صراخاتهم المتوحشة تدوّي في أذنيّ، وهم خلفي مباشرة.
لكن في لحظة يأس عميقة، لمحْتُ النور في آخر النفق.
كان هناك، في نهاية الرواق الطويل الذي لا ينتهي: مصعد المستشفى. وميض ضوئه الابيض كان كمنارة أمل في هذا الظلام الكابوسي. شعرت بفرحة غامرة، هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفصلني عن هذه الوحوش.
المشكلة كانت واضحة: المصعد بعيد جدًا، وأنا متعب، والجثث تهرول خلفي. لكني لم أملك خيارًا آخر. استجمعتُ آخر رمق من قوتي، وضغطتُ على نفسي، وأطلقتُ العنان لقدميَّ بأقصى سرعة أملكها.
الرواق الطويل بدا وكأنه لا ينتهي. صوتُ الجثث خلفي كان يزداد قوة، صراخاتهم القذرة كانت تلاحقني، كأنها أنفاس الموت. كانوا أربعة يتجهون نحوي، أقرب فأقرب مع كل خطوة. كدتُ أجزم أن هذا حتفي، أنني لن أصل، أن هذا هو المكان الذي سأموت فيه.
في اللحظة الأخيرة، قبل أن تلتف أصابعهم حول عنقي، انفتح باب المصعد!
اندفعتُ إلى الداخل بلا تفكير، وأصابع يدي ترتعد وهي تضغط على زر الإغلاق. كان يجب أن أنتظر للحظة، لكنني لم أملك رفاهية الانتظار. رأيتُ وجوههم المشوهة تقترب بسرعة، أيديهم تمتد نحوي، عيونهم الفارغة تحدق بي.
تعلقتُ بالأمل أن ينغلق الباب بسرعة كافية. كانو على بُعد شعرة من الدخول، أحدهم مدّ يده بالفعل، وأظافره كانت تكاد تلامس وجهي.
ثم انغلق الباب!
سمعتُ صوت صفيراً حاداً، وصرخة مكتومة. أصبع أحد الجثث كان قد قُصَّ بسبب إغلاق الباب المفاجئ. ارتدَّ الجسد إلى الخلف، بينما بدأ المصعد في الصعود، حاملًا إياي بعيدًا عن جحيم الممرات.
أسندتُ ظهري إلى جدار المصعد المعدني، ألهث، وقلبي يرتجف. لقد نجوت... لتوّي.
الراحة غمرتني كالمياه الباردة، وأنا أسمع صوت المصعد وهو يصعد بانتظام. "وأخيرًا، مكان آمن،" همستُ لنفسي، وكأن مجرد التفكير بالكلمات يمكن أن يحققها. شعرتُ للحظة أنني نجوتُ حقًا، أن الكابوس قد انتهى.
لكني استيقظتُ من نشوتي بسرعة.
"يجب أن أجد أكيهيكو، ميساكي. إنهما في خطر."
الخطر لم ينتهِ بعد. مجرد أنني بخير لا يعني أن الجميع كذلك.
فجأة، أحسستُ بإحساس غريب. أضواء المصعد بدأت تنطفئ وتُضاء بشكل متقطع، ثم أخذت أرقام الطوابق تتغير وتُطفأ بشكل عشوائي. توقف صوت صعود المصعد، وساد صمتٌ مقلق.
ثم، انفتح الباب.
لم يفتح في طابق. لقد فتح في منتصف الطريق، على الفراغ الأسود الذي يضمّ الأسلاك المعدنية السميكة التي تحرك المصعد. الحائط القذر والأنابيب المكشوفة هي كل ما رأيته.
استغربتُ بشدة، وقلبي بدأ يخفق بقوة. ما الذي يحدث؟ وفجأة، بدأ المصعد بالاهتزاز الشديد، كأن زلزالًا يضرب المبنى. عندها، عرفتُ تمامًا ما يجري.
"تباً، إنه قدري المحتوم!" صرختُ في داخلي.
في ثانية واحدة بعد الاهتزاز، سقط المصعد. سقط بسرعة جنونية، كأن قوة خفية دفعته إلى الأسفل بقوة هائلة. حرفياً، بدأتُ أطفو داخل المصعد من شدة سرعة السقوط. شعرتُ بانعدام الوزن، وكأنني دمية تُرمى من علو.
الرعب شلّ حركتي. لا يمكنني الهروب. أنا الآن أسقط لأموت موتة مؤلمة، محبوسًا في هذا الصندوق المعدني. كانت على بُعد ثوانٍ قليلة من التحطم في الطابق السفلي، من النهاية المطلقة.
لكن لحسن الحظ، أو لسوئه، توقف المصعد في منتصف سقوطه. توقف عنيفًا لدرجة أنني ارتديتُ للأعلى بقوة، وضربَ ظهري في سقف المصعد.
"آه! مؤلم!" تأوهتُ، والألم يشقّ ظهري. النجاة جاءت بثمن، لكنني ما زلتُ حيًا.
ما زلتُ حيًا.
الراحة التي شعرت بها تبخرت سريعًا. المصعد، على الرغم من توقفه، كان غير مستقرّ على الإطلاق. كل حركة صغيرة مني كانت تسبب اهتزازًا عنيفًا، وكأنني أقف على حافة هاوية. أدركتُ أنّه قد يعاود السقوط في أي لحظة. "إنه غير مستقرّ تمامًا، يجب أن أهرب في الحال!" همستُ لنفسي.
رفعتُ بصري إلى الأعلى، وهناك وجدتُ بصيص أمل: فتحة الهروب في السقف كانت مفتوحة على مصراعيها، على الأرجح بسبب الاهتزاز العنيف للسقوط المفاجئ. كان هذا هو مخرجي الوحيد.
تسلقتُ بسرعة، وشققتُ طريقي خارج الفتحة، لأجد نفسي في مكان أكثر رعبًا مما تخيلت.
كنتُ معلقًا في قلب بئر المصعد، على ارتفاع شاهقٍ للغاية. الرعب من المرتفعات انتابني بشدة، فجمدتُ في مكاني. الأسلاك المعدنية السميكة كانت تلتفّ حولي في الظلام، والمصعد تحتي يهتزّ مع كل نبضة قلب. لم أرد النظر إلى الأسفل، إلى السواد الذي يبتلع القاع، خشية أن يكون هذا مصيري. الرعب قيدني، تاركًا لي خيار البقاء دون حراك.
لكن هذا لم يدم طويلاً.
سمعتُ صوت زمجرة فوقي. صوتُ الجثث اللعين. بدأت الزمجرة والصراخ تقتربان، ثم فجأة، سقط شيءٌ ضخم من الأعلى بسرعة مخيفة على المصعد.
كانت جثة شابٍّ نحيل، عظامه بارزة من تحت جلده الشاحب الذي كان ممزقًا في أماكن كثيرة، تكشف عن عضلات سوداء متيبسة. كانت عيناه، على الرغم من بياضهما المخيف، تلمعان بغلٍّ حادٍّ، وفمه المفتوح كأنه تمزق من شدة الصراخ.
سقطت الجثة على سقف المصعد، محدثة اهتزازًا قويًا كاد يرميني إلى الأسفل. الرعب تجدد في داخلي. "حتى المكان الآمن تابعوني إليه!"
هجمت الجثة عليَّ دون رحمة. كانت حركاته سريعة وعنيفة بشكل لا يتوقع من ميت. اندفع نحوي، ذراعاه الممتدتان كأنهما تبحثان عن شيء لتمزيقه، أظافره الطويلة الصفراء كانت كالسيوف الصغيرة. حاول أن يمسك بي، يدُه تهوي نحوي بعنف، تسبّب اهتزاز المصعد في جعله يفقد توازنه للحظة، لكنه سرعان ما استعادها، وعيناه تركزان عليّ وحدي. كنتُ في وضع خطير، أي حركة خاطئة كانت كفيلة بإسقاطي إلى حتفي في الظلام الأسود. والمشكلة الأكبر كانت أن المصعد نفسه كان يهتز برعب، بدا وكأنه لا محالة سيسقط بالكامل.
في تلك اللحظة الحرجة، أتتني فكرة. لمحتُ عمودًا معدنيًا سميكًا ملتصقًا بجدار بئر المصعد، وهو جزء من الآلية التي تجعله ينزل ويصعد.
أمسكتُ به وتشبتتُ بقوة. ثم، بخطة انتحارية، ضربتُ المصعد بقدمي بقوة هائلة. لم يتحمل المصعد الضربة، فقد كان بالفعل غير مستقر.
سقط المصعد إلى الهاوية، ومعه الجثة التي كانت فوقه.
المصعد سقط. سقط بسرعة قصوى، وحوافه المعدنية كانت تنتج شرارات زرقاء وبرتقالية وهي تحتك بالعمود والأسلاك. صوتُ صرير المعدن الممزق كان يمزّق الهواء، ثم تحوّل إلى دويٍّ مخيف عندما اصطدم المصعد بقاع بئر الطابق السفلي.
كان تحطمًا مدمرًا. سمعتُ صوت ارتطامٍ هائل، كأن مبنًى صغيرًا قد انهار. موجة صدمة قوية انطلقت من الأسفل، اهتزّت الأرض من تحت قدمي، وتدمرت زجاج الأبواب الأمامية للمستشفى من شدة الارتطام، فتحطّم وتناثر في كل مكان كرقائق الثلج. في لحظتها، انطلق جرس الإنذار المدوي للمستشفى، صوته اخترق صمت الليل ودوى في أرجاء البلدة كطبول الرعد.
شعرتُ بالأمان لثانية، وكأن هذا التحطم الهائل قد قضى على كل شيء. لكنني سرعان ما تذكرتُ شيئًا مهمًا: أنا معلق!
كنتُ حرفيًا على حافة الهاوية. نظرتُ تحتي لأجد الظلام فقط، سوادًا عميقًا لا يرى قاعه. لا شيء يمنعني من السقوط سوى قبضتي التي تتمسك بقضيب معدني سميك. كان هذا متعبًا جدًا ليديَّ، وأحسستُ بوخز خفيف، خاصة وأن هذا القضيب كان جزءًا من نظام المصعد وقد يكهربني في أي لحظة.
لم يكن يكفي خوف المرتفعات الذي تملكني، ولا تعب يديَّ المتزايد، ولا خطر التكهرب. كنتُ ميتًا لا محالة، لكنني لم أكن مستعدًا للموت بهذه الطريقة.
بدأتُ أتسلق القضيب ببطء شديد، خطوة بخطوة، نحو أقرب طابق. كنتُ أعلم أن الجثث تنتظرني هناك، لكن الجثث كانت أفضل بكثير من المرتفعات. أي شيء أفضل من هذا السقوط اللانهائي.
الرعب من السقوط لم يكن الوحيد. ما زاد الطين بلة هو الصوت. صوت الزمجرة الذي سمعته من الأعلى، يقترب أكثر فأكثر، مزقّ آخر خيوط الأمل عندي. عرفتُ ما هو التالي.
الجثث.
قفزتْ في الهاوية لكي تصل إليّ.
لم يكن سقوطًا عشوائيًا، بل انقضاضٌ متعمد. سمعتُ صوت أجسامهم تضرب الأسلاك المعدنية والأنابيب المتدلية، كأنها دمى قماشية تُرمى من علو. ثم ظهروا من الظلام أعلاه، يسقطون نحوي، بعضهم يدور في الهواء بشكل مقزز، وبعضهم الآخر يسقط بصلابة مروعة، لا يعبأ بالجاذبية.
الأولى، كانت جثة امرأة عجوز، جلدها رماديٌّ متجعد، وعيناها بيضاوان تمامًا، بلا قزحية، كأنهما حجران جافان. سقطت بالقرب مني، وكادت كفّها المخلخلة أن تلامس وجهي. دفعتها غريزياً بذراعي الأخرى، فمرت بجانبي وسقطت نحو القاع المظلم.
لكن الثانية كانت أكثر خبثًا. رجلٌ ضخم الجثة، عضلاته منتفخة بشكل غريب، وعنقه مائل بزاوية غير طبيعية، كأنها كُسرت من قبل. لم يسقط مباشرة. بدلاً من ذلك، تمسّك بحافة العمود المعدني الذي كنتُ أتسلقّه. كانت أظافره السوداء الطويلة تنزلق على المعدن، يصدر صوت صريرٍ مقزز.
كنتُ معلقًا بين السماء والأرض، أيديَّ تحترق من الجهد، وقدماي تبحثان عن أي نتوء ليرتاحا عليه. الرجل الضخم كان يتدلى الآن فوقي مباشرة، جسده الثقيل يتأرجح مع اهتزاز العمود. كانت يده الأخرى تمتدّ نحوي، أصابعه تفتح وتغلق في الهواء، كأنها مخالب تبحث عن فريسة.
"لا!" صرختُ، الكلمة خرجت كهمسة خائفة.
رفعتُ رأسي لأرى وجهه المشوه. فمه كان مفتوحًا قليلاً، يخرج منه صوت خشخشة خفيفة، كأنّه يحاول أن يتنفس. كانت عيناه الجامدتان مثبتتين عليّ، بلا أي تعبير، سوى جوعٍ باردٍ للموت.
كلما حاولتُ التسلق خطوة، اهتزّ القضيب، وكاد الرجل يفقده. كانت المسافة بيننا تتضاءل. شعرتُ بأصابعه تلامس كتفي، لمسة باردة، لزجة، ومقززة. كان يحاول أن يمسك بي، أن يجرني إلى الهاوية.
ضغطتُ على أسناني، الألم في ذراعيَّ كان لا يحتمل، والخوف من السقوط كان يجمّد دمي في عروقي. كانت يده أقرب الآن، أصابعه كأنها تريد أن تخنقني. كانت معركة بقاء بحتة.
قبضةُ الموت كانت تقترب. الرجل الضخم، أو ما تبقى منه، كان يُقلّص المسافة بيننا ببطءٍ مرعب، أنفاسه الخشنة تضرب وجهي. أظافره كانت تكاد تنغرس في لحمي. كان الألم في ذراعيَّ لا يُطاق، لكن الإفلات يعني السقوط إلى الهاوية.
"لا... ليس هكذا!" صرختُ في داخلي.
لم يكن لدي قوة لأقاتله مباشرة، ولا مكان للمناورة. لكنني تذكرتُ شيئًا. تذكرتُ طبيعة هذه الجثث التي كشفها بابادوك: ليست مجرد موتى عاديين. إنهم يتحركون بدافع غريزيّ، يتبعون الأصوات والرائحة، ويتأثرون بالصدمات البدنية، حتى لو لم يشعروا بالألم. قدمي التي غاصت في بطن أحدهم كانت دليلًا على هشاشة جسدهم رغم قوتهم المخيفة.
ركزتُ بصري على يده التي كانت تتمسك بالقضيب المعدني. كانت أصابعه ملتفة حوله بإحكام، لكن ليس بشكلٍ محكمٍ تمامًا. جسده الثقيل كان يعتمد على هذه القبضة ليبقى معلقًا.
أتتني الفكرة. خطيرة، لكنها الوحيدة.
بسرعة فائقة، وقبل أن تلتف يده حولي، رفعتُ قدمي اليمنى إلى الأعلى، مستهدفًا مرفق ذراعه التي كانت قابضة على العمود. لم تكن ركلة قوة، بل ركلة دقيقة ومفاجئة. ضربتُ مرفقه بقدمي، مستغلاً كل الزخم الذي يمكن أن أجمعه من جسدي المعلق.
كانت ضربة غير متوقعة. الجثة لم تصرخ، لكن جسده الضخم ارتجف بعنف. الأصابع التي كانت تلتف حول القضيب ارتخت للحظة، ربما بسبب اهتزاز العظم أو ارتجاج في المفصل.
تلك اللحظة كانت كل ما أحتاجه.
استجمعتُ آخر رمق من طاقتي. بيدي اليمنى التي كانت حرة، دفعتُ رأسه بقوة نحو الأسفل، مستغلاً ثقل جسده المتدلي. ثم، وقبل أن يستعيد توازنه، أطلقتُ قدمي اليسرى ودفعته بقوة مجنونة في صدره، مباشرة حيث كانت أمعاؤه المتدلية.
جسده، الذي كان خفيفًا بشكل مخيف رغم ضخامته، فقد قبضته تمامًا. تحرر من العمود، ومال إلى الخلف ببطء مرعب. كانت عيناه الجامدتان ما زالتا تحدقان بي، لكن جسده كان يميل، يميل...
ثم سقط.
سقط في الهاوية، جسده يرتطم بالأنابيب والأسلاك أثناء هبوطه، يصدر صوت ارتطام خفيف، ثم يختفي في الظلام السحيق الذي ابتلعه المصعد من قبل.
ظللتُ معلقًا هناك، ألهث، ذراعيَّ ترتعشان بعنف لا يمكن السيطرة عليه. الألم كان حارقًا، لكن شعورًا بالنصر، ممزوجًا بإرهاق لا يصدق، غمرني.
لقد نجوتُ. مرة أخرى.
واصلتُ التسلق. كلّ عضلة في جسدي كانت تصرخ من الألم، لكنني دفعتُ نفسي للأمام، خطوة بعد خطوة، نحو الأعلى. يداي أصبحت مجروحتين بشدة، الحواف الحادة للقضيب المعدني كانت تمزّق جلدي مع كل حركة، تاركةً خلفها خطوطًا حمراء من الألم. تلقيتُ ضربات كهربائية حادة بين الحين والآخر، كانت صدمات خفيفة لكنها مؤلمة، ولحسن الحظ لم تكن كثيرة.
كنتُ ألهث بشدة، تعبٌ ينهش روحي وجسدي. كل ما أردتُه في تلك اللحظة هو العودة إلى المنزل، السقوط في الفراش إلى الأبد، والابتعاد عن هذا الكابوس. لكن القدر لم يكن قد انتهى مني بعد. وما زاد الطين بلة، أن أحد أنابيب الغاز النحاسية التي كانت بجانبي، والتي تُغلفها طبقة من الصدأ، انفتحت فجأة بدون سبب ظاهر. لم أكن بحاجة للتفكير طويلاً لأعرف السبب: "إنها لعنتي الحقيرة وقَدَري الذي يريد أن يقتلني بشدة."
ولسوء الحظ، انبثق الغاز مباشرة في عيني اليمنى. كان غازًا حارقًا، جعل عيني تحمر وتدمع بغزارة. لم أستطع الرؤية بها، كل شيء أصبح معدومًا وضبابيًا، كأنني أرى العالم من خلال سائل ثقيل. "تبًا للحياة يا رجل،" تمتمتُ بمرارة، وأنا أضغط على أسناني.
لكني أكملتُ الطريق. كنتُ أرى ضوء الأمل، فلقد كدتُ أصل إلى أقرب طابق.
لحظة راحة مؤقتة
وصلتُ أخيرًا إلى حافة الطابق. مدَدتُ يدي المرتعشة، وتشبثتُ بحافة البلاط، ثم سحبتُ جسدي المنهك. تدحرجتُ على الأرض، متجاهلاً الألم الذي اجتاحني.
استلقيتُ على ظهري، أتنفس بصعوبة. الهواء في هذا الطابق، رغم رائحة الغبار والمستشفى القديمة، كان نقيًا مقارنة ببئر المصعد. أغمضتُ عينيَّ، وشعرتُ بثقل جسدي يرتخي على الأرض الباردة.
جسديًا، كنتُ في حالة يرثى لها. كل عضلة تؤلمني، كل مفصل يصرخ. ذراعيَّ كانتا متورمتين ومجروحتين، عيني اليمنى كانت تحترق وتؤلمني بشدة، ورجليّ كانتا بالكاد تحملانني. شعرتُ بالبرد يتسلل إلى عظامي، والوهن ينهش آخر ما تبقى من قوتي.
ذهنيًا، كنتُ منهكًا، لكنني شعرتُ براحة مؤقتة لم أشعر بها منذ أيام. كان عقلي، الذي كان في سباق دائم مع الرعب والهروب، قد توقف للحظة. الصمت النسبيّ في هذا الطابق، بعد كل تلك الأصوات العنيفة والجنونية، كان نعمة. لم أكن بأمان تام، فأنا أعلم أن الجثث يمكن أن تكون هنا، لكن على الأقل، لم أعد معلقًا في الهواء، ولم أكن أسقط في هاوية مجهولة.
في تلك اللحظة، كنتُ أرغب فقط في أن أظل مستلقيًا إلى الأبد. لم تكن راحة دائمة، بل مجرد هدنة قصيرة قبل أن يعاود الكابوس الظهور. لكنها كانت كافية لاستعادة جزء صغير من عقلي الذي كاد أن يجنّ.
لم تدم لحظة السلام طويلاً. صوت زمجرات كثيرة، هذه المرة أقرب وأكثر عددًا، أيقظني من غفوتي المؤقتة. وقفتُ بصعوبة وألم، لأرى أمامي خمس جثث، تقف في شبه دائرة، مستعدة لمهاجمتي في وقت واحد. عرفتُ حق المعرفة أنني لا أستطيع الهروب.
عيني اليمنى كانت معدومة، أرى بها بصعوبة بالغة. كنتُ متعبًا لدرجة الموت، يداي جلدهما مقشر ومغطاة بالدماء، ساقي مصابة بكدمة قوية، وجروح كثيرة على ظهري من السقوط والاحتراق. لم أستطع فعل شيء.
هجمت الجثث الخمسة معًا، بلا رحمة. كانت حركتهم سريعة ومباغتة، كأنهم موجة من الكوابيس تندفع نحوي. أغمضتُ عينيّ استعدادًا للنهاية، لكن في تلك اللحظة، سمعتُ شيئًا ما.
صوتٌ عالٍ للغاية، لدرجة أن أذنيَّ زفرت. صوت طلقة رصاص اخترقت وجه إحدى الجثث، وأسقطته على الأرض.
فتحتُ عينيّ بصعوبة، ونظرتُ نحو الرواق الذي أتت منه الطلقة. وهناك، رأيته.
أكيهيكو.
بشحمه ولحمه، يقف هناك، يمسك سلاحًا (المسدس الذي كان مع الحارس على الأرجح) ويوجهه نحو الجثث المتبقية. كان وجهه شاحبًا، لكن عينيه كانتا تلمعان بتصميم لم أره فيه من قبل.
أكيهيكو ينقذ الموقف
أطلق أكيهيكو الطلقة الثانية. كانت الجثة التي سقطت للتو تترنح، بينما كانت الجثث الأربعة المتبقية تتقدم نحوي.
الطلقة الثانية: استهدفت الجثة ذات الجسد النحيل والعظام البارزة التي كانت تتقدم بخطوات متشنجة. اخترقت الرصاصة صدره مباشرة، في المنطقة التي كان يجب أن يكون فيها قلبه. لم يكن هناك دم، لكن جسده اهتز بعنف، ثم سقط على ركبتيه ببطء، قبل أن ينهار على الأرض، ساكنًا تمامًا.
الطلقة الثالثة: لم يتردد أكيهيكو. كانت الجثة الطويلة ذات الأمعاء المتدلية هي التالية. كانت تتحرك ببطء، لكنها كانت تقترب. أطلق أكيهيكو النار، والرصاصة أصابت رأسها من الجانب، بالقرب من الأذن. سمعتُ صوت طقطقة خفيفة، ثم مال رأسها بزاوية غير طبيعية. تراجعت الجثة خطوة، تمايلت، ثم سقطت على جانبها، أمعاؤها تتناثر على البلاط.
الطلقة الرابعة: كانت الجثتان المتبقيتان قد أصبحتا قريبتين جدًا مني. الجثة القصيرة ذات الابتسامة المشقوقة كانت تتقدم بسرعة أكبر. أكيهيكو لم يوجه السلاح نحو رأسه هذه المرة. بدلاً من ذلك، استهدف ساقيه. اخترقت الرصاصة ركبته اليمنى. لم يصرخ، لكن ساقه انحنت بشكل غير طبيعي، وفقد توازنه. سقط على الأرض وهو يزحف نحوي، لكن حركته أصبحت بطيئة ومشوهة.
الطلقة الخامسة: بقيت جثة واحدة، وهي الجثة التي كانت تحمل مضرب البيسبول الصدئ، ووجهها محترق من جهة واحدة. كانت تتقدم نحوي بخطوات ثقيلة ومتقطعة. رفع أكيهيكو المسدس، ووجهه نحوها. هذه المرة، كانت الطلقة حاسمة. اخترقت الرصاصة منتصف جبهتها مباشرة. لم يكن هناك دم، لكن الرصاصة أحدثت فجوة صغيرة في جمجمتها. توقفت الجثة فجأة، ثم سقطت إلى الأمام، وجهها المحترق يرتطم بالبلاط بصوت مكتوم.
ساد الصمت.
خمس جثث، خمس طلقات. أكيهيكو كان يقف هناك، يده ترتجف قليلاً، لكنه كان قد أنقذني.
أكيهيكو.
كان واقفًا هناك، مسدس الدماء في يده، ودخان خفيف يتصاعد من فوهته. خمس جثث ميتة أخرى تتدحرج حوله. في لحظة، تبخر كل الألم، كل الرعب، كل التعب. لم أستطع فعل أي شيء سوى الاندفاع نحوه.
"أكيهيكو!" صرختُ، وصوتي بالكاد خرج من حنجرتي.
ألقيتُ بنفسي عليه، محتضنًا إياه بقوة، وكأنني أختبر ما إذا كان حقيقيًا. شعرتُ بيديه ترتجفان قليلاً وهو يرفع المسدس بعيدًا، ثم يلف ذراعيه حولي. كانت هذه أول مرة نتبادل فيها عناقًا، ورغم كل شيء، كان العناق الأصدق الذي شعرتُ به في حياتي.
"أنت بخير؟" همس، صوته كان متقطعًا من الجهد والخوف.
ابتعدتُ عنه قليلاً، وما زلتُ أمسك بكتفيه. "أنت... أنت أنقذت حياتي. لقد ظننتُ... ظننتُ أنني انتهيتُ."
نظر إليّ، عيناه كانتا مليئتين بالقلق وهو يمسح على وجهه المتسخ. "كلا. لم يكن دورك بعد. ماذا حدث لك؟ تبدو وكأنك قاتلت جيشًا."
ضحكتُ ضحكة خفيفة، ممزوجة بالراحة والألم."جيشٌ صغير من الموتى، هذا مؤكد. لقد سقط المصعد بي، وكدتُ أن أُسحق. ثم علقتُ في بئر المصعد، وهذه الجثث كانت تقفز خلفي..."
قطعتُ كلامي، فقد كانت الذكريات لا تزال حادة ومؤلمة. أشار أكيهيكو إلى يديّ التي كانت تنزف، ثم إلى عيني اليمنى التي كانت تحترق. "هيا، لنخرج من هنا أولاً. يجب أن نجد ميساكي. ثم يمكننا التحدث عن كل هذا."
أومأتُ برأسي. على الرغم من نجاتي، لم يكن الخطر قد زال تمامًا. جرس الإنذار كان لا يزال يدوي في أرجاء المستشفى، مما يعني أننا لم نكن وحدنا. وضع أكيهيكو يده على ظهري، ودفعني بلطف للأمام. "خطوة بخطوة يا بليك. خطوة بخطوة."
كانت كلمات بسيطة، لكنها حملت طمأنينة كبيرة. كنا معًا. وهذا، في هذا الجحيم، كان يعني كل شيء.
---
تنهد أكيهيكو، ونظر إليّ بعينين مليئتين بالتصميم. "أجل، يجب أن نسرع. كلما تأخرنا، زادت الأمور سوءًا."
"هل نعتقد أنها...؟" بدأتُ أسأل، ثم تذكرتُ أنها مجرد شبح. "أعني... هل هي بأمان هناك؟"
"لا أستطيع الجزم،" قاطعني أكيهيكو بحزم. "لكن المشرحة هي المكان الذي حددناه. إنها الوحيدة القادرة على فهم هذا الجنون."
أومأتُ برأسي موافقًا. كان جسدي يصرخ من الألم، لكن فكرة ترك ميساكي وحدها كانت أسوأ. استندتُ إلى الحائط، بينما قام أكيهيكو بتفحص المسدس.
"كم رصاصة بقيت لديك؟" سألتُه بنبرة حذرة.
نظر إليّ بجدية. "واحدة فقط. استخدمت خمسة للتو. يجب أن نكون حذرين للغاية."
اندفعنا عبر الممرات الباردة، أنا وأكيهيكو، نحو المشرحة. كان أكيهيكو يتقدمنا، ممسكًا بالمسدس الفارغ، وعيناه تمسحان الظلال بحثًا عن أي خطر.
التفتُ إليه، أنفاسي لاهثة من الجري، وألم جروحي يتصاعد. "كيف... كيف حصلت على هذا؟" سألته، مشيرًا إلى المسدس.
أجاب، وعيناه لا تزالان على الممر أمامه:
"بعد أن تفرّقنا، طاردتني ثلاث جثث… كانوا سريعين بشكل مرعب. اختبأت في غرفة تبديل، لكنهم دخلوا… كدتُ أموت هناك. أحدهم اقترب من خزانة اختبأت فيها، ولمحتُ وجهه… مبتسمًا، مائلًا، مشوهًا.
هربت في اللحظة الأخيرة. لاحقني كائن يشبهك… ظننته أنت. لكنه لم يكن. حاول تمزيق وجهي. تدحرجنا على السلالم، وضربته برأسي، ثم رميته في الهاوية."
تجمدتُ. "ثم؟"
"رجل أمن ظهر فجأة، صرخ في وجهي… لكن إحدى الجثث هجمت عليه وغرست أنيابها في رقبته. الدم كان في كل مكان. أخذتُ مسدسه، وأطلقتُ النار على رأسها، وهربت لأجدك."
نظرتُ إليه، وامتلأ صدري بشيء أقرب إلى الامتنان.
"أنا سعيد لأنك فعلت."
تابعنا الجري، بينما تتصاعد رائحة الموت والمعقمات القديمة في أنفنا. كل خطوة كانت تقرّبنا من المشرحة، المكان الذي قد يكون نهاية كل شيء، أو بداية الأمل.
وصلنا إلى المشرحة، وأنا قلبي ينبض بعنف من شدة التوتر. في الزاوية البعيدة، وجدنا ميساكي. كانت لا تزال ممسكة بيد جثة شينتو، الجثة الوحيدة التي لم تتحرك من بين الجميع. ميساكي نفسها كانت في حالة غياب تام، واقفة دون أن تدرك ما حولها، كأنها محاصرة بين عالمين.
كنا على وشك إيقاظها والخروج من هناك بأسرع ما يمكن، فجرس الإنذار بدأ يرن بحدة، وأعلمنا أن الشرطة ستصل في لحظة. لكن فجأة، شعرنا بهالة قاتمة مرعبة تتسلل خلفنا، تسلل بطيء لكنه ثقل في الجو لا يمكن تجاهله.
سمعنا صوت زمجرة عميقة، مكتومة، وكأنها قادمة من أعماق الجحيم. التفتنا معًا، أنا وأكيهيكو، ببطء وخوف متزايد.
هناك، في الظلام خلفنا، كانت الجثة الساكنة التي ظن أكيهيكو أنه قتلها.
كانت واقفة بشموخ مرعب، رغم أن ربع رأسها مفقود، كأنها تحدت الموت نفسه. عيناها النظيفتان الخاليتان من الحياة، ملئهما غضب لا يوصف، ونظرتها كانت تخترقنا كالسكاكين الباردة. جسدها المشوه كان ينبض بقوة غير طبيعية، وكأنها على وشك الانقضاض في أي لحظة.
شعرت بقلب يطرق صدري بعنف، ورياح الخوف تلفح وجهي. نظراتنا تلاقت، وأحسست أن الموت يقف أمامي، منتظر اللحظة المناسبة لالتهامي. لم أستطع التحرك، ولا أكيهيكو أيضًا. فقط كان هناك صمت رهيب، وثقل لحظة مليئة بالرعب الذي يأكل أعصابنا.
كانت تلك اللحظة التي أدركت فيها أننا لسنا هنا فقط لمجرد إنقاذ ميساكي... بل كنا على وشك مواجهة شيء أبعد من كل ما تخيلته.
لكني فهمت الأمر فجأة، كل شيء صار واضحًا في ذهني.
فهمت لماذا جميع الجثث في المستشفى استيقظت.
كنت أفكر في ذلك طوال الوقت، وعندها استنتجت أن السبب هو ميساكي. عندما لمست شينتو، على الأرجح أطلقت طاقة قوية أحيَت كل جثث الموتى في المستشفى.
ولو أردنا أن نعيد الجميع إلى موتهم الحقيقي، علينا أن نفعل شيء واحد فقط: أن نُبعد ميساكي عن شينتو.
دون ذرة خوف، هرولت نحو مكان وقوفها. وفي نفس اللحظة، هاجمنا السمين، كأنه مساعد مُرعب جاء ليأكلنا ويمزقنا.
كانت معركة من سوف يصل أولًا إلى الهدف، أنا أم السمين؟ لكنني وصلت أولًا، دفعت ميساكي بعيدًا عن شينتو، وأبعدت يديها عنها.
وفجأة، عادت الجثة الساكنة إلى موتها، سقطت وضرب رأسها بحافة الجدار، وعاد كل الأموات في المستشفى إلى سكونهم الأبدي.
"كانت نظرتي صحيحة." قال أكيهيكو بدهشة.
"كيف استنتجت أن ميساكي هي سبب إحياء هذه الجثث؟"
ابتسمت بمرارة، "سأخبرك لاحقًا، لكن الآن علينا الخروج من المستشفى قبل أن تصل الشرطة."
وأثناء خروجنا، أمسكتني ميساكي بيدها، وشعرت بدفئها لأول مرة، رغم أنها شبح.
نظرت إلى وجهها، الذي كان عليه
تعابير الخوف والغضب، بعيدًا عن برودها المعتادة، وقالت بصوت خافت:
"بليك، أنا أعرف مكان كتاب شمس المعارف."